الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميزانية 2024: أعلى نسبة تداين تجسيما لشعار -التعويل على الذات-

جيلاني الهمامي
كاتب وباحث

2023 / 12 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


انطلق يوم الجمعة 17 نوفمبر الجاري مجلس “الدمى” في نقاش ميزانية السنة القادمة 2024. وكما جرت العادة خصص اليوم الأول من مداولات “المجلس” للاستماع إلى الوزير الأول (وليس رئيس الحكومة) في تقديم الميزان الاقتصادي وتوجهات الحكومة التي صاغت على أساسها الميزانية.

1 – ملاحظات حول خطاب رئيس الحكومة

جاء خطاب السيد الحشاني الذي يتميّز بأسلوب خاص في التواصل شكلا ومضمونا مزيجا من امتداح الذات والرضا عن النفس ومن الوعود والتسويق للوهم. فمن جهة، يعتبر أنّ هذه الميزانية تندرج ضمن “مسار الإصلاح” الذي يجسّم “صواب الخيارات” وهو خطوة في “مسيرة التنمية والبناء ضمن رؤية تونس 2035 ومنوال التنمية الجديد”. وعدّد منجزات حكومته، وأيّة منجزات، “المصادقة على بطاقة التعريف البيومترية” و”تفعيل اللجنة العليا لتسريع إنجاز المشاريع العمومية” و”استكمال التشاور حول مشاريع النصوص المنظمة للإدماج المالي ومجلة الصرف” وكذلك “استكمال التشاور حول مراجعة الفصل 96 من المجلة الجزائية والفصل 411 من المجلة التجارية فيما يتعلق بإصدار شيك دون رصيد” و”التقدم في إيجاد حلول بخصوص الإشكاليات الحاصلة في عدد من البنوك العمومية والبنوك ذات المساهمات العمومية” وكما هو ملاحظ فهي كلها “منجزات” إدارية وتنظيمية لا أثر لها على الإنتاج والنشاط الاقتصادي ككل.

ومن جهة ثانية وفي إطار رسم ملامح المستقبل أكد على ضرورة تجسيم دستور سعيد، دستور 25 جويلية، في بعض التشريعات التي لا تتلاءم مع أحكامه كقانون المحكمة الدستورية أو التي ينبغي الإسراع بها كالقانون المنظم للعلاقة بين مجلس “نواب الشعب” ومجلس الأقاليم والجهات. ووعد بـ”العزم على مواصلة مسار الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بالتنسيق مع رئيس الجمهورية وفي إطار دولة موحدة، كفيل بتحقيق تطلعات الشعب التونسي واسترجاع الثقة في الدولة وزرع ثقافة العمل والتفاؤل وضمان مستقبل واعد للأجيال القادمة”. وبطبيعة الحال لم يغفل عن تدبيج خطابه الخشبي بجملة من الشعارات التي كرّرها أكثر من عشرة رؤساء حكومة من محمد الغنوشي في عهد بن علي مرورا بالباجي قائد السبسي وحمادي الجبالي وعلي العريض ومهدي جمعة والقائمة معروفة وصولا إلى نجلاء بودن مثل “الدور الاجتماعي للدولة” و”دعم الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة” و”مقاومة التهرب الجبائي وإدماج الاقتصاد الموازي” و”استعادة ثقة المستثمرين ومواصلة تكريس الدور الاجتماعي للدولة ومزيد الإحاطة بالفئات الاجتماعية محدودة الدخل والمحافظة على السلم الاجتماعي” وما إلى ذلك من الكليشيهات المعروفة والتي فقدت أبسط معانيها عند المتلقي للخطاب الرسمي في تونس.

2 – الخطوط العريضة للميزانية

تنطلق الميزانية من عنصرين كبيرين أساسيّين هما حصيلة ميزانية السنة المنقضية من جهة والمؤشرات الأساسية المعتمدة في تقدير عناصر الميزانية الجديدة.

2 – 1 – حصيلة ضعيفة وسلبية
وبالعودة إلى نتائج أهم المعطيات الاقتصادية والمالية في حصيلة المدة المنقضية من ميزانية سنة 2023 نلاحظ على العموم أنّ الغالبية العظمى من هذه المؤشرات بعضها ضعيف وبعضها الآخر سلبي (بمعنى تحت الصفر). وأول ما نذكر في هذا الباب هو استمرار العجزين التوأمين، العجز التجاري وعجز ميزانيّة الدّولة إضافة إلى تراجع نسق النّمو والاستثمار وارتفاع مستوى التّضخم. وإلى جانب ذلك يجدر الإشارة إلى معطيات أخرى مهمة في سياق الحديث عن حصيلة ميزانية 2023. من ذلك على سبيل المثال لا الحصر تراجع قيمة الدينار مقابل الأورو بنسبة 3.3% في موفى سبتمبر 2023 وبنسبة1.1% مقابل الدولار من ناحية وتراجع القيمة المضافة للقطاع الصناعي بـ2.1% وتواصل النمو السلبي لقطاع البناء والتشييد بـ5.4% وتراجع الإنتاج في قطاع استخراج النفط والغاز الطبيعي بنسبة 2.6%، بالإضافة إلى تراجع نشاط قطاع المناجم بـ14.1%. وحتى وإن شهدت نسبة التضخم تراجعا بحوالي نقطة ما بين أوت وأكتوبر فإنها ظلت لامحالة مرتفعة بالنسبة إلى مواد التغذية إذ عرفت الأسعار في هذا المجال ارتفاعا بنسبة 13،9 %.

2 – 2 – مراجعة المؤشرات

يتبيّن من الوثائق المعتمدة لوضع الميزانية أنه قد تمّ مراجعة المؤشرات التي على أساسها وضعت الميزانية مقارنة بالنص الأوّلي الذي سبق وأن تعرضنا إليه من قبل (أنظر مقال “حول ميزانية 2024 : السمّ في الدسم…” الصادر في جريدة “الشارع المغاربي” بتاريخ 12 سبتمبر 2023). ومن غير المعلوم ما إذا كان تراجع الحكومة عن بعض المؤشرات مثل اعتماد معدل سعر برميل البترول بـ71 دولار ومراجعته واعتماد معدل سعر بـ81 دولار قناعة منها أنّ مؤشراتها السابقة كانت فعلا غير واقعية. إذ لو كان الأمر كذلك لما استمرت في بناء ميزانية على مؤشرات غير واقعية حقا مثل التمسك بنسبة نمو بـ2.1% وفي التعويل على استقرار سعر الصرف على ما عليه الآن. ذلك أننا لا نرى في الواقع ما يبعث على مثل هذا التفاؤل المغلوط. من المنتظر أن تكون نسبة النمو للسنة الجارية دون 1% (حوالي 0.9 %) وبالنظر إلى المعطيات الاقتصادية الدولية ومناخات الأزمة العامة والحروب (في الشرق الأوسط وأوكرانيا وشبح الحرب في جنوب شرق آسيا) علاوة على التغيرات المناخية وشبح الجفاف الذي يخيّم على الموسم الفلاحي الجديد والتعطل الكبير الذي تشهده ديناميكية الإنتاج جراء التراجع الرهيب للادخار وبالتالي للاستثمار من غير المنطقي التعويل على القفز من أقل من واحد بالمائة إلى أكثر من اثنين بالمائة كنسبة نمو للسنة القادمة.
أمّا بالنسبة إلى سعر الصرف فإنّ الغموض الذي يكتنف الأوضاع الاقتصادية العالمية وفي المحيط القريب منّا (الشرق الأوسط وشمال افريقيا) يهدّد بشكل جدي الاقتصاد التونسي وموازناته المالية. فأسعار المواد الأساسية في السوق العالمية آخذة في الزيادة (رغم التراجع الظرفي للبعض منها) وخاصة المواد التي تمثل الجزء الأكبر من وارداتنا وهي المحروقات والحبوب والمواد المصنعة. ذلك ما يرشّح ميزان الدفوعات إلى تفاقم العجز الأمر الذي سيتسبّب في استمرار نسبة التضخم عالية، وهو ما قد يجبر البنك المركزي على الزيادة في نسبة الفائدة كطريقة تعوّد عليها لمواجهة التضخم.

ومعلوم أنّ من نتائج هذه المقاربة دهورة قيمة العملة المحلية. وعليه فإنّ التعويل على استمرار سعر الصرف على حاله أمر غير موثوق فيه ولا يمكن بناء الميزانية على أساسه كمؤشر.

3 – ملخص معطيات الميزانية وتوجهاتها
تبلغ الميزانية 77868 مليون دينار أي بنسبة زيادة 9.3% مقارنة بميزانية سنة 2023 محيّنة. وتعتبر هذه الزيادة مهمة ومن المفروض أنها تجسّم ميزانية توسعية. ولكنها وكما سنرى لاحقا أنها بالعكس ميزانية تقشفية وما هذه النسبة المهمة في زيادة حجم الميزانية إلا مظهرا من مظاهر التناقضات التي تميّز توجهات نظام الحكم.
3 – 1 – في باب النفقات

تم تخصيص من جملة الـ77 مليار دينار (77.868) مبلغ 5 مليارات (5.274م.د.) للاستثمار لكن مليار فاصل سبعة (1775م.د.) استثمارات مموّلة عن طريق قروض خارجية. وتمّ تخصيص 5 مليار دينار “لتدخلات ذات صبغة تنموية” وهي تسمية جديدة لأنها في الأساس لا تتعلق باستثمارات بالمعنى الحقيقي للكلمة. وتبقى النسبة المخصصة للتنمية من المجموع العام للميزانية نسبة ضعيفة تؤكد مرة أخرى انحباس عملية التنمية وخلق الثروة (نسبة 6.7 %).

هكذا إذن، حوالي 95% من الميزانية مخصصة لميزانية التصرف. وهذه أهم أبوابها:
نفقات التأجير: 23711 مليون دينار وتمثل 30.45% من مجموع النفقات
نفقات التسيير: 2539م.د. وتمثل 3.2% من مجموع النفقات.
نفقات الدعم: 11337 م.د. وتمثل 14.55% من مجموع النفقات.
نفقات الاستثمار: 5274م.د. وتمثل 6.7% من مجموع النفقات.
خدمات الدين العمومي: 24701م.د. وتمثل 31.7% من مجموع النفقات وتتضمن تسديد أصل الدين والفوائد الموظفة عليها.

وللقارئ أن يقارن النسبة المخصصة للاستثمار، أي للتنمية، وهي 6.7% بالنسبة المخصصة لخدمات الدين وهي خمسة أضعاف (31.7%). فكيف لميزانية بمثل هذه الهيكلة أن تكون في خدمة التنمية والتقدم الاقتصادي؟؟

3 – 2 – في باب المداخيل

لتغطية هذه النفقات رصدت الميزانية جملة الموارد وهي صنفان، موارد الميزانية ومجموعها 49160م.د. وهي مداخيل جبائية بمبلغ 44050م.د. وأخرى غير جبائية بمبلغ 4760م.د.
وبطبيعة الحال تنقسم المداخيل الجبائية إلى مباشرة على الدخل بالنسبة للأفراد والشركات، وغير مباشرة كأداء على القيمة المضافة والمعلوم على الاستهلاك والمعاليم الديوانية.
ويتضح من تفاصيل المداخيل الجبائية المباشرة أنّ الأجراء هم من يسدّد كالعادة الأساسي من هذا الصنف من الجباية. إذ يبلغ حجم ما يسدّدونه 12383م.د. بينما الشركات، بما في ذلك الشركات البترولية، لا تزيد مساهمتها عن 5774م.د.
وهم أيضا، أي الأجراء، الذين يسدّدون الأساسي من مجموع المداخيل الجبائية غير المباشرة عند الاستهلاك باعتبارهم الأغلبية العددية من المستهلكين.
أمّا بالنسبة إلى الموارد غير الجبائية، ويبلغ حجمها الإجمالي 4760م.د.، فهي مداخيل أنشطة اقتصادية وعائدات مساهمة الدولة في رأس مال بعض الشركات والمؤسسات التي تذهب عائداتها إلى الدولة مباشرة وهي الأبواب التالية :
عائدات النفط (673م.د.) ومداخيل عبور الأنبوب الجزائري على التراب التونسي (1369م.د.) وعائدات المساهمات (1260م.د.) ومداخيل أخرى متفرقة.

أمّا بالنسبة إلى مداخيل الخزينة، ومقصود بها أساسا القروض الخارجية والداخلية، فيبلغ حجمها ولأول مرة 28188م.د. قروض إلى جانب مداخيل بيع بعض الأملاك المصادرة بمبلغ 520م.د. وتنقسم موارد القروض إلى اقتراض خارجي بحجم 16544م.د. واقتراض داخلي بحجم 11743م.د. وهو كما قلنا سابقة في تاريخ تونس لم يسبق أن سجلتها الميزانية. هذا فيما يضع قيس سعيد اختياراته الاقتصادية والمالية تحت عنوان “التعويل على الذات” في الخطاب فيما يسجل الرقم القياسي في التداين خارجيا وداخليا.

ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أنّ المبلغ المتوقع الحصول عليه كقروض أجنبية والبالغ حجمه 16544م.د. ليس بيد الحكومة أيّ ضمانات لتحقيقه ذلك أنها كما جاء في نص التقرير الاقتصادي أنّ 10378م.د. غير معلومة المصدر وسيتوجب على الحكومة السعي إلى إيجاد مانحين مستعدين لدفعها. ما يعني في ظل الحصار المالي المضروب على تونس نتيجة عدم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي سيكون من الصعب جدا أن تحصل تونس على قروض بهذا الحجم.

وسنعود في العدد القادم إلى تحليل هذه الميزة التي تميّز ميزانية 2024 إلى جانب خصائص أخرى.

4 – خصائص الميزانية: الاستنتاجات الأساسية
يمكن تلخيص ما يميز ميزانية 2024، علما وأنها ميزات تكاد تتكرر سنويا بنفس التفاصيل تقريبا، في خمس ميزات أساسية نستعرضها فيما يلي في شكل استنتاجات عامة.
4 – 1 – ميزانية التقشف
فميزانية 2024 التي سجلت نسبة زيادة بـحوالي 10 % ليست كما توحي بذلك ظاهريا هذه النسبة ميزانية توسعية بل بالعكس هي ميزانية تقشفية بامتياز ويبرز ذلك في عديد المؤشرات والمعطيات. ونعني بالطابع التقشفي الضغط على النفقات العمومية التي يستفيد منها المجهود الاستثماري أو يتمتع بها الاستهلاك العام أي عموم المواطنين في اشكال عديدة ومتنوعة. اول هذه المؤشرات هو الضغط على كتلة الأجور والحط منها بما يقارب نقطة من الناتج الداخلي الخام إذ تراجعت لتمثل 13،5 % من الناتج الداخلي الخام سنة 2024 مقابل 14،7 سنة 2023. ويعكس هذا التقليص في نسبة كلفة التأجير من الناتج المحلي سعي الحكومة الى الاقتراب من النسبة التي اشترطها صندوق النقد الدولي قبيل انطلاق المفاوضات حول القرض الممدد واثناءها (12،5 %). وبشكل ملموس ترجمة هذا التقليص تتم عبر الإجراءات التي وردت في تقرير الميزانية ومنها بالخصوص "التحكم في الانتدابات" و"مواصلة التخفيض التدريجي في عدد خريجي مدارس التكوين" و"ترشيد الترفيع في سن التقاعد" و"التحكم في نسب الترقيات السنوية على ان لا تتجاوز 20 % " و"عدم تعويض الشغورات و"مزيد ترشيد منح الساعات الإضافية اتجاه إسناد استراحة تعويضية في حالة القيام فعليا بساعات إضافية". علاوة على ذلك حثت الميزانية الجديدة المصالح الإدارية على التخفيض في عدد الاعوان العموميين وذلك باعتماد البيات مستحدثة مثل "الإحالة على التقاعد قبل بلوغ السن القانونية" و"العطلة من اجل بعث مؤسسة خاصة" الخ...
ومن أوجه التقشف أيضا التخفيض في اعتمادات الدعم ذلك انه تم التخفيض بـ 138 م. د. ليصبح اجمالي اعتمادات الدعم 11337 م د مقابل 11475 م د محينة لسنة 2023. وينضاف الى إثر هذه النقص أثار عدم توفر العديد من المواد الاستهلاكية الأساسية في المقدرة الشرائية للمستهلكين.
أما المظهر الاخر للتقشف فهو الأثر غير المباشر للاختيارات الاقتصادية المتبعة والمتمثل أساسا في محدودية حجم الاعتمادات المخصصة للتنمية والاستثمار ذلك ان مجموع 5274 م د لا تمثل الا 6،7 % من مجموع الميزانية وهو ما لا يسمح ببعث مشاريع وبالتالي لا يسمح بخلق الثروة وتوفير حاجات استهلاك المواطنين كما لا يسمح بخلق مواطن شغل للعاطلين عن العمل وللوافدين الجدد على سوق الشغل من الشبان الذين أصبحوا في سن الشغل.
ويتضح مما سبق تبيانه أن توجه التقشف الذي يميز ميزانية 2024 له تبعات مضرة بالخصوص بمصالح الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل من الجماهير الشعبية. وستمثل هذا الضرر أولا في غياب فرص الشغل وثانيا في عدم كفاية الدخل (إن وجد) لمواجهة تكاليف العيش بالنظر لارتفاع الأسعار وتصاعد نسبة التضخم التي من المتوقع ان تكون بمعدل لا يقل عن 9 % وهي نسبة مرتفعة بالنسبة لمستوى الأجور ومستوى العيش في تونس.
4 – 2 – ميزانية التداين
تحتاج ميزانية 2024 لاقتراض ما لا يقل عن 28188 م د وهي اعلى نسبة لم يسبق في تاريخ تونس ان بلغ حجم حاجة الميزانية للاقتراض لمثل هذا المستوى. نسجل هذا السابقة والحال ان شعار الدولة هو "التعويل على الذات" شعار كان أطلقه الرئيس قيس سعيد تعليقا على ما لاحظه على الاتحاد الأوروبي من "مماطلة" و"تلاعب" باتفاق الشراكة الاستراتيجية التي عقدها معه شهر جويلية الماضية. وكما سبق قوله ينقسم هذا المبلغ الى 16544 م. د. سيتعين إيجاد من في الخارج، دول ومؤسسات مانحة وسوق مالية خاصة، يقبل بتمكين تونس منها والبقية أي 11743 م. د. كقروض من السوق الداخلية وبالتحديد من البنوك والمؤسسات المالية المحلية. وحسبما جاء في التقرير حول الميزانية فإن الحكومة التونسية قد رصدت بعض المصادر الخارجية للحصول على ما مجموعه حوالي 4160 مليون دينار. (السعودية 1600 م. د.، الجزائر 965، الينك الافريقي للتصدير والاستيراد 1264، البنك العالمي 218 الخ...) ولكنها لم تتمكن بعد من تحديد مصادر الاقتراض بالنسبة للمبلغ المتبقي وهو أكثر من 10300 مليون دينار. ونعتقد أنه في صورة استمرار موقف صندوق النقد الدولي "المناوئ" سيكون من الصعب إن لم نقل من المستحيل ان تتوصل الحكومة التونسية الى الحصول على هذا المبلغ وفي هذه الحالة سيتعمق عجز الميزانية ليبلغ ضعف النسبة المقدرة في مشروع الميزانية الحالي. إن تونس تعيش اليوم، جراء ذلك الموقف، حصارا ماليا عالميا لا يبدو أنها قادرة على فكّه في ظل علاقة الجفاء بين صندوق النقد الدولي وقيس سعيد شخصيا.
أما بالنسبة للاقتراض الداخلي فإن مشروع الميزانية يعول على تعبئة 11743 م. د. عبر إصدارات متنوعة سندات الخزينة (القرض الرقاعي الوطني، رقاع الخزينة 52 أسبوع الخ...) الى جانب الالية الجديدة التي ما انكت الحكومة في عهد قيس سعيد تعمل بها وهي القرض البنكي بالعملة. ويذكر في هذا الصدد ان البنوك التونسية لم تعد متحمسة لشراء سندات الخزينة أولا لتصاعد الضغط عليها بشكل يفوق أحيانا قدراتها التمويلية من جهة وبسبب طول آجال استرجاع رأس المال ومحدودية قيمة الفوائد المترتبة عن عمليات الشراء من ناحية أخرى.
ومعلوم انه ينجم، عن اللجوء الى هذا الحجم الهائل من القروض (الخارجية منها والداخلية) على غرار ما هو مبرمج للسنة القادمة 2024 (28188 مليون دينار أي تقريبا أي ما يزيد عن 36 % من المداخيل المتوقعة للميزانية)، جملة من المشاكل منها أولا سيرفع من حجم المبالغ الواجب تسديدها سنة بعد سنة. فنتيجة لمسار التهافت على الاقتراض يبلغ ما يتعين علينا تسديده سنة 2024 أكثر من 24700 م. د. مقابل 20810 م. د. سنة 2023 أي بزيادة 3891 م. د. (18،7 %) وهكذا نرى بالملموس عملية استنزاف المالية العمومية ورهن الاقتصاد التونسي لدى مؤسسات التسليف العالمية (دولا ومؤسسات) وان هذه السياسة تحولت الى معطل جدي للتنمية ذلك أنه وكما هو ملاحظ يمثل تسديد الديون السنة القادمة حوالي خمس مرات حجم ميزانية التنمية والاستثمار.
ومن المشاكل المنجرة أيضا عن الهرولة نحو التداين ارتفاع نسبة الضغط الجبائي إذ أن الحكومة ومن اجل تحسين مداخيل الجباية تضطر الى تشديد الإجراءات الجبائية سواء بالزيادة في معاليمها او باحداث إجراءات جديدة والتنويع فيها. مثال ذلك قررت الحكومة في ميزانية 2024 إلزام المؤسسات المالية (بنوك ومؤسسات تأمين الخ...) بدفع معلوم ظرفي لفائدة الميزانية "يحتسب المعلوم المذكور بنسبة %4 من الارباح المعتمدة لاحتساب الضريبة على الشركات التي يحل أجل التصريح بها خلال سنتي 2024 و2025 مع حد أدنى بـ10.000 دينار سنويا" حسبما جاء حرفيا في الفصل 49 من مشروع قانون المالية. وقد سارعت المؤسسات المعنية بالاجتماع لتنسيق الموقف وقررت تثقيل هذا المبلغ على حرفائها ضمن أسعار الخدمات المقدمة. ما معناه ان الحريف أي المستهلك في هذه الحالة وكل الحالات الشبيهة هو من يتحمل تبعات هذه الإجراءات.
4 – 3 – ميزانية تطبيع تعليمات صندوق النقد الدولي
جسمت ميزانية 2024 انخراط السلطة في تونس في ما يسمى بالإصلاحات وتنفيذها عبر قرارات مالي ملموسة منها أولا الحط من نسبة كتلة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي حيث نزلت من 14،7 الى 13،5 وبذلك اقتربت من النسبة التي حددها الصندوق كشرط من شروط الموافقة على القرض الممدد. من جانب اخر تم التخفيض في حجم الاعتمادات المخصصة للدعم بـ 138 م. د. ليصبح اجمالي اعتمادات الدعم 11337 م د مقابل 11475 م د محينة لسنة 2023. وهو كذلك خطوة باتجاه التقليص فيه بما يخفف العبء عن ميزانية الدولة. وهو اجراء ليبرالي الغاية منه القضاء على المكاسب الجزئية التي فرضها الشعب التونسي في مراحل سابقة من نضاله من أجل حماية المقدرة الشرائية. أما الاجراء الرابع الذي بموجبه تمت الاستجابة لإملاءات صندوق النقد الدولي فهو بعض الإجراءات الجبائية التي اعترف بها محافظ البنك المركزي حين قال " الإصلاحات التي تمت مناقشتها مع الصندوق وقع تجسيدها وتطبيقها ضمن قانون المالية لسنة 2023 على غرار الترفيع في الأداء على القيمة المضافة للمهن الحرة" علاوة على الإجراءات الأولية لتفكيك نسيج المؤسسات العمومية عبر ما يسمى "إعادة هيكلة رأسمالها"
4 – 4 – ميزانية من دون رؤية وذات برنامج شكلي
رغم ما قيل من أن الميزانية تندرج ضمن "رؤية لتونس 2035 تقوم على منوال تنموي جديد يرتكز على التجديد والإدماج والاستدامة" وعلى "تنمية جهوية عادلة وتهيئة ترابية دامجة" فإن الحقيقة غير ذلك تماما وسوف نتبين ذلك من خلال أهم الأهداف التي وضعت لهذه الميزانية والتي كما ورد نصه تتمثل في : " 1 - تكريس الدور الاجتماعي للدولة وتأمين تزويد السوق بالمواد الاساسية
2 - دعم قطاع الفلاحة والصيد البحري والموارد المائية
3 - دعم الادماج المالي للمؤسسات الصغرى والمتوسطة وتشجيع الادخار ودفع الاستثمار
4 - إرساء آليات بديلة لتمويل نفقات الدعم
5 - دعم الاقتصاد الاخضر والتنمية المستدامة
6 - مقاومة التهرب الجبائي وإدماج القطاع الموازي
7 - دعم الامتثال الضريبي وتكريس مزيد من الضمانات للمطالب بالأداء
8 - دعم توازنات المالية العمومية".
ولتحقيق هذه الأهداف كان رئيس الحكومة يوم عرض الميزان الاقتصادي (أي التقرير العام حول الميزانية) أشار الى ان "رؤية لتونس 2035" تقوم على منوال تنموي جديد يرتكز على التجديد والإدماج والاستدامة من خلال المحاور الستة التالية:
تنمية جهوية عادلة وتهيئة ترابية دامجة،
عدالة اجتماعية أساس التماسك الاجتماعي
رأس المال البشري قوام التنمية المستدامة،
اقتصاد المعرفة محرك الابتكار والتجديد،
اقتصاد تنافسي ومتنوع داعم للمبادرة الخاصة،
اقتصاد أخضر متأقلم مع التغيرات المناخية".

وعسى ان نعود في فرصة أخرى لنقاش مضمون "منوال التنمية الجديد" بمحاوره الستة الواردة أعلاه نكتفي بالقول إن هذه المحاور لا هي بمنوال ولا هو بجديد وان الامر لا يعدو أن يكون غير خطاب خشبي قديم نعثر عليه في خطب رؤساء حكومات بن علي كما لدى مهدي جمعة ويوسف الشاهد وغيرهم. اما اهداف الميزانية التي اوردناها حرفيا من نص التقرير الحكومي فهي عناوين لإجراءات جزئية وشكلية تندرج ضمن منوال التنمية القديمة المعمول به والذي اودى بتونس الى الخراب الاقتصادي والانخرام المالي.
فبخصوص البند الأول من اهداف الميزانية وهو " تكريس الدور الاجتماعي للدولة وتأمين تزويد السوق بالمواد الأساسية" فإن الإجراءات التي ستتخذ تحت هذا العنوان هي في اغلبها إجراءات إدارية وتنظيمية ولا تزيد عن:
- احداث حساب دعم تطوير المنظومة القضائية العدلية (توظيف 10 دينار على أوامر الدفع والاذون على عرائض الخ...الهبات الخاصة)
- احداث حساب خاص في الخزينة لتمويل تنقلات حضرية (يمول بنسبة من معاليم تسجيل العربات ورخص النقل)
- خط تمويل بـ 20 م د لإسناد قروض بدون فوائض بـ 10 الاف دينار على الأقصى في مشاريع خاص مبتكرة
- تمكين شركة اللحوم بقرض 2 م د في إطار إعادة هيكلة راس مال المؤسّسات العمومية + تخلي الدولة عن مستحقات ديوانية في حدود 4،5 م د
- التحكم في أسعار مادتي القهوة والشاي الموردة.

وعلى غرار ذلك الإجراءات التي ستتخذ ضمن بقية الأهداف المنصوص عليها والتي لا نرى فائدة في ذكرى تفاصيلها هنا حتى لا نثقل النص بتفاصيل لا ترتقي مطلقا لن تكون بنود برنامج تنموي بديل بالمعنى الحقيق للكلمة.
لقد عاشت تونس على وقع هذه التوجهات الترقيعية حتى سقطت في هوة ازمة عميقة وشاملة تحمل في طياتها كل أسباب الانهيار وليس لها امل في الإفلات من هذا المصير المؤلم والمخيف غير القطع مع هذا النمط من التسيير وهذا البرنامج الذي يكرس التخلف والتبعية والفقر. يبقى السبيل الوحيد هو برنامج بديل بأتم معنى الكلمة يستند الى رؤية اشتراكية توظف المقدرات المادية واللامادية للبلاد وفق خطة تنمية تقوم على اصلاح زراعي عميق وتصنيع مدروس وتنمية متطورة للخدمات واعتماد منهجي على البحث العلمي واخر مبتدعات التقنية. ولمزيد تفصيل ذلك سنعود للموضوع في فرصة قادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأول مرة منذ 7 عقود، فيتنام تدعو فرنسا للمشاركة في إحياء ذكر


.. غزيون عالقون في الضفة الغربية • فرانس 24 / FRANCE 24




.. اتحاد القبائل العربية في مصر: شعاره على علم الجمهورية في ساب


.. فرنسا تستعيد أخيرا الرقم القياسي العالمي لأطول خبز باغيت




.. الساحل السوداني.. والأطماع الإيرانية | #التاسعة