الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعد عامين من رحيله: سيظل عرفات هو مانديلا العرب

فرانسوا باسيلي

2006 / 11 / 20
القضية الفلسطينية


ونحن نُحيي ذكرى عامينٍ على رحيل ياسرعرفات فلنستعيد مشاهد الاشهر الاخيرة من حياته..

الجنود المحتلون لارضه حاصروا جسده الكهل المرتجف بدباباتهم الهائلة وآلاتهم الحربية الجهنمية الجبارة، يهددون باختطافه لطرده او قتله او الخلاص منه بأية وسيلة، متهمينه بالارهاب ومطالبينه بالاستسلام وتوقيع معاهدة علي شروطهم. وهو بداخل سجنه الذي حاصروه فيه ما يقرب من العامين يقول باباء: لا.. فيطير صواب اعدائه ولا يعرفون ماذا يصنعون به.

هكذا وقف عرفات امام آلة البطش والعدوان الاسرائيلية، وهكذا، بنفس الاسلوب وبنفس الاباء وفي ظروف تكاد ان تكون مطابقة، وقف نيلسون مانديلا، الزعيم الافريقي الاسود الشامخ، رافضا ما عرضوه عليه في سجنه المؤبد من ان يطلقوا سراحه اذا ما اعلن تخليه عن المقاومة المسلحة ـ او الارهاب بتعبير اللحظة ـ فرد عليهم بقولته الشهيرة: المساجين لا يمكنهم الدخول في مفاوضات واتفاقيات. وحدهم الرجال الاحرار يمكنهم التفاوض .

والمقارنة بين ياسرعرفات ونيلسون مانديلا امر سهل وواضح للعيان، فقد اتهم مانديلا بالارهاب وبمساندة والتحريض علي العنف، وحكم عليه بالسجن مدي الحياة، ووضعوه اولا في سجن تحت الامن المشدد في جزيرة صغيرة علي بعد سبعة كيلومترات من شاطيء كيب تاون ، ثم في عام 1984 نقلوه الي سجن بلولسمور في كيب تاون نفسها، وفي نهاية عام 1988 نقلوه مرة اخري الي سجن فيكتور فيرستر بالقرب من بيرل . ومن خلال فترات سجنه هذه عرضوا عليه كل انواع العروض والمغريات، من تخفيف الحكم عليه الي الغائه تماما، في مقابل ان يرضخ ويبيع قضية شعبه الاسود المضطهد في بلده. واستطاع بمواقفه الشامخة هذه ان يلهب مخيلة العالم اجمع، وهو المحكوم عليه بالاعدام فيما وصفوه بقضية قتل، حتي صار وهو داخل سجنه اكبر واعتي واقوي من اعدائه مجتمعين، حتي اضطروا في نهاية الامر الي اطلاق سراحه بلا قيد او شرط، ليرشح نفسه بعد ذلك في انتخابات حرة اصبح بعدها اول رئيس اسود لحكومة بلاده جنوب افريقيا.

وما زلت أذكر عندما زار نيويورك بعد اطلاق سراحه مباشرة وقبل أن يصبح رئيسا وكيف استضافه احد ابرز مقدمي البرامج الامريكية، وهو تيد كابيل مقدم البرنامج اليومي نايت لاين في قناة ABC، وقام بتسجيل البرنامج علي غير العادة في قاعة احتفالية ضخمة، ثم وقف طوال مدة البرنامج الذي امتد إلي أكثر من ساعة، وقف ـ وهو المذيع الفصيح المحنك ـ كالتلميذ المأخوذ يتكلم في لهجة اعتذارية خجولة وبمهارة في آن واحد، أمام نيلسون مانديلا الذي راح يتكلم في إباء وشموخ لم أر لهما مثيلاً. وكان الرجل تجسيدا حيا لكبرياء وعدالة قضيته الإنسانية، المرهفة، ونقيضا صارخا لنذالة وتهافت ولا إنسانية الذين سجنوه واضطهدوا شعبه وعاملوهم كالماشية لأجيال طويلة.. ولم يبتئس مانديلا مرة واحدة، وإنما احتفظ بوجه سمح في إباء دون تجهم ولا صراخ ولا تزلف ولا مجاملة فارغة. واضطر أمام هذا الموقف المذهل أحد أكبر الإعلاميين اليمينيين في الراديو الأمريكي، وهو بوب غرانت ـ وكان دائم التهجم علي السود ومارتن لوثر كنغ ـ اضطر أن يعترف في اليوم التالي صاغراً بعظمة ذلك الرجل نيلسون مانديلا، الذي رأي فيه التجسيد الحيّ النبيل لقضية التحرر الإنساني برمتها، ولشعبه المضطهد بأكمله.

وقد وقف الزعيم الفلسطيني الصلب المدهش ياسر عرفات نفس موقف مانديلا. وهو محاصر ومسجون من قبل أعدائه كما سجن وحوصر مانديلا، الصراع من أجل تحرير شعب بأكمله من تحت براثن الهيمنة هو هو.. وتهمة الإرهاب والتحريض علي العنف من قبل جلاديه هي هي.. مما يجعل عرفات بلاشك مانديلا العرب، ولكن الذي يمنح عرفات بعداً أكثر مأساوية، وحملاً أثقل بكثير من الأثقال التي حملها مانديلا، أن عرفات الذي ناضل من أجل حرية أرضه وشعبه لخمسة وثلاثين عاماً لم يتلقي الطعنات في صدره من أعدائه فقط، ولكنه تلقي الطعنات في ظهره من خناجر في أيدي من هم من بين أهله وصحبته وأصدقائه.. أو المفترض أنهم كذلك. فما هي الضربات الأقسي عليك وعلي شعبك يا عرفات.. تلك القادمة من أمامك أم تلك الآتية في الظلام من ورائك؟ وأين يجب أن تلتفت يا عرفات لتدافع عن نفسك وشعبك.. أمامك أم وراءك؟!

وكما احتار العنصريون البيض فيما يفعلونه بنيلسون مانديلا، فراحوا ينقلونه من سجن إلي جزيرة إلي معتقل لعله يلين ويبيع، احتار الإسرائيليون ماذا يفعلون بعرفات. فقد كان في بيروت من قبل ولم تخمد المقاومة، وأخرجوه من بيروت إلي تونس، ولم تخمد المقاومة، ثم عاد إلي أرضه فلسطين ولم تخمد المقاومة، و حكومة شارون تصدر قراراً بطرده من فلسطين، مثبتة بذلك بأنها الحكومة الأصولية المتطرفة بامتياز، التي لم تتعلم شيئاً من التاريخ الحديث لأنها ـ مثل كل الأصوليين ـ غارقة في آبار العصور السالفة وأساطيره وفكره ولغته وطقوسه، فالليكود يريد أرض فلسطين ولذلك يري في عرفات تجسيداً حياً معارضاً لشهوتهم هذه في الاستيلاء علي الأرض بدافع خيالات دينية متطرفة تدوس الإنسان والبشر والحياة لصالح صورة مريضة لوعود إلهية يمنحون بها أنفسهم حق اغتصاب أرض الغير وحق معاملة الآخرين بلا أية قواعد إنسانية..

خلال دقائق معدودة من إعلان قرار إسرائيل طرد عرفات، اندفع الآلاف من الرجال والنساء والشباب من جميع أنحاء فلسطين اندفاعاً عفوياً نحو دار إقامة ـ أو سجن ـ زعيمهم التاريخي يحيطون به بأجسادهم حماية له ولأنفسهم ولأرضهم ولقضيتهم ولحقهم في الحياة الحرة كسائر البشر.
لقد خرجت الآلاف تهرول في ظلام الليل.. جاءوا من أنحاء رام الله المحاصر في مقره بها عرفات، وجاءوا من نابلس وطولكرم.. من الشمال والجنوب.. من الشرق والغرب.. فما الذي يجعل الآلاف من البشر يتركون منازلهم ويخرجون للعراء في بهيم الليل ليقفوا حول عرفات، معرضين حياتهم للخطر أمام عدو شرس لا يرحم ولا يخجل من القذف العشوائي لحممه من الطائرات والدبابات علي الجميع رجالاً ونساءً وأطفالاً؟

إن الذي دفع هؤلاء الآلاف من الشعب الفلسطيني للخروج لهفة وولعاً وحرصاً علي زعيمهم وقضيتهم هو نفس الذي دفع مئات الآلاف من المصريين إلي الخروج إلي الشوارع في ظلام القاهرة عشية إعلان جمال عبدالناصر نبأ الهزيمة العسكرية الهائلة في يونيو 1967، وإعلانه تحمله المسؤولية الكاملة لما حدث، وقراره بالتنحي عن السلطة.. ومازلت أذكر تلك الليلة كأنها البارحة، وكنت مازلت طالباً بكلية الهندسة بجامعة القاهرة، وخرجت من الجامعة أبحث عن مقهي به جهاز للتلفزيون، الذي لم يكن منتشراً كثيراً في تلك الأيام، حتي وجدت مقهي بشارع الدقي، ووقفت مع مئات غيري نستمع الي خطاب عبدالناصر الذي زلزل الأرض من تحت أقدامنا، فقد كانت المرة الأولي التي نسمع فيها بخبر الهزيمة الهائلة، والمرة الأولي التي نري عبد الناصر فيها منكسراً موجعاً ينزف بوضوح من داخل روحه، وما أن انتهي عبدالناصر من خطابه، حتي رأيت الرجال جميعاً تندفع في الشوارع متجهة كلها في اتجاه واحد، وهو اتجاه منشية البكري حيث منزل عبدالناصر، وكان بعض الرجال يجهشون بصوت مرتفع وهم يهرولون كالبحر الهائج العظيم في شوارع العاصمة المطعونة في قلبها.. ذهبوا في تلك الليلة يطلبون من عبدالناصر أن يعدل عن قراره بالتنحي ليس بالضرورة حباً في عبدالناصر الذي أعلن بشجاعة نادرة عن مسؤوليته عن الهزيمة (لم يفعلها زعيم عربي آخر في التاريخ القديم أو الحديث، رغم المآسي والهزائم والمصائب والخراب الذي جلبه الكثيرون منهم لشعوبهم دون أن يقدموا بعض ما قدمه عبد الناصر من إنجازات، بجانب الكارثة التي تحمل مسؤوليتها)

لقد زحفت الجماهير في مصر بعفوية نحو منزل قائدها عبدالناصر لكي تعلن موقفها الرافض لقبول الهزيمة كموقف روحي ووطني وسياسي، فقد حدثت هزيمة عسكرية، ولكن الشعب المصري لم ينهزم بسببها هزيمة نفسية ولم تصبه الهزيمة العسكرية بمقتل في إرادته.. بدليل أنه وبعد ست سنوات فقط من تلك الهزيمة العسكرية انتفض في حرب العبور العظيمة ليكسر حاجز بارليف المنيع ويخترقه ويتوغل في سيناء حتي يتمركز في الممرات، محققا بذلك انجازا عسكريا ما زالوا يدرسونه في معاهد التخطيط العسكري في كل مكان الي اليوم. الاندفاع العفوي للجماهير اذن ـ سواء للاحاطة بمنزل عبد الناصر في احلك اوقات الانكسار العسكري، او للاحاطة بمنزل عرفات في رام الله بعد قرار طرده من ارضه ووطنه، هذا الاندفاع الجماهيري هو تعبير شعبي صارخ عن الاصرار علي مواصلة النضال دفاعا عن الحياة والحرية وعن الارض والوطن، هو اعلان شعبي بليغ وقوي عن ارادة الحياة لدي الشعوب، تلك التي عبر عنها الشاعر التونسي القاسم الشابي قائلا: اذا الشعب يوما اراد الحياة/ فلابد ان يستجيب القدر/ ولابد لليل ان ينجلي ـ ولابد للقيد ان ينكسر.

ان مثل هذا الشعر ليس رومانتيكية لفظية، بل هو كشف ابدعه الشاعر لجوهر الانسان ولعبقرية ارادة الحياة فيه التي تدفعه للانتفاض ضد كل من يحاول طمس هذه العبقرية او اخماد شعلة الشوق الي الحرية المتأججة في روح البشر.

ولا شك ان خروج الجماهير في رام الله بذلك الشكل العفوي القوي قد لفت انظار الادارة الامريكية التي وافقت من قبل علي موقف شارون الحاقد ضد عرفات وحاولت احلال بديل لعرفات للحصول منه علي ما يرفض عرفات التفريط فيه، وامام هذا الالتفاف الجماهيري حول زعيمهم التاريخي اضطرت الادارة الامريكية الي الاعتراف من جديد بأهمية عرفات، وما ان حدث هذا حتي تشجع الزعماء العرب واعلنوا تأييدهم لعرفات بدورهم.. والواقع ان الزعيم التاريخي قد تحمل في السنوات العشر الاخيرة من حياته ما يكاد يزيد علي قدرة البشر علي التحمل، فبالاضافة الي اعدائه، راح الكثيرون من معسكره يختلفون معه، فمن علي يساره اختلف معه بسبب معاهدة اوسلو الكثيرون، من بينهم المثقف الفلسطيني الكبير ادوارد سعيد رحمه الله، الذي لم يجد في اوسلو اية جدوي للقضية الفلسطينية، ومن علي يمين عرفات اختلفت معه حماس والجهاد، متهمة عرفات في بعض الاوقات بخيانة القضية لاعلانه رغبته في السلام مع اسرائيل، ومن امامه جاء شارون بعقلية يمينية عسكرية متشددة هوجاء، ومن وراءه كان بعض القادة العرب قد اتفق علانية او ضمنا او صمتا مع موقف شارون الطارد لعرفات وزعامته، ولم يتخذ اي من القادة العرب موقفا قويا صريحا ضد تهميش عرفات، وانما اعدوا العدة للتعامل مع ابو مازن، فما دام قد اعلن شارون ومن ورائه الادارة الامريكية بعدم رغبتهم في عرفات فلا داعي لاغضابهم بتوضيح الخطأ الذي يدعون اليه او باتخاذ موقف قوي ضد شارون. ولكن الجماهير الفلسطينية الهادرة في ليل رام الله جعلت الامريكيين يعيدون حساباتهم، ومنح ذلك القادة العرب القدرة علي رفع بعض الاصوات تدعو في حياء لعدم تجاهل عرفات.

اما من كان يطعن عرفات في الظهر مع بعض الزعماء العرب الذين اثروا السلامة والصمت، فهو طابور من المثقفين الصغار الذين راحوا يهاجمون عرفات بعد اول اشارة امريكية تدعو لتجاهله، وهؤلاء لم يختلفوا مع عرفات اختلافا مشرفا في موقف، كما فعل ادوارد سعيد مثلا، وانما فقط راحوا يرددون مقولة شارون بان عرفات هو العقبة في طريق السلام، بل راحوا يستخدمون في حديثهم عن عرفات عبارات مليئة بالشتيمة والسخرية والتهكم الصبياني غير المسؤول في محاولة مستميتة للحط من قدر الرجل، ومساعدة شارون علي تهميشه وعزله.

ويذكرني هؤلاء الكتاب الصغار بالاقزام الذين كان يدفع بهم الرومان الي حلبة النزال في الكولوسيوم بروما، فيروح هؤلاء الاقزام يتحلقون حول المصارع الروماني او العبد الاسير يناوشونه ويطعنونه ـ دون ان يقتلوه ـ بحرابهم القصيرة، في موقف يضحك له قياصرة الرومان وحاشيتهم، ومن المحزن حقا ان يقضي زعيم مثل ياسرعرفات عمره في خنادق المعارك الحقيقية اليومية لتحرير وطنه، حارما نفسه من ملذات الحياة الانسانية العادية، ليأتي بعض الصغار من المثقفين ـ او مدعي الثقافة ـ لمهاجمة والنيل من القائد التاريخي في مقالات يكتبونها في بيوتهم الامنة في مصر او سورية او لبنان او غيرها.. مثبتين بذلك مدي قصر نظرهم وغلاظة ضميرهم عندما يرضون لانفسهم القيام بدور اقزام القياصرة في طعن سبارتاكوس نصير المظلومين المضطهدين، لحساب الامبراطورية العظمي وبريقها العلمي الخلاب.

ولكن الاعداء من جميع الجهات، والاصدقاء المتخاذلين او المتآمرين من وراء الظهر، لم يستطيعوا جميعا النيل من الزعيم التاريخي، فمثل مارتن لوثر كنغ، ونيلسون مانديلا، وجمال عبد الناصر، سيظل ياسر عرفات اطول قامة من اعدائه واصدقائه علي السواء، الذين يعرفون في قرارة اعماقهم، حتي ولو لم يعترفوا بذلك، ان الرجل قد خرج ـ بفضل سنوات كفاحه الطويل العظيم ـ من اطار الرجل ـ الفرد ليرتدي اطار الرجل ـ الرمز فيصبح ـ حتي لو لم يطلب ذلك ـ رمزا مجسدا لشعبه كله، وصوتا صارخا يعبر عن جموع اصوات الملايين، فالرجل ـ الرمز لا ولن يموت ـ لذلك يظل مارتن لوثر كنغ حيا مؤثرا عدة اجيال بعد اغتياله، وهكذا ايضا سيظل ياسرعرفات، و لو انهم طالوه سجينا.. وطريدا.. و شهيدا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الجامعات الأميركية.. عدوى التظاهرات تنتقل إلى باريس |#غر


.. لبنان وإسرائيل.. ورقة فرنسية للتهدئة |#غرفة_الأخبار




.. الجامعات التركية تنضم ا?لى الحراك الطلابي العالمي تضامنا مع


.. إسرائيل تستهدف منزلا سكنيا بمخيم البريج وسط قطاع غزة




.. غزة.. ماذا بعد؟ | جماعة أنصار الله تعلن أنها ستستهدف كل السف