الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهجرة إلى الجحيم. رواية

محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)

2023 / 12 / 6
الادب والفن


5
مقدمة
أنا وأركاديوش وشيلوك وأمّي!!
لن أتطرق كثيراً إلى الأسباب التي دفعتني لكتابة هذه
الرواية. بقدر ما سأتطرق إلى الصعاب التي واجهتني قبل
وخال كتابتها.
كنت أعمل في مكتب الدراسات الفلسطينية - فتح - حين
جاءني الأخ مسؤول المكتب بمخطوط قال لي أنه رواية كتبها
أحد المهاجرين اليهود الذين هربوا من فلسطين المحتلة.
أخذت المخطوط وقرأته. لم يكن له أية علاقة من قريب
أو بعيد بالفن الروائي. إنّه مجرّد تجربة عادية كتبت بشكل
تقريري مبتسر جداً وسيء في الوقت نفسه، عدا عن كونها
مفككة درامياً ودون خاتمة أو ذروة درامية بتعبير أدق، وترجمتها
عن البولونية كانت أكثر سوءاً، مما أفقد المخطوط حرارة بعض
الومضات الإنسانية!.
ولم أعرف أن هذه الرواية - المخطوط - ستفرض عليّ
بشكل أو آخر بحكم عملي في المكتب، على الرغم من كل
محاولاتي للتهرب من الأمر، فقد أعطيت حق التصرف في
المخطوط كما أشاء، على أن اقدّم "رواية" تتعلق بهجرة اليهود
إلى فلسطين، وتكشف دوافعها...
6 الهجرة إلى الجحيم
لم يكن هذا المخطوط الأول الذي يصل إلينا من مهاجرين
يهود هربوا من فلسطين المحتلة، فقد عرض علي مخطوط آخر
قبل هذا، وهو "رواية" أيضاً كتبها أحد اليهود العراقيين. وللحق
أقول إن المخطوط لم يكن يخلو من مسحة أدبية، لكنه كان يحمل
عداء سافراً للاتحاد السوفيتي ومختلف الدول الاشتراكية، مما
دفعنا إلى عدم طبعه، ولا أنكر أن هذه المشكلة أصبحت مشكلتي
أيضاً مع "أركاديوش بودليفسكي" كاتب المخطوط الثاني الذي
فرض علي. فلم يستطع "أركاديوش" أن يقودني إلى التعاطف
معه، على الرغم من كل المأساة التي عاشها في ما يسمى
"إسرائيل". فقد كان "صديقنا" ضد الاشتراكية، على الرغم من
اعترافاته ضمن المخطوط، أن حياته مع أسرته في بولوينا،
كانت حياة رفاهية، إذا ما قيست بحياته في فلسطين. لذا
لا أنكر أن صراعاً حامياً قد نشب في دخيلتي، مع أركاديوش
من ناحية، ومع اليهود من ناحية أخرى. أركاديوش المعادي
للاشتراكية والتقدم اللذين لا مجال للنقاش معي حولهما،
وأركاديوش المسكين المغرر به الذي جاء إلى فلسطين يحلم
بالدولارات والعسل واللبن!.
وماذا عن اليهود؟ اليهود الذين احتلوا أرضي وسفكوا دمي
في دير ياسين وكفر قاسم وقبية، وما زالوا يسفكونه حتى اليوم
وفي كل مكان تطاله أيديهم، أليسوا يهوداً؟ أجل إنهم كذلك! مع
احترامي لكل الأصوات اليهودية الصادقة المعادية للصهيونية،
والتي تصرخ معي، وتحاول أن تمد يدها لتساعد في إنقاذي، أو
إنقاذ نفسها بتعبير أدق!.
الهجرة إلى الجحيم 7
وشيلوك؟! شيلوك شكسبير في "تاجر البندقية" وغيرها من
الأعمال الأدبية العالمية، كيف أسمح لنفسي أنا... أنا الضحيّة...
أن أغيّر من صورة هذا المرابي الجشع أمام العالم؟! كيف؟!
ماذا سأقول لأمّي التي لم أرها منذ اثنتي عشرة سنة - كونها
تقيم تحت الاحتال - إذا ما اغرورقت عيناها بالدموع ووقفت
أمامي لتقول "ليتني لم ألدك! ليتني لم أرضعك من حليبي
قطرة واحدة!!" ماذا سأقول لها يا راحيل!! يا فليتسيا! يا فلنر،
يا أفنيري، يا بشير! يا عرفات، ماذا سأقول لها أيها الناس؟! هل
ستصدقني عندما سأقول لها: "يا أمي أنا لم أكتب عن مناحيم
بيغن، أنا كتبت عن اليهود المسحوقين والمناضلين، الذين قد
يقفون معي حتى بالساح، والذين سيقفون معي في المستقبل
لنتخلّص من الصهيونيّة " وهذه - حتمية التاريخ - والذين لم
ولن يمسوني بأي سوء! وإذا كنت لا تصدقين، فاجلسي لأقرأ
عليك روايتي؟!".
أنا واثق أنّها لن تذعن لي، ولن تستمع لروايتي، ولن تأبه لكل
توساتي، فهي أمي وأنا أعرفها جيّداً! ستنبذني حتما!!.
هذه بعض ملامح الصراع الذي دار في دخيلتي قبل وخال
كتابة هذه الرواية.
قرأت كل ما توفر لدي عن الحياة في "المجتمع الصهيوني"
ومعظم ما كتبه اليهود الذين هربوا من فلسطين بشكل أو آخر،
والذين بلغ تعدادهم حسب احصائيات عام 1980 - 360 ألفاً،
واستفدت كثيراً من شهادات بعض الهاربين التي نشرت في
الاتحاد السوفييتي، وأخيراً الأسباب التي دفعت بعض اليهود
8 الهجرة إلى الجحيم
للهجرة إلى فلسطين وكيفية ذلك... وشرعت في كتابة الرواية
مستنداً إلى هذا الركام من الوثائق التاريخية، التي لم تستوعب
هذه الرواية إلا اليسير منها أو أهمّها، لضيق الهامش الوثائقي
الذي استخدمته.
وأعترف أنني بدأت الكتابة تحت إحساس بعدم الاقتناع بما
أن مقدم عليه. فقد انطلقت من قصة "صديقنا" "آركاديوش
بودليفسكي" وعندما شعرت أنني لن أنسجم في الكتابة ولن
استطيع الاستمرار، أخذت استوحي أحداثاً من عندي على
ضوء الوثائق التي اطلعت عليها... لذا نسفت قصة "آركاديوش"
من أساسها، ومنذ الصفحات الأولى التي شرعت في كتابتها...
ولم يبق من "صديقنا" أركاديوش غير اسمه وبعض الجزئيات
الصغيرة التي وردت في "روايته" علماً أن اركاديوش الحقيقي،
يعيش الآن في أوروبا الغربية، بينما أركاديوش المتخيّل "الذي
اتحدث عنه في هذه الرواية" سيعرف القارئ مصيره في نهاية
الرواية.
لقد أخذت الصورة المتخيلة " التي أملتها الظروف النفسية
)التي مررت بها كفلسطيني( بالدرجة الأولى، والتي أملتها المادة
الوثائقية )التي قرأتها( بالدرجة الثانية " أخذت تكبر وتكبر
حتى فاضت على المادة الوثائقية البحتة، بل وتلاشت الأخيرة
أمامها!.
إنني لا استطيع تصنيف عملي هذا لأجزم إلى أي مدرسة
ينتمي، فهو ليس رواية تسجيلية مائة في المائة، وليس رواية
متخيلّة مائة في المائة، إذ أن المناخ الذي استوحيت منه العمل،
الهجرة إلى الجحيم 9
لم يتح لي - كما أظن - أن أجنح بالخيال أكثر مما جنحت إليه.
هذا ما أظنه، لكنني لا أجزم به!!.
وقبل أن أتركك أخي القارئ مع الرواية، لا أطلب إليك أن تكون
معي أرحم من أمي، التي وكما تخيّلت أنها رفضت الأذعان إلي
ونبذتني. فإما أن تقتنع معي بما ذهبت إليه؟ وإمّا أن تقف مع
أمّي، وحينئذ سأتنصل من هذه الرواية ونحرقها سويّة!!.
محمود شاهين
22 أيلول 1980
10 الهجرة إلى الجحيم
- 1 -
أخرجت السكين من جيب سترتي وضغطت على الزر الأحمر
المثبت على جانب نصابه. فاندفع النصل أبيض لامعاً تحت
ضوء القمر «سأقتلكما يا ولدي الحبيبين! لن تتعرضا لحرِّ
الشمس وبرد الليل بعد اليوم ولن تدمى أقدامكما في البحث
عن مكان آمن تخلدان إليه، ولن تذرف دموعكما لتحصا على
لقمة خبز تدرآن بها الجوع، ولن تتعرضا للضرب والإهانة التي
تلحق بكما كل يوم. سأريحكما من كل هذا العناء وأريح نفسي!!
فلم أعد احتمل ثقل المعاناة التي تجثم فوق صدري وتحطم
قلبي!!؟
مددت يدي بالسكين. قرّبته من نحر داريوش. بدا وكأنه
يستسلم لنوم عميق. جفناه مطبقان كوردة ذابلة. رموشة الطويلة
تسترسل بهدوء لتلامس وجنتيه. ارتجفت يدي «ماذا لو فتح
عينيه؟! » لم أجرؤ على التفكير فيما سيحدث، «يجب أن أهوي
بالسكين على نحره قبل أن يستيقظ. لكنه قد لا يموت من طعنة
واحدة. قد يستيقظ ويصرخ بذعر في وجهي. ماذا أقول له
يا رب؟! « » أنا أبوك «أركاديوش بودليفسكي » ولم أجد يا ولدي
الحبيب إلاّ أن أقتلكما وأقتل نفسي من بعدكما »!! كلا كلاّ هذا
مستحيل. سأدير وجهي لكي لا يعرفني! كلا أيضاً! لماذا لا أجز
عنقه جزاً وبضربة واحدة؟! وإذا ما استيقظ جشيجوش؟! يا
إلهي! لا لا!!.
لم أعرف أنني صرخت إلاَّ بعد أن استيقظ داريوش مذعوراً.
ولم أعرف كيف أعدت يدي بسرعة البرق وراء ظهري لأخفي
الهجرة إلى الجحيم 11
السكين.
قال داريوش:
- ماذا يا بابا؟
جاهدت لأستعيد هدوئي، وقلت وأنا أملس على شعره إلى
الأمام:
- لا شيء يا حبيبي أظن أنني كنت أحلم وصرخت!!
ومكثت أملس على شعره إلى أن نام ثانية.
نظرت إليهما ملياً. تأملت على ضوء القمر الغماّزتين
الجميلتين على خدّي جشيجوش. وجه جميل يطفح بالحزن
والآلام! «آه يا ولدّي! آٍه يا حبيبي!! سأقتلكما وأقتل نفسي!!! .»
أقول ذلك وأنا بكامل وعيي! لست مجنوناً! إنني عاقل تماماً!!
لكنني غاضب وحاقد وحزين!! قلبي محطمَّ. أحسُّ بأمعائي
تتمزق في داخلي!!.
«أيها الليل! أيتها النجوم أيتها السماء! لا تبرّئيهم من دمنا!!
كوني شاهدة عليهم!!.
... وأنت أيتها الجبال أيتها الأودية أيتها الكهوف، أخبري
عنهم إذا ما جاؤوك يوماً هاربين ليختفوا بين جوانبك .!!»
لملمت المعطف - الذي غطيتهما به حول جسديهما وأخذت
أربت على صدريهما واحداً بعد الآخر. «يا إلهي ما أجملهما
وما أبشع الحزن المرتسم على وجهيهما .»
كانا ينامان على الأرض. أخذت أبعد الحصى من حولهما.
كنت قد نظّفت المكان قبل أن أجعلهما يستلقيان فيه، لكنني
تنبهت إلى أنني لم أزح الحصى جيداً من تحتهما...
ابتسمت والدموع تنحدر على وجنتي عندما تذكرت أنني
12 الهجرة إلى الجحيم
سأذبحهما بعد قليل، فلماذا أنا حريص على أن أدعهما ينامان
مستريحين؟! خطرت لي فكرة أن أسهر عليهما طوال الليل ثم
انفذ ما صممت عليه عند بزوغ الفجر. راقت الفكرة لي فأزحت
الحصى بعيداً عنهما وأعدت حصر المعطف حول جسديهما.
انحنيت عليهما وقبلتهما قبلتين. بالكاد حتى جعلت شفتي
تلامسان خديهما لكي لا يستيقظا، وعدت أجلس إلى جوارهما.
تأملت السماء والقمر. الجبال التي تحيط به، ثم الأضواء
المنبعثة من جبال القدس، ومختلف القرى. ثم حسرت نظري
إلى الهضاب القريبة مني، فالأودية، فالسفح الذي أجلس
أعاه....
تأملت أشجار الحراج من حولي. بدت لي الأشجار وكأنها
أشباح صماء بكماء. أحسست بحركة ما قريبة مني. ارتعدت.
أهو ضبع؟! تحفَّزت ويدي تشد بقوّة على السكين. مكثت
مستمراً متحفزاً وأنا أنصت محدّقاً إلى مصدر الحركة، لبضع
دقائق. لم أُبصر شيئاً ثم إن الحركة لم تتكرر. «لعله جرذ،
أفعى، لا أرنب برّي أو ثعلب! » وأقنعت نفسي أن هناك حيوانات
كثيرة يمكن أن تحدث أصواتاً وتأتي بحركات فأرحت أعصابي
وعدت إلى سابق جلستي.
تأملت الطفلين من جديد «ناما بهدوء يا حبيبي. ودّعا النوم.
سأريحكما إلى الأبد!! .»
سيطرت علي فكرة أنني سأذبحهما عند بزوغ الفجر. تخيلّت
نفسي أنفذ الجريمة. فارتعد بدني من قمة الرأس حتى أخمص
القدمين. وجاهدت لأطرد الصورة من مخيلتي لكنني لم أفلح.
تصوّرت الدم يشخب من عنقيهما بغزارة، ثم غرزت السكين في
الهجرة إلى الجحيم 13
قلبي وأنا أنظر إليهما!! ))يا إلهي! لا لا!! هل ستلاحقني هذه
الصورة إلى أن يبزغ الفجر؟! لن أطيق هذا العذاب. يجب أن
أنفذ الآمر الآن!!((.
وعزمت أمري. قبلتهما للمرّة الأخيرة. لم أبكِ لكنني كنت في
هالة من الحزن واليأس، وكليّ تصميم لأن أنفذ جريمتي. ))لن
أدع يدي ترتجف لأن ذلك سيزيد من عذابهما. يجب أن أهوي
على عنقيهما واحداً بعد الآخر وبكل قوّة وخفّة، ثم أغرس
السكين في قلبي ليبلغ النصاب. كل هذا يجب أن أنفذه في أقل
من دقيقة. دقيقة كأقصى حد((!!.
وأشرعت السكين. أحسست أن يدي صلبة وقوية ولم تنتبني
أيّة رجفة. غاب الوجود بما فيه من كياني ولم أعد أرى غير
الطفلين. ولم يعد في دائرة تفكيري سوى تنفيذ الجريمة.
هممت لأهوي بالسكين وإذا بصوتٍ هائل يصرخ بي ))لا((!!
ورجل خيّل إلي أنّه وحش ينقض علي. وأظن أنني فقدت وعيي
بعد ذلك!!.
* * * * * *
14 الهجرة إلى الجحيم
-2-
بللت وجهه بقطرات من الماء البارد الذي كنت أحمله في
مطرتي لعلّه يعود إلى وعيه. كان الطفان قد استيقظا على
صرختي وأخذا يبكيان وهما في حالة من الذعر. عملت كل
ما في وسعي لأسكتهما. خاطبتهما بلطف. فتبيَّن لي أنهما لا
يفقهان العربية جيداً، فحدثتهما بعبريّة ركيكة فلم يفهماني
أيضاً. جرّبت معهما الانكليزية فلم يبد عليهما أنّهما فهما شيئاً.
فاحتضنتهما وأخذت أربت على ظهريهما، لكنهما لم يتوقفا عن
البكاء، وأخذا يتلفتان من بين ذراعي باتجاه أبيهما المغمى
عليه. كانا يعتقدان أنني قتلته، وهذا ما جعلهما يزدادان خوفاً
منّي، فتركتهما. هرب أصغرهما مبتعداً بينما ارتمى الأخر على
صدر أبيه وطوّق عنقه وهو يصرخ به منادياً مستغيثاً.
أحس ))أركادوش(( بقطرات الماء تبلل وجهه. ويبدو أنّه سمع
صوتي يهمس إليه: ))اركاديوش أركاديوش(( فقد حرّك رأسه
لكنه لم يفتح عينيه. لحظتها أيقن الولد أنني لست قاتاً، فائتمن
جانبي وتوقف عن الصراخ. نظر إلي نظرة حائرة متوسلة. ربتُّ
على كتفه وقلت له وأنا أشير بيدي لكي يفهمني: ))أبوك نائم
سأوقظه. إلحق بأخيك وعد به قبل أن يبتعد(( ويبدو أنّه فهم
ما أقصد، فقد نهض بسرعة وجرى إلى حيث صراخ أخيه.
ربت على خد أركاديوش وأنا أردد ببطء: ))أركاديوش
أركاديوش(( فتح عينيه قلياً. اتسعت حدقتاهما. يبدو أنّه
يتأمل وجهي. ردَّدت ))أركاديوش(( ارتسمت على وجهه اندهاشة
ما. يبدو أنّه فوجئ بمعرفتي لاسمه. نهض جالساً وأمسكني
الهجرة إلى الجحيم 15
من ذراعي وهو يردد بضع كلمات بلغة لم أفهمها، ويضغط على
ذراعي بقوّة ويحدّق إلى عيني. قلت بالعربية ))إنني لا أفهم ما
تقول(( فخاطبني بعربية ركيكة قائاً:
- من أنت؟
وكنت سأقول إنني فدائي جئت أبحث عنه لأقدّم له يد
المساعدة. لكنني ارتبت أن تخيفه كلمة فدائي. فقلت بالإنكليزية:
- أنا إنسان جاء ليفعل شيئاً من أجلك!
- ألست عزرائيل؟!
- أوه وهل تراني أشبهه؟
- أرجوك أأنا حي أم ميت؟!
- طبعاً أنت حي يا أركاديوش!
- لكني قتلت نفسي وقتلت ولديّ!
- كلاّ كلاّ. لم أدعك تفعل ذلك. فلقد تدخلت في اللحظة
المناسبة!
- أنت؟
- أجل أنا.
- وهل نحن أحياء؟
- أجل أجل!
- لكن أين داريوش وجشيجوش؟
ونظرت إلى الاتجاه الذي من المفترض أنّ الطفلين سيعودان
منه.
ولحسن الحظ كانا يقدمان. فأشرت إليهما وقلت:
- ها هما!
- لم يسألني أين كانا ولا لماذا ذهبا. فقد نهض وعدا
16 الهجرة إلى الجحيم
في اتجاههما وهو يردد اسميهما. بينما كانا يعدوان
بدورهما في اتجاهه وهما يرددان ))بابا بابا((.
جثا على ركبتيه وفتح ذراعيه فألقيا بنفسيهما إلى جانبي
صدره. ضمهما معتصراً معانقاً وهو يردد بنفس اللغة التي لم
أفهمها كلمات تبدو متوددة.
لم أتمالك نفسي من الفرح - فانهمرت الدموع من عيني!!
قادهما من يديهما... دنوا منيّ. اطلق يدي الطفلين وجثا
على ركبتيه أمامي وردد:
- أنا مدين لك مدى حياتي. إنني احس بفرح وسعادة لم
أشعر بهما من قبل. سأحتمل كل الشقاء لكنني لن أكرر
فعلة الانتحار ثانية. إنّ كل الأشياء تبدو هيّنة بل جميلة
أمام الموت. أشكرك من أعماق قلبي!.
كنت واقفاً فانحنيت قلياً. وضعت إحدى يدي على كتفه
ومددت الثانية على كتفي الطفلين وقلت:
- لا تشكرني أرجوك. فالفرح يغمر قلبي لأنك اقتنعت بفكرة
الحياة. أشعر أنني حققت إنجازاً عظيماً. هيّا يا أركاديوش،
استرح قلياً يا صديقي. خذ مطرة الماء اشرب واسق الطفلين.
اراح جلسته وقال وهو يمد يده ليأخذ المطرة من يدي:
- أنت تعرف إسمي أيضاً؟
- اجل يا أركاديوش!
- كيف؟
- أخبرتني به أمّي!
- أمّك؟
- أجل! المرأة التي خبأتك والطفلين في بيتها طوال
الهجرة إلى الجحيم 17
العشرة أيام الماضية هي أميّ. ليست أمي في الحقيقة.
لكنني أعتبرها كأمّي. إنّها أمٌ لكل المقاتلين!!
ولم يفهم كلمة ))المقاتلين((!! فتساءل حولها، فقلت:
- ))الفدائيين((.
ارتسمت دهشة كبيرة على وجهه وهو يحدّق إلي. وأحسَّ
الطفان بالخوف فالتصقا به. قاسني بنظراته من فوق إلى
أسفل. تحسس بيده جعبة الذخيرة تحت سترتي. فالقنبلتين
المعلّقتين في نطاقي. ورنا فيما حوله فشاهد البندقية مطروحة
على الأرض:
- أنت فدائي إذن؟!
- أجل يا أركاديوش!
وفجأة أمسك بذراعي وانفجر باكياً وهو يردد:
- أقسم لك أنني لم أذبح أحداً في دير ياسين ولم أقم
بقتل أو تشريد أي فلسطيني من أرضه هل تصدقني؟!!
وجاهدت لكي أهدّئ من روعة:
- أصدقك يا صديقي أصدقك! ولا داعي لأن تقسم لي.
ثم إنني لم استجوبك حول ذلك، فما الذي خطر لك؟!
- لا أدري. أشعر أنني أصبحت شريكاً في قتل وتشريد
الشعب الفلسطيني منذ أن اتخذت قراراً بالهجرة إلى
فلسطين، أو ما يسمى ))إسرائيل((. لم أكن أعرف كل
هذا. كانوا يقولون أنّ هذه الأرض أرضنا. لم أعرف أنّها
ليست كذلك. ولم أعرف أو أسمع بكل ما جرى ويجري
عليها إلاّ بعد حضوري. أين كنت من كل هذا؟! لا أدري.
لقد خدعوني يا!! عفواً ما اسمك؟
18 الهجرة إلى الجحيم
- فداء!!
- لقد خدعوني يا فداء! نعم خدعوني!!
- لا بأس يا صديقي، فلست المخدوع الوحيد المهم أن لا
تظل مخدوعاً!
- لا لا لم أعد كذلك. لكنني لم أجد أية وسيلة للهروب
من هذا الجحيم. لقد أقفلت كل الطرق في وجهي ولم
أجد إلاّ الانتحار!
- لا تيأس يا أركاديوش فقد أجد وسيلة تنقذك وتنقذ
الطفلين.
- سأكون ممتناً لك مدى حياتي!
- لا داعي لذلك أرجوك فقد نفشل. والآن هيّا لنعد إلى
أمّي فهي قلقة عليك!
ارتسم شيء من الذعر والدهشة على وجهه وقال:
- إذن هي التي أرسلتك لتبحث عنيّ؟
- أجل. لم أزرها منذ مدّة، فاغتنمت فرصة قدومي إلى
القدس في مهمة وجئت لزيارتها. أخبرتني بقصتك
منذ أن وصلت، ورجتني أن أخرج لأبحث عنك. لم أعثر
عليك. وكدت أعود إلى البيت عندما سمعت صرخة.
قلت لعلهّا تكون صرختك. هرعت. وعندما اقتربت من
موقعكم حنيت ظهري وسرت ببطء تحسّباً لشيء لم
يدر في خلدي. يبدو أنّك أحسست بحركتي.
- فعلاً لقد سمعت حركة ما!
- فكمنت بين الحجارة والأشجار وجلست أنظر إليكم.
تأكدت أنكم أنتم. لكنني فضَّلت التريث لأرى ما الذي
الهجرة إلى الجحيم 19
ستفعله. أشرعت سكينك فازدادت نبضات قلبي
وتحفزّت أعصابي. وقبل أن تهوى به كنت أصرخ بك
))لا(( التفت مذعوراً وسقطت مغمياً عليك. واستيقظ
الطفان فهرعت إليهما...
وسكت قليلاً وأنا أنظر إليه فقال:
- لكن ما الذي أخبرتك به الأم؟
- لا تعرف من قصتك شيئاً. كل ما قالته لي أنّها آوتك
عندها منذ عشرة أيام بناء على توصية من الدكتور
وليم وأنّك حاولت الانتحار ذات يوم فمنعتك. إلى أن
انفجرت أمامها هذا المساء وخرجت بالطفلين. لم
تعرف كيف تعبّر لي عن حالتك. كل ما قالته أنّك كنت
كالمجنون... وظّلت قلقة عليكم إلى أن جئت. فأخبرتني
بالأمر. لم أنتظر ولو للحظة، وهرعت أبحث عنكم. هيّا
يا صديقي لنعد فهي الآن قلقة عليكم وعلي أيضاً.
عاد الذعر يرتسم على وجهه:
- كلاّ أرجوك فأنا لا أستطيع أن أحتمل نظراتها!
- غريب أمرك! إنني أعرف نظراتها فليس فيها إلا الحنو
والإشفاق والحزن!!
- كلاّ كلاّ أرجوك، فأنا أراها عكس ذلك!
- عكس ذلك؟
- هذا ما أشعر به ألا تصدقني؟
- أصدقك أصدقك! ما العمل إذن؟
- سنبقى هُنا.
- هُنا؟
20 الهجرة إلى الجحيم
- أجل!
- أريد أن تحدثني بقصتك!
- سأحدثك هُنا وعن كل شيء. لكنني لا أحتمل أن أرى
وجه أمّك أو عينيها مرّة أخرى: أرجوك أن تفهمني!
- الحقيقية إنني لم أفهمك يا أركاديوش! لكنني أصدقك
وسأذعن لك.
وأعدنا الطفلين إلى مرقدهما. شلحت سترتي وفرشتها
تحتهما وغطيناهما بمعطفه. كان الطقس خريفياً وليس بارداً،
وإن كانت نسمات لافحة تهب بين الفينة والأخرى.
جلسنا. كوّعت على حجر وأسندت خدّي براحة يدي. وكوّع
هو مقابلي. كان القمر بدراً مما أتاح لي أن أتأمل تقاطيع
وجهه. يبدو أنّه أهمل حلاقة ذقنه وشاربيه منذ أكثر من عشرة
أيام. فبدا الشعر نابتاً لكنه لم يكس وجهه جيداً. عيناه أقرب
إلى الزرقة. ليستا واسعتين وليستا صغيرتين. حاجباه كثيفان
ورموش عينية طويلة. أمّا أنفه المعقوف فقد ذكرني بأصله،
وكان يضع على رأسه بيرية بنّية اللون. فلم يتح لي أن أرى
أم رأسه، لكنه بدا كثيف الشعر. ليس طوياً وليس قصيراً.
إنّه مربوع الجسم ونحيف إلى حد ما. ويبدو أنّه قد تجاوز
الخامسة والأربعين.
قلت له:
- ألن تقص عليّ حكايتك؟
تأمل القمر قلياً. ثم رنا فيما حوله ثم إلي. بقي صامتاً
للحظة وكأنّه ينبّه ذاكرته. قطب جبينه وزوى ما بين حاجبيه
وأغمض عينيه قلياً. أطلق تنهيدة طويلة وأخذ يتحدث:
الهجرة إلى الجحيم 21
- 3 -
مشؤوم ذاك اليوم الذي قررت فيه أن أغادر وطني الحبيب
«بولندا » وأهاجر إلى «إسرائيل » إنني لا أجد كلمة مناسبة أنعت
بها ذلك اليوم. لكنه يوم مشؤوم با شك. كنت أعمل ميكانيكياً
على إحدى السفن. وأظن أنّك تعرف شيئاً عن الحياة في
المجتمع الاشتراكي. لا يمكنك أن تكون ميسوراً ولا يدعونك
تعيش في عوز أو فاقه. كنت أعيش في استقرار مع زوجتي
وأطفالي. بهذا يمكنني أن أصف الحياة في المجتمع الاشتراكي.
إنّها حياة مستقرة. لم يكن ينقصنا شيء. لدينا كافة متطلبات
الحياة الحديثة. عندنا بيت مجهّز بوسائل الراحة كافة. فراش
ليس وثيراً لكنه مريح. براد، تلفزيون، راديو، آلة تسجيل، مطبخ
مجهّز بأحدث الأدوات الكهربائية. لم يكن ينقصنا شيء.
وذات يوم التقيت أحد دعاة الهجرة إلى ))إسرائيل(( - لم
أكن أعرف أنّ )إسرائيل( هي فلسطين - لا أستطيع أن أصف
لك كيف صوّر الحياة هناك. كان يتحدث كالبهلوان. يؤشر بيديه
ويهزُّ رأسه طرباً وهو يصف لي ))أرض الميعاد((!! كان يحشر
هاتين الكلمتين في كل جملة يقولها. يجلس معتداً متفاخراً وهو
يحدّثني ساخراً من حياتنا:
))أنت مغفل! مغفل تماماً!! تحيا هُنا كل هذه السنين وتترك
أرض الميعاد؟! أرض الميعاد! تدر العسل واللبن )فاحترت فيما
إذا كانت أرض الميعاد نحلة أم بقرة( إذا ما جلست تحت شجرة
من أشجارها، فإنّ ثمارها تسقط عليك تلقائياً!! أغصانها
22 الهجرة إلى الجحيم
حانية وثمارها دانية! أنهارها من الخمر وينابيعها من العسل
واللبن!! وبرتقالها؟ ماذا أقول لك عن برتقالها؟ إنّه أفضل أنواع
البرتقال في العالم. لونه هل تعرف لونه؟ كالذهب تماماً!! أمّا
طعمه فا أستطيع أن أصفه لك. إنّه شهي إلى درجة يعجز
عنها الوصف!!((.
والحقيقة أنني خجلت أن أسأله لماذا يسموّنها ))أرض
الميعاد(( ارتبت من أن يعرف أنني جاهل تماماً، بل لم أفتح
التوراة يوماً في حياتي!! فسألته: ))وهل سنحصل على بيت
وأثاث وعمل منذ وصولنا؟!(( فقهقه بملء فيه وهو يقول ))بيت
وأثاث وعمل؟!! ستكون الدولارات بين يديك أكثر من حبّات
كيلو من الأرز!!!((.
لن أطيل عليك يا فداء. أعطيته وعداً بأنني لن أتوانى ولو
للحظة عن الهجرة إلى أرض الميعاد. فأخذ يصف لي كيف
سيكون اللقاء حاراً. بل أوهمني أن الأرض ستنطق مرحبة بي.
فجعلني أحس بالندم والذنب لتخلّفي عن الهجرة حتى الآن.
عدت إلى البيت. أخبرت زوجتي بالأمر. لم تحبذه. ولم
تصدّق كلمة واحدة مما قلته لها على لسان ذاك الرجل. قالت
))إنّه معتوه أو مجنون... ثم إنّ حياتنا مستقرة، فلماذا نذهب
لنبني حياة من جديد؟!(( أخبرتها بقصة الدولارات التي تنتظرنا
فلم تقتنع. لكن بعد إصراري وتهديدي بأنني سأتركها وأهاجر.
وافقت على الأمر.
كنت أحب اليهود كثيراً وأتعاطف معهم. ولقد تعمَّق هذا
التعاطف في نفسي خال الحرب وإبّان معسكرات الإبادة
الهتلرية.
الهجرة إلى الجحيم 23
قدّمت طلباً للهجرة إلى ))إسرائيل((. لكنني لم أكن أملك
أية وثيقة تثبت انتمائي إلى الجنس اليهودي. فقدمت طلباً إلى
القسم اليهودي لدى سفارة هولندا في وارسوا، لأحصل على أي
إثبات. وطبقاً لتصريح شفهي من جانبي أن أمي كانت يهودية،
حصلت على شهادة تثبت ذلك. فقدمتها إلى الشرطة مع طلب
الهجرة. وعند ملء الاستمارة في قسم الشرطة في مدينة
))شتشتشين(( ترددت عند كتابة القوميّة والمواطنية، فأخبرني
المسؤول في الشرطة أن أكتب: القومية: يهودي! المواطنية:
بولندي، وهكذا فعلت.
كنت أدرك جيداً أن إعطاء أية معلومات كاذبة في مثل هذا
الاستمارة، يمكن أن يعرّضني للسجن خمس سنوات على الأقل.
فأبي كان بولندياً مسيحياً. وأمي ليس هناك اعتقاد كبير في
أنّها تنحدر من أصل يهودي. وعلى الرغم من كل هذا غامرت
بملءِ الاستمارة. لكن كل شيء سار على ما يرام. ولم يشكك
أحد في ما كتبته. وبدأت أعتقد أن الحظ حليفي!!.
خال هذه الفترة وضعت زوجتي طفلة اسميناها ))إيفا((
وعند حصولي على كافة وثائق الهجرة، أخذت زوجتي تتردد في
السفر نظراً لوجود تلك الطفلة. الأمر الذي دفعني إلى تأجيل
موعد السفر. وجاء الشتاء وأردت أن اؤجل سفري مرّة أخرى إلّ
أن السلطات المسؤولة رفضت تمديد إقامتي وطلبت إلي مغادرة
الباد في أسرع وقت.
شكرت الله فيما بعد - لا أعرف أي إله الذي شكرته، لأنني
كفرت باليهود واليهودية - شكرته لأنّهم فعلوا ذلك، فقد سافرت
دون زوجتي والطفلة الصغيرة.
24 الهجرة إلى الجحيم
غادرت بولونيا مع ولدّي هذين. جشيجوش وعمره خمس
سنوات وداريوش وعمره سبع سنوات. على أن تلحق بنا زوجتي
والطفلة فيما بعد.
ولو كان الحظ قد بدأ يحالفني فعاً لرفضت السفر دون
زوجتي والطفلة، وطالبت بتأجيل موعد السفر مرّة أخرى. كانوا
سيسحبون جواز السفر ومعامات الهجرة حينئذ ويمنعونني من
الخروج. يا ليتني فعلت ذلك. بل أقول يا ليتهم اكتشفوا أنني
زوّرْت في الاستمارة وسجنوني خمس سنوات لكان ذلك أفضل
مما كان!! لكنه الحظ السيء الذي تبينّ أنّه كان ضدي!
غادرنا بعد أن أمضينا بعض الوقت عند أقارب لي في وارسو،
أنجزنا خلاله مختلف القضايا المتعلّقة بالتذاكر وتأشيرات
السفر إلى فينا.
في فيينا استقبلني ممثلو ))السوخنوت(( وهي منظمة الهجرة
اليهودية المسؤولة عن الهجرة إلى ))إسرائيل((( وراحوا يؤكدون
لي أنني أصبت في اختياري ))إسرائيل(( كمكان للهجرة، وإن
حياة أفضل تنتظرني هناك. حياة أفضل من أي مكان في
العالم!!
كانوا يؤكدون على ذلك لأن هناك منظمة أخرى ))هاياس((
تشجّع هجرة اليهود إلى غير ))إسرائيل(( وتساعدهم على
السفر إلى بلدان أوروبا الغربية وأمريكا.
في قلعة ))شناو(( - المعتقل النازي سابقاً والتي تبعد حوالي
ثلاثين كيلو مترا عن ))فيّنا(( حيث معسكر المهاجرين اليهود
الأوروبيين، التقيت بمجموعة من يهود قرغيزيا المهاجرين من
الاتحاد السوفياتي.
الهجرة إلى الجحيم 25
كانوا يصلّون ويرددون الشعائر الدينية بأصوات عالية وباللغة
العبرية، مما أثار دهشتي وحيرتي، فأنا لا أجيد العبرية ولا
أعرف الشعائر الدينية، ولا مختلف الطقوس والعادات التي
يتقيّد بها هؤلاء. وهذا ما لم أضعه في حسابي، فاليهود في
بولندا لا يعرفون شيئاً من كل هذا.
وبينما أنا أقف مندهشاً متفكراً، جاء أحدهم وهو يقول
))هيّا اصطفوا للفحص الطبي!((.
اقتربت من الرجل وسألته:
- ولماذا الفحص الطبيّ؟
- لمعرفة المختون من غير المختون!!
لا اعرف فيما إذا قالها مازحاً أو جاداً. لكن لك أن تتصور
انعكاس ذلك على نفسيّة رجل لم يكن مختوناً مثلي. لم أجرؤ
يا صديقي أن أسأل الرجل ))وماذا بشأن غير المختونين؟!((
فقد ارتبت أن يشك في أمري، مع أنني لا أعرف العواقب التي
ستنجم عن ذلك. كتمت التأثير في داخلي وقلت وكأنني عالم
بكل هذه الأشياء:
- اوه فعاً! نسيت هذا الواجب المقدّس، ثمَّ قد يتسرّب
معنا من هو ليس مختوناً فيدنس أرض الميعاد!!
قلت هذا اعتباطاً ولم أعرف فيما إذا أحسنت القول أم
أسأته. وإذا بالرجل يربت على كتفي ويقول:
- ))أهلاً بك ستباركك أرض الميعاد وتفخر بك((!!
والحقيقة أنّه لو صفعني على وجهي لكان ذلك أفضل لي
بألف مرّة مما قاله!! انصرفت من أمامه وعدت إلى حيث
تركت الطفلين.
26 الهجرة إلى الجحيم
بدأت أرتاب من أرض الميعاد هذه. وأحسست بتأنيب الضمير
لتركي أهلي ووطني. وأخذت أفكر في الأمر بعد أن تجلّت لي
أولى معالم هذه الأرض وأنا هناك في معسكر شناو. تجلّت لي
في شكل أشخاص مختونين يؤدون الشعائر العجيبة ويرتدون
ملابس فريدة، ويتقيّدون بمختلف الطقوس والعادات التي لم
أعرفها. ماذا أفعل؟! حاولت أن أغيرّ وجهتي وأهرب إلى بلدٍ
أوروبي، فبحثت طوياً بين الناس داخل المعسكر لعلّني أعثر
على أحد ممثلي منظمة ))هاياس(( الذين يسهّلون الهجرة إلى
أوروبا، لكنني لم أعثر على أحد منهم.
كنت أبحث بحذر مخافة أن يكتشف أحد أمري فلم أسأل
إلاّ بعض اليهود البولونيين، لكنهم لم يفيدوني بشيء. ففكرت
بالعودة إلى بولندا، وإن كان ذلك من المستحيلات، فلن يسمحوا
لي بالعودة.
وهكذا وجدت نفسي مرغماً على الهجرة إلى ))إسرائيل((
وببدو أنني استسلمت لهذا المصير الذي لا مفرَّ منه، فقد
احتضنت الطفلين وضممتهما إلى صدري وأطلقت نظري إلى لا
شيء. قفزت إلى مخيلتي صور مشوشة. أحس داريوش أن في
الأمر شيئاً فسألني:
- هل هناك شيء يا بابا؟
فقلت وأنا ما زلت احتضنهما وأضغطهما إلى صدري:
- لا يا بابا ليس هناك شيء!!
ولكي أجعله يقطع الشك باليقين قلت:
- لكنني قلق بعض الشيء على أمّك وإيفا.
اصطف المهاجرون في طابور أمام غرفة لإجراء الفحوص
الهجرة إلى الجحيم 27
الطبيّة. حاصرتني مجموعة من الأسئلة: ))ماذا يفلعون بنا إذا
ما اكتشفوا أننا لسنا مختونين؟! هل يقومون بختننا هُنا؟!! أو
يمنعوننا من السفر؟ ثم كيف ستكون نظرتهم إلينا؟!!((
أسئلة كثيرة حاصرتني ولم أجد لها أجوبة، ولم أعرف فيما
إذا كانوا يهتمون بأمر الختان أم لا. وليس هناك من أثق به
لأسأله. لم يبق أمامي سوى خيار واحد: أن استغل زحمة الناس
ولا أمرُّ على لجنة الفحص!!.
انتظرت إلى أن أجري الفحص لعدد كبير من المهاجرين.
قدت الطفلين بين الناس وأنا أنظر يميناً وشمالاً، وإلى أعلى
وكأنني أتأمل الأشياء من حولي. كنت أسير خطوتين في اتجاه
الذين مرّوا على الفحص ثم أتوقف وكأنني أبحث عن أحد
أو أنظر إلى الناس وهكذا إلى أن اختلطت بالذين مرّوا على
الفحص، دون أن يتنبه أحد لأمري. وقد ساعدني وجود الطفلين
على تأدية المهمّة بنجاح. فكنت أدعهما يسيران أمامي ثم ألحق
بهما. وما أن اختلطت ))بالمفحوصين(( حتى قلت مخاطباً
داريوش لأبعد الشك.
- آه يا بابا غداً سنكون في أرض الميعاد المقدسة! ورجوت
كل الأرباب أن لا يسألني أحد الطفلين عن سر تقديس
هذه الأرض أو لماذا سميَّت بأرض الميعاد - على الرغم
من أنني كنت أسمع أنّها سميت كذلك لأن الله وعدنا
بها - فقد كان خوفي من أن يعرف الناس أننا أسرة غير
متدينة ))بدليل أن الطفلين لم يسمعا بأرض الميعاد
ولم يعرفاها وإلاَّ لما سألا(( فابتعدت بهما قلياً لكي
لا يسمعهما أحد إذا ما سألاني. وما كدت أخطو بهما
28 الهجرة إلى الجحيم
حتى نظرا إلي. عرفت أنّهما سيسألان، فحنيت ظهري
لكي لا يرفعا صوتيهما.
انهالت أسئلتهما علي... لم أترك كلمة جميلة عن ))أرض
الميعاد(( إلا وأخبرتهما بها، حتى حشوت رأسيهما ببعض
المفردات المحببة إلى اليهود المتدينين.
انتهى الفحص الطبي دون أن أجرؤ على السؤال لمعرفة
أسبابه. وبدأنا نستعد للسفر... صعدنا إلى طائرة تابعة للخطوط
الجوية السويسرية متجهة إلى ))زوريخ(( وبعد انتظار دام ثماني
ساعات هناك، ركبنا طائرة العال وتوجهنا إلى ))إسرائيل((.
وصلنا مطار اللد في الساعة الثانية بعد منتصف الليل،
وعلى الرغم من هذا الموعد المتأخر كانت مجموعة من
شباب الكيبوتس تحمل الزهور والآلات الموسيقية تقف في
انتظارنا... استقبلونا بالغناء والموسيقى والزهور. لم أحفل بكل
هذا لأن جشيجوش كان نائماً على يدي، داريوش وحده فرح
لهذا الاستقبال أدهشني بعض المهاجرين وهم ينحنون ويقبلّون
الأرض!!!.
سَجَّلوا اسماءنا وسلمّونا هويات شخصية مؤقتة. مكثنا في
المطار حتى الصباح ثم أخذوا يوزعوننا على مختلف القرى
والمستوطنات. جاء حظّي مع اسرة من اليهود السوفيات مؤلفة
من خمسة أشخاص. كانت تحمل تابوتاً فيه جثة، عرفت منهم
أنها جثة الأب الذي أوصاهم أن لا يدفنوه إلاّ في ))أرض الميعاد((
فلبت الزوجة الوصية وهاجرت إلى إسرائيل في أسرع وقت،
مصطحبة أولادها الأربعة والتابوت.
الهجرة إلى الجحيم 29
أركبونا سيّارة شحن صغيرة وأخذونا إلى قرية، تبعد حوالي
خمسة كيلو مترات عن حيفا، تدعى ))بن دور((.
وصلنا إلى القرية بعد ساعتين من السفر تحت وطأة طقس
حار رطب. تحلّق حولنا عشرات الأطفال والنساء وأخذوا
يسألوننا ))عوليم حاداشيم((؟! لم أعرف ما المقصود بهاتين
الكلمتين، فسألت أحد المهاجرين السوفييت من أبناء المرأة،
كان يجيد البولونية قلياً ويلمُّ بالعبرية، فأخبرني أنهمّ يسألوننا
فيما إذا كنا مهاجرين جدد...
لم أفهم غيرهما من كل ما قيل. فما أن يرانا أحدهم حتى
يقف وينظر إلينا متأماً أو مردداً لنفسه ))عوليم حاداشيم((!!.
نظرات غريبة لمستها في عيون هؤلاء. نظرات غريبة لم
أعتدها من قبل، كما أنني لم أفهم مغزاها. وفجأة ظهر رجل
خيّل لي أنّه شيطان. كيف لي أن أصفه لك يا فداء. شعره
طويل مُدَلىّ على كتفيه. أعور من عينه اليسرى ووجهه مليء
بالندوب، وذقنه وشارباه طويان يبدو أن عمره قد شارف على
الستين. يعرج من ساقه اليمنى ويتوكأ على عصا غليظة.
كنا نقف في انتظار مندوبي الإسكان الذين ذهبوا يبحثون
لنا عن بيوت نقيم فيها. اقترب الرجل ووقف متكئاً على
عصاه. تأملنا بنظرات عجيبة، ثم قال ساخراً محتداً ))عوليم
حاداشيم((؟! وكرر العبارة مرّة أخرى بسخرية أكثر وهو يشدد
على أحرف الكلمتين ويكاد يخرجها حرفاً حرفاً )ع و ل ي م ح
ا د اش ي م((!! ثم ردد بعض العبارات بلهجة ساخرة لم أفهم
شيئاً فاستعنت بالمهاجر السوفيتي. كان يقول ))ألم تتفجر
ينابيع العسل واللبن من تحت أقدامكم بعد؟! وأنهار الخمر؟
30 الهجرة إلى الجحيم
ألم تستحموا فيها؟!(( وأحجم عن الكلام لبرهة وهو يلقي علينا
نظرات شزرة. وكنا قد ركزنا أنظارنا عليه. وفجأة فتح عينيه
اليمنى على وسعها وقطب جبينه وأخرج لسانه وضرط من فمه
ضرطاً كبيراً وهو يرسم شكل دائرة بحركة رأسه، وكأنّه يريد
للضرطة أن تحتوينا كلنّا!!.
ما أدهشني يا فداء أنّ أحداً لم يضحك من الرجل أو يسخر
منه أو ينتهره، لقد أحجم الجميع عن الكلام، بل إنني شاهدت
من ينكس رأسه وينصرف. لحظتها فهمت مغزى النظرات التي
كانت ترتسم في أعين الذين ينظرون إلينا.
وانصرف الرجل متوكئاً على عصاه وهو يهز رأسه بين الفينة
والأخرى بحركات عصبيّة توحي أنّه نادم على عمل ما ارتكبه
في حياته عمل أثّر أبلغ الأثر. فتراه يهزُّ رأسه غاضباً نادماً
مستنكراً.
كان الطفان قد التصقا بي من هول الرعب الذي أحدثه
فيهما مشهد ذاك الرجل فلاطفتهما قلياً.
جاء مندوبو الإسكان. لم نكن نحمل سوى حقيبتي سفر
صغيرتين تحتويان بعض الملابس. أما الأسرة السوفيتية فكانت
تحمل )عدا التابوت العجيب( بعض الملابس التي صُرّت في
شراشف ربطت من زواياها الأربع كما هي العادة القديمة في
اوكرانيا. وكان الناس ينظرون إلى التابوت وهذه الصرر باستغراب
شديد، بدءاً من مطار فينا مروراً بمطار زوريخ وحتى مطار
اللد.
أُعطيت مسكناً مؤلفاً من غرفتين في الطابق الثالث من
إحدى البنايات. وكذلك اعطيت الأسرة السوفيتية بيتاً في نفس
الهجرة إلى الجحيم 31
البناية. لم يكن البيت مجهزاً بأي شيء، ما جعلني أتذكر بيتنا
في بولونيا الذي كان مجهزاً بكل شيء حتى بالتدفئة المركزية.
آه يا فداء آه يا صديقي! أظن أن الحظ حالفني فعاً هذه
المرّة وإلاّ لما قدمت إلي وأنا في أحلك لحظات اليأس. إنني
متفائل بأنَّ الحياة ستبتسم لي من جديد على يديك!!
- أرجو ذلك يا صديقي.
- أنت الذي أعدتنا إلى الحياة بعد أن أقفلت كل سبلها
أمامنا. إذا لم تفعل شيئاً من أجلنا، أي شيء ينقذنا من
هذا الوضع سنعود إلى الحال التي قابلتنا فيها.
- اطمئن يا صديقي سأعمل كل ما استطيعه كي لا تعودوا
إليها.
- أشكرك
- والآن سأكمل لك كيف بدأت حياتي في ))أرض الميعاد((
وإلى ماذا انتهت. كيف كنت وماذا أصبحت!! لكن يبدو
أنّ الليلة لن تكفي لأحدثك عن كل شيء.
- لا بأس يا صديقي ستحدثني غداً إذا لم تنته.
- ايه!! كان علي أن أجهّز البيت وأبتاع مؤونة. فكرّت
بالدولارات ))الأكثر من حبّات كيلو أرز(( التي تنتظرني.
قدت الطفلين ونزلت أسأل الناس. أخبرني رجل بأنّه
علي أن أذهب إلى مكتب المساعدات الاجتماعية
))عيزراسوسيال(( وهناك سأحصل على ما اريد!!.
لم أنتظر، قدت الطفلين وسرنا، تأملت بيوت القرية
وشوارعها. كانت تقع على قمّة جبل قريب من حيفا. تتناثر
على أطرافها بعض البيوت القديمة التي بدت كالأطال أمام
32 الهجرة إلى الجحيم
البنايات ))الحديثة((.
وعلى مقربة من الحي الذي أقمت فيه. كانت مطاحن حجارة
تبدّد سكون القرية بدوي مزعج. وتمأ سماءها بالغبار الكثيف.
اهتدينا إلى مكتب العيزراسوسيال. كان أناس كثيرون ينتظرون
على الدور. تأملت وجوههم للحظة. لم أر وجهاً باشاً. قلت في
نفسي ))لو كان هناك دولارات لما كانت وجوه الناس هكذا((
اقتربت من طابور المنتظرين وقلت:
- عفواً هل يوجد من يتحدث البولونية؟
ألقى أحدهم نظرة متفحصة علي ثم على الطفلين.
- أجل!
- هل لك أن تفيدني بشيء حول المساعدات التي
يقدمونها هُنا وكيف؟
- أنت مهاجر جديد؟
- نعم
- يمنحونك قرضاً لتفرش بيتك وتعيش إلى أن تشتغل، ثم
يستردونه منك على أقساط!!.
- قلت يستردونه؟
- طبعاً! فهم لا يقدمون هبات.
- لكنهم قالوا لنا قبل أن نهاجر أنّهم يقدمون معونات
سخية للمهاجرين.
أدنى الرجل رأسه مني وقال هامساً:
- لستَ المخدوع الوحيد يا صديقي!!
- هكذا إذن؟
ولم يجبني. انتظرت إلى جاءَني الدور. قدمت الهوية. أخذ
الهجرة إلى الجحيم 33
الموظف يتفحصها وينظر إليها باستغراب. ثم حدجني متسائلاً:
- اسمك اركاديوش بودليفسكي؟
عرفت أنّه يسألني عن اسمي فقلت بالبولونية.
- نعم سيّدي.
- فلم يفهمني فكررت ذلك بالإنجليزية، فتبينّ أنّه يجيدها.
فقال متسائلاً:
- وهل هذا اسم يهودي؟
- لا أعرف!
وهنا نهض الرجل من خلف منضدته وأخذ يخاطب الناس
بصوت عال وباللغة العبرية. فتطوع الرجل الذي تحدثت معه
عند حضوري أن يترجم لي:
- ))اسمعوا ))أركاديوش بوليفسكي((! اسمعتم في حياتكم
يهودي أطلق على نفسه أحد هذين الاسمين؟!
لكن أحداً من المنتظرين لم يجبه بشيء. فقد أخذوا يعلّقون
هامسين...
خاطب أحد الموظفين الذين كانوا في نفس الغرفة الرجل
بصوت لا يخلو من احتداد:
- أظن أنّه ليس من شأنك أن تفتح تحقيقاً مع الرجل
لتتأكد من يهوديته؟!
فصرخ ذاك محتداً:
- تقول ليس من شأني. شأن من إذن؟!
فقال الموظف:
- شأن السلطات التي دفعته إلى الهجرة.
- لكنه وصل هذا اليوم ولم يتسنّ للسلطات أن تبت في
34 الهجرة إلى الجحيم
الأمر!
- إذن أعطه قرضاً ليقضي حاجته وأترك الأمر للسلطات
المخوّلة بذلك!!
- كلاّ فلم يسبق لي أن أعطيت قروضاً لمدسوسين على
اليهوديّة.
وكاد الرجان أن يتشاجرا... وبعد أخذ ورد قبِلَ أن يعطيني
ألف شيكل ادبر بها شؤوني. بعد أن أخذ توقيعي وبصماتي
وعنوان إقامتي.
لا استطيع أن أصف لك حالتي يا فداء بعد أن شعر الطفان
بالأمر وارتسم القلق على وجهيهما. كان صوت ما يصرخ في
داخلي: ))أحمق أحمق لم تمتثل لرأي زوجتك. تستحق كل ما
سيحدث لك!! وهذان الطفلان ألم يكن في استطاعتك أن تتركهما
مع أمّهما إلى أن تستقر في أرض ميعادك؟! ها أنت تحرمهما
من حنان الأم وتحرم الأم من رؤيتهما، من كلماتهما الحلوة!
من حكاياتهما الجميلة! كيف ستحيا بدونهما وكيف سيحيان
بدونها؟ هل ستعوّض عليهما حنان الأم الذي افتقداه؟!((.
كل هذه الأسئلة وغيرها كثير. كانت تصرخ في داخلي.
تهزّني من أعماقي. والطفان يسألانني متى ستحضر أمهما.
فأغدقهما بالوعود الكاذبة.
أخذ التشاؤم يرتسم أمامي أينما أدرت وجهي. لم يخفف
من وطأة معاناتي إلا شيء واحد، هو اعتقادي أنني واحد من
عشرات آلاف المخدوعين في ))إسرائيل((!!.
عدنا إلى القرية. ابتعت أثاثاً بسيطاً، فرشناه فوق الأرض
الاسمنتية لإحدى غرفتي البيت، وجعلت الطفلين يستلقيان
الهجرة إلى الجحيم 35
بينما ذهبت أبتاع مؤونة للبيت.
كان علي أن أكتب شيئاً ما لزوجتي. لكن ماذا أقول لها.
عرفت أنهم يراقبون كل الرسائل الصادرة والواردة. لم أكتب لها
سوى كلمات قليلة على بطاقة بريديّة:
))زوجتي العزيزة:
وصلنا إلى ))إسرائيل(( - ثم كتبت: ))نحن بخير((. ووضعت،
ثاث إشارات تعجب علّها تعرف أنّ في الأمر شيئاً. وقلت:
))انتظري إلى أن أطلب إليك القدوم(( وأضفت إشارة تعجب
أيضاً. واختتمت البطاقة قائاً:
))قبلاتنا لك ولإيفا... أكتبي لنا((
تناولت العشاء مع الطفلين. أصلحت فراشهما وجعلتهما
ينامان. إنّها أوّل مَرّة ينامان فيها على الأرض. فسألاني لماذا
لم أشتر أسرّة. فاختلقت أعذاراً كاذبة ومكثت ألاطفهما وأجيب
على أسئلتهما بوعود كاذبة ))سيكون بيتنا هذا أفضل من
بيتنا في بولونيا. ولن تناما قبل أن تشاهدا التلفزيون وتداعبا
عرائسكما وتلهوان بألعابكما(( إلى آخر الأكاذيب حتى خلدا إلى
النوم.
جلست إلى جوارهما ساهماً مطرقاً. تنبهَّت إليهما وهما
يحكّان أيديهما وأرجلهما ))يا إلهي إنّه بعوض! كيف تسلل إلى
الغرفة؟!(( نهضت. نظرت إلى الشبك الحاجز المركب على
النافذة، كانت ثقوبه تسمح بتسلل البعوض. أغلقت النافذة
وأخذت اكافحه. لكن ذلك لم يجد. فقد عاد البعوض بعد
أن أعدت فتح النافذة لأغيّر هواء الغرفة، إذ أن تركها مغلقة
شيء لا يمكن احتماله نتيجة للحر الشديد. وبينما كنت أطرق
36 الهجرة إلى الجحيم
ساهماً شاهدت عقرباً يصعد الحائط. تصوّر يا فداء؟! عقرب
في الطابق الثالث! شيء لم أجد له تعلياً. اقشعر بدني وأنا
أسحق العقرب تحت قدمي بكل حقد!!!
لم يطرق النوم جفني على الرغم من كل عناء السفر. خرجت
من البيت وتركت الطفلين نائمين. سرت أتأمل الشوارع. أردت
أن أصل إلى أطراف البلدة لأخلد إلى نفسي. كان بعض الناس
يروحون ويجيئون. طريقتهم في السير، نظراتهم، خلجات
وجوههم. ملابسهم. توحي لك بأشياء غامضة في حياتهم،
غامضة جداً!! يتكلّمون بلغات شتّى، لغات لم أسمع أحداً
يتحدث بها في حياتي!! لم أطق النظر إليهم فأَسرعت الخطى
لأبلغ أطراف البلدة. هناك سأشتم الهواء الطلق. سأريح نفسي
قلياً.
اقتربت من منطقة غير مضاءة. عرفت أنني أبلغ مأربي.
دخلتها. كانت خالية من البيوت، لكن عندما توغلت قلياً رأيت
بعض البيوت القديمة. اقتربت منها. كانت خاوية. خاوية تماماً
على الرغم من أنني شاهدتها أجمل بكثير من البيوت الحديثة.
أظن أن بيوت القرية كانت كلهّا هكذا سابقاً. فاستبدلوها بهذه
البيوت الحديثة. وبينما كنت أتأمل البيوت وطراز بنائها القديم
شاهدت بصيص نور يشع من أحدها. اقتربت منه. كان الباب
مفتوحاً. سرت ببطء. دنوت منه... ألقيت نظرة جانبيّة إلى
الداخل. هالني ما رأيت. إنّه الرجل الأعور الأعرج الذي كان
يسخر منّا هذا اليوم. كان يسند ظهره إلى الحائط ويستغرق
في تفكير عميق!!.
ترددت عندما مددت يدي لأطرق الباب، فقدت ارتبت أن
الهجرة إلى الجحيم 37
أزعجه. لكنني تغلبت على ترددي بعد برهة ونقرت نقرتين
خفيفتين على الباب. لم يتنبّه لذلك. فكرّت ))لعلّه أطرش
أيضاً((! نقرت مَرّة أخرى بشدّة أكثر. لم يسمعني أيضاً. فنقرت
للمَرّة الثالثة. يبدو أنّه تنبه للطرق، فقد رفع رأسه ببطء ونظر
إلى الباب. شاهدني. لم يتكلّم! رددت تحيّة المساء بعبرية ركيكة
وأنا أرفع يدي. فأشار بيده إلى الداخل قائلاً بالعربية ))تفضل((
لا أعرف العربية لكنني عرفت ذلك من وقع الكلمة على سمعي.
دهشت للأمر. أيكون عربياً؟! دخلت. نهض ليصافحني. التقت
يدانا وهو يرحب بي بالعربيّة، فلم أعرف بماذا أخاطبه، فقلت
بالإنكليزية:
- عفواً أنا لا أجيد العربيّة والعبرية هل تجيد الإنكليزية أو
البولونيّة؟
فتبينّ أنه يجيد الإنكليزية أفضل منيّ. فقد قال مستائلاً:
- اوه! معذرة هل تحدثت معك بالعربيّة؟
- أجل!
- آسف يبدو أنني لم أخرج من حالة الاستغراق بعد،
فخاطبتك دون أن أدري!!
- بل أنا آسف لأنني قطعت عليك استغراقك!
- كلاّ لا داعي للأسف. فلم اتحدث إلى أحد على انفراد
منذ أكثر منخ خمس وعشرين سنة!! وأشعر أنني بحاجة إلى
إنسان ما أتحدث إليه ويتحدث إلي!!
أشار إلي أن أجلس فجلست إلى جواره على قطعة مقعد من
الإسفنج، وكليّ فضول لأن أسبر غموض هذا الرجل الذي بدا
لي شديد الغرابة. لا سيما بعد أن عرفت أنّه يفكر بالعربيّة مع
38 الهجرة إلى الجحيم
نفسه، وبعد أن أخبرني أنّه لم يكلّم أحداً على انفراد منذ أكثر
من خمس وعشرين سنة!! فأي رجل هذا الذي جمعني به القدر
منذ أول يوم لي في إسرائيل؟! هل سيكون له دور في حياتي أم
يمر كعشرات الناس الذي التقيت بهم؟!
عاد يجلس صامتاً. بدا لي وجهه )وأنا أتأمل ملامحه( مرآة
تعكس مسيرة طويلة من التعاسة والشقاء. وتأكدَّ لي ذلك عندما
أخذت أتأمل أثاث البيت البسيط جداً وعشرات اللوحات التي
علّقها بشكل عشوائي على جدران الغرفة.
استأذنته في النهوض لأتأمل اللوحات..
عالم مخيف!! لم أعرف فيما إذا كانت اللوحات له أم لا. أوّل
ما شدَّ انتباهي لوحة يقارب عرضها متراً ونصف ويزيد ارتفاعها
على المتر، أحد نصفيها: أرض جميلة مكسوة بالخضرة، تنبت
فيها الأعشاب وتكسوها الزهور والأشجار المختلفة، ويلفها
ضباب خفيف تحت سماء مزدحمة بالغيوم المحمّلة بالمطر.
النصف الثاني من اللوحة: مئات السكاكين التي خضّبت نصلها
بالدم، تنبت من الأرض وكأنّها زرعت زرعاً. تعلوها سماء عجيبة:
غيوم تحمل في داخلها أسلحة وقنابل وطائرات!!!.
كان نصفا اللوحة يمتزجان تدريجياً ويندمجان معاً ليشكلاً
وحدة متكاملة!! وكأنّه يقول إن الأرض الجميلة هذه هي نفس
الأرض التي تنبت السكاكين.
لم تكن اللوحة مذيّلة بأي توقيع أو اسم، لكن اسمها كان
مكتوباً بثاث لغات وبخط صغير: ))فلسطين(( وأضاف رقم
)) 29 ((إلى جانب الكلمة. فعرفت أن هناك لوحات كثيرة تحمل
اسم فلسطين. فأخذت أنظر إلى اللوحات الأخرى لأتأكد
الهجرة إلى الجحيم 39
فوجدت أنّها كلّها تحمل اسم ))فلسطين(( مع اختاف الرقم.
لم تكن هناك لوحة لا تستوقف المشاهد. والذي لفت انتباهي
تعدد الأساليب واختاف العوالم من لوحة إلى أخرى. اللوحات
الأخرى يغلب عليها الموت. أينما نظرت لا ترى غير جثث
رجال ونساء. وقفت أمام إحدى تلك اللوحات لبرهة فلم احتمل
ما رأيت فيها. كان جندي يخرج جنيناً من رحم امرأة برأس
السنكة المركبة على فوّهة البندقيّة. بينما المرأة تحتضر. وبدا
الجنين وقد أخرج كلّه باستثناء ما بدا كالأمعاء التي ما تزال
عالقة بالرحم!! لم أحتمل أن أنظر إلى اللوحة أكثر من ذلك،
فقد كانت خلفيتها مليئة بالوحشيّة والجثث. فهربت إلى لوحة
أخرى لفتت انتباهي وأثارت حيرتي. كانت لوحة جداريّة من
عدّة أقسام يزيد عرضها على الأربعة أمتار وقد يزيد ارتفاعها
على المتر أيضاً. وقد ساعدتني الأسماء المكتوبة تحت مختلف
أقسام اللوحة على معرفة أبعادها:
القسم الأول في يمين اللوحة: كان لأناس بدائيين يؤدون
الطقوس الدينية في أشكال مختلفة لآلهة متعددة. كتب تحت
هذا القسم:
))فلسطينيون يتعبّدون لآلهتهم((!!
القسم الثاني: نفس الناس يتعبّدون لإله ليس موجوداً في
اللوحة. كتب تحته: ))فلسطينيون يعتنقون اليهوديّة((!
القسم الثالث: نفس الوجوه إنّما ارتدى أصحابها ألبسة
أحدث من تلك التي في القسمين السابقين كانت تبتهل إلى
الله وتتعبّد على الطريقة المسيحيّة كتب تحته: ))فلسطينيون
يعتنقون المسيحيّة((.
40 الهجرة إلى الجحيم
القسم الرابع من اللوحة: نفس الأشخاص يغيرّون البستهم
ويؤدون الشعائر الدينيّة ويصلّون على الطريقة الإسامية. كتب
تحته. ))فلسطينيّون يعتنقون الإسام((!
أمّا القسم الخامس من اللوحة. فكان لنفس الأشخاص
والوجوه أيضاً، إنّما في أشكال وحركات مختلفة، فئة قليلة تتعبد
على الطريقة اليهودية، وفئة أكثر تتعبّد على الطريقة المسيحية
وفئة قد تبلغ ضعفي الفئتين تتعبد على طريقة الإسام. وفئة
أخرى ليست قليلة، كانت تبدو في أشكال ليست طقوسيّة أو لها
علاقة بالدين، كانت تنكب على العمل وتطالع الكتب الماركسيّة.
وبدت ملامح وجوهها حادّة وجليّة، وقد كتب تحت هذا الجزء:
))الفلسطينيون اليوم((!
أمّا القسم السادس وهو الذي أثار دهشتي أكثر من أي
قسم آخر، فقد كان لنفس الأشخاص الذي ينكبون على العمل
والمطالعة في القسم السابق، يرتدي بعضهم اللباس الفدائي،
والبعض الآخر يحمل الفؤوس والمناجل وقد كتب تحت هذا
القسم: ))اليهودي الحقيقي((!!!
هذا ما أدهشني وأثار حيرتي. فكيف يكون الفلسطيني
المؤمن بالماركسية والثورة هو اليهودي الحقيقي؟! وبعد أن
أطرقت برهة، وعدت أمعن النظر إلى اللوحة بدا لي أن الأمر
ليس عسيراً على الفهم إلى هذا الحد. لكنني فضلّت أن أرى
صحّة ما توصلت إليه عبر هذه اللوحة التي تختصر قصّة
التطور الديني عبر التاريخ كلّه، فقلت له:
- أظن أن هذه اللوحات لك؟
فقال وهو ينظر إلي بعينه الوحيدة:
الهجرة إلى الجحيم 41
- أجل إنّها لي.
- هل لك أن تساعدني في فهم بعضها؟
- بكل سرور!
فقلت وأنا أشير إلى الجزء السادس من اللوحة. والذي فيه
بعض الفدائيين الفلسطينيين.
- ماذا تقصد عندما كتبت تحت هذا الجزء ))اليهودي
الحقيقي(.
- أقصد أنَّ اليهودي الحقيقي هو الذي واكب حركة
التطور التاريخي ولم يظل متحجراً، ضارباً بالتاريخ
عرض الحائط! فالفلسطينيون في يوم من الأيام كانوا
يعبدون الآلهة المتعددة، وجاءت اليهودّية فأصبح بعضهم
يهوداً، ثم جاءت المسيحيّة فتحوّل جزء كبير منهم إلى
مسيحيين، ومن ثم جاء الإسام، فأصبحت الأكثرية
مسلمة. وأخيراً جاءت الماركسيّة فانتمى قسم كبير
منهم إليها. فبرأيي أن ))اليهودي الحقيقي(( هو الذي
كان يهودياً وأصبح أحفاده مسيحيين وأحفاد أحفاده
مسلمين وأحفاد أحفاده ماركسيين. وقد تقول لي لماذا
انطلقت من اليهوديّة؟! لماذا لم أنطلق من الفلسطيني
الذي كان يؤمن بتعدد الآلهة واعتبرته الأصل؟! فأقول:
إنني أرى كما يرى غيري أن اليهوديّة أو الموسويّة
بتعبير أدق تشكل نقلة هامة بعض الشيء في تطور
الفكر الديني كونها أحيَت التوحيد ورسخت دعائمه
بعد اندثاره في مصر برحيل أخناتون. فأصبح بمثابة
لبنة جديدة تضاف إلى بنيان هذا الفكر، لا بد لنا من
42 الهجرة إلى الجحيم
الوقوف عندها إذا ما أردنا أن ننظر إلى الماضي لنفهم
الحاضر!!
- ألهذا نرى المتعصبين اليهود يفضلون أنفسهم على
سائر البشر؟!
- أظن أن لذلك علاقة بالأمر مع أنّ موسى مصري!!
وصمتُ برهة افكر في قوله فلم أجد ما أخالفه فيه. لا
شك أنّه سيكشف لي حقيقة أشياء كثيرة، ولو حقيقة
هذا المجتمع الغريب الذي ساقني القدر إليه، حقيقة
فلسطين التي لا أعرف عنها شيئاً.
لم أعرف من أين أبدأ. هل أبدأ بحياته الشخصية؟ أم أسأله
عن هذه القرية؟! ويبدو أنّه تنبّه إلى ترددي فقال:
- لم تعرّفني بنفسك؟
ولا أعرف كيف أخذت أعرّفه بنفسي بشيء من التفصيل:
- أركاديوش بودليفسكي. مهاجر وصل هذا اليوم إلى
هذه الأرض. لا أعرف فيما إذا كنت يهوديّاً أو من أصل
يهودي. والحقيقة إنني لا أحس بهذا الانتماء بيني وبين
نفسي. وأظن أن هذا برهان على أنني لست يهوديّاً،
كما أنني لست مختوناً!! وما أعرفه عن أصل انحداري
قليل جداً. فأبي كان بولندياً مسيحياً، وأمي هناك
احتمال ضئيل في أنّها تنحدر من سالة يهوديّة. رحلت
مذ كنت صغيراً. لكن صورة لها، ظلّ والدي يحتفظ
بها، جعلتني أستقرئ ملامحها. كانت سمراء، سوداء
العينين والشعر. وأنفها كان طوياً معقوفاً، ولهذا أصبح
لدي احتمال أن تكون يهوديّة، ثمَّ إن بعض الناس كانوا
الهجرة إلى الجحيم 43
يعاملونني كيهودي مما قوّى هذا الاحتمال لدي، خاصة
وأنني كنت أتعاطف كثيراً مع اليهود.
أنا في السادسة والأربعين. متزوّج منذ عشرة أعوام ولدي
ثلاثة أطفال. اثنان منهم حضروا معي إلى هنا أمّا الآخر وهو
طفلة، فقد ظَلَّ مع أمّه في بولونيا.
وبعد أن أنهيت تعريفي بنفسي وأسرتي تعرّضت للهجرة
ودوافعها. وكيف سافرت من بولونيا ووصلت إلى هُنا. بل حتى
التقيت به. وبعد لحظة صمت قلت:
- وماذا عنك؟
ظلَّ صامتاً للحظة من الوقت يرنو إلى إحدى اللوحات ثم
نظر إلي قائاً:
- قصتي طويلة! طويلة جداً!! وأعذرني لأنني لست مهيّاً
لأن أقصّها عليك هذه الليلة، فأنا كما قلت لك، لم
أتحدّث لأحد على انفراد منذ أكثر من خمس وعشرين
سنة إلاّ لصديق واحد!! ولا استطيع أن أتحدث كثيراً.
لكنني سأحدثك عن كل شيء يوماً ما. قد يكون غداً
أو بعد غد. وسأكتفي الآن بتعريفك بنفسي وبشيء من
التفصيل لأنني ارتحت إليك:
أنا فلسطيني. فلسطيني يهودي إن شئت!! ولدت هنا في
هذه القرية. وأجدادي. وأجداد أجدادي كانوا يقيمون
هُنا على هذه الأرض منذ مئات السنين بل آلافها!!
يسمونني أبراهام. أبراهام يشعياهو. عمري خمسون
سنة. أبدو أكبر بكثير أليس كذلك؟
- أجل. إنّك تبدو في الستين على الأقل.
44 الهجرة إلى الجحيم
- لم أتزوج طوال حياتي وإن كانت هناك حبيبة تحيا
دائماً في مخيلتي!! لا أكلّم أحداً ولا أتدخل في شؤون
أحد إلا ما ندر! تنتابني بعض الحالات الغريبة، فأخرج
إلى الشارع أسخر من المارّة واشتمهم أو أحرّضهم في
بعض الأحيان. هذه الحالات لا تصيبني إلاّ مرّات نادرة.
مَرّة كل سنة على الأكثر، لم يبق أحد من أهلي على
قيد الحياة. كلّهم افنوا!! وأنا ظللت أتشبث بهذا البيت.
أقضي وقتي في الرسم والنحت وأحياناً أكتب أشعاراً
لحبيبتي!! أعتاش من راتب تقاعدي ضئيل!
هذا كل ما يمكنني أن أحدثك عنه من حياتي هذه الليلة.
لكنني أعدك أنني سأحدثك قريباً عن كل شيء.
لم أعرف حول ماذا في استطاعته أن يتحدّث. فقلت بعد
تردد:
- هل لك أن تحدّثني شيئاً عن هذه القرية؟ أقصد عن
ماضيها، عن حاضرها؟
فقال وهو يشير إلى مجموعة من اللوحات، يبدو أنّها تمثل
المراحل المختلفة التي مَرّت بها القرية:
- هذه القرية كانت عربية تدعى ))حوّاشه(( قرية جميلة
كباقي القرى الفلسطينية الريفيّة، احتلتها العصابات
الصهيونيّة عام 1948 وطردت سكانها بعد أن قتلت
ما قتلت. جاءَت الأسر اليهوديّة واستوطنت البيوت
المفروشة بالأثاث والمليئة بالمتاع...
وبعد بضع سنين بنت الدولة أحياء سكنية جديدة. فانتقلت
معظم الأسر إليها.
الهجرة إلى الجحيم 45
نسفت معظم البيوت القديمة بالديناميت ودمّرت المقابر
العربيّة واتلفت بعض البساتين والكروم. توقفت الدولة عن ذلك
عندما وجدت أن إتاف الكروم والبساتين ليس في صالحها
وصالح المستوطنين.
يسمّونها ))بن دور(( واسميها ))حوّاشه(( الحياة فيها الآن لا
تطاق. هل تعرف اليهود الذين يقيمون فيها الآن إلى كم قومية
ينتمون؟! لا تعرف طبعاً، ينتمون إلى اثنتين وسبعين قومية
وجنسية، ويتحدّثون حوالي مائة لغة. وقس على ذلك العادات
والتقاليد والطقوس الدينيّة.
عشرة في المائة منهم ينتمون إلى اليهود الفلسطينيين.
يسموننا ))سابري(( وخمسة عشر في المائة منهم ينتمون إلى
اليهود القادمين من أوروبا الشرقيّة. والباقون ينتمون إلى بلدان
آسيا وافريقيا.
خليط عجيب من البشر لا يربطهم أي رابط أيديولوجي أو
حتى ديني... تحس أحياناً أنّهم وحوش مجرّدة من أية إنسانيّة،
وخاصة عندما تتشاجر فئة مع فئة أخرى. ماذا أحدثك؟! إذا
طالت إقامتك هنا سترى أشياء تشيب لها رؤوس الأطفال!! ماذا
تأمل من إنسان اكتشف فجأة أنّه مخدوع. أنّه ضحية. ضحيّة
للمكر والخداع واللعبة القذرة، لعبة لم يشهد التاريخ مثياً لها
من حيث البشاعة. لعبة قتل الشعب الفلسطيني وتشريده من
أرضه على أيدي مجموعة من اليهود المغرر بهم. لعبة لئيمة
استمرَّ التخطيط والإعداد لها عشرات السنين، لإجبار اليهود
بالترهيب والترغيب على القيام بالدور المرسوم لهم. وإنها
لعبة قذرة ضحيتها الأولى يهود العالم وضحيتها الثانية الشعب
الفلسطيني.
46 الهجرة إلى الجحيم
وها هو الصراع يحتدم الآن بين الضحيتين، الضحيّة الأولى
المجهّزة بكل أدوات القتل والدمار، والضحيّة الثانية التي تصر
على الحياة رغم إمكانياتها المحدودة وتقاوم.
))يا ملايين الضحايا اتحدّوا((!! يا ملايين المخدوعين وجهّوا
رصاصكم إلى صدور الطغاة وحلفائهم أينما كانوا!! أما آن لكم
أن تعو أخطار الشرك الذي وقعتم فيه؟! أما أن لكم أن تعوا
أيّها اليهود أنكم لا تحققون إلاّ أهداف الصهيونيّة والامبريالية
وحلفائهما عندما تقتلون الفلسطينيين((.
))هاذا ما أصرخ به في لحظات جنوني يا أركاديوش عندما
أخرج إلى الشارع بعد أن تنتابني حالة الغضب. هذا ما أخاطب
به كل الضحايا والمخدوعين الذي جرّوا للقدوم إلى وطني.
لكنني لا المس سوى نظرات بلهاء. نظرات حائرة ترتسم في
عيونهم عندما أخاطبهم بهذا وهم يتجمعون من حولي. فاصرخ
بهم: ))قولوا لي هل قتل أمريكي واحد من أجلكم؟! من الذي
يقتل ومن الذي يموت ومن المهدد بالموت ومن الذي يعاني
بقدومه إلى هذه الأرض؟!! ألستم أنتم؟! ومن الذي تقتلون ودماء
من التي تسفكون؟! هل تعتقدون أن لبنة واحدة ستهتز في مبنى
البيت الأبيض إذا ما مات نصفكم وأنتم تحاولون إبادة الشعب
الفلسطيني؟! العكس هو الذي سيحدث. ستتغنى الصهيونيّة
والامبرياليّة ببطولتكم يا ))شعب الله المختار(( طز فيكم وفي
إلهكم هذا وفي وعوده الحمقاء لكم!! أما آن لكم ان تستيقظوا؟
أما آن لكم أن تضمّوا بنادقكم إلى بنادق الشعب الفلسطيني؟!
أن تهربوا من هذا الجحيم إذا لا تجرؤون على المواجهة!!((.
الهجرة إلى الجحيم 47
كان يصرخ بجنون يا فداء. أحسست أن قلبه يتمزّق. وما كاد
ينهي كلامه حتى انطرح على الأرض شبه فاقد الوعي.
مكثت عنده إلى أن عاد إلى هدوئه. قال لي أنّهم جاءوا إيه
ذات مَرّة وضربوه ضرباً مبرّحاً، وأشار إلى الندوب التي في
وجهه. مكث يتعالج لمدّة ستة أشهر، ولم يعد يخرج إلى الشارع
ويصرخ في الناس كتلك المَرّة. فقد هددوه بالقتل والسجن إذا
ما كرر فعلته. كانوا سيقتلونه لولا أنّ شيئاً واحداً شفع له، وهو
أنّه كان مجنّداً في عصابة الأرغون، هذا ما أخبرني به قبل
إنصرافي مما زادني حيرة واندهاشاً.
وخرجت من عنده. أحسست خال الظام أن المستقبل
الذي ينتظرني أشد حلكة من الظام نفسه. عدت إلى البيت.
كان الطفان قد استيقظا على لدغ البعوض ولم يجداني فأخذا
يبكيان.
وجدتهما ينتظران خلف الباب، فقد سمعت صراخهما، وما
أن فتحته حتى ألقيا بنفسيهما بين ذراعي وهما يصرخان. كانا
خائفين. أخذت الاطفهما مهدئاً معتذراً. وعدتهما بأن لا أخرج
مَرّة ثانية وأتركهما نائمين. أعدتهما إلى فراشهما وقمت أشن
حملة جديدة على البعوض.
* * * * * *
في صباح اليوم التالي أقنعت الطفلين بالبقاء في البيت.
وعزمت على الذهاب إلى مكتب العمل لأسجل نفسي. فقد
عرفت أن فرص العمل ستكون صعبة إذا لم أنتسب إلى نقابة
العمال.
كان المكتب في نفس البلدة. ولم أبذل كثير جهد للاستدلال
48 الهجرة إلى الجحيم
عليه. فوجئت بعشرات الناس الذين جاءوا ينتمون أو يطالبون
بعمل. كان علي أن أنتظر على الدور.
انتظرت... وانتهى الدوام دون أن يلحقني الدور. عدت في
اليوم التالي وكان كذلك. فما الذي يحدث في الداخل؟ لا
أعرف. فعملية التسجيل تستغرق أكثر من ساعة للفرد الواحد.
قلت لعلهم يجرون تحقيقاً في الداخل. شعرت بالريبة وفكرّت
في العدول عن التسجيل. لكنني لم أجد مفراً من ذلك، فقد لا
أجد عماً.
في اليوم الثالث وصلني الدور. دخلت إلى غرفة يجلس فيها
ثلاثة رجال وسيدة خلف أربع مناضد موزعة بانتظام. تكهنت
أن الرجل الذي يجلس في صدر الغرفة خلف منضدة بدت لي
أكبر من غيرها هو المسؤول. فقلت بالعبرية وأنا أنظر إليه
وأرفع يدي محيياً:
- ))شالوم خافيريم)))((
شعرت بالتشاؤم من الطريقة التي ردّ عليَّ بها. فبالكاد حتى
أخرج الكلمة من فمه ))شالوم(( فأضفت بالإنكليزية قائاً:
- معذرة فأنا لا أجيد العبرية. هل هُنا من يجيد الإنكليزية
أو البولونيّة؟
فأجاب الرجل بالإنكليزية:
- ماذا تريد؟!
- أنا مهاجر جديد وأريد الانتساب إلى مكتب العمل.
- متى وصلت؟
- منذ ستة أيّام!!
))) مرحباً يا رفاق.
الهجرة إلى الجحيم 49
)تعمّدت أن أطيل المدّة(
- أين هويتك؟
مددت يدي بالهوية وأنا أقول ))ها هي((. أخذها وصار
يدقق فيها.
- أنت من بولونيا؟
- أجل يا رفيق!
- لكن هذه الهوية مؤقتة والمعلومات التي فيها ليست
كافية. يجب أن تستخرج هوية دائمة!!.
- سأباشر الأمر بعد أن أستقر يا رفيق! وأخذ يتأمل
الهوية وهو يطرق مفكراً. ثم نظر إلي متسائلاً:
- ))أركاديوش يان بودليفسكي(( أمتأكد من أنّك يهودي؟!
فقلت دون تردد:
- إنني لا أشك في ذلك يا رفيق!
- لكن لماذا اسمك أركاديوش؟ ألا تعرف من هو أركاديوش؟
وهنا اسقط في يدي فأنا لا أعرف من هو أركاديوش هذا.
فقلت:
- كلاّ يا رفيق.
- إنّه الامبراطور الروماني الذي كان يكره اليهود!!
سكت، إذ لم أعرف ماذا أقول بينما استمر الرجل:
- أمّا اسم ابيك فهو ))يان(( أي من يوحنا. إنّه اسم
مسيحي أليس كذلك؟
فقلت كاذباً:
- كلا يا رفيق ف ))يان(( هو مختصر الاسم اليهودي
))يانكيل((!!
50 الهجرة إلى الجحيم
ويبدو أنّه اقتنع! لكنه قال بثقة:
- و))بودليفسكي(( أظن أنك لن تقنعني بأن اسم جدّك
هذا هو اسم يهودي؟!
- لا أعرف يا سيدي، لكنني لا أشك في يهوديته!! فقد
كان والدي يفتخر أمامنا دائماً، بأننا أسرة يهوديّة نقيّة
لم تشبها ولو نقطة واحدة من دم غريب!!.
ويبدو أنّه تنبّه إلى أنني أخذت أخاطبه ب ))يا سيدي(( بدلاً
من يا رفيق. فقد اعتد في جلسته ثمَّ أسند ظهره إلى مسند
الأريكة. وقال بعد أن لمس اللهجة التعصبيّة في كلامي:
- نعرف أنّ يهوداً كثيرين غيّروا اسماءهم أبِّان حملة
الإبادة الهتلرية خال الحرب العالمية الثانية. فمثاً
))زوكيرمان(( أصبح يسمى )كفياتكوفسكي(( أو مثلك
أنت ))بودليفسكي(( لكن هذا لم يحدث مع عائلتكم
وإلاّ لتذكرت. لا سيّما وأنّك لست صغير السن كما يبدو
عليك!!.
ويا ليتني تذكرت هذا الأمر لتبنيته، لكن بما أنّه فات فقد
أصررت على أن هذا هو اسم اسرتنا منذ عشرات السنين.
وكاد التحقيق حول الأسرة أن ينتهي لولا أنّه تنبّه إلى اسمي
الطفلين. فقال:
- لكن الشيء الغريب أنّك أطلقت على ولديك اسمين
أحدهما من المسيحية والآخر اسم لعدو لدود لليهود.
ف ))جشيجوش(( اسم مسيحي. أما ))داريوش(( فهو
الملك ))دارا(( ملك الفرس الذي قتل اليهود وعذّبهم في
قديم الزمان!! فكيف يحق ذلك يا مستر بودليفسكي؟!
الهجرة إلى الجحيم 51
وهنا اسقط في يدي أيضاً، ولم أجد غير اللجوء للهجة
التعصبيّة:
- سأغيرّ اسميهما يا سيدي! اللعنة فلم أتنبّه لذلك.
أعدك أنني سأغيّر اسميهما عندما أخرج الهوية
الجديدة لأنني لا أقبل باسمين كهذين!!
لم يقتنع بكلامي، وجاء اسم والدتي أخيراً ليزيد الطين بلّه!
فاسمها ))يانينا راحيل(( مما جعل الرجل يخاطبني محتداً:
- لماذا هذا الاسم المسيحي القذر ))يانينا(( أي ))حنة((
يا سيد بودليفسكي يأتي قبل الاسم اليهودي الجميل
))راحيل(( لماذا؟! الآن عرفت أن أسرتكم كانت تنحدر
من أصل يهودي لكنها خرجت عن اليهودّية فيما بعد.
هل تعرف ماذا يعني هذا في قانون بلادنا؟! يعني أنكم
وأولادكم وأحفادكم ستظلّون غير نقيي الدم لسبعة
أجيال قادمة، وستسجل اسماؤكم في اللوائح السوداء،
وعليه فلن يسمح لكم بدفن موتاكم في المقابر اليهوديّة
طوال تلك المدّة!!!
فأجبت مختلقاً كذبة أخرى وقد صعقني ما قاله:
- لقد أخذت والدتي الاسم الأول من اسم أبي الأول لأنّها
كانت تحبّه كثيراً!! إنني لا أشك في نقاء عرقنا يا
سيّدي!!
لكن الأمر زادهم تشكيكاً، فقد قال الرجل:
- اسمع يا أركاديوش!
- نعم سيّدي.
- إننا نشك في يهوديتك وليس أمامك إلاّ فرصة واحدة
52 الهجرة إلى الجحيم
لتثبت لنا عكس ذلك. فأرنا إن كنت مختوناً!!
- ماذا يا سيّدي؟!
قلت أرنا إن كنت مختوناً؟!
لم أصدّق ما تسمعه أذناي. ووددت أن أنفجر في وجهه أو
أقلب الطاولة على رأسه. لكن شيئاً واحداً كان يخيفني مصير
الطفلين اللذين لا ذنب لهما في كل هذا. فقلت:
- إنني أخجل من ذلك يا سيّدي! لا سيّما وأننا في حضرة
سيّدة.
قهقهوا كلّهم. قال الرجل!
- لكن ما العيب في ذلك حتى تخجل يا سيّد أركاديوش؟!
إنّك تقوم بإثبات ولائك للدين اليهودي الحنيف! فهل
في هذا ما يعُيب؟!
- أرجوك يا سيّدي فأنا لا أستطيع.
- لا بأس سأدخل معك إلى الغرفة المجاورة لنرى.
لم أعرف إلى متى سأستمر في هذه المهزلة يا فداء فقلت
له:
- ليكن يا سيّدي!
ودخلنا إلى غرفة صغيرة فيها سرير وأربعة كراسي. أغلق
الرجل الباب وجلس على أحد الكراسي. قال لي:
- هيّا اقترب وأرني!
قلت في نفسي سأحاول فك أزرار البنطلون لعلّه يقتنع أنني
مختون ويتركني، لكنني لم أعرف لماذا طلب منّي أن أقترب؟!!
اقتربت. مددت يدي ببطء إلى أزرار بنطالي. عبثت بأحدها.
لم يرقه ذلك. فقد قال:
الهجرة إلى الجحيم 53
- كلاّ كلاّ فك الحزام!!
استغربت الأمر. يبدو أن القضية لم تعد قضيّة ختان فقط!!
فهل استمر في المهزلة أم أقول له أنني لست مختوناً وانتهي
ولو إلى الجحيم. لكن فضولي لمعرفة ماذا يريد هذا الرجل
والاحتمال الضئيل في أنّه لن يدعني أكمل فك الأزرار جعلانني
أبدأ بفك الحزام وببطء. لكنه لم يحتمل ما بدا له برود
أعصاب لدي، فجذبني إليه بشدّة، وخال لحظة كنت أقف
خلالها مذهولاً من هول ما جرى. جذب بنطالي وسروالي إلى
أسفل وانفجر صارخاً.
- تقول أنك مختون؟ مدسوس على اليهوديّة!! ولم يسألني
لماذا لم أخبره بذلك بدلاً من هذا العناء. بل أخذ يهدأ
شيئاً فشيئاً وهو يمسك بعضوي مداعباً ويقول:
- لماذا لست مختوناً؟
فقلت بحماقة:
- الحقيقة أنني لم أر في حياتي عضواً مختوناً. وكنت
أعتقد أنني مختون!!!
- هكذا؟! حظّك جيد فعضوك يشبه الأعضاء اليهوديّة
إلى حدٍ كبير!! لا بأس به! تماماً كالأعضاء اليهودية
الحقيقيّة!! لكن لماذا لم ينتصب حتى الآن؟! العضو
اليهودي الحقيقي ينتصب حالاً!!!
تمنيّت لو أنّه ينتصب لأضعه في عينه. لكنه لم ينتصب. لا
سيمّا وأنّ الرجل كان يثير اشمئزازي. وتنبهت إلى أنّه يتلذذ مما
أثار قرفي أكثر.
54 الهجرة إلى الجحيم
نظر إلي واختلاجات اللذة بادية على وجهه:
- إنّها فرصتك الأخيرة لكي يصبح أمامك بعض الأمل.
يجب أن تدعه ينتصب وإلا سنجزم أنّك لست يهوديّاً!!
- أظن أنّه لن ينتصب في ظل وضع كهذا يا سيّدي! أرجو
أن تتركني وشأني.
وحاولت رفع ملابسي لكنه تمسك بها وهو يضغط على
جرس مثبت في الحائط:
- أنا آسف يجب أن أستدعي السيّدة لأتأكد من رجولتك،
بل يهوديّتك؟!
وما كاد يرفع يده عن الجرس حتى دخلت المرأة. نهض
وأجلسها مكانه. كانت ترتدي فستاناً قصيراً. وضعت إحدى
ساقيها فوق الأخرى وراعت أن تظهر أحد ردفيها وبشكل مثير
فعاً، بينما مدت يدها لتداعب عضوي وهي تقرّب راسها منه!!
لم أكن في حالة يتسنى لي فيها أن أحس بأي متعة أو رغبة.
فهل رأيت ما هو أحقر من هذا يا فداء؟! وفي لحظة لم أعرف
ما هي، ربما لحظة جنونية قادني إليها الغضب الذي كان
يعصف في داخلي، أحسست بعضوي ينتصب، وهممت لأن أدقه
في فم المرأة لأقذف بكل قهري في حلقها!! لكنني أحجمت في
اللحظة الأخيرة، وبعد أن شددت رأسها إلي بكلتا يدي...
رفعت ملابسي بسرعة واستدرت. قال:
- أين؟
قلت:
- إلى جهنم!!
الهجرة إلى الجحيم 55
وخرجت صافعاً الباب من خلفي. وكليّ تصميم أن لا أعود
لوكر البغاء هذا ثانية ولو اضطررت إلى التسول.
* * * * * *
معذرة يا فداء. أنظن أن قصتي طويلة، فإذا ما شعرت بالملل
فأخبرني. سأختصر أو نؤجل الحديث إلى يوم آخر.
فقال وهو يصلح من وضع جلسته وينظر إلى الساعة:
- لدينا الكثير من الوقت فالساعة لم تتجاوز العاشرة
بعد. تحدث كما تريد لا سيّما وأنني أجد متعة في
الاستماع لقصتك.
ألقيت نظرة على الطفلين. كانا يستسلمان لسبات عميق.
اصلحت المعطف فوقهما. قدّم لي فداء سيجارة وأشعلها لي
سحبت منها نفساً عميقاً ونفثت الدخان دفعة واحدة وأنا أزفر
متنهداً، وأخذت أكمل قصتي له:
كان علي أن أجد مدرسة تأوي الطفلين. عثرت على واحدة
قريبة من الحي الذي اقيم فيه، فأدخلت الطفل الكبير
))داريوش(( إليها. لم أجد صعوبات كثيرة في إدخاله. طلبوا أن
أطلق عليه اسماً يهودياً فوافقت على الفور. اسميته ))دافيد((!!
لكن الصعوبات نجمت عن التدريس نفسه، فلم يتقبّل الطفل
تعلّم اللغة العبرية. وعندما عاد إلى البيت انفجر في وجهي
باكياً وهو يتساءَل ))لماذا يا أبي جعلتنا نترك أمنّا وبلدنا وجئت
بنا إلى هذا البلد الغريب؟!((.
لم أعرف ماذا أقول له. أحسست بندم كبير. تصوّر طفاً
وجد نفسه فجأة بين عشرات الأطفال المنتمين إلى مختلف
الأجناس والأشكال ولا يجمعهم إلاّ اللغة العبريّة المفروضة
56 الهجرة إلى الجحيم
عليهم، ولا يستطيعون التكلّم بها؟!
ولم تكن حال الطفل الثاني أفضل. فقد وضعته في روضة
للأطفال بعد أن غيّرت اسمه إلى ))يورام((.
جاء يقول لي أنّه لا يفهم شيئاً مما يدور حوله، بل ولا يريد
أن يفهم. وأصرَّ على عدم الذهاب إلى الروضة. لكنني وجدت
نفسي أرغمه على ذلك. كنت آخذه إليها بنفسي واسلمه إلى
المشرفة هناك. لم يقبل أن يشارك الأطفال لعبهم ولهوهم، ولم
يكن يتحدث إلى أحد. ويظل جالساً مطاطئ الرأس. ولم أجد
أي وسيلة لإقناعه بمشاركة أترابه في اللعب والمرح. كما أنني
لم أجد أي حل غير إبقائه في الروضة. فيبكي ويذرف الدموع
أمامي لكي أعفيه من الذهاب إليها. وهذا ما لا استطيعه.
فليس من المعقول أن أتركه وحده في البيت. ولم تكن هناك
أماكن أو حدائق منظمة ليلعب فيها الأطفال. فكان الطفان
يعودان من المدرسة إلى البيت. وأكثر ما كان يؤلمني عندما
يذكرانني بوطننا الحبيب ))بولونيا(( حيث عشرات الحدائق
والمتنزهات المخصصة للأطفال. وهما هنا يقبعان في هذا
البيت الشبيه بالسجن.
وبدأت أبحث عن عمل. ولك يا فداء أن تتصور كل المشقات
التي يمكن أن يصادفها المرء وهو يبحث عن عمل. وهي هنا
في إسرائيل مضاعفة، فما أكاد أسأل أحدهم عن عمل حتى
يقلب شفتيه متذمراً أو يطلب منّي هويّة العمل أو توصية مكتب
الحاخاميين وغير ذلك. وأنا لا أملك شيئاً من كل هذا. ولم أفكر
في العودة إلى مكتب العمل لقناعتي أنّهم لن يعطوني هوية. كما
أن الحصول على الهوية لا يعني انتهاء المشاكل، فلقد تبينّ لي
الهجرة إلى الجحيم 57
أن كافة الأسر غير المتعصبة دينياً تعاني الأمرين حتى يحصل
معيلها على عمل في أشق الأعمال وأصعبها كأعمال البناء
وتنظيف الشوارع. وهذه الأسر ليست أقلية في ))إسرائيل((.
وذات يوم سألت أحد أصحاب العمل أن يساعدني في العمل
على باخرة، فقد تبينّ لي أن الرجل صاحب اسطول بحري.
حدجني بنظرات ليست ذات معنى وقال:
- إذن أنت ميكانيكي محرّكات سفن؟
- نعم يا سيدي!
ووجم الرجل برهة وراح يفكّر ثم قال:
- من أي بلدٍ أنت؟
- من بولندا يا سيدي!
وعاد إلى وجمه وإطراقه ثم شرع يحاضر في بلا مناسبة:
- أنتم يهود أوروبا الشرقية لا يأتينا منكم إلاّ المصائب،
فالعدد القليل الذي يصل إلينا منكم يكون إمّا من
المهنيين أو من الحرفيين أو العلماء وذوي التعليم العالي.
))وأخذ صوته يحتد وهو يتابع((: ونحن هنا نريد عمالاً غير
مهره، لدينا في أميركا وكندا ثلاثون ألف مهندس فائضون عن
الحاجة، كيف سنطرد مليوناً وسبعمئة ألف فلسطيني يقيمون
بيننا إذا لم تأتنا يد عاملة كيف؟! والمصيبة أنّهم يضعون أطفالاً
بالجملة، سيصبحون أكثرية في غضون سنوات.
- أكثرية هل تفهم؟!
- أجل يا سيدي إنّه لخطر كبير يهدد مستقبل
))إسرائيل((!!
58 الهجرة إلى الجحيم
والحقيقة أنني توقعت أو آملت أن تسفر لهجتي الحماسيّة
هذه عن شيء، بينما الرجل يتابع:
- وهؤلاء يهود أميركا وأوروبا الغربية يرفضون الحضور
إلى أرض الميعاد، فهل ننتظر حتى تحلُّ بنا الكارثة؟!
- كلاّ يا سيدي سنستأجر عمالاً غير مهرة من افريقيا
ونحضر...!!
وقبل أن أكمل تنبهت إلى أن الرجل ليس معي، فلا يوجد أمامي
سوى شخصه أما عقله فيبدو أنّه يحسب عمر ))إسرائيل((
بالساعة! فقلت:
- عفواً سيدي!
لم ينتبه لي نهائياً وإن كانت عيناه تنظران إلى ناحيتي.
فكررت سؤالي قائاً:
- هل أجد عملاً عندكم يا سيدي؟!
لكنه راح يدق بيده على الطاولة دقات رتيبة تنذر بالخطر،
وكأنه شاهد أرض الميعاد تحترق أمام عينيه!!
أيقنت أن الرجل مجنون أو في طريقه إلى ذلك، فخرجت من
مكتبه لأمر من مكتب السكرتيرة دون أن أدير رأسي.
* * * * * *
ورحت أبحث عن عمل في أماكن العمل الشاق جداً فلقد
تأكدت أنني إذا لم أجد عماً في إحدى هذه الأماكن فلن أجد
أبداً.
اقترح علي أحدهم أن أذهب إلى مصنع الفوسفات فالعمل
هناك شاق جداً والعُمال يهربون يومياً، ويمكنني أن اشتغل.
وبالفعل ذهبت واشتغلت بأبخس أجرة وأشق عمل. وبعد بضعة
الهجرة إلى الجحيم 59
أيام من العمل حدث معي تسمم من جرّاء المواد الكيماوية.
مكثت عشرة أيام أتعالج حتى تماثلت للشفاء. كلّفني ذلك
ضعفي الأجرة التي قبضتها من المصنع ولم أعد إلى العمل
بعد شفائي.
بحثت عن عمل جديد... اشتغلت شيّالاً في مصنع الإسمنت
هذه المرّة. كانت المهمّة شاقة جداً. أحمل على ظهري أكياس
الإسمنت إلى الشاحنات. يا له من عمل؟! أحسست خلاله أن
كيس الاسمنت هو أثقل ما يمكن أن يحمله المرء على ظهره!!
في اليوم الأول رفعت مائتين وعشرين كيساً، وفي اليوم الثاني
رفعت مائة وتسعين، وفي اليوم الثالث رفعت مائة وسبعين، وفي
اليوم الرابع مائة وستين، وفي الخامس مائة وثلاثين وفي اليوم
السادس مائة وعشرة وفي اليوم السابع كان ظهري قد تورّم
تماماً وانسلخ كتفي، فلم أعد أحتمل، وعلى الرغم من هذا
رفعت حوالي خمسين كيساً. لم يرق الأمر لصاحب العمل فجاء
وطردني.
مكثت ثلاثة أسابيع طريح الفراش وتماثلت إلى الشفاء.
ليس هذا كل ما حدث خال تلك الفترة يا فداء. فقد جرت
أحداث أخرى هامة. تركت آثاراً عميقة في نفسي وزادت حياتي
سوءاً.
* * * * * *
كنت أنهض في الصباح الباكر كل يوم. أبتاع حاجات البيت
وأحضّر طعام الإفطار لي وللطفلين... وبعد أن نتناول الإفطار
أصطحبهما إلى المدرسة. وفي المساء كانا يعودان إلى البيت
قبل حضوري. وكنت أطلب إليهما ألاّ يغادراه خال غيابي.
60 الهجرة إلى الجحيم
وذات يوم شعراً بالضجر، فخرجا إلى الحارة. تشاجرا مع
الأطفال فانهالوا عليهما ضرباً بالعصي. هرب الطفان في
اتجاه البيت فلحقهما الأطفال بالحجارة.
كنت أعمل في مصنع الفوسفات وعندما عدت لم أحتمل
ما رأيت. كانت الكدمات والرضوض تمأ وجهيهما وقد تورّمت
شفاهما وجرّحت أقدامهما بعد أن أسقطا حذاءيهما في الحارة،
وراحا يعدوان حافيين. انفجرا في وجهي صارخين وتعلّقا بعنقي
وهما يتوسان لأن أعود بهما إلى بولونيا. آه يا فداء هل اقول
لهما أننا بعنا بولونيا فباعتنا إلى الأبد؟! وإن هروبنا من هذا
الجحيم ليس بالشيء الهينّ. لم أعرف ماذا أقول.
نهضت غاضباً لأنتقم لهما، لكن جارة بولونيّة - كانت قد
هرعت من قبل وأنقذت الطفلين هي وبعض الجيران - أمسكتني
قائلة.
))هدّئ نفسك ولا تنفعل. فهؤلاء الناس لا يمكن التحدث معهم،
فهم يشرعون سكاكينهم لأقل كلمة - ولا سيما هؤلاء القادمون
من المغرب! الله يكف عنّا شرّهم!! أجلس يا أركاديوش!!((.
وجلست تحت إلحاح تلك المرأة والغضب يجتاح كياني وهي
تُردد لتهدئ من روعي:
))اللعنة على ذلك اليوم الذي ساقنا فيه القدر إلى هُنا!
سنغادر هذا البلد اللعين عندما تسنح الفرص ولن نعترف أننا
يهود، وإذا ما صادفنا يهودياً على الرصيف الذي نسير عليه
سننتقل إلى الرصيف الثاني!((.
وفي أصيل يوم آخر، خرجت إلى أطراف البلدة، تأخّرت
قلياً، فقد كنت متعباً، فجلست على رابية أستريح تحت ظل
الهجرة إلى الجحيم 61
شجرة. ولا أعرف كيف داهمني النوم. وعندما استيقظت كان
الظام قد حل، فنهضت مسرعاً إلى البيت.
وقفت مذهولاً عندما فتحت الباب. كان الطفان ينتحبان في
ركن من الغرفة والجارة البولونية وأطفالها يواسونهما. بينما
تناثرت مختلف أشياء البيت والمطبخ على الأرض. وكعادتهما
انفجر الطفان بالبكاء عندما شاهداني. هل تعرف ما الذي
حدث يا فداء؟ كان الطفان قد شعرا بالجوع بعد أن طال
غيابي، فنهضا وأشعلا الغاز ليسخّنا الطعام. وبعد لحظات طرق
الباب بعنف. فتح داريوش وإذا به وجهاً لوجه أمام مجموعة
من الأطفال يشهرون العصي وينهالون عليه ضرباً. دخلوا البيت
وانهالوا على جشيجوش أيضاً. وعندما هرع الجيران كان الأولاد
قد أطفأوا الغاز وقذفوا بأواني الطعام على أرضيّة المطبخ
وبعثروا أشياء البيت وحَطموا ما يمكن تحطيمه من أوانٍ
وصحون، وهددوا الطفلين بأنّهم سيحرقون البيت في المرّة
القادمة إذا لم يراعيا حرمة يوم السبت!! وعندما دخل الجيران
كان الأولاد يشتموننا ويرددون )شابات غوى( أي أننا لا نراعي
حرمة يوم السبت. ويبدو أنهم اشتموا رائحة الطعام أو النار من
الشارع فهرعوا.
ماذا يمكن أن تفعل إزاء وضع كهذا. كنت قد عرفت بحرمة
يوم الزفت هذا وحذرت الطفلين أن لا يشعلا النار خلاله.
لكنهما نسيا ذلك، ولا سيّما وأنهّما لم يشعلا النار كثيراً، إذ أنا
الذي كنت أقوم بطهي الطعام.
وهكذا يا صديقي بت لا أفكّر إلاّ بالهرب من هذا البلد، وإن
بدا لي الأمر مستحيلاً، عندما عرفت أنّ الهرب يكلّفني اموالاً
62 الهجرة إلى الجحيم
طائلة، فعلي أن أسدد الديون التي استلفتها من الوكالة اليهودية
))السوخنوت(( وعلي أن أدفع مبلغاً كتأمين أو ))غرامة سفر((
كما أسميته! ولم أعرف لماذا علي أن أدفع هذا المبلغ ومبالغ
أخرى لا أعرف كم هي. يبدو أنهم يريدون أن يضمنوا عودتي
إلى ))أرض الميعاد((. كل هذا عدا عدم الحصول على جواز
سفر إلاّ بعد التأكد القاطع من قبل الجهات المختصة أنني لن
أحصل عليه لكي أهرب!!.
لم يكن هناك أي سبيل للهروب بالطرق العلنية، فلجأت إلى
البحث عن وسيلة أخرى استطيع بها أن أهرّب نفسي والطفلين.
الشيء الذي لم استطع مجرّد تخيلّه، أن تجبر السلطات البولونيّة
زوجتي والطفلة على مغادرة بولونيا والحضور إلى هنا؛ مما
سيزيد حياتنا جحيماً. فتهريب الأسرة بكاملها حينئذ، سيكون
من المستحيلات.
كتبت لزوجتي رسالة أخرى حشوتها بعشرات علامات
الاستفهام والتعجب وعشرات الكلمات الغامضة، لعلّها تتأكد من
الوضع الذي نحياه، وتقنع السلطات بعدولها عن الهجرة، علهّم
يسمحون لها بالبقاء.
تلقيّت منها رسالة عندما كنت طريح الفراش بعد عملي في
مصنع الاسمنت. إليك ما كتبته:
الهجرة إلى الجحيم 63
- 4 -
عزيزي أركاديوش:
كيف حالك. كيف حال داريوش وجشيجوش. أنا قلقة عليكم
كثيراً، ويجتاحني شوق كبير لمشاهدتكم. ولا داعي يا عزيزي
لأن أعبّر لك عن شعوري كأم حرمت من رؤية طفليها وزوجها،
ولا سيّما بعد أن أحسّت من رسالتيك أنّ الفراق قد يطول كثيراً.
يؤسفني يا أركاديوش أن انغص عليكم عيشكم برسالتي هذه،
فظروفي تزداد سوءاً كل يوم. لم يوافقوا على تمديد إقامتي في
بولونيا استدعوني إلى قسم الشرطة وطلبوا إلي المغادرة في
أسرع وقت، اختلقت عشرات الأعذار، لكن المسؤول صرخ بي
قائاً:
))نحن يا سيدّتي لم نطلب إليكم أن تتنكروا لبلدكم وتعلنوا
ولاءكم لإسرائيل وتطلبوا الهجرة إليها. أنتم الذين فعلتم ذلك
وأسفرتم القناع عن وجوهكم، وتأتين الآن لتختلقي مئات الأعذار،
كيف أصدّق أنّك لست يهوديّة، بل صهيونيّة وزوجك يقبع الآن
في إسرائيل((؟!!
ماذا في استطاعتي أن أقول له يا أركاديوش؟ أشعرني أن كل
الحق معه! ألا تعرف كم يكرهون الصهيونية وإسرائيل هنا؟ فما
أن يسمعوا أقل شيء ولو كان مجرّد تعاطف مع اليهود، حتى
يصبوا جام غضبهم عليك.
قلت له: ))إذن أمهلني مدّة شهر فقط يا سيدّي(( وافق
يا أركاديوش لكن بشروط، فسيحجزون على البيت بما فيه
ويضعونني في السجن إذا لم أغادر. وها أنا أحضرّ نفسي
64 الهجرة إلى الجحيم
للسفر. سأراسلك أينما حللت وانتظر جوابك.
الحياة مع الجارات لم تعد تطاق أيضاً. لا أرى في أعينهن
غير الاحتقار ولا أسمع منهن غير الشتائم:
- ))هذا زوجك اليهودي الأجرب كان يخفي أصله هُنا
طوال الوقت((!
- ))أنا كنت أشك في أصله وأجزم أنّه يهودي فهو لم
يتزوج في الكنيسة ولم يعمّد أطفاله((.
- ))لكن لماذا استقبل القسيس في بيته إبّان عيد المياد
الأخير؟!((.
- ))لم يكن أحد منا يعلم أنّ جارنا يهودي((.
وغير هذا من الكلام الذي يثقل كاهلي ويزيد وحدتي سوءاً.
عندما بكت ))إيفا(( ذات مرّة صرخت بي إحداهن قائلة:
- ))لماذا لا تذهبين بهذه اللقيطة إلى زوجك ))موشي((
في ))إسرائيل(( لنستريح منكم((؟!
لا أريد أن أزيد عليك يا أركاديوش. فليس هذا كل ما حدث
لي بعد سفرك. فقد طردت من العمل في المطعم وفقدت
الحق في الخدمات الصحيّة المجّانية ولم يبق أمامي إلا أن
أهاجر إلى أي مكان آخر. فقد أقفلت كل السبل في وجهي.
))إيفا(( بخير وكذلك أنا. تحياتي وقبلاتي لكم.
زوجتك
نينا
الهجرة إلى الجحيم 65
- 5 -
ازدادت حياتنا سوءاً بعد رسالة زوجتي هذه يا فداء، فبات
القلق يساورني صباح مساء... وهذا ليس كل ما حدث معي
خال تلك الفترة يا صديقي، فلقد حدثت قصة أخرى. قصة
تركت أثراً كبيراً في نفسي وأثرت على سلوكي.
فلقد شعرت بالضجر واليأس ذات مساء، ولم أجد إلاّ أن
أذهب إلى أبراهام لأبث له همومي علّه يرشدني إلى طريق ما،
أو يساعدني في الهرب إلى أي بلد كان حتى لو كان بلداً عربياً.
أقنعت الطفلين أن يبقيا وحدهما في البيت بعد أن تناولت
معهما طعام العشاء. قلت لهما سأقوم بزيارة إلى صديق فوافقا،
تركتهما ينامان وانصرفت.
كنت ذلك اليوم قد شفيت من مرضي بعد العمل في مصنع
الإسمنت. وكنت متشوّقاً لزيارة أبراهام الذي انقطعت عنه من
جرّاء العمل والمرض ومشاكل الطفلين وسكان الحي.
كان يجلس كما وجدته في المرّة الأولى مطرقاً مفكرّاً ربما
يتأمل لوحاته أو يفكر في لوحة جديدة. وما أن طرقت الباب
حتى نهض يستقبلني ويصافحني بحرارة، ويلومني لأنني لم أعد
إليه، فاعتذرت منه وشرحت له الأسباب العديدة التي منعتني
من زيارته. ومما زاد في حيرتي أنّه اعتبر كل ما حدث لي،
شيئاً لا يستحق الذكر!! وأنبأني قائاً:
- لكن إذا ما عشت سترى ما يستحق الذكر في هذا
الوطن!.
فقلت وأنا أجلس على قطعة الإسفنج التي جلست عليها في
66 الهجرة إلى الجحيم
المرّة السابقة:
- أظن أنّه لا يوجد أسوا من هذه الحياة إلاّ الموت!
فقال:
- هذا ما قصدته فلا يوجد هنا غير الموت!!
وأردف:
- لكن ليس الموت المتعارف عليه: بل موت آخر. يبدأ
كما بدأ معك أي بتحطيم الذات. وهذا الأمر يستمر
طوياً، وينتهي بتحطيم الجسد، تحطيمه نهائياً، لوضع
حدٍ لعذاب الذات. وهذا يأخذ صوراً وأشكالاً متعددة.
وما أرجوه يا صديقي أركاديوش أن لا تبلغ تلك المرحلة
من اليأس.
وددت أن أقول له أنني بلغتها وانتهى المر لكنني أقلعت عن
ذلك، وقلت متسائلاً:
- وهل ترى أنني لم أبلغها بعد؟
فقال مؤكداً:
طبعاً طبعاً! لم تبلغها بعد وأرجو أن لا تبلغها.
وأصر أن يضيفني شاياً على الطريقة الفلسطينية فنهض
يجهزه بينما أخذت أتأمل اللوحات.
أحضر الشاي بعد قليل. صبّ لي في كاس زجاجية. بدا
الشاي ثقياً تفوح منه رائحة لا أعرف كنهها. تساءلت حول
ذلك فقال:
- إنّها ))ميرمية(( لا تعرفها. نبات بري يضعه الفلسطينيون
في الشاي.
وكم سخر أبراهام منّي عندما عرف أنني لا أعرف شيئاً عن
الهجرة إلى الجحيم 67
فلسطين والفلسطينيين فكيف بالميرمية؟! ولم يصدّق عندما
قلت له أنني لم أعرف أن الفلسطينيين كانوا يقيمون على هذه
الأرض المسماة ))إسرائيل(( إلاّ بعد حضوري إلى هنا، بل بعد
مشاهدتي له في المَرّة الأولى.
جلس ساكتاً للحظة ثم قال:
- أنا مضطر لأن أروي لك قصة أبراهام ففيها شيء من
تاريخ هذه الأرض وتاريخ هذا الشعب بل وتاريخ دولة
))إسرائيل(( نفسها!.
فقلت:
- ومن هو أبراهام هذا؟
فقال:
- أنا يا صديقي أركاديوش! أنا أبراهام الذي سأسمعك
قصته هذه الليلة!
أحسست أنني تحولت إلى مجموعة آذان صاغية. اتكأ بظهره
على الحائط وأخذ يتكلّم:
68 الهجرة إلى الجحيم
- 6 -
هذه قريتي منذ أربعة آلاف عام يا أركاديوش فيها ولد جَدّي
وجد جدّي وجد جد جدّي وفيها ولدت أنا وفيها حييت، وفيها
فقدت أمّي وأبي وأخي وأخواتي. كلهّم ذهبوا. لا تقل لي كيف،
سأخبرك بذلك ضمن سياق قصتي.
كنا نحيا هنا كعرب لا فرق بين الواحد والآخر ولم تتأثر
علاقاتنا على الرغم من كافة ما جرى بين اليهود والمسلمين
والمسيحيين منذ نهاية الربع الأول من هذا القرن وحتى أواخر
الأربعينات. هذه القرية كانت رمزاً للتعايش السلمي بين الديانات
الثاث. ففيها مسلمون ومسيحيون وقلة من اليهود. لم نشعر
في يوم من الأيام أننا لسنا عرباً. ولم أذكر يوماً أنّ مسلماً
تشاجر مع مسيحي أو يهودي لأجل دينه. وأرض القرية كانت
تخص الجميع. كل واحد يزرع حقله ويجني ثمار كرمه. لم نكن
نحيا في رفاهيّة كما أننا لم نكن نحيا في عوز أيضاً. أظن أنّك
تعرف حياة الفلاحين البسطاء.
كنا نحيا في هذا البيت أنا وأمي وأبي وأخواتي الثاث وأخي
الصغير وجدّتي. وكان لي حبيبة مسيحية اسمها ))إبريس((
تتردد علينا كل يوم تقريباً. كم كنت أحبّها يا أركاديوش لو
تأملت وجوه النساء اللواتي يظهرن في لوحاتي لرأيت أن وجهاً
واحداً يقف خلف كل هذه الوجوه. إنّه وجهها. ولرأيت الصليب
الذي كانت تضعه دائماً حول عنقها. أنني أضعه في عنقي الآن
وقد أضفت إليه خارطة فلسطين. كنّا نخرج إلى الحقول نمرح
ونغني. أضمّها إلي وأقبّل الصليب فوق صدرها.
الهجرة إلى الجحيم 69
وجاء يوم النحس يا أركاديوش. ليس يوم النحس الذي أخذ
فيه يهود الخزر يتوافدون على وطني!!! وليس يوم النحس الذي
نشأت فيه الحركة الصهيونية وتكرّس وجوده منذ أن صدر وعد
بلفور عام 1917 ، كلاّ فما أقصده هو يوم نحسي أنا بالذات.
فلقد أعميت أبصاري والتحقت بعصابة الأرغون. لا أعرف كيف
تم ذلك. قالوا أنهم سيحررون الباد من الإنكليز فصدّقتهم.
كنت شاباً متحمساً للنضال وطرد المستعمرين. عارضني كل
أهلي وحبيبتي إيريس فلم أذعن لهم. قال لي والدي أن هؤلاء
غزاة تماماً كالمستعمرين الانكليز، فهم من يهود ))الخزر(( الذين
اعتنقوا اليهوديّة في القرن الثامن الميادي ليهربوا من اعتناق
المسيحية أو الإسام بعد أن حوصرت امبراطوريتهم من قبل دول
إسامية ومسيحية، فليس لهم علاقة باليهود الأصليين، وليس
لهم أية حقوق تاريخية في فلسطين. إنهم غزاة يا أبراهام فا
تنضم إليهم يا ولدي. لكنني لم اوافقه الرأي يا أركاديوش، ولم
أذعن له. كنت ضائعاً يا صديقي. بل كنّا كلّنا ضائعين.
مرّ عام 1947 وأنا في حيرة من أمري. فلقد أصبح الصراع
صراعاً بين اليهود والانكليز من ناحية والعرب من ناحية أخرى.
لم أذكر أننا هاجمنا معسكراً انكليزياً. كنّا نحن والانكليز نطارد
العرب ونقتلهم إلى أن جاءت معركة بل مذبحة جعلتني أعرف
هؤلاء الذين انضممت إليهم.
كنا مجموعة من الشباب والفتيات المسلّحين. اخبرنا
قائد المجموعة أن نجهّز أنفسنا لنشترك في معركة. بدأنا
الاستعدادات... وفي حوالي العاشرة مساء كُنّا أكثر من مائة
70 الهجرة إلى الجحيم
مسلّح ومسلّحة فقد انضم إلينا مجموعة مسلحين من مقاتلي
))شتيرن((.
بلّغنا أن نأخذ قسطاً من النوم لأن صباحاً شاقاً ينتظرنا.
حاولت أن أنام لكني لم أتمكن. كان الطقس ربيعياً ونسمات
الهواء البارد تلفح الوجوه وهي تهب بين الفينة والأخرى. وإلى
جانبي كان بعض المسلحين يتحدثون عن معركة القسطل ومقتل
القائد الفلسطيني ))عبد القادر الحسيني(( كانوا يقولون أنّ
الفلسطينيين هزموا ولن تقوم لهم قائمة بعد اليوم، وخاصة بعد
مقتل قائدهم. لذا ستكون معركة الغد غير متكافئة لا سيما
وأن معنويّاتهم منهارة وساحهم قليل ونحن لدينا مصفحة!! بل
أكد معظمهم أننا سندخل القرية دون قتال. وهنا وجدت نفسي
أسأل.
- الا تعرفون ما هي القرية التي سنهاجمها؟ فقالت فتاة
كانت تضطجع على جنبها:
- أظن أنّها ))دير ياسين!!((.
لا أذكر أنني نمت طوال تلك الليلة. إنّها ليلة الجمعة ) 9(
نيسان لن أنساها مهما حييت.
تحرّكنا في الصباح الباكر باتجاه القرية. كانت قرية ))دير
ياسين(( فعاً. فلقد جاء قادة المجموعات وأطلعونا على المهمة.
ولم أستطع أن أتمالك نفسي عندما قال قائد مجموعتنا:
- اقتلوا كل شيء يتحرّك أمام أعينكم فقلت:
- ولماذا يا سيّدي؟
فقال:
- على هذه العمليّة تتوقف إقامة دولة إسرائيل. نريد لها
الهجرة إلى الجحيم 71
أن تحدث ذعراً وتأثيراً نفسياً كبيرين على نفوس العرب
ومعنويّاتهم، لكي يهربوا من بيوتهم وقراهم. فهل تعتقد
أن أمراً كهذا يمكن تحقيقه ونحن نحمل في قلوبنا ذرّة
من الشفقة؟!!
ولم أنبس ببنت شفة يا أركاديوش. لكنني اتخذّت قراراً بيني
وبين نفسي أن لا أقتل ولو قطاً في قرية دير ياسين الوادعة.
انقسمنا إلى مجموعتين كبيرتين. الأولى مجموعتنا ومعظم
أفرادها من عصابة ))الأرغون(( تقدّمت لتهاجم القرية من
الجنوب الشرقي والثانية وهي من جماعة ))شتيرن(( تقدّمت
لتهاجم من الشمال الشرقي...
في حوالي الخامسة والنصف وبينما كنا نتقدم متسللين في
اتجاه القرية، اصطدمنا بأحد الحرُاس العرب. صرخ علينا
بكلمات لم نفهمها. وعندما تبينّ له أننا مهاجمون راح يعدو نحو
القرية وهو يطلق الناء في الهواء. فأوعز لنا قائد المجموعة أن
نفتح النار عليه. فانصب عليه الجحيم وسقط مضرجاً بدمائه.
أخذنا نتقدم ونحن نطلق النار في اتجاه القرية بينما كانت
نيران المصفحة ومدافع الهاون تغطي تقدّمنا. كنت أطلق في
الهواء أو لا أطلق. جوبهنا بنيران خفيفة من القرية. وصلنا إلى
الخنادق التي حفرها السكان للدفاع عن أنفسهم، تمكنا من
التمترس جيداً وجعلنا في مأمن من النيران المؤثرة.
يبدو أنّهم لم يتوقعوا أن نهاجمهم وإلاّ لكانوا في الخنادق
التي تحوّلت إلى مراكز هجوم لنا بدلاً من مراكز دفاع لهم.
كنت أرى المجاهدين وهم يركضون من بيت إلى بيت أومن ركن
إلى ركن، فيتعرّضون لإصابات مباشرة من قبلنا. وعلى الرغم
72 الهجرة إلى الجحيم
من هذا لم نستطع التقدّم ولو خطوة واحدة. فكلّما حاولت
مجموعة منا أن تتقدّم كانت تجابه بنيران مركزة فتعود إلى
الخنادق وقد أصيب بعض أفرادها بجراح. وعندما كان إطاق
النار يتوقف لبرهة كنا نسمع زغاريد النساء في القرية مما
حدا بقائد المجموعة أن يوعز لمجموعة الهاون بقصف المكان
الذي تنطلق منه الزغاريد بقذائفها. فقد أثارت ))الزعاريد((
حنق قائد المجموعة أكثر من رصاص المجاهدين الفلسطينيين،
فصرخ: ))العاهرات أنهن يزغردن ليشجعنهم على القتال،
أحرقوهن!(( ومما سَرّني أن الزغاريد ازدادت وأخذت تنطلق
من أماكن مختلفة في القرية وكأن النساء عرفن مأربنا فأخذن
يزغردن من كل مكان ليشتتن نيراننا، ومما زاد في سروري أن
قائد مجموعتنا الغبي، استجاب لذلك وأمر مجموعة الهاون أن
توّزع نيرانها إلى مختلف الأماكن!!.
اشعلت الحرائق في القرية. تصاعد الدخان عالياً، لكننا لم
نحقق أي تقدم بل على العكس ازداد ضغط المدافعين علينا
وكدنا أن نفقد الخنادق التي استولينا عليها برداً وساماً.
مما حدا بقائد المجموعة أن يستنجد بالمجموعة الأخرى من
عصابة ))شتيرن(( ويطلب إلى مجموعة الهاون أن تعود لتركز
نيرانها على أطراف البلدة المواجهة لنا.
وهكذا ركزّت كل القوّات نيرانها على ناحية واحدة. وبعد
قتال دام لأكثر من أربع ساعات لم نفلح في التقدم، ليس لغزارة
النيران التي نجابهها، بل لشجاعة المدافعين عن القرية. كانوا
يتوقفون كثيراً عن إطاق النار. مما يدل على نقص الذخيرة
لديهم. وعندما نحاول التقدم يجابهوننا برصاصات قليلة
الهجرة إلى الجحيم 73
لكنها مركزّة. مما يجعلنا نعود إلى الخنادق. ولولا وصول قوّة
جديدة من ))الهاجاناة(( مزّودة بمدفع هاون وكميّات كبيرة من
المتفجّرات والقنابل لما تمكنّا من دخول القرية، فقد انضمت
هذه المجموعة إلينا وركزّت نيرانها على أحد البيوت التي
تمترست القوّة المدافعة فيها.
تمكنّا من التقدم قلياً تحت حماية نيران كثيفة. اقتربنا من
أوّل بيت في القرية. كانت بعض جثث المقاتلين تتناثر حوله.
ألقوا بعدّة قنابل داخل البيت واقتحموه. وجدوا امرأة مصابة
بجراح بليغة تضم إلى صدرها طفلين أحدهما أنثى وتستلقي
فوقهما. أنهالوا على الطفلين بالسكاكين والبلطات ثمَّ جزّوا رأس
الأم. هل تعرف ماذا فعلوا بعد ذلك يا أركاديوش؟ أخذوا يجزّون
الأيدي والأرجل ويلقون بها بعيداً أمامهم لكي يرعبوا الناس. لا
أدري كيف يمكنني أن أصف لك ذلك. فقد أمسك أحدهم بشعر
رأس المرأة ولوّح بالرأس في الهواء وكأنّه يلوّح بمقاع وقذفه
إلى بيت قريب. وكذلك فعل برأس طفلتها. ويبدو أن فعلة
ذلك المجنّد قد أثارت إعجاب المجندين والمجندّات فأخذوا
يمسكون الرؤوس ذات الشعر الطويل من شعرها ويطوّحون بها.
ثم يطوّحون بالأرجل والأيدي والأكباد والكلى. وهم يصرخون
بجنون ويطلون أيديهم ووجهوهم بالدم!!.
لم يدم ذلك طوياً فقد نسفوا البيت وتقدّموا. كانت طلقات
المدافعين قد أخذت تبتعد، وكنّا نسمع صراخاً مخيفاً أثناء
لحظات الهدوء التي تعقب زخات الرصاص وسقوط القذائف.
كانوا يطلقون النار على كل شيء يتحرّك حتى الدجاج
والحمير والمواشي والكلاب وأي مصدر لصوت ما. وكلمّا مَرّوا
74 الهجرة إلى الجحيم
ببيت ألقوا في داخله مجموعة من القنابل ثم أجهزوا على من
فيه، وقذفوا بأشائهم إلى الأمام ونسفوا البيت. إلى أن اندفعوا
أخيراً باتجاه البيت الذي كانت تتمركز فيه المقاومة الرئيسة
للمجاهدين.
كان عشرات القتلى والجرحى من رجال ونساء وأطفال ينتشرون
من حوله وفي الطريق إليه. انهالوا برصاصهم وسناكيهم على
الجثث والجرحى، وكأنهم في حالة ظمأ لن يرويها إلا الدم.
وخاصة جثث المقاتلين. كانوا يمطرونها بالرصاص وينهالون
عليها بالحراب والسكاكين وكأنهم لا يصدّقون أن أصحابها
فارقوا الحياة.
وعندما دخلنا إلى البيت كانت تتناثر في مختلف أرجائه
جثث كثيرة لنساء ورجال. يبدو أن النساء كن يقمن بتضميد
الجراح وجلب الذخيرة، فقد تناثرت الأدوية والضمادات في
مختلف أرجاء البيت. وبدت امرأة وهي ما تزال ممسكة بقطعة
شاش في إحدى يديها. وفي ركن آخر كانت امرأة ملقاة على
صندوق ذخيرة لا يحوي إلاّ بعض الطلقات.
توقفت المقاومة نهائياً. أخذوا يقتحمون البيوت واحداً بعد
الآخر. اقتربنا من أحدها ودخلناه. لم يكن فيه سوى امرأة
وطفلها الذي لم يتجاوز السنتين. قطّعوا الطفل بين يديها.
أخرجوها إلى الساحة وأخذوا يرقصون من حولها وهم يمزّقون
ثيابها قطعة قطعة إلى أن أصبحت عارية تماماً. كانت تضع
في أذنيها قرطين من الذهب. انقضت إحدى فتيات ))شتيرن((
وقطعت اذنيها لتحصل على القرطين، ثم انهالت عليها طعناً
بحربتها. طعنتها في كل مكان حتى في فرجها، ثم مسحت الدم
الهجرة إلى الجحيم 75
عن الحربة بقطع الملابس الممزقة. تقدمنا إلى بيت آخر وإذا
برجل يخرج منه ويتمترس أمامه ويشرع في إطاق النار علينا،
بينما زغاريد امرأة تنطلق من داخل البيت. لم يمهلوا الرجل
طوياً، فقد أمطروه بعشرات الطلقات، وما هي إلاّ برهة حتى
قفز شاب إلى جانب الجثة. أخذ البندقية إيّاها وبدأ يطلق
النار. قاومنا لفترة قصيرة، وقبل أن يفارق الحياة كانت امّه -
كما بدا - تخرج دارعة الصدر وتنقض على البندقية وتمسك
بها قبل أن تسقط من يده، وتأخذ في إطاق النار من بين
الجثتين وهي تزغرد وظلّت تقاوم إلى أن استشهدت. عندئذ
اقتحم المهاجمون البيت... لم يكن هناك غير الأطفال. لم
يتجاوز عمر أكبرهم الثانية عشرة. صفوهم إلى جوار الحائط
وأطلقوا عليهم النار.
دخلوا إلى بيت آخر. وجدوا شيخاً كبيراً يختبئ في علّيته.
أمسكوه من قدميه وقذفوه من علٍ، وقبل أن يستقر على الأرض
كانت عشرات الطلقات قد اخترقت جسده.
في بيت آخر كانت أسرة بكاملها. الزوج والزوجة وثاث بنات
وطفان. قطعّوا أوصالهم وهم أحياء وأخذوا يرقصون بجنون
فوق جثثهم.
اتجهنا إلى مدرسة القرية. كان علم الصليب الأحمر يرفرف
على مدخلها. مَزّق المجندون العلم واقتحموا المدرسة. كانت
هناك فتاة يبدو أنّها معلّمة في المدرسة ترتدي ملابس الصليب
الأحمر وتضع شارته على ذراعها، تقوم بإسعاف بعض الجرحى
بينما عشرات الأطفال يصرخون ويبكون من حولها. عندما دخلنا
وقفت أمام الجميع لتحميهم خلفها. انهال الرصاص كالمطر.
76 الهجرة إلى الجحيم
سقطت وسقط عشرات الأطفال والجرحى يتخبطون بدمائهم.
لا تسألني يا أركاديوش كيف كان الأطفال يحتضرون، فلن
أحتمل وصف حركات أيديهم وأرجلهم وأجسادهم وهي تتلوى
أمام عيني. كان القتلة يتلذذون بالمشهد إلى درجة السكر. هربت
إلى خارج المدرسة وبعد قليل شاهدتهم يسحبون الجثث إلى
خارجها ويكومونها في الساحة، إلى أن أصبحت كومة كبيرة،
فأخذوا يرقصون ويصفقون من حولها في مشهد هستيري وقد
غرسوا علم الصليب الأحمر الممزق في منتصفها.
بعد ذلك بدأت حفات الاغتصاب... أخذوا يقتحمون البيوت
ويقتلون الرجال والنساء الكبار... أمّا الفتيات فكانوا يغتصبونهن
قبل القتل أو بعده!! هل شاهدت في حياتك أو سمعت عن
اناس اغتصبوا فتاة وهي قتيلة أو والدماء تنزف من رأسها
وكتفها؟! هل سمعت عن وحش ما اغتصب طفلة في التاسعة
من عمرها؟! لقد اغتصبوا ست أناث لم تتجاوز أكبرهن الثانية
عشرة!!.
لا تبتئس يا صديقي أركاديوش، يا من تركت وطنك وجئت
لتحيا في ))أرض الميعاد(( بل أحقد يا صديقي. أحقد وليمتلئ
قلبك بالغضب ولتعصف في كيانك الثورة، علّك تنتقم لنفسك
لا لأحد، نعم تنتقم لنفسك يا أركاديوش من الذين غرروا بك
وأجبروك على القدوم إلى هُنا ليجعلوا منك قاتاً سفاحاً!!.
لم تكن هذه النهاية يا أركاديوش. فقد أخذوا يجمعون الناس
من باقي البيوت وينسفونها. جمعوا عشرات النساء والرجال.
أسر كثيرة لم تقبل أن تخرج من بيوتها فنسفت فوقها. وأسر
الهجرة إلى الجحيم 77
كثيرة كانت تخرج رافعة أيديها مستسلمة، لكن بعض الجنود
كانوا يمطرونها بوابل من نيرانهم.
جمعوا عشرات النساء والرجال وصفوهم إلى حائط. أداروا
وجوه الرجال إلى الخلف وجعلوهم يرفعون أيديهم. مددوا
أحدهم على الأرض وجعلوا منه دريئة يطلقون من خلفها النار
على أرجل الأسرى الآخرين. عرّوا النساء من كافة ثيابهن.
بقروا بطون الحوامل اللواتي وجدن بين النساء. لن أنسى كيف
شقّت مجندة من ))شتيرن(( بطن إحدى الحوامل برأس حربتها
المركبة على فوهة البندقية، وأخرجت الجنين على رأسها.
انظر إلى تلك اللوحة يا أركاديوش ترى المشهد عينة.
انتزعوا الحلي من آذان النساء فتمزّقت آذانهن وتقطّعت.
وبعضهم كان يداعب نهود النساء بمنتهى الخسّة والنذالة.
حملوا النساء عاريات في سيّارة والرجال في سيّارة أخرى
ونقلوهم إلى القدس، ليطوفوا بهم مختلف الأحياء اليهوديّة.
بينما ظل البعض يجمعون الأوصال المقطّعة والجثث المشوهة
ويلقونها في بئر القرية ليخفوا آثار الجريمة البشعة.
ألقوا بأوصال أكثر من مائة جثة داخل البئر وتركوا الجثث
غير المشوّهة كثيراً وانسحبوا بعد أن نسفوا معظم البيوت
والمدرسة والجامع تاركين القرية لتدخلها قوّات الهاجاناة
لتكرّس احتلالها. وقام رجال ))الهاجاناه(( بدفن الجثث غير
المشوهة في قبر جماعي في بستان صغير أمام ممثل الصليب
الأحمر الدولي.
عرفت فيما بعد مصير الذين شحنوا في السيّارات. فقد
جعلوا النساء يرتدين ملابسهن الممزقة وطردوهن باتجاه
78 الهجرة إلى الجحيم
الأحياء العربية من القدس. أمّا الرجال وكانوا خمسة وعشرين
رجاً فقط. فقد أخذوهم إلى محجرة وأطلقوا عليهم النار.
وإليك حصيلة المذبحة يا أركاديوش حسب الإحصاءات
الرسمية.
- خمس وعشرون امرأة حامل بقرت بطونهن.
- اثنان وخمسون طفاً قطعت أوصالهم أمام امهاتهم
ثم ذبحوا واجتُزّت رقابهم وفي أحضان أمهاتهم أيضاً.
وبعد ذلك أجهز على الأمهات.
- ستون امرأة وفتاة قتلن ومثل بهن.
- مائة وسبعة عشر رجلاً...
وهذه الأرقام ليست دقيقة مائة في المائة يا أركاديوش.
فباعتقادي أن عدد القتلى تجاوز هذه الأرقام بكثير.
وبالفعل يا أركاديوش، فلقد حققت المذبحة المروّعة أهدافها
المرسومة. ففي غضون شهر من هذا التاريخ هرب من فلسطين
ستمائة وخمسون ألفاً من الفلسطينيين وتركوا أرضهم وبيوتهم
وقراهم نهباً للعصابات الصهيونيّة. وكل هذا نتيجة لتلك المذبحة
- التي هزّت العالم بأسره - وبعض المذابح الأخرى.
وهكذا يا صديقي اقيمت دولة إسرائيل على ))الأرض
الموعودة(( بعد خمسة أسابيع من تلك المذبحة. والحقيقة
أنّه لولا تلك المذبحة وغيرها كثير لما قامت لإسرائيل قائمة.
فأهاً بك يا أركاديوش في دولتك القائمة على بحرٍ من الدم،
وعلى أرض لمٍ ولن تكون يوماً إلاّ لأصحابها الحقيقيين نحن
الفلسطينيين سواء كنّا يهوداً أو مسلمين أو مسيحيين.
الهجرة إلى الجحيم 79
هربت من عصابة الأرغون بعد تلك المذبحة. فما أن سنحت
أوّل فرصة لي وكانت في نفس اليوم الذي غادرنا فيه دير
ياسين حتى هربت.
كان المجندون متعبين بعد الفظائع التي ارتكبوها. فقمت
وتسللت وأنا بكامل ساحي. كنت أعض أصابعي غضباً وحزناً
وندماً. أظن أنني كنت في حالة هستيريا. فعندما كنت أتذكر
بعض فصول المذبحة، كانت تجتاحني حالة مخيفة. حالة لا
أستطيع أن أعبّر لك عنها يا أركاديوش، كنت أحس بالغضب
يجتاح كل كياني ولا أعرف كيف أخمده فأقوم بضرب رأسي
بحجر حتى يقطر الدم منه. وأحياناً كنت أضع بعض الحجارة
في فمي وأقوم بقضمها. ولم أكن أهدأ إلاّ بعد أن أرهق نفسي.
كنت أجأر بصوت مخيف عندما تنتابني الحالة والدماء تقطر
من فمي ورأسي.
ازدادت مصيبتي عندما عدت إلى القرية يا أركاديوش، هل
تعرف ماذا حدث؟ وجدت النار تشتعل في بيوتها. والجثث
مطروحة على أطرافها وبين أحيائها. فقد داهمتها نفس
العصابات!!.
رحت أجري إلى بيتنا دون وعي. كان الباب مخلوعاً. وفي
هذه الغرفة كانت تتكدس كل جثث العائلة يا أركاديوش. هناك
كانت جثة أمّي وعلى صدرها الأيمن جثة أختي الكبرى وعلى
صدرها الأيسر جثة أختي الأصغر منها. وهناك كانت جثة
والدي يحتضن أصغر أخواتي وهنا يا أركاديوش هنا أمامي
هل تعرف كانت جثة من؟ كانت جثة حبيبتي ))إيريس(( يا
أركاديوش. كانت تعانق جثة أخي الصغير وقد استقر صليبها
80 الهجرة إلى الجحيم
فوق عنقه. أعذرني يا صديقي فا استطيع إلاّ أن أبكي كلّما
تذكرت هذا المشهد!!.
أخذت أصرخ بجنون يا أركاديوش وأنا ألقي بنفسي فوق جثّة
إيريس. ولا أعرف كيف أخذت أضرب رأسي بالحائط لأقتل
نفسي!!.
تبينّ لي فيما بعد أنني ظللت أضرب رأسي إلى أن فقدت
الوعي. جاءت بعد ذلك مجموعة من عصابة الأرغون ورأتني
أرتدي زيّها فأسعفتني بنقلي إلى المستشفى.
مكثت هناك حوالي عشرة أيام إلى أن زالت عنّي حالة
الخطر. وخرجت بعد مدّة وبمرض جديد هو الإحجام عن
الكلام. كان إحجاماً متعمداً في البداية لكنه أصبح جزءاً من
سلوكي فيما بعد. كم حاولوا في المستشفى أن يعرفوا من
أنا وما الذي حدث لي ولماذا قتلتْ أسرتي، فلم أجب بشيء،
تجاهلت اسئلتهم وتظاهرت بالصمم.
وقد أفادني هذا كثيراً. فقد وصف الطبيب هذه الحالة في
تقريره واعتبرها نوعاً من أمراض الجنون ناتجة عن صدمة قوية
تلقيتها، أثّرت على نفسيتي وأعضائي الفيزيولوجية. وكانت هذه
الأسباب كافية لإعفائي من الخدمة وتخصيص راتب تقاعدي
لي، كوني شاركت في تحرير الباد من الأوباش العرب!!.
عدت إلى القرية أبحث عن قبر أهلي وحبيبتي فلم أعثر
عليه. هناك من قال أن العصابات قامت بإحراق كل الجثث
عندما خرجت منها رائحة منتنة. وهناك من قال أنّهم جمعوها
وألقوا بها في الصحراء. وهناك من قال أنهم تأكدوا من أنّ
أسرتي يهوديّة وقتلت بالخطأ مع بعض الأسر اليهوديّة الأخرى،
الهجرة إلى الجحيم 81
فأخذوا هذه الجثث ودفنوها في المقابر اليهوديّة. وهكذا ضاعت
جثث أهلي وجثة حبيبتي إيريس. لذا تراني أجلس دائماً في
هذه الغرفة وبالقرب من المكان الذي وجدت فيه جثة إيربس.
كانت تضطجع هكذا؟!! تعانق أخي الصغير وصليبها يتدلى فوق
عنقه! اسمح لي يا صديقي أن أقبل الأرض التي كانت مطروحة
فوقها!! يا حبيبتي!! عرفت أنّها لجأت إلى بيتنا لتحتمي فيه
بأسرتنا. لم تعرف أنّ هؤلاء الوحوش أعداد لليهود الحقيقيين
بقدر ما هم أعداء للمسلمين والمسيحيين، بل أعداء لكل ما
هو إنساني في هذا العالم لذا لم أحاول أن أتقصى الحقائق
حول مقتل أسرتي وثاث أسر يهوديّة أخرى كانت تقيم في
القرية.
كنت مقتنعاً تماماً بما أقوله الآن لكنني سمعت أخباراً كثيرة
حول ذلك ولم أجادل فيها:
هناك من قال أنّهم لم يعرفوا أنّ في القرية أسراً يهوديّة
إلا بعد أن فتكوا بكل من لم تنقذه قدماه بالهرب. وهناك من
قال أنّهم لم يقتنعوا بولاء تلك الأسر لليهوديّة بدليل أنّها قبلت
بالإقامة في قرية أغلب سكانها من المسلمين والمسيحيين،
وليس هذا فقط، بل هناك زيجات مشتركة بين تلك الأسر
والأسر الأخرى. كما أنّهم وجدوا فتاة مسيحيّة تحمل صليباً في
بيتنا. والغريب في الأمر أنّها كانت كواحدة من أفراد البيت!!.
لم تهمّني كل هذه الأقاويل يا أركاديوش لأنني عرفت جيداً
من هم هؤلاء القتلة.
أظن أنني تجاوزت شيئاً هاماً لم أحدثك عنه. عندما عدت
من المستشفى وجدت المهاجرين يحتلّون كل بيوت القرية بما
82 الهجرة إلى الجحيم
في ذلك بيتنا!! أناس لم أسمع بهم ولم أرهم من قبل ومعظمهم
لا يجيدون حتى العبرية! دخلت إلى البيت كالمجنون. كان رجل
وامرأته وطفلاهما يقيمان فيه. صرخت في وجهي الرجل
والمرأة، باللغة العبرية ))هذا بيتي أخرجا منه هيّا((!! لم
يفهماني جيداً يا أركاديوش فأمسكت الرجل من طوق قميصه
بكلتا يدي وقذفت به خارج المنزل، وانثنيت إلى المرأة وقذفت
بها خلفه بينما هرب الطفان إلى الخارج من جرّاء الرعب
الذي انتابهما. كان الرجل وامرأته يقفان في اندهاش وذعر.
وعندما تبينّ لهما أنني يهودي ازدادا اندهاشاً وحيرة. اعتذرا
مني وذهبا يبحثان عن بيت آخر يقيمان فيه.
ومَرّ على ذلك اليوم أكثر من خمس وعشرين سنة ولا تزال
هذه الأسرة الصديقة الوحيدة لي هُنا. فقد عثرت على بيت
وأقامت فيه إلى أن بنت الدولة الأحياء الجديدة، فانتقلت إلى
بيت فيها.
لقد هدم معظم البيوت القديمة. لكنني أصررت على التشبث
بهذا البيت، قضيت كل هذه الأعوام فيه منقطعاً عن الناس.
أرسم وأنحت وأكتب في بعض الأحيان أو أقرأ، أو أجلس صامتاً
حزيناً أتأمل وجه إيريس وأتمثله أمامي. وأحياناً تنتابني بعض
لحظات الجنون التي حدثتك عنها، فأخرج إلى الشارع أصرخ
في المارّة وأسخر منهم أو أحرّضهم.
أعرف أنّ أسئلة كثيرة ما تزال تراودك يا أركاديوش. تريد أن
تعرف كيف ذهبت عيني وكيف إنكسرت ساقي ولم أخبرك عن
مصير جدّتي أليس كذلك؟!
الهجرة إلى الجحيم 83
قد لا تصدّق أنني نسيت جدّتي وسط هذا الركام من الجثث
والضحايا. وذات يوم دخلت إلى الغرفة التي كانت تخلد إليها
فتذكرتها. جاهدت لأن أتذكر جثتها مع الجثث التي وجدتها في
الغرفة لكنني لم أتذكرها. بل أذكر جيداً أنني لم أرّ غير جثث
والدي ووالدتي وإيريس وأخواتي وأخي الصغير، فأين ذهبت
جدّتي؟! هذا ما لم اعرفه حتى اليوم يا أركاديوش!!.
أمّا عن عيني اليسرى هذه يا صديقي فقد فقأتها بسكين
عندما انتابتني الحالة المخيفة التي حدثتك عنها، ولولا أن
بعض الناس هرعوا إلي وأمسكوني لفقأت عيني الاثنتين.
وأما ساقي اليمنى فهي محاولة انتحار، لقد ألقيت بنفسي من
الطابق الثالث لإحدى تلك البنايات الجديدة عندما تذكرت كل
ما جرى فانتابتني الحالة إياها. لم أمت انكسرت رجلي فقط...
بعد ذلك أقلعت عن الانتحار وضرب نفسي ولم أعد أفكّر
بذلك، أخذت أتلهى بالرسم والنحت والكتابة، أكتب بالإنكليزية
لأنني لا أجيد قواعد العربية ولا أحب العبرية!! في بعض الأحيان
أكتب شعراً لنفسي، لكنني أحس بضعف أدواتي فأفضل الرسم
والنحت. أحيا دائماً مع إيريس صورتها لا تبرح مخيلتي أبداً.
ولم أفكر في الزواج من غيرها. لقد تزوّجتها وأعيش معها
كزوج.
هذه قصتي باختصار يا أركاديوش. أرجو أن لا أكون قد أثقلت
على كاهلك بها. إنني سعيد لتعرّفي إليك وأنني ممتن لتعاطفك
معي لقد عشت مأساة لم أستطع نسيانها. ظلت عالقة بذاكرتي
فانعكست في لوحاتي ومنحوتاتي.
84 الهجرة إلى الجحيم
ذات يوم سأريك كل لوحاتي ومنحوتاتي، وهناك أشياء أخرى
لم أخبرك عنها. سأريك إيّاها. أظنّ أن موعد الانصراف إلى
طفليك قد حان!!
* * * * * *
الهجرة إلى الجحيم 85
- 7 -
ونهضت من عند أبراهام يا فداء. ودعته وانصرفت. قد لا
تعرف أي أثر هذا الذي تركته قصته في نفسي، سرت في
الطريق ممزقاً محطّماً لا أعرف أين أسير، وإحساس واحد
يخالجني وهو أنني أصبحت شريكاً في جريمة قتل وتشريد
الشعب الفلسطيني بقدومي إلى هذا الأرض!! كم جاهدت لأبعد
هذه الفكرة من رأسي، لكنني لم أستطع، وحتى الآن لم استطع،
ولهذا لم أستطع التعايش مع هذه المرأة الطيبة التي تقول أنّها
أمّك، فهربت من نظراتها. هربت من مذبحة دير ياسين التي
كنت أراها في شخصها!! إنني محطّم يا فداء، ممزق القلب،
لو تركتني انتحر وأقتل طفلَي لكان أهون علي من تذكّر كل هذا
الذي قصصته عليك والذي سأقصّه هذه الليلة.
قلت لك أنني لم أكن أعرف أين أسير في تلك الليلة؟ وقصة
أبراهام تطرق جمجمتي. لقد نسيت أنني عائد إلى البيت. جبت
شوارع كثيرة خيّل لي أنّها مغلقة في وجهي. أحسست بشيء من
الاختناق فخرجت إلى أطراف البلدة. جلست على الأرض متكئاً
على حجر. لو شاهدت اختلاجات وجهه وحركات يديه ونظرات
عينيه وهو يقص قصته لجننت!! أنا لم أنقل لك إلاّ اليسير مما
ورد على لسانه يا فداء، فعندما حدّثني عن مذبحة دير ياسين
أحسست من التعابير التي كانت ترتسم على وجهه أنني في
قلب المذبحة. أمّا ))إيريس(( هذا الجرح الكبير الذي ينزف
في أعماق قلبه، فكان حزنه لا يوصف عندما جاء على ذكرها.
أحنى رأسه إلى الأرض وأخذ يشير بيديه:
86 الهجرة إلى الجحيم
))هُنا كان رأسها، وشعرها كان منثوراً على الأرض وخصات
منه تمتد فوق وجهها... ويداها كانتا مبسوطتين وقد لامس
كفاهما الأرض. وجثة أخي الصغير كانت تحت ذراعها الأيمن
وصليبها يستقر فوق عنقه((.
وتمدد على الأرض يا فداء وبسط ذراعه وهو يقبّل الأرض
وينتحب منادياً بصوتٍ مفجع ))إيريس حبيبتي((!!
مكثت جالساً إلى أن بزغ الفجر، وأفكار شتّى تضطرب في
مخيلتي. كان عليّ أن أعود لأحضِّر فطوراً للطفلين وأيقظهما.
لقد اعتادا الحياة في البيت أكثر من أي مكان آخر، لكن
أحوالهما في المدرسة والروضة لم تكن على ما يرام. فإن
تأقلم داريوش مع الوضع الجديد في المدرسة، فإنّ جشيجوش
لم يقبل بالروضة حتى ذلك الحين. وتبينّ لي أنّه لا يذهب
إليها، ويقضي نهاره متسكعاً هُنا وهناك. فماذا أفعل يا فداء؟!!
وجدتهما نائمين. استرحت قلياً قبل أن أحضر لهما الشاي
والفطور...
* * * * * *
كان علي أن أذهب لأبحث عن عمل. نزلت مع الطفلين.
رجوت جشيجوش أن يذهب إلى الروضة فوعدني بذلك. تركتهما
يذهبان وانصرفت.
منذ الليلة الماضية مع أبراهام، أصبحت مغادرة هذا البلد
قضيّة أساسية تلح عليّ أكثر من ذي قبل، لذا فكرت في
الحصول على عمل استطيع أن أوفر منه بعض النقود لأسدّ
ديون السوخنوت وأسافر. وتبينّ لي أن القرض أكثر بكثير مما
استلمت. فقد تلقيّت إشعاراً فيما بعد يخبروني فيه أنّهم قيّدوا
الهجرة إلى الجحيم 87
على حسابي أجور السفر من فينا إلى هُنا. والمصاريف التي
انفقت علي خال ذلك، وأجرة البيت لمدّة سنة وتكاليف تعلّم
العبرية، علماً أنني لم أبدأ هذه الأخيرة بعد!! وكان هذا في
حدود عشرة آلاف ليرة!!.
لقد صعقني هذا الإشعار يا فداء! تصوّر أن كل هذه الديون
فوق كاهلي وقدماي لم تستقرا بعد على هذه الأرض. فكيف
لو فكرّت أن استلف نقوداً أخرى لأفرش البيت وأبتاع بعض
الأثاث؟ هذا يعني أنني سأبقى مديناً إلى الأبد، ولن أتمكن من
مغادرة هذا المسلخ نهائياً!!
لذا انصب كل جهدي على إيجاد العمل والتقتير في المصروف
مهما كانت الظروف، والبحث في نفس الوقت عن وسيلة قد
أتمكن من تهريب نفسي بها.
وقفت إلى جانب الشارع انتظر الباص. وعندما جاء هممت
لأصعد إليه. رأيت امرأة عربية تحل طفلاً إلى جانب من صدرها
وتحمل بعض الحاجيات في حقيبة صغيرة، فلم تعرف كيف
تصعد إلى الباص، فأسرعت لمساعدتها في حمل الطفل. ولم
أعرف أنني قمت بعمل منكر إلاّ بعد أن ارتفع اللغظ والاحتجاج
من قبل الركاب وأخذوا يزجرونني بنظرات شزرة، وأنا أقف
فاغراً فمي اندهاشاً. ويبدو أن المرأة اعتادت على الأمر، فقد
أخذت طفلها من بين يدي وهي تشكرني ولم يبد على وجهها
أي اندهاش أو أثر لمفاجأة.
غريب أمر هؤلاء الناس يا فداء. لقد خالجني إحساس
أنّهم ليسوا بشراً. تماماً كما ينعتون العرب. وهذا من أطرف
الأشياء التي سمعتها في إسرائيل. فبعض الناس هنا لا يعتبرون
88 الهجرة إلى الجحيم
العرب بشراً إنّهم يعتبرونهم ))عرب((!! ))إنّهم ليسوا بشراً إنهم
عرب((!! هذا ما قاله لي أحد أرباب العمل الذين يفضلون
تشغيل العُماّل العرب لصبرهم وجلدهم، عندما ذهبت إليه باحثاً
عن عمل!! وتأكد هذا الأمر لي فيما بعد، فتراهم يتحدثون عن
العربي وكأنّهم يتحدثون عن وحش ما!!.
جاهدت لأتناسى الأمر لكنني لم أتمكن. لا سيّما وأن الركاب
لم يحوّلوا نظراتهم عنيّ، فنزلت في أوّل موقف صادفني.
سرت في الشارع أنظر المارّة والبنايات. لفت انتباهي امرأة
تقف على شرفة بناية شاهقة وتهمّ لإلقاء نفسها. وقبل أن
أقرر أي شيء، كانت المرأة ترفع يديها وتقفز. يا إلهي!! وقفت
متسمراً في مكاني! ارتطم جسم المرأة بالشارع وأنا أنظر إيه.
ولا أعرف كيف رحت أجري في اتجاهها. كان بعض المارّة قد
سبقوني إليها. وعندما وصلت كانت قد لفظت أنفاسها.
لفت انتباهي ورقة بحجم الكف علّقتها على صدرها. كتب
عليها بخط كبير وباللغتين الروسيّة والعبريّة ))إلى الجحيم يا
إسرائيل(( وذيّلت الورقة بتوقيع ))مهاجرة سوفياتية((!!.
لا أعرف كيف شاهدت نفسي أنني أنا المنتحر، وقد علقت
نفس الورقة وكتبت في أسفلها ))مهاجر بولوني((!!
لم احتمل الوقوف ورحت أسير على غير هدى، حتى أن فكرة
البحث عن عمل لم تعد تراودني، ولم أعرف كيف وجدت نفسي
أسير إلى بيت أبراهام دون أن أشعر بذلك... كنت متعباً جداً.
لكنني لم أشعر بالنعاس. وجدت أبراهام نائماً وقد ترك الباب
مفتوحاً. لم أزعجه. استلقيت بالقرب منه وحاولت أن أنام.
* * * * * *
الهجرة إلى الجحيم 89
لا أعرف فيما إذا كنت نائماً أم تراودني أحام اليقظة، عندما
فتحت عيني لأرى أبراهام يمدُّ يده إلي بكأس من الشاي ويردد
اسمي. جلست...
قال أبراهام:
- ما الذي أتى بك؟
ارتشفت قلياً من الشاي وأخذت أحدّثه عن الحادثين اللذين
شاهدتهما هذا الصباح وعن قدومي إليه دون وعي...
غريب هذا الإنسان، فقد أخذ يضحك ويضحك إنّما بمرارة
وحزن. ضحك هستيري إذا جاز التعبير يا فداء. تريثت قلياً
إلى أن هدأ، وقلت متوساً:
- أبراهام أرجوك لماذا تضحك؟
سكت قلياً ووجهه يكتسى بملامح الجدّية، وهو ينظر إلي،
ثم قال:
- يبدو أنّك لم تعرف بعد أين أنت يا صديقي؟! حادث
انتحار يبعث فيك الريبة والدهشة. ماذا لو عرفت
أنه لا يمر يوم في ))إسرائيل(( إلا ويتحر فيه أحد،
وبأساليب وأشكال عجيبة. لا أبالغ إذا قلت لك أن حالات
الانتحار تزايدت في الآونة الأخيرة لتشكل أعلى نسبة
لها في العالم إذا ما قورنت بعدد السكان. فا تتفاجأ
يا صديقي ولا تجعل الريبة تدخل إلى نفسك. فأرض
الميعاد تضم آلاف اليائسين وآلاف العاهرات والقوّادين
وآلاف اللصوص ومدمني المخدرّات. يجب أن تعرف أية
أرض هذه التي جئت إليها يا أركاديوش.
- لكن لماذا يحدث كل هذا يا أبراهام؟!
90 الهجرة إلى الجحيم
- وماذا تأمل من أناس ينتمون إلى عشرات الجنسيات
ويتحدثون عشرات اللغات، ولكل فئة عاداتها وتقاليدها
وطقوسها؟! ماذا تأمل أن يحدث لهم عندما يلتقون على
أرض واحدة ولا يربطهم أي رابط مشترك سوى رباط
واهن واحد، اكتشف معظمهم زيفه؟!!
ماذا تأمل من أناس لم يعتادوا العمل اليدوي الشاق طوال
حياتهم، وجاءوا إلى هُنا ليحققوا طموحاتهم أو ليعملوا في نفس
مهنهم وحرفهم على الأقّل، لكنهم لم يتمكنّوا ولم يجدوا عماً
مناسباً، بل اكتشف معظمهم أنّه خدع. فماذا تأمل من هذا
الإنسان أن يفعل؟ وما تأثير كل هذا عليه، فإما أن يحتمل واقعه
أو يفكّر في الهرب؟ أو يصاب بعقد شتى تنعكس على نفسه
وعلى سلوكه مع الناس، وقد يتحوّل إلى لص أو قوّاد أو قاطع
طريق!!.
هناك فئات ينتمي أغلبها إلى يهود آسيا وإفريقيا ممنوع
عليها أن ترقى ولو درجة واحدة في سلّم المجتمع، لكي تبقى
حجر الأساس الذي سيقوم عليه هذا المجتمع!! وعلى الرغم
من الحواجز الكثيرة الموضوعة أمامها لم تقبل بالمرتبة التي
فرضت عليها. فكل يوم يهرب جزء منها وينضم إلى قطاع
الخدمات، فتضخم هذا الأخير إلى حد الانفجار!!.
ولا يمر يوم إلاّ وتنضب فيه الأيدي العاملة ولولا العماّل العرب
لوقعت الصهيونيّة في مشكلة خطيرة، لا سيمّا بعد أن اكتشف
اليهود اللعبة القذرة وأخذ المهاجرون منهم يتوافدون على
))إسرائيل(( قطرة قطرة!! فا يصلها أحد إلاّ مرغماً وبعد أن
تقفل كل الأبواب في وجهه كما حدث معك تماماً يا أركاديوش!!
الهجرة إلى الجحيم 91
- الحق يا صديقي أنّك زدتني حيرة. لم أكن أعرف أنني
جاهل إلى هذه الدرجة. يجب أن أهرب من هذا البلد
يا أبراهام، فليس في استطاعتي أن أعيش هُنا.
- لكن أبواب النجاة مقفلة!
- ألا تستطيع مساعدتي؟
- استطيع أن اساعدك في إيجاد عمل، لكن عليك أن
تقتصد إلى أقصى حدود الاقتصاد. علّك تجمع بعض
النقود لتتمكن من الهرب، وقد أساعدك مادياً حسب
إمكانيّاتي إذا وفقت في توفير بعض المال. لكنني
متشائم فهناك عقبات كثيرة أمامك واجتيازها يتطلّب
المعجزات، فبعد مضي ستة أشهر سيطلبونك إلى
التجنيد، وهذا لن تفلت منه قبل مضي ثاث سنوات
ونصف!! ثم عليك أن تناضل للحصول على جواز سفر،
وبعد ذلك عليك أن تناضل ليسمحوا لك بالخروج ولو
لمدة قصيرة، ولا تعرف ما هي القيود التي سيفرضونها
عليك ليضمنوا عودتك إلى الباد. وإذا ما مَرّت المُدّة
التي سيسمحون لك بها ولم تعد سيبلغون عصاباتهم في
الخارج لتلاحقك. أعرف طبيبة نفسية من يهود الاتحاد
السوفياتي هربت إلى المانيا فاختطفوها وأعادوها إلى
هُنا. إنّها أخطر مريضة في مستشفى الأمراض العقلية
الآن!!.
- يا إلهي أي جحيم هذا الذي جئت إليه؟ أبراهام ارجوك
لا استطيع الحياة هُنا، يجب أن تساعدني على الهرب
مهما كانت النتائج!!!
92 الهجرة إلى الجحيم
- لو كنت وحيداً لأصبح أمر تهريبك ممكناً، لكن بوجود
الطفلين سيكون ذلك مستحيلاً، فما عليك يا صديقي
إلا أن تواجه قدرك!!!
- يا رب السماء ما الذي أعماني؟ ما الذي أعماني!!!
- كفى يا صديقي! لا تلطم رأسك! تفاءل فأمامنا حوالي
أربعة أشهر قبل أن يطلبوك للتجنيد. قد تتغيّر الظروف
وقد أجد وسيلة تنقذك. هناك أصدقاء لي في القدس
سأحاول الاتصال بهم.
- أرجوك يا أبراهام.
- سأعمل كل جهدي لإنقاذك. الآن خذ عنوان هذا الصديق
واذهب إليه غداً. بلغة تحياتي واطلب منه أن يساعدك
في إيجاد عمل.
- أشكرك يا أبراهام.
- لكن كما قلت لك اقتصد أكثر من الازم ولا تنسَ أن
تزورني بين الفينة والأخرى. لم تطّلع على منحوتاتي
بعد، وهناك لوحات كثيرة لم ترها أيضاً. عدا بعض
الوثائق الهامّة. هيّا يا أركاديوش، أظن أن الطفلين قد
عادا إلى البيت الآن. فا تتأخر عليهما.
- أشكرك يا أبراهام. إلى اللقاء.
- مع السلامة يا صديقي.
- ماذا قلت؟
- خاطبتك بالعربية. ))مع السلامة يا صديقي((!
- وماذا علي أن أقول؟
- الله يسلمك!
الهجرة إلى الجحيم 93
- الله يسلمك يا أبراهام!
- هذا جيّد ستتعلم العربيّة قبل العبريّة.
- لا أظن أنني سأتعلّم شيئاً.
* * * * * *
94 الهجرة إلى الجحيم
- 8 -
أحسست أنني مرهق إلى درجة كبيرة يا فداء. كان علي
أن أبتاع مؤونة للبيت. عرجت على بقالة اشتريت خبزاً وبعض
المعلبات...
وجدت الطفلين في انتظاري. قلت لهما أنني مرهق ويجب أن
أنام. وأرشدتهما كيف يتدبّران أمرهما...
استلقيت على الفراش وأنا أجاهد لأن أنسى حديث أبراهام
لكني لم استطع. فكلماّ فرغت مخيلتي من استعادة قصة
دير ياسين، قفز إلى ذهني حديثه حول الانتحار والواقع في
))إسرائيل((. ونمت كما يبدو وكلماته تطرق مخيلتي. تتفتت
في أعماق وعيي تارة وتظهر على السطح تارة أخرى. أحاول
نسيانها لكنها تعود إلى الظهور من جديد سالكة طريق اللاشعور،
عاكسة صوراً شتى، متناقضة في أكثر الأحيان ومنسجمة في
أقلّها، مخيفة وسوداويّة في الأغلب، وباعثة على الاطمئنان في
حالات شبه نادرة.
لم أشعر أنني نمت إلاّ قلياً عندما استيقظت صبيحة اليوم
التالي. كنت مصدوعاً وجائعاً. تناولت قلياً من الخبز والجبن
مع الشاي. وأنا أتذكر بعض الصور المخيفة التي شاهدتها
أثناء نومي.
أخرجت العنوان الذي كتبه أبراهام من جيبي. ألقيت عليه
نظرة. قرأت اسم رجل أشير إلى جانبه أنّه مدير قسم الطلبة
في معهد التخنيون سررت كثراً. فالمعهد لا يبعد سوى كيلو
مترين ونصف عن مكان سكني.
الهجرة إلى الجحيم 95
سألت بعض الطاّب الذين كانوا يجوبون فناء المعهد عن
مكتب المدير. فأرشدوني إليه.
قرعت الباب. جاءني صوت من الداخل قائاً بالعبرية
))أدخل( فتحت الباب. كان رجل تبعث طلعته على الإرتياح.
وكالعادة كان علي أن أقول أنني لا أجيد العبرية. كان يجيد
الإنكليزية جيداً. قال:
- هل من خدمة أؤديها لك؟
فقلت:
- أجل يا سيّدي.
- ماذا؟
- لقد أرسلني إليك أبراهام!
كان يعبث ببعض الأوراق وما أن سمع باسم أبراهام حتى
توقف ورفع نظاراته عن عينيه ونظر إلي:
- أبراهام يشعياهو؟
ولم أتذكر كنية أبراهام فقلت:
- الحقيقية أنني نسيت كنيته يا سيّدي!
فقال:
- أليس هو هذا الرجل الذي لا يتكلّم مع الناس إلاّ في
بعض حالات الغضب وهو أعرج وأعور وملتحٍ؟!
- أجل يا سيدّي إنّه هو!
لحظتئذ وقف وصافحني مرحباً ودعاني إلى الجلوس.. قال:
- من أين تعرفه؟
- إنني مهاجر جديد وتعرّفت عليه بالصدفة!
- بالصدفة؟
96 الهجرة إلى الجحيم
- أجل!
- وكيف تكلّم إليك. الذي أعرفه عن هذا الرجل أنّه لا
يتكلّم مع أحد إلاّ ما ندر!
- أظن أنّه حسن حظي يا سيدي!
- أيه...!! لو تعرف كيف تعرّفت على هذا الرجل؟
ودون أن أطلب إليه أن يخبرني كيف تم ذلك. شرع يروي
لي قصته مع أبراهام. فتبين أنّه المستوطن الذي سكن بيت
أبراهام مع أسرته بعد احتال القرية عام 1948 .
فوجئ بي أقاطعه قائلاً:
- لقد عرفت القصّة من أبراهام يا سيّدي!
اندهش الرجل وقال:
- غريب! هل تعرف أن هذا الرجل لم يسمع أو يشاهد
يتحدث إلى أحد منذ مدّة طويلة؟!
- أعرف يا سيّدي!
- لكن كيف فتح قلبه لك؟
- قلت لك إنه حسن حظي يا سيدي. وأظن أنّه ارتاح
لي!!
- كم أحاول أن أبادله الحديث. لكنه لا يجيب. وعندما
اسمع أنّه خرج إلى الشارع وأخذ يصرخ في المارّة أو
يهزأ بهم لا أكاد أصدّق! كيف هو الآن؟
- إنّه بخير يا سيّدي.
- بلغه تحياتي وقل له أنني أرغب في التحدث إليه.
- سأبلغه يا سيّدي
- والآن أي خدمة يمكنني أن أسديها لك؟
الهجرة إلى الجحيم 97
- إنني أبحث عن عمل يا سيّدي.
- ماذا تجيد؟
- أنا أعمل ميكانيكي محرّكات سفن، لكنني لم أجد عماً
ضمن هذا المجال.
- ألم تذهب إلى مكتب العمل؟!
- لم أنتسب إليه يا سيّدي.
- ولماذا؟
- الحقيقة أنّهم وضعوا عراقيل كثيرة في طريقي.
واضطررت أن أوضح له الأمر، فقال:
- لكنهم سيلاحقونك إلى هُنا وستطالنا بعض المسؤولية
إذا ما عرفوا أننا شغلناك دون بطاقة عمل، أو حتى دون
الرجوع إليهم!!
ولم أعرف ماذا أقول. فظللت صامتاً للحظة. قال:
- سأشغلك وعندما يعلمون بالأمر سأعرف كيف أتصرّف
معهم!
- أشكرك يا سيدّي...
- لقد استقال حارس قسم الالكترونيات وهو أهم الأقسام
لدينا. سأضعك مكانه.
شكرته مَرّة أخرى.
- هل في الإمكان أن تباشر العمل منذ اليوم؟
- أجل يا سيّدي.
وأخذ يوضح لي طبيعة العمل. قال:
- واجبك تفتيش الطلبة وكل من يدخل إلى القسم من
الخارج خوفاً من تسلل بعض الارهابيين العرب لوضع
98 الهجرة إلى الجحيم
مواد ناسفة في المكان. وقد سبق أن حدثت بعض
الانفجارات هنا. لذا يجب أن تكون حذراً للغاية!!
سنعطيك مبلغ 700 شيكل شهرياً.
- شكراً سيدي!!
وباشرت العمل...
* * * * * *
كم أحسست بالإحراج وأنا اعترض طريق طالبة ماداً يدي:
- عفواً يا آنسة الحقيبة من فضلك!
اقتربت منّي وهي تفتح الحقيبة. ليس فيها إلاّ علبة سجائر
وعلبة محارم ودفتر وبعض أدوات التجميل. كان علي أن أفتح
علبة السجائر لأرى ما بداخلها، وكذلك مختلف الأشياء، يجب
أن أفتحها أو أتحسسها على الأقل. لكنني خجلت كثيراً وقلت
للفتاة.
- أنا آسف جداً تفضّلي!
ولم أعرف كيف سأستمر على هذا الحال. وخاصة عندما
رأيت أكثر من اثني عشر طالباً وطالبة يقدمون - فهل أطلب
إليهم الوقوف؟! ثم هل علي أن أعتذر لكل واحد بعد تفتيشه؟!
أحسَّ الطاّب أنني مرتبك بعض الشيء، وخاصة عندما
رأوني أعاملهم بمنتهى اللطف. فما يكاد أحدهم أن يفتح حقيبته
حتى أقول له ))شكراً، تفضّل أنا آسف((!!
اقتربت إحدى الطالبات منّي وخاطبتني بإنكليزية صرفة بعد
أن أغلقت حقيبتها، وبدا أنّها كانت تتأمل طريقتي في التفتيش:
))هذه المهنة لا تصلح لك((!!
الهجرة إلى الجحيم 99
وانصرفت. انصرفت دون أن أفهم منها لماذا! لكن طالباً آخر
- يبدو أنّه صديقها - سمع ما قالته. فقال بإنكليزية ركيكة
وكأنّه يكمل كلامها:
))فعلاً ! فأنت لا تبدو كرجل أمن((!!
وانصرف هو الآخر وأنا ابتسم ابتسامه بلهاء!! مَرّ كل الطُلاّب
فتنفست الصعداء وأنا أهيء نفسي لاستقبال دفعة جديدة.
أقبلت فتاة غاية في الجمال والرقَّة. وجه يطفح بالإنسانيّة.
كانت تسير على مهل وتفكّر في شيء ما، وعندما اقتربت منّي
مدت يدها بالحقيبة وهي تفتحها باليد الأخرى. فقلت لها
))العفو تفضليّ(( دون أن تكمل فتح الحقيبة. نظرت إلي في
شيء من الدهشة ويبدو أنّها أدركت حقيقتي، فابتسمت بعذوبة
لا تخلو من حزن وهي تقول ))شكراً((!
مَرّ اليوم هكذا... عدت إلى البيت. كان علي أن أذهب إلى
أبراهام لأشكره. لكن الطفلين أطلعاني على حادث عرفت أنّ
بطله الثاني ليس إلاّ أبراهام، فأجلت الذهاب إلى أن يعود إلى
هدوئه.
جلست مع الطفلين. قلت لداريوش )حَدّثني عماّ رأيته
بالتفصيل يا بابا((.
جاهد الطفل قليلاً لحصر أفكاره وأخذ يتكلّم.
100 الهجرة إلى الجحيم
- 9 -
كنت قادماً إلى البيت أنا وجشيجوش يا بابا عندما ظهرت
فتاة تشرع سكينين في يدها وتقف في منتصف الشارع.
انتحيت بجشيجوش ووقفنا جانباً. أخذ الناس يتجمعون من
حولها ويطلّون من الشرفات والأسطح ويقفون على السيّارات
وجانبي الشارع.
تركت جشيجوش واقفاً وحشرت نفسي أنا وأحد التلاميذ ين
الناس لكي نتمكن من المشاهدة. كانت الفتاة تصرخ في وجه
الناس بكلمات لم أفهمها. فسألت صديقي، فأخبرني أنّها تقول:
))لا تقتربوا أيّها البهائم!!((
لا استطيع أن أصف لك وجهها يا أبي فقد بدت كامرأة
متوحشة.
شرعت تنزع ملابسها. لم أصدّق ما تراه عيناي. وحينئذ ظهر
رجل كالوحش يا أبي. إنّه نفس الرجل الذي شاهدناه لحظة
وصولنا هُنا. أخذ يدفع الناس بيديه إلى أن اخترق الحلقة
فصرخ به أحدهم ))ابتعد يا أبراهام إنها متوحشة ستقتلك((
بيد أنّه لم يكترث لكلامهم فقد سار إلى أن وقف على مقربة
منها، فقالت له: ))اتركني يا أبراهام أرجوك(( يبدو أنّها تعرفه
يا أبي!!
ظلّ أبراهام واقفاً على مقربة منها بينما أخذت تكمل نزع
ملابسها إلى أن أصبحت عارية تماماً يا أبي، رددت بصوت
صارخ ))بهائم بهائم!!((.
وبسرعة فائقة مررت رأسي السكينين على طول نهديها!!
الهجرة إلى الجحيم 101
فأخذ الدم يقطر منهما... وحينئذ صرخ أبراهام بأعلى صوته:
))هذا أنتم أيها البهائم!! بل إنّ البهائم لا تصبر على الضيم
الذي تصبرون عليه!! شاهدوا أنفسكم جيداً، الفرق بينها وبينكم
هو أنّها قررت ألاّ تظل بهيمة مثلكم((!!!
مررت السكينيين على طول صدرها وعلى محيط خصرها
ثمّ على طول فخذيها فتضرّج جسدها بالدم. ولم أعد استطيع
النظر إليها. فأخفيت وجهي بين يدي وأنا أموت رعباً... وحينما
نظرت إليها مَرّة أخرى كانت تغمد السكينين في صدرها وتسقط
على الأرض. لحظتئذ هربت يا أبي، وشرعت في الصراخ بأعلى
صوتي... ولم أعرف ماذا حدث بعد ذلك...
بحثت عن جشيجوش كثيراً فلم أجده. وعندما عدت إلى
البيت وجدته ينتظرني على مدخل البناية.
لماذا لا تدعنا نعود إلى امّنا يا أبي؟!!
لماذا أتيت بنا إلى هُنا؟!
لماذا لا تجيبني يا أبي؟!!
102 الهجرة إلى الجحيم
- 10 -
لهذا لم أذهب إلى أبراهام يا فداء. قلت سأتركه إلى أن يهدأ،
فقد لا يكون مهيّأ لاستقبالي. لكنني ندمت لأنني لم أذهب في
نفس اليوم. فلقد اختفى ابراهام في اليوم التالي!! نعم اختفى
يا فداء!! سألت عنه كثيرين فلم يخبرني أحد أنّه رآه بعد حادث
انتحار الفتاة. وأكدَّوا لي أنّه ظل يصرخ في الناس لأكثر من
نصف ساعة ويحثّهم على النضال لتحرير أنفسهم قبل أن يحدث
لهم ما حدث لها!!
بعد عودتي من العمل ذهبت إلى بيته. كان الباب مطبقاً دون
قفل، فما أن دفعته حتى فتح. لم آر ما يدل على حدوث شيء
في البيت. انتظرت حوالي ساعة ولم يأت. قلت علّه يكون ذهب
لقضاء حاجة ما. فعدت إلى البيت. مكثت إلى أن انتصف الليل
وعدت. لم أجده. نعم لم أجده يا فداء. انتظرت ساعة أخرى
علّه يأتي، لكنه لم يأت، وظللت أتردد على البيت لمدّة أسبوع
وأنا أسال هُنا وهناك لم استدل على أي أثر لِسِّر اختفائه. لم
أفكر في إباغ البوليس أو أية جهة مسؤولة لأنني كنت أشك أن
يد السلطة هي اليد الوحيدة التي امتدت إلى أبراهام لتزهق
روحه سراً. أو لتضعه في غياهب السجون...
وكان كل هميّ أن أحصل على الدلائل التي تثبت تلك
الحقيقة. والتي قد تكشف المصير الذي آل إليه أبراهام، على
أيدي هؤلاء. لكن الطريق مغلق أمامي. فليس هناك أي طرفٍ
لخيط يمكنني أن أتمسك به سوى هذا الخيط المقطوع. أقصد
اللحظة التي شوهد فيها أثناء الحادث وما تا ذلك.
الهجرة إلى الجحيم 103
وأكدّ لي كل الذين سألتهم أنّهم لم يشاهدوا أيّة جهة تقدم
على اعتقاله، حتى أنّ بعضهم شاهده يذهب في اتجاه البيت.
هل هذا يعني أنّه اختفى خال الليل؟!
كان هناك خيط آخر لكنه مقطوع أيضاً. فكيف غادر البيت
وترك الباب مفتوحاً؟! أظن أنّه لم يعتد ذلك. فهل أخرج من
البيت قسراً، ولم يهتم أحد بإغاق الباب؟!
بحثت عن المفتاح فوجدته بعد جهد تحت طرف الفراش
الذي كان ينام عليه. لكن وجوده لم يضف شيئاً للأمر سوى
أنني أغلقت الباب بعد انصرافي.
* * * * * *
ذهبت إلى العمل وإحساس ما يدفعني لمقابلة المدير واطلاعه
على الأمر، علّه يساعدني في حَلِّ رموز اختفاء أبراهام على
الرغم من تأنيبه لي سابقاً لعدم إقدامي على تفتيش الطُاّب
بدقة.
صعدت إليه. طرقت الباب ودخلت. وما كدت أحييه حتى
بادرني قائاً:
- آه هل نفذت تعليماتي جيداً؟!
- أجل يا سيّدي! لقد أخذت افتش الطلاّب بدقة!
وفي الحقيقة أنني لم أكن كذلك حتى حينه.
- حسناً أنت تعرف المسؤولية التي سنتحمَّلها فيما لو
حدث شيء.
- أجل يا سيّدي!
- هل سمعت بحادث انتحار الفتاة؟
- أجل يا سيّدي!!
104 الهجرة إلى الجحيم
- يقولون أنّها سوفياتية رائعة الجمال!
- أجل يا سيدي!!!
- هل سمعت أن صديقك أبراهام ظهر إلى جانبها بينما
كانت تنتحر، وأخذ يصرخ في الناس؟
- نعم سمعت يا سيدي.
- ألم تبلّغه تحياتي وتخبره أنني شغلتك؟
- كلاّ يا سيّدي!
- لماذا؟
- لم أره يا سيّدي.
- لماذا لم تذهب إليه.
- لقد ذهبت لكنني لم أجده يا سيّدي!
- اذهب مَرّة أخرى!
- ذهبت عدّة مَرّات ولم أجده يا سيّدي.
- أين ذهب إذن؟
- لقد اختفى يا سيدي.
- اختفى؟!
- أجل يا سيّدي، وقد جئت إليك علّك تساعدني في
البحث عنه!
- هل حاولت أنت؟
- نعم يا سيدي لكنني لم أعثر على أي خيط قد يدلني
عليه.
- أيكون انتحر في مكان ما كتلك الفتاة؟
- كلاّ يا سيّدي، فأبراهام ليس من النوع الذي يقدم على
الانتحار الجسدي. إنّ له طريقته الخاصّة في الانتحار
الهجرة إلى الجحيم 105
إذا جاز التعبير.
- كيف؟
- طريقته في الحياة وتعامله مع الناس وسلوكه الخاص
ليس إلا أسلوباً شبه صوفي في الانتحار!!
- يبدو أنّك عرفت أبراهام جيداً يا أركاديوش!
- كلاّ يا سيّدي، فلم أعرفه جيداً بعد، وإن كان أطلعني
على أشياء هامّة أثرت على سلوكه وحياته.
- على ماذا أطلعك؟
- على بعض أهم الأحداث التي واجهها في حياته.
- أتظن أن هناك جهة ما وراء اختفائه
- أجل يا سيدي!
- من تكون؟
- لا أعرف يا سيّدي!!
- ألا يوجد هناك خيط يمكن متابعته؟
- كلا يا سيدّي.
- سمعت أن الفتاة التي انتحرت كانت تعرفه!!
- أظن أنها تعرف اسمه فقط. أو أنهّا سمعت عنه بعض
الأشياء. إنّما لا أظن أنّه كان يعرفها أو تعرفه جيداً.
- هل بلّغت الشرطة؟
- كلاّ يا سيّدي.
- لماذا؟
- لاعتقادي أنّهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً!!
- لماذا؟
- إنّها قضية غامضة يا سيّدي.
106 الهجرة إلى الجحيم
- أتشك أنّ للسلطة علاقة في الأمر؟
- لا أعرف يا سيدي!
- لماذا لا تصارحني يا أركاديوش؟
- اسمح لي يا سيّدي.
- أنت خائف؟!
- أجل يا سيّدي.
- هل كان أبراهام معادياً للصهيونيّة؟!
- أظن أن الجميع يعرفون هذا يا سيدي.
- أو تظن أن السلطة وراء اختفائه؟!
- مجرّد شك يا سيّدي.
- وبماذا تريدني أن أساعدك؟
- بأي شيء يجلي غموض الأمر يا سيّدي.
- فقط؟
- هناك شيء هام قد تستطيع مساعدتي فيه أيضاً!!
- ما هو؟
- لقد كان أبراهام فناناً عظيماً، عدا عن كونه انساناً
عظيماً، وكصديق وثق به أبراهام يدفعني الواجب أن لا
أدع قضية اختفائه تمر بسهولة.
- تقول أنّه كان فناناً عظيماً؟
- هذا ما اعتقده أنا على الأقل يا سيدي!
- ماذا كانت هوايته؟
- كان يرسم وينحت يا سيّدي.
- وأين أعماله؟
- في البيت يا سيّدي.
الهجرة إلى الجحيم 107
- وماذا في استطاعتك أن تفعل؟
- سأنظّم معرضاً لأعماله يا سيّدي وأعلن خلاله عن
اختفائه!
- هذه فكرة حسنة أين ستنظّم المعرض؟
- في الهواء الطلق يا سيّدي. أمام البيت!!
- هذا جيد! جيد جداً! وما هو دوري في ذلك؟
- أن تدعو طلاّب المعهد للقدوم أثناء الافتتاح.
- أعدك بذلك يا أركاديوش. متى ستنظّم المعرض؟
- قريباً. سأبلغك عندما يكون الأمر جاهزاً.
- ليكن يا أركاديوش.
- أرجو يا سيّدي أن لا يعرف الطُاّب أي شيء عن اختفاء
الفنان الذي سيحضرون معرضه. اريد مفاجأة الناس
والسلطة بالأمر. فقد تمنع السلطة افتتاح المعرض إذا
ما علمت مسبقاً.
- أرى أنّك بدأت تثق بي جداً يا أركاديوش!
- الحقيقة أنني كلّما تذكرت أن أبراهام هو الذي عَرّفني
عليك يا سيّدي ازدادت ثقتي بك!
- هات يدك يا أركاديوش!
وتصافحنا بحرارة. قال:
- أحييك يا أركاديوش. ثق أنني سأعمل كل جهدي
لمساعدتك، وقد أتمكن من معرفة حقيقة اختفاء
أبراهام.
- أشكرك يا سيدي. إلى اللقاء!
- إلى اللقاء. أركاديوش!
108 الهجرة إلى الجحيم
- نعم سيدي.
- ثق أنني لست حريصاً على أمن ))دولة إسرائيل(( لكنني
لا أحبّذ وضع عبوات ناسفة في مركز علمي كهذا. أرجو
أن تحترس للأمر!
- أجل يا سيدي!!
وعدت لأخذ مكاني في الحراسة. اعتذرت من الحارس
المناوب فقد تأخرَّت عليه قلياً..
* * * * * *
حادث فريد حصل معي ذلك اليوم يا فداء. يبدو أن
المناضلين في فلسطين لا يفوّتون فرصة إلاّ ويستغلونها. فبينما
كنت واقفاً، جاءَت تلك الفتاة الجميلة الرقيقة. كانت حقيبتها
ممتلئة قلياً. فوجئت بي أقوم بتفتيش شبه دقيق، فوقفت خلف
مجموعة من الطُاّب، وأرسلت إلي نظرة ذات معنى. نظرة تدل
على تساؤل ما!! فقد اعتادت أن تمر كل يوم دون تفتيش. وصلها
الدور. أخذت تفتح الحقيبة ببطء وعيناها مسلّطتان على عيني.
أحسست أنها تخفي شيئاً ما في الحقيبة، فقلت لها: ))انتظري
قلياً من فضلك(( فوقفت جانباً إلى أن انتهيت من الطُاَّب
الذين ازدحموا خلفها. مَرّ كل الطُاَّب والطالبات. أحسست أن
بعضهم كانوا ينظرون إليها ثم يزجرونني بشراسة!!.
نظرت إليها. كانت كل رقتها تتحول إلى غضب. ينعكس في
وجهها. وهي تزجرني وكأنها تقول ))حقير((! وكدت أصرخ
))لست حقيراً أذهبي وافعلي ما تشائين(( سألتها:
- ماذا تحملين في الحقيبة؟
الهجرة إلى الجحيم 109
فقالت بعد برهة صمت وهي تنظر إلي باشمئزاز وحقد
متفرّسة تقاطيع وجهي.
- لم أرَ في حياتي وجهاً يخفي الخسَّة والنذالة كما
يخفيهما وجهك هذا الذي خدعتنا به!! فأي إنسان
أنت؟!!
لم أفاجأ بالأمر فقلت:
- أرجو أن لا تتسرعي في الحكم علي يا آنسة. لكن
أرجوك ماذا تحملين في حقيبتك؟
- أو لم تعرف بعد أيها الخبيث بل الحريص جداً على
أمن أسيادك؟!
وجاء طالبان اضطررت أن أصمت إلى أن فتشتهما ومَرّا..
- أرجوك يا آنسة إذا كان لديك عبّوة ناسفة فاذهبي
وتخلّصي منها!!
- ماذا؟
- أجل اذهبي وتخلّصي منها.
- ألن تعتقلني؟
- كلاّ! افهميني!!
- أنا آسفة جداً على ما بدر منّي!!
- لا داعي للأسف هناك طالبتان قادمتان اصمتي!
مَرّت الطالبتان.
اسمعي! بقاؤك إلى جانبي قد يثير الشكوك، وانصرافك
دون الدخول إلى المعهد سيثير الشكوك أيضاً، دعيني أفتش
الحقيبة وادخلي إلى المعهد لكن بشرط أن تعديني ألاّ تضعي
العبّوة في الداخل!!.
110 الهجرة إلى الجحيم
- أعدك.
وعبثت في الحقيبة قليلاً وتركتها تدخل..
* * * * * *
ذهبت في المساء إلى بيت أبراهام. أشعلت النور. فكرّت
لأول مَرّة أن أدخل إلى الغرف المغلقة لأرى الأشياء التي لم
أرها: المنحوتات والرسومات الأخرى التي قال أنّه سيريني
إيّاها. لا أعرف لماذا لم يخطر لي أن أدخل إلى تلك الغرف
حتى الآن. أمن المعقول أنني سأجد جثته في إحداها الآن؟! يا
إلهي! أحسست بالخوف لمجرّد تخيّل جثته.
فتحت باب الغرفة الأولى. بحثت عن الضوء. عثرت عليه.
أشعلت الغرفة. أوّل ما رأت عيناي تمثالاً بحجم الإنسان يصرخ
بذعر ماداً يديه الاثنتين، إلى وجهي وقد فرج أصابعهما وكأنّه
يقول قف!! شعرت بريبة كبيرة وأنا أشيح بنظري عن التمثال
لأرى ما بداخل الغرفة، فانتصب أمامي تمثال آخر يصرخ
متألّماً وقد احتضن رأسه ببديه!! ألقيت نظرة سريعة على كل
ما تحتويه الغرفة:
- تمثال لامرأة مذبوحة وكأنّها شاه!!
- تمثال تتدلى أحشاؤه من بطنه!!
- تمثال يحمل ساقاً ويداً.
- تمثال يحتضن مجموعة من الجماجم.
- لوحة لامرأة تمارس الحب مع أربعة رجال.
- لوحة لامرأة لها عضو ذكر.
- لوحة لامرأة تمتطي عضواً كبيراً وكأنّها تمتطي حصاناً!!
- لوحة لرجل يبول على مجموعة من كبار ضباط الجيش
الهجرة إلى الجحيم 111
والشرطة ورجال السلطة!!
- لوحة كبيرة لإيريس عارية تماماً!!
- لوحة أخرى لإيريس بثياب فولكلوريّة فلسطينية.
- لوحة لمخيم يتسَّول في أروقته مجموعة من الأطفال.
- لوحة لساحة حرب مفروشة بالجثث.
- لوحة لحصان جامح بعكس عاصفة.
دخلت إلى غرفة أخرى، أشعلت النور. كانت تحتوي على
مجموعة من التماثيل واللوحات ))الفلسطينيّة(( الصغيرة
وعشرات الرفوف من الكتب. تنبهت إلى أن بعض الرفوف خالية
تماماً. وتبينّ لي عندما اقتربت منها أنّها أخليت حديثاً، فقد بدا
مكان المأخوذات شبه نظيف. أظن أنها ملفّات تحتوي معلومات
هامّة. كان أبراهام يجمع وثائق تدين الحركة الصهيونيّة كما
عرفت من مختلف اهتماماته.
بدا الغبار وقد شكّل خطوطاً بين مكان الملف والملف الذي
إلى جانبه بحيث في استطاعة المشاهد أن يميّزها بسهولة.
وبعد أن بحثت بين مختلف الأوراق وجدت بعض الوثائق الخاصّة
المتعلّقة بأسرته. وكانت هناك بعض الأوراق الخاصة أيضاً. ما
أدهشني هو تركهم لتلك الأوراق. فحسب معرفتي أن أجهزة
المخابرات تهتم بحياة الناس الخاصة. أم أنّها لم تعد بحاجة
إليها بعد أن وضعت حداً لحياة صاحبها؟! وكذلك كانت الحال
مع المنحوتات واللوحات، فهل سيتركونها هكذا؟!
أمسكت بملف الأوراق الخاصة وأخذت أقلّب أوراقه، طالعني
عنوان الصفحة الأولى وقد كتب بالإنكليزية، وبخط كبير:
))حبيبتي إيريس(( شدّني العنوان فأخذت أقرأ:
112 الهجرة إلى الجحيم
إيريس: يا قمري الذي غاب عن سحبي الداكنة!
يا شمسي التي لم يطل سطوعها على أرض حزني!
يا مطراً انقطع انهماره فوق صحرائي المجدبة!
إيريس: يا حبي الذي رحل وترك الحزن قطيعاً يرعى في
أحشاء قلبي!!
والعشق ناراً تضطرم في صدري!
إيريس: يا حُبّي الذي طار كالندى.
يا حبي الذي رحل مع السحاب.
يا طيفاً ملأ ذاكرتي!
يا حباً استقر في أعماق قلبي.
إيريس: يا عروساً أصبحت كل حياتي
استحضرتها في الصباح الباكر،
وبعيد الظهيرة؛
ونمت متوسداً نهديها!
رأيتها بين القطعان على سفوح الكرمل
ترفل في ثياب فلسطينيّة
وترقص على أنغام الموسيقى الشعبيّة:
تهزّ خصرها، فيتراقص نهداها الوادعان
كحمامتين أليفتين!
تمرح، تركض فوق العشب، تداعب
سنابل القمح، تستلقي بين
أعواد الزرع كأميرة ملائكيّة!!
إيريس: أحبّك!
ضمّي رأسك إلي ودعيني أهمس إليك:
الهجرة إلى الجحيم 113
أحبّك مع شروق الشمس وعند الغروب!
أحبك مع مطلع الفجر وعند الأفول!
أحبّك بعد الظهيرة وقبيل منتصف الليل!
أحبّك عند النهوض من النوم وبعيد الإخلاد!
أحبّك عند بزوغ القمر وبعد الغياب!
أحبّك صباحاً!
أحبك ظهيرة
أحبك مساء
أحبّك في يقظتي
أحبّك في نومي
أحبّك في حلمي
ولا أستطيع أن أهذي أثناء نومي
إلاّ باسمك!
أحبك! أحبك! أحبك!!
ولا استطيع إلاّ أن أحبّك يا حبيبتي!
هناك إلى الكهف المطل على الوادي
= حيث كنّا نلتقي =
نرقب الأشجار والحقول،
وقطعان الأغنام،
ونستمع إلى نايات الرعاة،
ونتبادل الكلمات الجميلة،
والهمسات العذبة،
والقبلات اللذيذة،
ثم ندخل إلى الكهف
114 الهجرة إلى الجحيم
ونقوم بفعل الحب !؟
هناك إلى ذلك الكهف
أذهب كل يوم!!
أعيش معك!
أبادلك الكلمات الجميلة!
والقبلات الملتهبة!
ونقوم بفعل الحب!!
انجبنا طفلاً يا إيريس!!
أسميناه إيروس!
جميلاً مثلك!
وديعاً كأبناء الآلهة!!
رقيقاً كورد الوادي!
خفيفاً كنسيم الهواء!
مفرحاً كرذاذ المطر
مشرقاً كبزوغ الشمس
ومطمئنا كظهور القمر
من تحت الغيوم!!
* * * * * *
وهكذا تبينّ لي أنّ أبراهام كان شاعراً أيضاً!! مررت بسرعة
على عدّة أوراق أخرى. كانت كُلّها قصائد حب عن إيريس. لم
أمعن النظر إليها. انتقلت إلى مجموعة رسائل نثرية من وإلى
راهب في القدس يدعى الأب ))إلياس(( كانت الرسائل عاديّة
جداً ويبدأ معظمها بعبارة ))الصديق العزيز(( اقتطعت العنوان
فقد يلزمني في المستقبل أو للبحث عن أبراهام.
الهجرة إلى الجحيم 115
لم أطل المكوث في العبث بالأوراق. بحثت عن أشياء أخرى.
لم أجد سوى بعض الصور له ولعائلته.
أقفلت البيت وعدت أدراجي لأحضرّ عشاء للطفلين. داهمتني
بعض الأفكار خال الطريق:
))أيكون أبراهام ذهب إلى القدس عند صديقه هذا؟!(( ))أم
يكون ذهب إلى الكهف الذي كان يلتقي فيه بحبيبته؟ واعتكف
هناك أو حدث له شيء ما؟!(( ))فهو يقول في قصائده أنّه كان
يذهب يومياً إلى هناك، يتذكرها ويحيا معها. لم أعرف فيما إذا
كان الأمر حقيقياً أم مجرد أشعار صورّتها مخيّلة فنان؟! لم يهدأ
بالي، لذا وضعت في اعتباري أن أذهب إلى المكانين عندما
تسنح الفرصة علّني اكتشف شيئاً!!((
* * * * * *
قلت للمدير أنني سأباشر في إقامة المعرض. أعطاني إجازة
لمدّة عشرة أيام، فشرعت في تنظيم المعرض.
استغرق معي إخراج اللوحات والمنحوتات حوالي ساعتين.
لم أفكّر كثيراً في طريقة عرضها: أسندت اللوحات إلى جدار
حجري كان أمام البيت، وإلى جذوع الأشجار وإلى جانب
الحجارة. أما المنحوتات والتماثيل فقد وضعتها هُنا وهناك
دون أن أسندها إلى شيء معيّن.
في الخامسة مساء أقبل مئات الطُاّب والطالبات يصحبهم
بعض الأساتذة، وقد هرع خلفهم بعض سكان المنطقة الذين أثار
توّجه الطُاب إلى أطراف البلدة فضولهم. فهرعوا يستطلعون
الأمر.
116 الهجرة إلى الجحيم
لا أكذب عليك يا فداء إذا قلت لك أنّ الناس أصيبوا بدهشة
كبيرة عندما رأوا المعرض، فأخذوا يسألون عن الفنان وأنا
أجيبهم أنّه سيحضر بعد قليل! لكن بعض سكان البلدة الذين
يعرفون أبراهام سّربوا بعض الأنباء عن اختفاء ))الفنان(( بعد
أن عرفوا أنّ هذا المعرض ليس إلاّ من نتاج جهده. فازداد الناس
حيرةً على حيرة وكثرت أسئلتهم. وهنا أشار المدير إلي لأطلع
الناس على جليّة الأمر.
لم أكن واثقاً من نفسي في نظم الكلام. لكنني أيقنت أن
اخلاصي لأبراهام سيدفعني إلى إيجاد الكلمات المناسبة بل
البسيطة والمعبّرة.
وقفت على الجدار وأخذت أتحدث دون أي تلكؤ بينما المدير
يترجم:
))أيتها الصديقات أيّها الأصدقاء. يا من أثبتم بقدومكم دون
أن تعرفوا من هو الفنّان الذي ستحضرون معرضه أنكم تعشقون
الفن وتحبون الحياة! بل تحبّون العدالة والصدق!!.
تسألون عن الفنان لتحاوروه أو تكرموه، وهذا من حقّه
وحقكم، فهو موجود في كلٍّ لوحة رأيتموها: في صرخة تلك
الفتاة، وفي حزن ذاك الطفل، وفي الآهات الملتاعة المنبعثة
من قبل هذا الرجل، ومن الألم الرهيب المنعكس على وجه تلك
المرأة مبقورة البطن...!!((
لقد اختفى أبراهام منذ عشرة أيّام أيّها الأصدقاء. اختفى
دون أن يترك أي أثر يدلنا على سر اختفائه. لكن أعماله وأفعاله
تقول لنا من هي الأيدي التي امتدت إليه لتخفيه من الوجود.
إنّها الأيدي التي كانت ترتجف لمجرّد رؤية أبراهام يدور في
الهجرة إلى الجحيم 117
شوارع حيفا، يصرخ في الناس، أو يسخر منهم معلناً الحقيقة!
إنّها الأيدي الملطخّة بدماء الأبرياء الذين رأيتموهم في لوحات
أبراهام ومنحوتاته. إنّها الأيدي التي رأت في هذه اللوحات
سرّ وجودها بل حقيقتها، فقامت بإخفاء أبراهام إمّا بقتله أو
اعتقاله((
))أيّها الأصدقاء. لدي الكثير عن أبراهام لأحدثكم عنه، منذ
أن رضع الشقاء إلى أن أصبح لغزاً. منذ أن تفتحت عيناه على
هذه الأرض وبذور الحقد تزرع في أرجائها إلى أن رأى الحقد
مخصباً على أرضها. لكنني لن أطيل عليكم((.
))كان أبراهام يرسم وينحت آلام شعبه، ويكتب أشعاراً لحبيبته،
دون أن يعرف أحد. لم يكن يبحث عن جاٍه أو وجاهة. كان يبحث
عن الحقيقة، والحقيقة فقط. فامتدت له الأيدي الآثمة، عندما
أيقنت أنّه أمسك بزمامها((.
))أيها الأصدقاء يا محبّي الفن ويا عاشقيه لقد دعاني
الواجب كصديق أحب أبراهام وأحبّه هو أن أقوم ببعض
التزاماتي تجاهه، فنظّمت هذا المعرض الذي شرّفه حضوركم.
فارفعوا أصواتكم يا أصدقائي ونادوا بالحُرّية لأبراهام إذا كان
حياً، وبالقصاص من الجناة إذا كان قتياً.
من القلب أشكركم، وأشكر كل الذين اسهموا في إقامة هذا
المعرض وإنجاحه((.
وما أن انتهيت من إلقاء الكلمة حتى رأيت الفتاة الجميلة
))صاحبة المتفجرة(( ترفع لافتة وقد كتبت عليها بخط كبير
وبثاث لغات ))أين أبراهام يا ))إسرائيل((! وخال لحظات
قليلة كتب الطُاّب عشرات اللافتات ورفعوها، وانطلقوا في
118 الهجرة إلى الجحيم
مسيرة كبيرة في اتجاه البلدة. وهناك انضم إليهم مئات الناس
فتحوّلت المسيرة إلى تظاهرة كبيرة تطالب بالحُرّية لأبراهام.
جابت المسيرة كل شوارع البلدة دون أن يعترض طريقها أحد
وانتهت بالتوجّه إلى مبنى البلديّة وقسم أمن المنطقة، فأعطت
وعوداً كاذبة بالبحث عن أبراهام.
في صباح اليوم التالي ظهرت الصحف وقد أبرزت خبر
اختفاء أبراهام في الصفحات الأولى والأخيرة، وقد ضمنته
بعض المعلومات عنه. كما نشرت صورة لي مع أحد الأخبار
وقد كتب تحتها ))صديق أبراهام الذي افتتح معرضه وأعلن
عن اختفائه((.
في المساء كان المعرض يغص بمئات الزائرين. أجبت على
مختلف استفساراتهم وأسئلتهم. كان معظمهم يسألون عمّا إذا
كانت اللوحات معروضة للبيع، فاضطررت إلى تعليق لافتة كتب
عليها أن اللوحات والتماثيل للعرض فقط. والحقيقة أنني احترت
كثيراً قبل اتخاذ هذا القرار ويا ليتني فعلت العكس!!.
عندما انتهى وقت المعرض كنت مرهقاً إلى درجة كبيرة.
كان علي أن أعيد المعروضات إلى البيت وأذهب لأحضرّ عشاء
للطفلين وأظل معهما إلى أن يناما وأعود لأنام في بيت أبراهام
حرصاً على اللوحات.
ومَرّت بضعة أيام بعد ذلك يا فداء. بضعة أيام حافلة
بالأحداث اضطررت بعدها إلى الهرب والاختفاء.
في مساء اليوم التالي زارتني الفتاة ))صاحبة العبوّة(( جاءَت
إلى المعرض. اختلت بي جانباً وأخذت تتحدث ببطء:
الهجرة إلى الجحيم 119
- 11 -
))لقد بدأت تسير في الطريق الصحيح يا أركاديوش!!!
الطريق الذي يقلق أعداءنا!! إنّه طريق صعب. لكنه الطريق
الوحيد المفتوح أمامنا، وليس أمامنا خيار غير النضال
للخاص من هذا الربق اللعين. لا أريد أن أطيل عليك. إليك
بعض المعلومات التي حصل عليها رفاقنا:
بالنسبة لأبراهام هناك معلومات مؤكدة أنّهم قاموا بقتله.
لكن كيف وأين ومن بالضبط فلم نتوصل إلى ذلك حتى الآن.
وفي الأيام القادمة قد نحصل على كل التفاصيل.
بالنسبة لك، تنتظرك أيام صعبة جداً يا أركاديوش. فقد
أتخذ قرار بمضايقتك وملاحقتك بل وتهديدك لتكف عن ذكر
اسم أبراهام، وقد يجبرونك على تلفيق قصة انتحار مدروسة
ليضعوا حداً لتساؤلات الناس. وإذا فشلوا في إقناعك بالقوّة
والارهاب لتعلن عن تلك القصّة التي سيلفقونها، قد يقدمون
على قتلك أو اعتقالك أو تهديدك، وقد يسرقون اللوحات ليطووا
الأمر، الشيء المؤكد هو أنّهم يريدونك أن تمتثل لإرادتهم الآن،
وكل شيء سيهون بعد ذلك.
وعرفنا أنهم اتخذوا قرارات أخرى منها:
- الإيعاز إلى مكتب العمل لملاحقتك وطردك من العمل
لعدم انتمائك إليه! والإيعاز إلى مكتب الحاخاميين
لإجبارك على ختن نفسك وختن طفليك، وإجبارك على
تأدية الشعائر الدينية ومختلف الطقوس، والتردد على
الكنيس وزيارة الحاخاميّة، والتقيّد بالعادات والتقاليد
120 الهجرة إلى الجحيم
اليهوديّة وتطبيقها داخل بيتك.
كذلك الإيعاز إلى مكتب التجنيد لإنجاز معاملتك في أسرع
وقت، لكي تؤدي الخدمة العسكرية التي يرون أنّها ستلعب دوراً
كبيراً في صقلك وتكوينك وإعادتك إلى الصواب!!
هذا ما حصلنا عليه وقررنا أن نطلعك عليه لتأخذ حذرك.
يجب أن نأخذ المعرض ونخفيه في مكان ما يا أركاديوش. كما
عليك أن تكون في غاية الحذر، وإذا أردت نصيحتي يجب أن
تختفي أنت وطفليك!
- لكن كيف سأختفي؟
- سنأخذ الطفلين ونضعهما عند إحدى الأسر، أمّا أنت
فستكون معنا!
- معكم أنتم؟
- أجل!
- لكنني لم أعرف ماذا انتم؟
- ستعرف فيما بعد إذا لم يكفك ما عرفته عنّا حتى الآن!
- هل هذا يعني أنّكِ تدعينني لكي أنتظم في صفوفكم؟
- بل أنني اعتبرك واحداً منّا!
- أرجوك يا آنسة! هل عرفت ظروفي؟
- أجل عرفتها كّلها!
- هل تعرفين أنّ لي زوجة وطفلة في بولونيا؟
- أعرف أعرف!!
- وكيف سأظل هُنا ولأكن مناضاً إلى جانبكم بينما
زوجتي وطفلتي في الخارج؟!
- هل أمامك خيار آخر؟
الهجرة إلى الجحيم 121
- الهروب فقط!!
- اسمح لي أن أقول لك - بغض النظر عن مخاطر
الهروب، وبغض النظر عن معارضتنا له لأنّه لا يحل
المشكلة - إننا لا نعرف أي طريق للهروب لنساعدك
بها!!.
- أنا آسف يا أنسة!
- إسمي راحيل!
- تشرفت بمعرفتك. إن ظروفي صعبة جداً. لقد أكّد لي
أبراهام كما أكدّت أنت. أنّه لا سبيل أمامنا إلاّ النضال.
لكن ظروفي صعبة، صعبة جداً. لو أنني تركت الطفلين
مع أمّهما لهان الأمر كثيراً. لكن كيف وأنا في هذه
الحال، كيف؟!
- إننا نقدر ظروفك يا أركاديوش وسنترك لك فرصة
الخيار بل مساعدتك على الهرب لكن الأمل ضعيف
جداً.
- هل تعتقدين أنهم سيقدمون على قتلي أو اعتقالي خال
الأيام السبعة القادمة؟!
- لا أظن! لأنّ إقدامهم على هذه الخطوة حالياً سيجعل
أصابع الاتهام تشير إليهم، لكنهم سيفعلون ذلك بعد
انتهاء المعرض وبعد أن تتلاشى قصّة أبراهام وتنسى.
الآن سيحاولون ارهابك أو تهديدك إذا لم توافق على ما
سيطرحونه عليك لتسكت على قصّة أبراهام.
- إذن أمهليني بضعة أيام لأفكرّ في الأمر على ضوء ما
يستجد من أمور.
122 الهجرة إلى الجحيم
- لكنها ستكون أياماً قاسية عليك كما أظن يا أركاديوش.
- سأحتمل طالما أن احتمال الموت ليس وارداً!
- على كل حال سنكلّف بعض رفاقنا أن يراقبوك لكي
نكون على علم بما سيحدث لك. إليك رقم هاتفي فقد
تحتاج إليه. إلى اللقاء.
- إلى اللقاء شكراً جزيلاً آنسة راحيل.
- العفو.
الهجرة إلى الجحيم 123
- 12 -
وذهبت الفتاة يا فداء - كنت أود إحضار الطفلين ليناما معي
في بيت أبراهام. لكن بعد الذي أطلعتني عليه راحيل. فضّلت
أن يظا في بيتنا لكي لا يريا ما سيحدث لي.
كنت جالساً في بيت أبراهام عندما طرق الباب حوالي
منتصف الليل. نهضت. رأيت مجموعة من المسلّحين يرتدون
الملابس المدنيّة يقفون خلف الباب. استأذن أحدهم للدخول
فأذنت لهم. دخل اثنان. جلسا في مواجهتي.
قال أحدهما مقدماً نفسه وجماعته:
- نحن من رجال الأمن وجئنا نطلعك على أمرٍ هام!
فقلت:
- بشأن أبراهام طبعاً!
- طبعاً طبعاً!!
- يا أهلاً! ماذا لديكم؟
- يؤسفنا أن نطلعك على ما أسفرت عنه تحريّاتنا يا
أركاديوش. لقد تأكد لنا أنّ أبراهام مات منتحراً!!!
- هل وجدتم جثته؟
- كلاّ كلاّ لكن إيجادها ليس بالشيء الصعب!
- إذن كيف عرفتم؟
- أوه يا صديقي هذا من أسرار عملنا. أو تريد أن نطلعك
على أساليبنا في البحث والتقصي؟
- لكن كيف سأصدق أنّه انتحر؟!
- لقد بحثنا عنه في كافة أنحاء إسرائيل فلم نجد له
124 الهجرة إلى الجحيم
أثراً!! والمعلومات المتوفرة لدينا تشير إلى أنّه شوهد
آخر مرّة يجوب الجبال الواقعة شرقي البلدة. وقد يكون
انتحر هناك فعاً!!
- هل بحثتم هناك؟
- كل شبر ولم نجد شيئاً!!
- ما هو المطلوب مني؟
- لا شيء يا صديقي! كل ما هنالك أن الناس يشيرون
بأصابع الاتهام إلينا وهذا ليس صحيحاً. سنعلن غداً
أننا توصلنا إلى بعض المعلومات عن اختفاء أبراهام
وسننشرها على المأ في حال اكتمالها. المطلوب
منك فقط أن تخبر الناس بذلك وتصدق قولنا أمامهم.
نحن نعيش في بلد ديمقراطي يا أركاديوش وليس من
المعقول أن تقدم أيّة جهة على قتل أبراهام لمعتقداته
الفكرية!!
- اسمح لي يا سيّد أن أخبرك بأنني لا استطيع أن أصادق
على قولكم أمام الناس طالما أنّ الاثباتات ليس كافية.
فما الذي سأقوله لهم إذا ما انهارت علي اسئلتهم؟!
لماذا لا تنتظرون إلى أن تسفر تحريّاتكم عن دلائل
مقنعة، فا نحرج أمام الناس؟!
- ألا تصدّق أننا نولي الأمر كل اهتمامنا يا أركاديوش؟
- بلى أصدِّق!
- ونحن لا نطلب منك غير هذا إذا ما سألك أحد.
- ليكن!
- أرأيت كم الأمر بسيط؟
الهجرة إلى الجحيم 125
وانصرفوا يا فداء. أجل انصرفوا معتقدين أنني سأصدق
أقوالهم أمام الناس.
في اليوم التالي ظهرت الصحف وقد أبرزت الخبر في
صفحاتها الأولى. لقد صيغ بطريقة تؤكد على براءة السلطة
من دم أبراهام وتوحي بأنّه مات منتحراً، والغريب في الأمر
أنّهم يقولون أن كافة المعلومات التي حصلوا عليها قد وضعت
بين يدي وأنني لا أشك في صحتها!!
تصوّر ما أغباهم كان يجب ألاّ يضيفوا هذه الفقرة الأخيرة
))أنني لا أشك في صحتها(( لكي لا يلفتوا انتباه الناس إلى أن
هناك ما يثير الشك في المعلومات التي وضعت بين يدي!!
وعندما سألني الناس، لم أؤكد ما جاء في الخبر طبعاً. بل
نفيته نفياً قاطعاً، مما أثار حالة من النقمة على السلطة.
وفي ذلك اليوم أيضاً استدعاني المدير وأبلغني أنّه لم يحصل
على أية معلومات بشأن اختفاء أبراهام وسألني عن مدى صحة
ما نشر في الصحف فأطلعته على حقيقة الأمر. استاء كثيراً
وطلب إلي أن أكون حذراً، وأبدي معذرته لعدم تمكنه من فعل
شيء يحسم الأمر.
عدت إلى البيت. حضرت إلي امرأة لم اتوقع قدومها. إنّها
المرأة التي شاهدتها في مكتب العمل يا فداء. نفس المرأة
التي أحضرت لتتأكد من رجولتي!!
لا تعرف عن أي إنسانة تجلّت تلك المخلوقة. أخذت تنتحب
وتحدّثني عن الجحيم الذي تحياه وتعتذر منّي. فاعتذرت لها
بدوري عن تصرّفي.
126 الهجرة إلى الجحيم
لقد جاءَت لتخبرني أن مكتب العمل اتخّذ قراراً بملاحقتي
وإغاق كافة مجالات العمل أمامي، وإنّه سيطالب بطردي من
المعهد خال اليومين القادمين.
شكرتها كثيراً. صافحتني بحرارة وانصرفت. أحسست أنها
تتألم!! بعد حوالي ساعة من قدومها إلي عرفت أنّها ألقت
بنفسها أمام حافلة كانت تمر على سكّة الحديد، وانتحرت!!
* * * * * *
في الليل ذهبت لأنام في بيت أبراهام. جاءوا في نفس الوقت
الذي حضروا فيه الليلة السابقة. قال رئيسهم:
- لماذا نقضت الاتفاق يا أركاديوش؟
قلت:
- لم أنقض الاتفاق أنتم الذين نقضتموه
- كيف نقضناه؟
- لقد نشرتم أشياء لم نتفق عليها!!
حد جنى بنظرة تحمل الكثير من التهديد وقال:
- أركاديوش!!
قلت ))نعم(( وأنا أنظر إليه، فقال:
- يجب أن تفهم أن عداءَك لنا سيقودك إلى الهلاك!
- أنا لا أعاديكم!
- إذن ما الذي تفعله؟
- إنني أبحث عن صديقي هذا كل ما في الأمر!
- لكنك تحمّلنا مسؤولية اختفاء ذاك الصديق!
- إلى أن تثبتوا براءتكم!!
وهنا صفعني على وجهي بكل قوّته وهو يردد:
الهجرة إلى الجحيم 127
- حقير! سنثبت لك أن صديقك هذا انتحر هرباً من
الحياة!!
لم أتكلّم. كان الغضب يتفجّر في داخلي. وعاد الرجل يتودد
إلي مبدياً أسفه لما حدث!!
- أنا أسف يا أركاديوش. أمهلنا أسبوعاً وسترى كيف
سنتوصل إلى تأكيد انتحار أبراهام. عدا ذلك ستكسب
صداقتنا، وستحوز على ثقة الدولة، فتمنحك كل رعاية
ومساعدة. أنت مهاجر جيد وبحاجة إلى عمل وبيت
ومال لتحضر زوجتك وطفلتك أليس كذلك؟ فلماذا لا
تثق بدولتك، بل وتتهمها لتقبر مستقبلك بيديك؟!
- ماذا تريدون منّي أرجوك؟
- لا نريد إلا أن تثق بنا. فقط!
- لا أعرف لماذا تهمّكم ثقتي إلى هذا الحد!
- ألم تعرف بعد يا أركاديوش؟ لقد أصبحت قضيّة أبراهام
تهم بعض الأدباء والفنانين والمثقفين في ))إسرائيل((،
ولا نسمح لأي إنسان يجعل هؤلاء يشكّكون ولو للحظة
في أنّ الدولة لا تقدّم لهم كل الرعاية والحماية، بل
وحُريّة الرأي والمعتقد!!
كنت سأقول له إن الشعب كلّه قد لا يثق مطلقاً بدولتكم
))اللهم عدا الذين ارضعوا حليب الصهيونية(( فكيف بالفنانين
والأدباء الملتزمين بقضايا الإنسان، لكنني فضَّلت الاحجام على
التحدث في هذا الأمر.. تابع قائاً:
- هل فهمت يا اركاديوش؟ ماذا تقول؟
- إذا كان الأمر بهذه الأهميّة، فإنني أمهلكم شهراً وليس
128 الهجرة إلى الجحيم
أسبوعاً فقط، إنّما يجب أن أعرف خلاله كيف مات
أبراهام؟!
- أننا نعدك بذلك يا أركاديوش. إذا حصلت لك أيّة
مضايقات في العمل أو في البيت فأخبرنا بذلك!! هل
أنت بحاجة إلى مساعدة أو شيء ما!!
- كلاّ شكراً.
ونظر إلي وهو يهم للمغادرة وأكد قائلاً:
- أمامك طريقان الآن يا أركاديوش. فإمّا السعادة وإمّا
الشقاء، ولا أظن أنّك بحاجة لأن أنصحك مَرّة أخرى أي
الطريقين تسلك!! وانصرف مع رجاله!
* * * * * *
ظللت جالساً أفكّر في نواياهم. يبدو أن هناك عقدة ما لم
يستطيعوا حلّها لتلفيق قصّة الانتحار. عقدة ربّما بحاجة إلى
دلائل تثبتها، فارتأوا تأجيل طرحها علي إلى أن ينتهي المعرض.
فبانتهائه تأخذ قصة أبراهام طريقها إلى النسيان. حينئذ
سيسهل تلفيق القصص وقد يسهل ترويضي وهذا الأهم لديهم.
تركيزهم على البحث عن أبراهام في الجبل جعلني أشك
أنّهم قتلوه وأخفوا جثته هناك. فليس اعتباطاً أن يأتوا على
ذكر الجبال ويؤكدوا أن أبراهام شوهد للمَرّة الأخيرة هناك. وما
قولهم حول بحث المنطقة شبراً شبراً إلا محض افتراء.
والسؤال الذي ألح علي هو: هل ذهب أبراهام إلى هناك
بمحض إرادته أم قسراً.
وهنا خطرت لي قصيدة أبراهام التي يقول فيها أنّه يذهب
الهجرة إلى الجحيم 129
إلى الكهف الذي كان يلتقي فيه بإيريس. بحثت عن القصيدة.
أمعنت النظر في كلماتها. ولا أعرف كيف تخيّلت جثة أبراهام
في الكهف إيّاه. رأيته ممدداً في هدوء كما رأيته آخر مَرّة!!
لم يغمض لي جفن بعد ذلك. مكثت الليل دون أن تفارقني
صورة أبراهام. يجب أن أذهب إلى الجبل علّني أعثر على
الكهف.
ذهبت إلى البيت. أرسلت الطفلين إلى مدرستيهما وخرجت...
شاهدت وأنا أسير في الطريق إلى بيت أبراهام حادثاً
مروّعاً. كان بعض الشباب ينهالون على فتاة حليقة الرأس ضرباً
بالعصي. تجمّع الناس من حولهم لكن أحداً لم يتدخل. كانت
الفتاة تصرخ ))لماذا إنّه يعلّمني قيادة السيّارة؟!(( فيقولون لها
))تعلّمي عندنا لا عند العرب!!((.
لم أفقه شيئاً. ماتت الفتاة بين أيديهم وراحوا يجّرونها في
اتجاه بيت أهلها كما يبدو. نعم يا فداء لقد ماتت!! سألت أحد
الناس عن الأمر فقال:
))الحقيرة وجدوها تتعلّم قيادة السيّارة مع شاب عربي،
فقتلوه وحلقوا رأسها، لكنها لم تعترف بسوء تصرّفها فكان هذا
مصيرها!!((.
لم أنبس ببنت شفة!! أكملت طريقي إلى بيت أبراهام
والغضب يجتاح كياني مما رأيته!.
كتبت على ورقة أن المعرض سيفتح مساء فقط وعلقتها.
فقد كنت أفتح المعرض صباحاً عندما لا أكون مشغولاً. لكن
الروّاد كانوا قليلين.
130 الهجرة إلى الجحيم
تأكدت أنني لست مراقباً وعرجت صوب الجبال الشرقيّة.
* * * * * *
وقفت على سفح أحد الجبال ورسمت خطاً وهمياً يمتد من
بيت أبراهام إلى المكان الذي أقف فيه. أحسست أنّ أبراهام
لم يكن يسلك هذه الطريق، لذا لن أستدل على الكهف.
فأخذت أرسم الخطوط الوهميّة من البيت إلى مختلف التال
وأنا أتكهن الطريق التي كان يسلكها أبراهام متخيّاً إيّاه يسير
فيها. فانتابني الإحساس الأول، فلم أتمثله يسير في أي من تلك
الطرق، ولم تكن هناك معالم واضحة لطرق يمكن أن يستدل
بها.
جلست للحظة افكّر. كانت القصيدة معي. أخرجتها:
))هناك إلى الكهف المطل على الوادي حيث كنّا نلتقي...((
هذا الشطر من القصيدة كان يستوقفني دائماً، إنّه يعني
أن المكان مرتفع، ولا سيمّا أنّ أبراهام كان يحب الطبيعة، ولا
شك أنّه كان يختار المكان الذي يتيح له مشاهدة أكثر المناطق
جمالاً وأكثر المراعي وقطعان الأغنام كما يقول.
أعدت رسم الخط الوهمي منطلقاً من بيته منتهياً إلى أعلى
نقطة في سلسلة الجبال ))يا إلهي ها هو!! إنني أراه يقدم من
البيت ويصعد ذاك السفح!! إنّه يقف على قمّة الجبال!! إنّه
يعانق إيريس!!((
لم أتخيّلهما فقط يا فداء! لقد تمثلتهما وكأنني أراهما أمام
عيني شاهدتهما كطيرين كبيرين فوق قمّة الجبل!!
نهضت أحث الخطأ في نفس الاتجاه وأنا أتمنى أن لا يخونني
الهجرة إلى الجحيم 131
حدسي. بلغت أعلى المرتفعات في حوالي ساعة. توقفت ألتقط
أنفاسي وأنا أرسل نظري إلى مختلف الجهات. رأيت حيفا بين
أحضان البحر وسفوح الكرمل. لم أطل النظر كان كل همّي أن
أجد الكهف. ألقيت نظرة على الوادي فالسفح الذي أعلوه. تبينّ
لي أنّه في استطاعة المرء أن يشرف على الوادي من أماكن
عدّة. فأي مكان هذا الذي كان أبراهام يقصده من بينها؟ حتى
أن الأماكن المرتفعة بدت كثيرة هي الأخرى. احترت في الأمر
وأحسست أنني أخطأت الحدس، فلم يكن الوضع كما تخيلته
من السفح، ولم أعد قادراً على تحديد أعلى نقطة في سلسلة
الجبال. كانت متشابهة إلى حد كبير من حيث الارتفاع، وقد
انتشرت فيها أشجار الصنوبر. فأي كهف هذا الذي سأعثر
عليه في هذه الغابات؟!
وبينما أنا في حيرة من أمري سمعت عزف ناي. سرت بضع
خطوات لأطل على المكان الذي سمعت فيه العزف. شاهدت
قطيعاً صغيراً من المعز لكنني لم أر الراعي. اقتربت من
القطيع وأنا اتجه إلى مصدر الصوت. رأيت الراعي يجلس إلى
جذع شجرة ويعزف.
توقف عن العزف عندما رآني. دنوت منه. نهض ليصافحني
حييته قائاً ))شالوم(( فأجابني بالمثل. سألته مستعيناً بحركات
يدي فيما إذا كان يجيد لغة غير العبرية. فأخبرني أنّه يتكلّم
العربية. وحينئذ سألته إن كان عربياً، فأجاب ))نعم(( لفظها
بعربية سليمة كما أظن أخبرته أنني لا أجيدها. فاحتار كلانا
ولم نعرف كيف نتفاهم.
بعد برهة تبينّ لي أنّه يجيد من المفردات بالإنكليزية أضعاف
132 الهجرة إلى الجحيم
ما أجيده بالعبرية. فأخذت أتحدث إليه مستعيناً بالإشارة، وما
أن رسمت له شكل أبراهام بشعر ذقنه الطويل وعينه العوراء
وساقه العرجاء وعكّازة حتى قال:
- أبراهام أبراهام أعرفه إنّه صديقي!!
- صديقك؟!
- أجل أجل!!
- ألا تعرف أين هو؟
- لم أره منذ حوالي أسبوعين!
- هل رأيته قبل ذلك؟
- أجل أجل! جاء إلى هُنا وشربت وإيّاه الحليب وأكلنا
البسكويت ثم عزفت له فأخذ يبكي.
- وبعد ذلك؟
- ودّعني وأنصرف!
- أمتأكد أنت؟
- كل التأكيد.
- ألا تظن أنّه عاد في الأيام التالية؟
- أظن أنّه عاد حتماً. فكلّما أسرح بقطيعي إلى هنا ألتقي
به، لكنني غبت عنه ثلاثة أيام سرحت خلالها إلى مراع
أخرى. فأشتقت إليه بعد ذلك وسرحت إلى هُنا، ومنذ
ذلك اليوم وأنا أسرح إلى هُنا لكنه لم يأتِ.
- اسمع!
- ماذا؟
- لقد اختفى أبراهام منذ حوالي أسبوعين ولم نجده!
- اختفى؟
الهجرة إلى الجحيم 133
- أجل أجل. هل تعرف الكهف الذي كان يقصده هُنا؟
- ماذا؟
فأخذت ارسم له شكل كهف. قال:
- أوه أجل ))كهف(( إنّه بيت إيريس وأبراهام!!
- ماذا قلت؟
- الكهف الذي كان يلتقي فيه بإيريس. انني اسمِّيه بيتهما،
لأنّه يقضي فيه الكثير من الوقت!
- وهل تعرف إيريس؟
- أجل أجل أعرفها. كنت طفاً، وكانت هي وأبراهام في
ريعان الشباب عندما كانا يأتيان ويمرحان هُنا!!
- أوه!!
- ماذا؟
- لا شيء! هل كان يتحدث إليك عن حياته وعن إيريس؟
- كل شيء. كان يحيا معها دائماً إلى درجة أنّه كان يشعرني
أنّها تجلس معنا وهو يتحدث إلي!!
وأدركت حينئذ أن هذا الراعي هو الشخص الذي أخبرني
أبراهام أنّه لم يتحدث إلا معه طوال الأعوام المنصرمة. فقلت
لأجزم بالأمر:
- هل كان أبراهام يتحدث لأحد غيرك؟
- كلاّ. لم يتحدث إلاّ إلي منذ أكثر من خمس وعشرين
سنة. وكان هناك صديق في القدس كان يراسله في
بعض الأحيان. لكنه مات منذ أكثر من عقد ونصف.
- ما اسمه؟
- الأب إلياس؟
134 الهجرة إلى الجحيم
- ألا تعرف ما هي علاقته بأبراهام؟
- إنّه خال إيريس!!
- أوه! فعلاً أنّه لم يتحدث إلاّ لك. هل تعرف أين الكهف؟
- إنّه هناك!
وأشار بنايةِ إلى مكان يبعد عنّا حوالي كيلو متر واحد. فقلت:
- ألم تدخل إلى الكهف خلال الأيام الماضية؟
- كلا!
- لماذا؟
وصمت برهة وكأنه يبحث عن جواب مناسب! قال:
- لم أعتد الدخول إلى الكهف في غياب أبراهام، فهو
كبيتة تماماً. ومن عاداتنا ألاّ ندخل بيوت الناس إذا لم
يكونوا فيها. كما أنني أشعر برهبة وأبراهام إلى جانبي
فكيف إذا ما دخلت الكهف. وحدي؟!
- وما الذي يجعلك تشعر بهذه الرهبة.
- تمثال إيريس!!
- ماذا قلت؟
- تمثال إيريس!! هكذا انظر! تمثال أفهمت؟!
- يا إلهي! يبدو أنّك تعرف عن أبراهام أضعاف ما أعرفه
أنا عنه ألا تصحبني إلى الكهف؟
- لكنني أخاف دخوله. فكم من مرّة رجاني أبراهام أن
أدخل لأضيء الشموع إلى جانب التمثال فاعتذرت
بشتى الوسائل!!
- أرجوك انهض فلن تخاف وأنت معي.
ونهضنا. تمنيت لو أنّ لي جناحين لأطير إلى الكهف
الهجرة إلى الجحيم 135
بأقصى سرعة.
* * * * * *
وصلنا إلى مكان مرتفع بعض الشيء تتناثر فيه بعض أشجار
الصنوبر. أشار الراعي بيده إلى مجموعة متقاربة من الصخور
متوسطة الحجم. تقدمنا في اتجاهها... سرنا بينها قلياً.
قال الراعي: ))هذا هو الكهف((!
لم يكن الباب كبيراً وعلى جانبيه بدت صخرتان ليستا
كبيرتين أيضاً. وقد علت عتبته صخرة كبيرة منبسطة. كان
الكهف محفوراً في الصخر منذ التاريخ القديم كما يبدو.
اضطررت إلى حني ظهري وأنا أدخل. تجاوزت العتبة وجلست
جانباً فاسحاً المجال للراعي ليجلس إلى جانبي. شعرت بالرعب
عندما نظرت إلى الداخل بينما الراعي يأخذ مكانه إلى جانبي.
كان هناك بصيص ضوء شمعتين ينبعث من عمق الكهف وقد
أنارتا جانبي التمثال، وبدت المسافة التي تفصل بيننا وبين
هذا البصيص مظلمة تماماً، وإن كان خيط من شعاع الشمس
يتسلل عبر ثقب فوق الباب.
أمسك الراعي بذراعي من شدّة الخوف الذي انتابه.
قلت بصوت خفيف:
- أبراهام!
كررت مرّة أخرى بصوت أعلى:
- ابراهام!!
جاءني رجع الصوت يتردد من عمق الكهف. لم يرد أحد.
قلت مَرّة أخرى:
- أبراهام هل أنت هُنا؟
136 الهجرة إلى الجحيم
لم يجبني أحد!
أشعلت مجموعة من أعواد الثقاف وأشعل الراعي مجموعة
أخرى. نظرنا فيما حولنا. بانت لنا جدران الكهف. تقدّمت
ببطء. انطفأت أعواد الثقاب ونحن لم نقطع سوى ثلث المسافة
إلى التمثال. أشعلنا مجموعة أخرى وتقدمنا، وقبل أن تنطفئ،
شاهدت أمامي كتلة سوداء ممددة ارتج لها كل جسدي من هول
الرعب، وأحسست أن شعر رأسي وقف مقشعراً...
ظللت محدّقاً إلى أن لسعتني النار التي أتت على أعواد
الثقاب. أشعلنا مجموعة أخرى ونحن نقترب من الكتلة السوداء.
تجلت لي بكل وضوح عن هيكل بشري محروق لم يبقى منه إلاّ
العظام.
كان الراي متجمّداً من الرعب، أما أنا فقد أخذت اتمالك
نفسي شيئاً فشيئاً.
تركت الراعي جالساً وجاهدت لكي أخطو في اتجاه التمثال
لأحضر الشمعة، أو أشعل مزيداً من الشموع إذا وجدت.
خطوت بضع خطوات وأنا أنظر في ما حولي. أحسست
برهبة كبيرة وأنا أدنو من التمثال. كانت هناك شموع كثيرة
موضوعة على جانبيه أخذت مجموعة منها وبدأت في إشعالها
من الشمعتين المشتعلتين. تنّبهت إلى أن الشمعتين قد اشعلتا
منذ مدّة قريبة، قد لا تزيد على الساعة فلم تستهلك النار أكثر
من ربع الشمعة الواحدة، فمن الذي اشعلهما؟ هذا ما أخذ
يشغل فكري.
أخذت اشعل الشموع وأضعها في أماكن مختلفة قلت للراعي:
الهجرة إلى الجحيم 137
- ألم ترَ أحداً في المنطقة هذا اليوم؟
تبينّ لي أنّه ما زال خائفاً فقد قال متأتئاً:
- لا لم أرَ!
- أظن أنّك وصلت بقطيعك إلى هُنا متأخراً!
- أجل لم أصل إلاّ منذ حوالي ساعة.
- حسنا يا صديقي. ألن تطرد الخوف وتنهض لتشعل
معي بعض الشموع؟
- أتعتقد أنّ أحداً جاء وأشعل الشمعتين؟
- طبعاً! من أشعلهما إذن؟
اشعلت أكثر من عشر شمعات. ويبدو أنّ الراعي أخذ يتمالك
نفسه فقد نهض وأخذ يشعل المزيد من الشموع... أضأنا
الكهف تماماً. اقتربنا من الجثة ونحن نحمل شمعتين أخريين.
كانت النار قد أتت على اللحم تماماً ولم يبق غير العظام.
تحسستها بأصابعي. لم تكن متفحمّة فما تزال تحتفظ بشيء
من صلابتها. لكن ليس من السهل التعرف على الجثة.
أخذت أنظر فيما حولي علّني أرى عصا أبراهام، لم أرها.
لكن أثر وطء أقدام كثيرة ودثر التراب كان واضحاً حول الجثة
وكأنّهم كانوا يرقصون حولها وهي تحترق.
قال الراعي:
- أتظن أنّها جثة أبراهام؟!
فقلت!
- أجل يا صديقي ستكون جثّة من إذن؟
- لا هذا غير معقول!!
وأخذ ينتحب، فقلت:
138 الهجرة إلى الجحيم
- ليس الآن وقت بكاء يا صديقي. يجب أن نعثر على
شيء يثبت أنّ الجثة جثة أبراهام والأهم من هذا أن
نعرف من هي الجهة التي أقدمت على حرقه. أظن أنّ
هذا الذي أضاء الشمعتين يعرف الحقيقة كُلّها.
مددت يدي أتحسس اللحم المتفحم حول عنق الجثة.
قال الراعي:
- ماذا تفعل؟
- لاحظت أن أبراهام كان يضع في عنقه سلسلة ذهبيّة
تنتهي بخارطة فلسطين ملصقة على صليب، فقد أعثر
عليه إذا لم يشاهدوه.
- أجل أنّه صليب إيريس. لقد احتفظ به أبراهام وألصق
عليه خارطة فلسطين فيما بعد!!
- وهل تعرف هذا أيضاً؟
- أجل ألم أخبرك أنني أعرف كل شيء عن أبراهام.
- حسناً يا صديقي. هذه هي السلسلة! لكن كيف نخرجها
من عنقه؟
- لا أدري!
رفعت السلسلة إلى أعلى. باعدت بين طرفيها ورددتها إلى
الوراء. لم يبق إلاّ أن أسحبها من تحت الجمجمة.
- هل ستسحبها؟
- أجل!
- ستحرّك راس أبراهام!
- وماذا في الأمر؟
- حرام أرجوك!
الهجرة إلى الجحيم 139
- يا صديقي لقد رحل أبراهام ولن تتألم عظامه إذا
حرّكناها؟!
- كلاّ أرجوك! فالميت يحس بكل شيء. حاول أن تحلّها
حاً فهذا اسهل إذا كان لا بد منها لإثبات شخصيته!
وحاولت أن أفكّها نزولاً عند رغبته لكنني لم أعرف من أي
فسحبتها ببطء. تحرّكت الجمجمة ومالت على جنبها، غمر
الراعي وجهه بيديه وهو يقول ))يا يسوع! أغفر لنا يا أبراهام((!
وأخذ يرسم علامة الصليب:
فقلت:
- ما اسمك؟
- جوليات!!
- يا صديقي جوليات إذا كانت هذه حالك الآن فكيف
عندما نجمع عظام أبراهام وندفنها؟!
- كلاّ أرجوك سنتركها كما هي ونبني فوقها قبراً!!
- لكن ليس من المعقول أن تظل هكذا، يجب أن ندفنها
إلى أن يتم بناء القبر!
- أفعل ما يحلو لك يا صديقي!
نظفت السلسلة من الرماد. كانت نفس السلسلة دون أدنى
شك.
قلت لجوليات متسائلاً:
- أتظن أن أبراهام أقدم على الانتحار بحرق نفسه؟
فقال!
- هذا مستحيل! لقد أقلع أبراهام عن الانتحار منذ مدّة
طويلة، بعد أن انتحر عدّة مرّات ولم يمت، فأخذ ينتحر
140 الهجرة إلى الجحيم
بطريقته هذه في الحياة. الانتحار في الفن! كنت أحس
به ينتحر وهو ينحت!!
- هل كنت تراه وهو يقوم بعمله؟
- أوه! لقد واكبت أعماله منذ أوّل ضربة شاكوش على
جدار هذا الكهف إلى أن انتهى كما هو عليه الآن.
حينئذ ألقيت نظرة سريعة على مختلف جدران الكهف الواسع.
فتنبهت إلى أنّها حوّلت إلى منحوتات مختلفة. منحوتات كبيرة
في حجمها، مخيفة في بعض أشكالها، باعثة على الاطمئنان
في أشكال أخرى.
قلت لجوليات:
- منذ متى بدأ أبراهام في نحت هذه التماثيل؟
- منذ أكثر من خمس وعشرين سنة.
- ومتى انتهى منها؟
- منذ أقل من سنة!!
- يا إلهي! أي إنسان هذا كان أبراهام يشعياهو؟ ونهت
أتأمل التماثيل بسرعة. بدأ لي شكل الكهف مستطيلاً
إلى حدٍ ما ويرتفع سقفه حوالي ثلاثة أمتار. في صدره
من الداخل كان تمثال إيريس تضم طفاً جمياً!
أيكون ))إيروس((؟! ))أنجبنا طفاً يا إيريس أسميناه
))إيروس(( هذا ما يقوله في قصيدته التي قرأتها
سالفاً. كم كان الطفل جمياً كما وصفه تماماً. لكن
وجهه لا يخلو من حزن. حزن مجهول ليس هناك ما
يدل على مبعثه ضمن المنحوتة كُلّها. كان هذا الحزن
يظهر على وجه إيريس، لكن ابتسامة ما كانت تخالطه.
الهجرة إلى الجحيم 141
ابتسامة امتزج فيها الحزن بالفرح فبدت كشيء من
السحر. وكان الوجه هادئاً تماماً وقد استرخت أساريره.
لكن الغريب في الأمر أن العينين لم تكونا مسترخيتين،
كانتا تسهمان إلى شيء ما، فهما لا تسهمان في فراغ،
لا بُدّ من وجود شيء مجسّد تتطلعان إليه، لكنه بعيد
كما يبدو!!
- وهذه السلسلة إيّاها وقد أضيفت إليها خارطة فلسطين
فوق الصليب. كانت تتدلى من عنق إيريس وتستقر على
صدرها فوق قبّة الثوب المزيّنة بالنقوش الفلسطينيّة،
فبدت وكأنها طرزت طرزاً. وكانت إيريس تضم
الطفل إلى صدرها بيد بينما اليد الأخرى تتدلى إلى
جنبها. أمّا قدماها فكانتا راسختين بثبات في الأرض.
أحسست بهيبة التمثال وأنا ألقي عليه نظرة شاملة.
هيبة تبعث الرهبة في النفس. كان الشعر مفروقاً من
منتصف الرأس وقد غطت جزءاً منه كوفيّة نسائيّة،
زينّت بالحلي. وقد زيّن أبراهام جانبي التمثال بنقوش
فولكلوريّة.
انتقلت إلى الجدران الأخرى. على أحد الجدارين الجانبين
كانت هناك منحوتة على عرض الحائط يظهر فيها أبراهام
وإيريس والراعي وإيروس.
كانت إيريس محور المنحوتة فقد برزت متقدّمة بشموخ من
منتصفها وهي، تقود إيروس من يده بينما سار أبراهام عن
يمينها وجوليات عن يسارها وقد حمل نايه في إحدى يديه.
وفي عمق المنحوتة كانت بعض الجثث المطروحة على الأرض
142 الهجرة إلى الجحيم
وبعض رؤوس المعز!!
كانوا كُلّهم ينظرون إلى شيء ما خارج المنحوتة إلى درجة
أنني اضطرت أن أنظر إلى الاتجاه الذي ينظرون إليه فلم أر غير
التماثيل المقابلة، لكن أنظارهم لم تكن موجهة إليها حتماً. وقد
لمست هذا البعد في مختلف اعمال أبراهام. فمعظم شخوصه
ينظرون إلى شيء ما خارج اللوحة والمنحوتة، مما يجبر المرء
على تخيّل بعدٍ آخر عدا الأبعاد المنظورة في العمل، لذا من
الصعب فهم الأبعاد ))المنظورة(( دون التفكير والتأمل في
الأبعاد ))غير المنظورة(( التي يوحي بها العمل، والعكس كذلك
أيضاً... لم يكن لدي وقت لأقف كثيراً أمام هذه الروائع!!
ألقيت نظرة على الجدار المقابل. كانت منحوتة كبيرة أخرى
لساحة صراع بين رجال ونساء وحيوانات مختلفة من ناحية
وقوى شرّيرة من ناحية أخرى!!
وعلى جدار الباب من الداخل كانت هناك منحوتتان لامرأتين
إلى جانبي الباب. إحدى المرأتين كانت تشبه العذراء إلى حدٍ
كبير، بينما الأخرى كانت مجهولة تماماً. أظن أنّها أم أبراهام!!
نظرت إلى السقف فوجدت أنّه مأه بالنقوش أيضاً. نقوش
لأشياء منذ ما قبل التاريخ إلى أن تنتهي بنقوش معاصرة.
أرضيّة النقوش كانت خارطة فلسطين وقد غطّت سقف الكهف
كلّه تقريباً!!
قلت لجوليات!
- إذن كان أبراهام يأتي كل يوم إلى هُنا لينحت في
الهجرة إلى الجحيم 143
ا لصخر ؟
- أجل يا صديقي. ومن المؤسف أن يموت هكذا!!
- ليس من المؤسف فقط يا جوليات بل من المفجع يا
عزيزي. فنان كأبراهام يجب أن تنكس له أعام دول
عندما يموت، لأن أمثاله نادرون في عالمنا الحالي.
- أجل يا..
وتردد ليذكر اسمي وعيناه تغرورقان بالدموع، فقلت:
- أركاديوش. أركاديوش بولدليفسكي!
- أجل يا صديقي بودليفسكي!
- بصفتك كنت تعرف أبراهام جيدا، من تتوقع أنّه أقدم
على قتله؟
- لم يكن لأبراهام أعداء غير الصهيونيّة!
- أمتأكد من هذا؟
- كل التأكيد يا أركاديوش.
- وكيف يمكننا أن نثبت هذا؟
- لا أعرف!
- ماذا تقترح أن نفعل الآن؟
- ما تراه أنت!
- يجب أن ندفن جثمان أبراهام. إنّما انتظرني سأذهب
إلى البيت لأحضر آلة تصوير وأدوات حفر. كما أود
استشارة بعض الأصدقاء قبل الإقدام على الدفن.
- بالنسبة لأدوات الحفر في استطاعتي أن أحضرها من
قريتنا فهي أقرب من البلدة.
144 الهجرة إلى الجحيم
خرجنا من الكهف وافترقنا على أمل اللقاء بعد ساعتين على
الأكثر.
* * * * * *
اتصلت على الرقم الذي اعطتني إيّاه الآنسة راحيل لأكلّمها
عند الضرورة. لم أجدها. لكن الفتاة التي ردّت على الهاتف
قالت أنّها تستطيع أن تجدها إذا كان المر ضرورياً. فقلت لها
أنني موجود في البيت إلى أن تأتي.
حضرت راحيل بعد حوالي نصف ساعة. قالت:
- أين أنت كنت أبحث عنك؟!
- لماذا؟
- جاءَتنا معلومات أنّهم أحرقوا أبراهام في الجبل!!
- معلوماتكم صحيحة يا راحيل!
- كيف عرفت؟
وأخذت أحدّثها بكل ما شاهدته، وما جرى معي بدءاً بقدوم
رجال الأمن وانتهاء بالعثور على جثة أبراهام.
قالت:
- ماذا ستفعل الآن؟
قلت:
- هذا ما اتصلت بك من أجله.
- ماذا لو قمنا بدفن جثة أبراهام دون أن يعلم أحد وتركنا
نشر الخبر على المأ إلى أن نحصل على أدلّة قاطعة
تثبت جريمة السلطة؟!
- ما هي المعلومات التي حصلتم عليها حتى الآن؟
- معلومات عامّة. فلم نعرف حتى الآن أي واحد من الذين
الهجرة إلى الجحيم 145
أقدموا على الجريمة أو الذين خططوا لها. ومعرفة
أنهم قاموا بحرق أبراهام في الجبل دون إثبات الدلائل
ستكون غير مقنعة إذا نشرناها.
- هناك شخص يعرف الحقيقة كاملة يا راحيل!
- من هو؟
- الذي أضاء الشمعتين!
- لكن كيف نعثر عليه؟!
- لا بد أنّه خائف من شيء وإلاّ لجاء وأطلعني يبدو أنّه
أحد رجال السلطة الذين اشمئزوا كثيراً من الحادث!!
وصمتنا قليلاً. قالت:
- وماذا لو فعلنا العكس. أقصد أن نخبر السلطة أننا
عثرنا على الجثة محروقة في الجبل؟!
- هذا ما أفكّر فيه. يبدو أن السلطة لا تريد لهذا الأمر
أن يتم. فلو أرادت ذلك لقالت للناس أنّها عثرت على
الجثة محروقة في الكهف منذ أن ثارت الضجّة. أو
لأرسلت شخصاً ليأتي ويبلغ الناس ويبلغها أنّه عثر على
الجثة بالصدفة. لكن، هناك شيء ما يخيف السلطة
من التطرق إلى قصة الحرق دون إيجاد المبرر الذي
ينقذ موقفها. هذا يعني أنّها تفضّل أن تبقى القضيّة
مجهولة ما لم تتوفر تلك الدلائل والمبررات المقنعة.
- إذن سنخدم السلطة فيما لو قمنا بدفن أبراهام دون
إعام أحد؟!
- أجل وكذلك قد نخدمها إذا ما أخبرناها أننا عثرنا على
الجثة، فقد تتهمنا نحن، وليس من المستبعد أن يعتقلوني
146 الهجرة إلى الجحيم
ويقولوا أنني أنا الذي قتلت أبراهام! فباستطاعتهم أن
يلفقوا كل شيء.
- ألم تقل لي أنّهم طلبوا منك مدّة أسبوع ليثبتوا انتحار
أبراهام؟
- أجل.
- ألا تلاحظ أنّهم حددوا الوقت بعد انتهاء المعرض
ببضعة أيام؟!
- أجل الاحظ ذلك وهو يرجح تكهنّاتنا السابقة.
- إذن لن يقدموا على شيء قبل ذلك.
- هذا ما أعتقده.
- أرى أن ندفن أبراهام لنوقعهم في حيرة إذا ما فكرّوا في
الإعان عن الأمر. ويجب أن نخفي كل ما في المعرض
من لوحات ومنحوتات قبل يوم من انتهائه. أظن أنّهم
يفكّرون في سرقة اللوحات لإخفاء كل ما يمت لأبراهام
بصلة، لكي تطمس قضيته. وكذلك يجب أن تختفي أنت
قبل أن يحدث لك ما حدث له.
وذهبت أنا وراحيل وصديق آخر استدعته هي. تركنا مفتاح
البيت مع أحد الأصدقاء ليفتح المعرض إذا ما تأخرنا...
* * * * * *
وجدنا جوليات جالساً بالقرب من الكهف مع أحد أصدقائه.
لم نتمهل. دخلنا إلى الكهف وشرعنا في حفر القبر أمام تمثال
إيريس.
التقطت عدّة صور للجثة كما صوّرت جدران الكهف وسقفه
الهجرة إلى الجحيم 147
لففنا الجثة بقطعة من القماش الأبيض وأنزلناها داخل القبر
دون تابوت. ثمّ أهلنا التراب عليها. ساوينا سطح القبر بالأرض
لكي لا يكتشف القبر من قبل أي كائن!!
ذهب جوليات وجاء ببعض أغصان الشجر لكي نخفي أثارنا
قدر الإمكان. حملنا الأدوات وخرجنا بينما جوليات يخفي موطئ
أقدامنا بجر أغصان الشجر خلفنا، وهو يردد باكياً:
))وداعاً يا أبراهام وداعاً يا صديقي العزيز الطيّب. لن أغيب
عنك كثيراً ولن أبتعد عنك بعد اليوم... سأسرح بقطيعي إلى
جوارك... واعزف على نايي من أجلك. وسأبني لك قبراً عظيماً
ذات يوم...((.
ودّعنا جوليات والدموع تنحدر على وجناتنا. فلم نعد قادرين
على كبحها بعد مشاهدة جوليات يبكي بحرقة... ودعناه بحرارة
وانصرفنا.
قلت لراحيل ونحن ننزل الجبل:
- ماذا لو راقبونا وعرفوا كل شيء؟!
فقالت:
- رفاقنا يقولون أنّ الاستخبارات لم تضعك تحت الرقابة
حتى الان. وهذا من حسن حظنّا. أما نحن فلسنا
مكشوفين.
وصلنا إلى البلدة... أعطيت الأفام التي صوّرتها لراحيل.
وكذلك أعطيتها سلسلة أبراهام. وقبل أن تنصرف دعتني لتناول
العشاء بعد انتهاء المعرض. أخبرتها أنني لا أستطيع القدوم
إلاّ إذا اقنعت الطفلين بالبقاء وحدهما، فقالت سأحضر إليك
148 الهجرة إلى الجحيم
وسنرى، قد نأخذهما معنا.
والحقيقة أنني كنت أرغب في التملّص من الدعوة لأنني
لم أكن مهيئاً نفسياً!! أما بالنسبة للطفلين فقد اعتادا النوم
وحدهما منذ أن بدأت أنام في بيت أبراهام. وكنت افكّر في
قضاء هذه الليلة معهما.
افترقنا على أمل اللقاء ليلاً...
* * * * * *
ذهبت إلى البيت لأطمئن على الطفلين. وجدتهما في حالة
سيئة جداً. كانا قلقين وقد بكيا كثيراً. ولم يتناولا على الغذاء
سوى سندويشتين من الجبن.
قال داريوش وأنا أتأمل حالته المزرية:
- لماذا تخفي علينا أشياء كثيرة يا أبي؟!
- أنا لا أخفي عليكما شيئاً يا حبيبي!!
- إذن لماذا لا تدعنا نعود إلى أمّنا أو تدعها تأتي إلينا؟
- سنعود إليها يا بابا!
- متى؟
- قريباً يا حبيبي!
- لم نعد نحتمل يا بابا. فلم نأكل اللحم منذ مدّة طويلة!
وحرمتنا من كل الأشياء التي كانت متوفرة لدينا عند
أمّنا. إذا كنت تكذب علينا فسأموّت نفسي!
- لا يا بابا لا يا حبيبي. لا أكذب عليكما: سنعود قريباً.
أنا الذي أخبرت أمّك أن لا تأتي يا بابا، لأن الحياة
هناك أجمل!!
ومكثت مدّة طويلة ألاطفهما... كم تغيّرت صحتهما يا فداء.
الهجرة إلى الجحيم 149
كانا كوردتين عندما جئنا. أنظر إلى وجهيهما الآن!! يا حبيبي!!.
أخبرني داريوش أنّ رجاً يرتدي اللباس الديني جاء يسأل
عنيّ. لم أكترث للأمر. عملت لهما شاياً وجلست معهما...
ظللت ألاطفهما لأطرد الكآبة والريبة من وجهيهما ولأبعث
شيئاً من الطمأنينة في نفسيهما..
كان موعد افتتاح المعرض قد مضى عليه أكثر من ساعة دون
أن أتنبّه لذلك. فنهضت لأذهب وقد اصطحبت الطفلين معي.
وجدت الصديق قد فتح المعرض وجلس فيه. كان هناك
بعض الروّاد... ولم أكد أجلس حتى رأيت راحيل تقدم...
لم أر في حياتي وجهاً يبعث الاطمئنان والفرح كوجهها. لا
أعرف كيف قلت لها وأنا أصافحها:
- أجلسي أمامي لكي أتأمل وجهك!
فقالت:
- ماذا؟
فتجاهلت تساؤلها وقلت:
- هذا السحر الذي يطفح منه يملأني بشعور تخالجه
الطمأنينة والفرح!
هكذا؟ إنّه غزل!
- أجل غزل إنّما قد يعبّر عن الحقيقة!!
وجلست أمامي على أريكة صغيرة في بيت أبراهام، ومدّت
يديها لتمسك بيدي الاثنتين وهي تقول:
- إذن تأمله كما تريد!
وجلسنا لبرهة هكذا فبدونا كالعشاق. ويبدو أنّها أحسّت
بذلك. فقد قالت:
150 الهجرة إلى الجحيم
- ألا نبدو كعاشقين؟
- أجل إنني أعشق كل شيء فيك يا راحيل! ولم تعرف
ماذا تقول. يبدو أنّها أحسّت أنّ الأمر كان مفاجئاً...
ابتسمت بعذوبة وهي تشد على يدي لبرهة ثم تسحب
يديها وتنهض.
انتظرنا إلى أن أقفل المعرض. أدخلنا اللوحات إلى البيت
وذهبنا...
قالت راحيل:
- لنأخذ الطفلين معنا.
فقلت:
- لكنهما لن يستطيعا أن يسهرا.
- هناك مكان في البيت وفي استطاعتهما أن يناما.
- هل هذا يعني أننا سننام هُناك؟
- لماذا لا؟
- ليكن!
أخذنا سيّارة تكسي وذهبنا إلى بيتها.
* * * * * *
كان البيت متواضعاً لكنه واسع. عند الباب استقبلتنا فتاتان.
قالت راحيل أنّهما زميلتان لها في المعهد وتقيمان معها في
البيت...
دخلنا إلى صالون لم أر فيه ولا كنبة. فالفراش كان على
الطريقة العربيّة إلى حد ما ))أي على الأرض((! فبدأ جمياً
ومريحاً. وقد علّقت على الحائط صورة كبيرة لكارل ماركس
وصورة بنفس الحجم للينين. وكانت هناك صورة أخرى
الهجرة إلى الجحيم 151
لجيفارا... نزعنا أحذيتنا وجلسنا. بدا الطفان فرحين. لا
أعرف لماذا!!
جلست الفتاتان في مواجهتي بينما جلست راحيل إلى جانبي
الأيمن. وكان الطفان إلى جانبي الأيسر.
قالت راحيل مكمّلة التعارف وهي تشير إلى إحدى الفتاتين:
- ))سارة داود(( يهوديّة من سوريا. طالبة سنة أخيرة
رياضيّات... أرادت أن تتزوّج من يهودي متديّن
فأخضعوها لعمليّة ))عماد وتنظيف(( بأن جعلوها
تستحم في مسبح ))العذارى اليهوديّات(( سبع مَرّات
على سبعة أيّام متتالية. وعندما سمعت خطيبها يبتهل
إلى الله أثناء الصاة قائاً: ))الحمد لله يا رب الذي لم
تخلقني امرأة أو حماراً أو أي حيوان آخر(( طار صوابها
وهربت تاركة الخطيب يكمل ابتهالاته إلى الله!!
ضحكت وأنا أقول ))أهاً تشرّفنا((. أشارت راحيل إلى الفتاة
الثانية وقالت:
- ))طرفة سليمان( يهوديّة من المغرب طالبة سنة أخيرة
رياضيّات أيضاً.
- أهلاً تشرّفنا!
وقالت الفتاة بدورها ))أهاً(( وشفتاها تنمّان عن ابتسامة
لطيفة يخالجها الحزن. بينما راحيل تكمل التعارف:
- لم يراعِ أهلها حرمة يوم السبت فأحرق البيت عليهم...
ماتت أمّها وشقيقتها الصغرى. شقيقها أصيب بحروق
بليغة شوّهت جسمه... هي لم يحدث لها شيء فقد
كانت في الجامعة. وكذلك أبوها الذي كان في العمل...
152 الهجرة إلى الجحيم
قلت وأنا أنظر إلى الفتاة في اندهاش يخالجه الأسف:
- أنا آسف لذلك!
فأومأت برأسها شاكرة. فقالت راحيل:
- لا داعي للأسف لأن هناك قصة لكل واحد من الذين
سيحضرون السهرة هذه الليلة.
فقلت:
- لكنني لم أعرف قصتك أنت بعد!
- سأحدثك عن قصتي فيما بعد، فهي ليست بهذه
الأهمية!
- ولم أعرف ماذا تدرسين أيضاً!
- أوه ألم أخبرك؟
- كلاّ طبعاً!
- أنا طالبة سنة أخيرة أيضاً إنّما فيزياء!
- حسناً ومن أي بلد أنت؟
- أحزر؟!
- من مصر؟
- كلاّ!
- من اليمن؟!
- كلاّ أيضاً!
- إذن من العراق!
- أجل أنا عراقيّة!
- كل واحدة من قطر؟
- أجل. وبعد قليل ستتم الوحدة العربية. ستتعرف على
شباب وشابات من اليمن ومصر وتونس وفلسطين!
الهجرة إلى الجحيم 153
- ما شاء الله هل هذا مقر لليهود العرب؟
- لا أمزح! فسيحضر أيضاً شباب من بلدان ليست عربيّة.
لكن ليس غريباً أن تجد اليهود العرب متآلفين إلى حد
ماّ! فما نزال نشعر بانتمائنا العربي، على الرغم من
أننا هاجرنا أطفالاً!!
- لست عربياً لأحسدكن على هذا الانتماء لكنني قد
أحسد العرب لانتمائكن إليهم.
- أوه ولماذا؟
- كونكن تشعرن بالانتماء إليهم حتى هذا اليوم على الرغم
من كل ما حدث. لا أعرف فيما إذا كانوا يسمحون لكن
بالعودة إلى أوطانكن فيما لو فكرتن بذلك!!
وترددت برهة لتقول:
- لا أظن!
- لماذا؟
- لأنهّم يعتبروننا يهوداً بالمعنى الصهيوني للكلمة وليس
بالمعنى الديني. أي أنّهم ينظرون إلينا كأعداء. هذا ما
أعتقده الآن وأنا هُنا!
- هل تعودون إلى هناك فيما لو سمح لكم؟ أقصد أنتم
اليهود العرب!
- أظن أنّ الأغلبيّة منّا ستعود فوراً. أنا شخصياً سأرحل
إلى العراق دون أن أتوانى ولو للحظة. لكن لا تأمل ذلك
يا أركاديوش فلن يسمحوا لنا بالعودة!!
- لكن لماذا؟
- لأنهم يعتبروننا صهاينة كما قلت لك. ولا يعرفون أننا
154 الهجرة إلى الجحيم
طردنا رغم أنوفنا إلى فلسطين، أو أنّهم يتجاهلون هذه
الحقيقة!!
وقرع الجرس فنهضت لتفتح الباب.
كانوا ستة شباب وأربع فتيات. أخذوا أماكنهم... كان معظمهم
من يهود الباد العربيّة، فقد أخذت راحيل تعرّفني إليهم بنفس
الطريقة التي عرّفتني بها على سارة وطرفه. وراحت تقص علي
أغرب قصة في حياة كل واحد منهم، بعد أن قدمتني إليهم
بنفس الطريقة أيضاً.
قالت وهي تشير إلى أحد الشباب:
- ))اسحق(( يهودي فلسطيني. استاذ تاريخ في الجامعة
العبرية. عندما ماتت والدته انتابتهم بعض الشكوك
في أنّها مسيحية، فأخرجوا جثتها من المقبرة اليهوديّة
وقاموا بحرقها!!
وضعت يدي على وجهي وأنا أتمثل الجريمة قائاً: ))يا
إلهي(( فقال راحيل:
- إذا كانت طريقتنا في التعارف تبعث الحزن والغضب
في نفسك فسأتوقف؟!
- كلاّ أرجوك. لقد بت أشعر أنّ مأساتي لا شيء إذا ما
قورنت بمآسيكم.
أشارت إلى إحدى الفتيات قائلة:
- ))جليل يافان(( يهوديّة من تونس. طالبة في المعهد.
تزوّجت شقيقتها من شاب عربي. فاختطفوها وانهالوا
عليها ضرباً حتى الموت. جليل أيضاً أحبّت شاباً عربياً،
لكنها عدلت عن الزواج وإلى الأبد بعد حادثة شقيقتها.
الهجرة إلى الجحيم 155
))ديفيد إلياهو(( يهودي من مصر. مهندس معماري. هرب
هو وشقيقة من ))إسرائيل((. لاحقتهم العصابات في أوروبا.
قتل شقيقة على أثر مشاجرة مع المطاردين. أما هُو فقد تم
إلقاء القبض عليه. قيّدوه وأعادوه إلى ))إسرائيل((... أطلقوه
حافياً في مطار اللد!!
نمت شفتاه عن ابتسامة طفيفة وأوماً برأسه وهو يرقب
الذعر الذي ارتسم على وجهي! قلت لراحيل:
- وهل كل من يهرب من ))إسرائيل(( يلاقي هذا المصير؟
فقالت:
- وماذا تأمل يا أركاديوش؟ هل تظن أنّ الصهيونيّة تترك
الناس يهربون هكذا بكل بساطة؟ لا يا عزيزي فهي لا
تتركهم وشأنهم، لأن كل مهاجر لا بد وأن يبث الحقيقة في
الخارج وهو ما تخشاه ))إسرائيل(( والصهيونيّة. لذلك
يضعون عقبات كثيرة في طريق الهجرة المعاكسة!.
- وهل سيلاحقنا شبح الصهيونيّة أينما حللنا؟
- إلى حد ما!! هناك أناس تمكّنوا من الهرب، لكنهم لا
يجرؤون على الإفصاح عن مواقفهم من الصهيونيّة بل
إنّهم يمتدحونها علّنا حتى تكف شرّها عنهم!!
- وكم يبلغ عدد هؤلاء الذين تمكنوا من الهرب؟
- كثيرون. أكثر من 350 ألف مهاجر. يقيم معظمهم في
أمريكا وكندا.
سكت قلياً وأنا أفكّر في مصيري المشؤوم فأخذت راحيل
تكمل التعارف قائلة:
- ))نبعه شيلوك(( يهوديّة من اليمن. كانت طفلة في
156 الهجرة إلى الجحيم
السادسة من عمرها عام 1951 عندما جاء رجال
))أحمد حميد الدين(( - إمام اليمن آنذاك - يبحثون
عن الباقين من اليهود بين الجبال والأودية على ظهور
الإبل!!
قيّدوا أيديهم بحبال طويلة ربطوها إلى رحال الإبل وساروا
بهم. كانت ))نبعة(( تصرخ بأعلى صوتها لا تعرف ماذا يحدث.
في مطار صنعاء كان هناك آلاف اليهود المطرودين إلى فلسطين،
وكانت عشرات الطائرات البريطانية تحط لنقلهم إلى مطار
اللد. ولم تمر سوى بضعة أعوام عندما عرفت ))نبعة(( الحقيقة
من أبيها. فقد قبض إمام اليمن من الحركة الصهيونيّة، مبلغ
خمسة ملايين دولار، ثمن أكثر من خمسين ألفاً من يهود اليمن.
لذلك قام بإرسال رجاله إلى مختلف الأودية والجبال لإحضار
اليهود بالقوة وإجبارهم على الهجرة إلى فلسطين. تمَّ كل ذلك
تحت شعار ))الانتقام للأشقاء الفلسطينيين((! هل رأيت ما هو
أروع من هذا الانتقام يا أركاديوش؟ وخاصة إذا ما عرفت أنّ
حوالي ثلثي سكان إسرائيل الآن من يهود الباد العربيّة!!
كم أثار قول راحيل هذا دهشتي. إلى درجة أنني بت أشك
أن الحركة الصهيونيّة دفعت ثمن كل يهودي ليرغم على الحضور
إلى هذا الأرض.
فقلت!
- راحيل أرجوك! لقد بت أشك أن الصهيونيّة دفعت حتى
ثمني أنا؟!
ضحكت راحيل بملء فيها وقالت:
- وماذا إذن؟ هل تعتقد أنّ الذي أقنعك بالهجرة إلى
الهجرة إلى الجحيم 157
فلسطين يعمل متطوّعاً من أجل عيون الحركة
الصهيونيّة؟! فكر لماذا لم يحضر يهود أميركا وكندا
وأوروبا الغربيّة الذين يزيد تعدادهم على الثمانية
ملايين إلى إسرائيل تكتشف أشياء مذهلة!!
- يا إلهي وهل في استطاعتي أن أفكّر الان في هذا
الجحيم؟!
- فكرّ فيما بعد إذن، ولا تنسى أنّهم ليسوا على استعداد
لأن يجرحوا ولو من أجل العالم بأسره، وليس الإمبرياليّة
وحدها!
- يا إلهي تقصدين أنّهم يعون اللعبة؟
- لا أدري! لكنني أجزم أنهم ليسوا أغبياء!!
كم أخذت أحس بالهاوية الكبيرة التي وقعنا فيها دون أن
نعلم أخذت راحيل تكمل التعارف. ومخيلّتي تطوف بين الماضي
والحاضر والمستقبل. لذا لم أعرف ما روته عن الشباب
والشابات الآخرين. كل ما عرفته أنّ هناك قصّة مأساوية لكل
واحد منهم، بل بت مقتنعاً أنّه لا يوجد مواطن في ))إسرائيل((
إلا وله قصة طويلة.
كنت ابتسم با معنى وأنا أقول ))أهاً(( عندما تفرغ راحيل
من تقديم أحد الشباب إلي دون أن أفهم ولو كلمة مما قالته!!
أحسست بهم يجلسون صامتين. فأخذت أتأملّهم لأهرب من
الرؤى التي صّورتها مخيلتي. لم أشاهد فتيات عربيات من قبل،
لذا لا أجزم فيما إذا كال العربيات بهذا القدر من الجمال. لا
أكذب إذا ما قلت لك يا فداء أنني كنت أشاهد جمالاً لا يخلو
158 الهجرة إلى الجحيم
من السحر. السحر الحقيقي!!
لم تكن هناك أيّة فتاة بيضاء باستثناء اليهوديّة السوريّة. لكن
بياضها ليس كالبياض الأوروبي القريب من لون الشمع! كلاّكلاَ
فهو بياض مائل إلى السمرة الخفيفة. نقي جذّاب يرغمك على
الخشوع أمام سحره، ولو بينك وبين نفسك!
أمّا الأخريات فكانت السمرة تغلب على بياضهن وخاصة
اليمنيات والمصريّات. إنّها سمرة ساحرة أيضاً!!
وكان الشباب كذلك. أي أن السمرة تغلب على لون بشرتهم...
نهضت راحيل ونهضوا خلفها. أحضروا الكثير من المشروبات
وعصيراً للطفلين. كما أحضروا ))مازات(( لم أر مثلها من قبل.
قالوا أنّها مازات عربيّة. نسيت اسماءَها!
تبادلنا الأنخاب. أخذ أحد الشباب يعزف على ناي عربي. كان
عزفه مؤثراً إلى درجة كبيرة فجلسنا صامتين يلفنا الحزن...
شعر الطفان بالنعاس، فاصطحبتهما راحيل إلى المطبخ
ليختارا الأطعمة التي يفضلانها. لكنها عادت بعد قليل لتقول
لي أنّهما خجا ولم يقبا أن يختارا شيئاً فنهضت معها.
همست في أذنها:
- ضعي لهما كثيراً من اللحم فلم يتناولا لحماً طازجاً
منذ مدّة.
وكانت قد قرّبت اذنها منّي إلى درجة أنّ شعرها لامس
شفتي، فقبلتها عليه قبلة خفيفة. ولم أتنبّه إلى أنّها تأثرت من
كلامي إلاّ بعد أن فتحت الطنجرة وأخذت تضع شرائح اللحم
في الصحن. فقد رأيت عينيها وقد اغرورقتا بالدموع.
مأت لهما صحنين باللحم والخضار. جلسنا معهما في
الهجرة إلى الجحيم 159
صالة الطعام إلى أن ينتهيا. ذهبت راحيل وجاءت بكأسينا...
قالت لي بينما الطفلان يأكلان بنهم:
- يجب أن أقول لك شيئاً لكي لا تتفاجأ إذا ما حدث
شيء أمامك هذه الليلة!
كانت تجلس إلى جانبي على مقعد فمددت يدي على مسنده
وأرحتها على كتفها.
- حول ماذا؟
- حول سهرتنا طبعاً!
وصمت وأنا أقّرب راسي من كتفها فأدنت رأسها منّي.
- أنت ضيفنا هذه الليلة ولا نريد أن نفرض عليك أجواءنا
إذا كانت لا تناسبك أو ليس في استطاعتك أن تنسجم
معنا!!
- أرجو أن لا أكون مصدر إزعاج لكم!
- كلاّ كلاّ لن تكون... عندما نلتقي عادة هُنا أو في بيت أي
صديق آخر. نحاول التخلّص من قيود المجتمع. نحاول
أن نحيا حياتنا! أن نحقق ذاتنا! أن نحس أننا بشر نملك
كامل إرادتنا!!
- لقد فهمت عليك!
- إننا نتجاهل كل ما يمت إلى المجتمع وقوانينه وعاداته
وتقاليده بأيّة صلة. لا يوجد أي شيء ممنوع بيننا أو
مفروض علينا. كل شيء مسموح به طالما لا يسيء
إلى أحد، ودون تجاوز الحرّيّة الشخصية للفرد، أي أن
نمارس شيئاً خارج قناعاته الخاصّة جداً!! لذلك لك
الحق أن تقول أنّ أجواءَنا لا تلائمك وفي استطاعتنا أن
160 الهجرة إلى الجحيم
نقضي الليل كما تريد.
- أظن أنني فهمت ما ترمين إليه إلى حدٍ ما!!
- لا لا يجب أن تفهمني جيداً وليس إلى حدٍ ما.
- لنفترض أنني ذهبت الآن وقمت بتقبيل إحدى الفتيات
اللواتي في الصالون الآن! فما الذي سيحدث؟!
- لا شيء! ستفرح كثيراً لأنّك قبلّتها!!
- ستفرح؟
- أجل ستفرح كثيراً!
- لكنني سأقبلها دون أخذ رأيها أو موافقتها؟
- لكن تقبيلك لها ليس بحاجة إلى أخذ رأي. فهو يعني
أنّك استلطفت شيئاً ما فيها أو أعجبت بها أو أحببتها
فهل في هذا ما يزعج؟!
- لكنها قد لا تحبنّي أو قد لا ترغب في ذلك؟
- وهل عندما تقف متعجباً أمام لوحة تنزعج اللوحة منك
لأنّك لم تأخذ رأيها قبل أن تقف مندهشاً أمامها؟!
- لكن اللوحة تختلف عن المرأة أو الإنسان؟
- أجل فالمرأة أو الإنسان كما قلت وبشكل عام أجمل
شيء في الوجود لذا يمكن أن يعجب به الإنسان أكثر
من اللوحة!!!
- يا إلهي ليس هذا ما أقصده!!
- أعرف تقصد أنّ اللوحة جماد بينما الإنسان كائن حي!!
- أجل!
- وبما أن الإنسان كائن حي فمن الطبيعي أن يحس
بالآخرين ويبادلهم نفس الشعور الذي يبادلونه إيّاه وإلاّ
الهجرة إلى الجحيم 161
أصبح جماداً!! ولو كانت اللوحة كائناً حياً لما توانت
في مبادلتك إحساسها!!!
- أنت تحدثينني عن أشياء لم أفكّر فيها سابقاً بهذا
العمق!!
- لماذا؟
- لا أدري. على كل اكتشفت أنني لم أفهمك جيداً من
قبل. حسناً! لنفترض بشكل أو بآخر أنّ الفتاة ولسبب
ما في ذاتها لم تكن مهيأة لأن أقبلها. ألا يحق لها أن
تنهاني عن إعادة الكّرة. أي أن لا تبادلني نفس الشعور؟!
- إذا تقصد إحدى الفتيات اللواتي في الصالون الآن فقد
تبادلك نفس الشعور على الأكثر كما قلت لك، أمّا إذا
كانت ليست مهيأة في هذه اللحظة لسبب ما في ذاتها
ليس لك علاقة به، فإنّها قد تترك لك حُرّية تقبيلها
دون أن تبادلك كل الشعور ودون إبداء أي كره تجاهك
أيضاً. ستفهم الأمر على أنّه نوع من الإعجاب أو المودة
وتترك لك حُرّية التعبير عن هذا الإعجاب بطريقتك.
حتى لو كانت لا تحمل تجاهك أي شعور بالولع أو
الإعجاب. لكنها ستحتفظ تجاهك بشعور الرضى عما
تقوم به. هذا هو مفهومنا للحب والحياة. لو فكرّت
في أول قبلة في التاريخ طبعها ذكر على خد أنثى أو
العكس لوجدت أنّها لم تكن تحمل إلاّ المودة، وحتى الان
لا يمكن للقبلة أن تكون دلالة على البغض، لنفترض أنّ
فتاة نهضت الآن وقبلتك، هكذا ))من الباب للطاقة((
فهل في استطاعتك أن تعتبر هذا بغضاً؟
162 الهجرة إلى الجحيم
- كلاً طبعاً!
- وهل تنزعج من الأمر؟
- على العكس أظن أنني ساسر!!
- وهذا الأمر ينطبق على الفتاة فيما لو قبّلها رجل.
لكن العادات والتقاليد والقوانين المتعاقبة عبر التاريخ
هي التي غيّرت مفهومنا للقبلة ثم للعلاقة بين الرجل
والمرأة، وحتى بين الرجل والرجل أو المرأة والمرأة!
ولهذا قد تجد فتاة تصفعك على وجهك إذا ما حاولت
تقبيلها، وقد يؤدي الأمر إلى ما هو أكبر من ذلك. وقد
تكون مؤدبة وتنهاك بلطف!
- هذا من أغرب ما سمعته في حياتي يا راحيل وإن كنت
أحس بصدقه ومنطقيته! وماذا لو تجاوز الأمر التقبيل؟!
- بيننا نحن لا يختلف الأمر نهائياً!!
- لكن أين الحريّة الفرديّة في هذه الحال؟
- ليست في هذا الأمر ما يسيء إلى الحُرّية الفرديّة. إنّه
قمّة الحُرّية في نظرنا وفي أسوأ الحالات يحق للفتاة أو
للرجل أن يعتذر بلطف ويطلب تأجيل الأمر إلى إشعار
آخر.
- حتى لو كان أحدهما لا يحمل نفس الشعور تجاه الآخر؟
- ليس من الضروري أن يحمل أحدهما نفس الشعور تجاه
الآخر لكي يسمح له بالتعبير عن شعوره تجاهه. لكن
إذا أردت الحالة الأسمى، يجب أن يكون الشعور العميق
متبادلاً إلى درجة كبيرة وهو أكثر ما يحدث في أوساط
رفاقنا.
الهجرة إلى الجحيم 163
- هل هذا يعني الإباحيّة؟!
- ليس إباحيّة ما قبل التاريخ القائمة على الجهل والدافع
الغريزي وغير ذلك. كما أنّها ليست الإباحيّة التي سادت
في عصور ))ازدهار(( النساء عندما كانت المرأة تختار
من يروق لها من رجال القبيلة. وليست الإباحيّة التي
سادت ))عصور الرجال(( عندما كانوا يختارون النساء
اللواتي يرقن لهم. إذ في هاتين الحالتين ))الأخيرتين((
لم يكن للطرف الاخر حق الاختيار، عدا عن أن كل
طرف كان يختار أعداداً كبيرة لتكون ملكاً له! في بعض
الأحيان!! ))إباحيتنا(( إذا جاز التعبير تختلف عن ذلك
كثيراً. في استطاعتنا أن نسميها ))الإباحيّة الإنسانيّة((
إذا كان لا بد من إلصاق كلمة الإباحيّة بها. على كل حال
الموضوع طويل ولن نفيه حقه من النقاش الآن. فقط
أحببت أن أطلعك على بعض جوانب حياتنا لكي نقضي
ليلتنا بوئام.
- لن افرض عليكم ان تسهروا الليلة حسب تقليد معّين
يروق لي. كلاّ فاعتبروا أنني لست موجوداً، وثقوا أنني
لن أنزعج، بل على العكس قد أكون فرحاً جداً، فأنا
غير مقتنع بمعظم ما ورثته من أفكار عن الحب والحياة
الجنسية حتى في بلدي التي يسمح فيها الحب... لكنني
لم أفكر جيداً في البديل حتى الآن. وقد يكون الصواب
كما تحيون أنتم!!
- هذا رائع! ولا تنسى أنني سأعبّر لك عن إعجابي بك
بل ولعي وعلى طريقتي الخاصّة، فإياك أن ترفض!!
164 الهجرة إلى الجحيم
- وهل في هذا ما يدعو إلى الرفض؟ أشعر أنني متّيم
بك!!
- أرأيت؟ كيف نحن متفقان على صعيد الممارسة!!
- بل قد نتفق نظرياً أيضاً!
فرغ الطفان من تناول الطعام. اصطحبناهما إلى إحدى
الغرف. أصَرّت راحيل أن نجعل كل واحد ينام في سرير على
انفراد.
ساعدناهما في نزع ملابسهما. غسا أيديهما وأرجلهما
ودخا في الفراش. كانا فرحين. قبلتهما وتركتهما ينامان.
أطفأنا الضوء وخرجنا.
طوّقت راحيل عنقي في الممر وبادلتني قبلة طويلة لمدّة
قد تزيد على الخمس دقائق! قبلة أسكرتني أكثر مما أسكرني
الخمر الذي كننت أتناوله.
عدنا إلى الشباب. كان أحدهم يعزف على العود بينما الباقون
يستمعون بصمت وقد احتضن كل واحد رفيقته أو احتضنته
بطريق ما.
جلسنا. مدّت راحيل يدها وطوّقت عنقي. ضمّت رأسي إلى
كتفها وأخذت تملس على شعري برفق، أحسست بشاعرية يدها
وهي تنساب فوق شعري كلحن هادئ خفيف.
همست لها وأنا ألصق وجهي بصفحة رأسها:
- راحيل!
- إم!!
- أنت القمر الذي أضاء حلكة ظلامي!
شدّت رأسي إليها براحة يدها وقبَّلتني قبلة خفيفة على
الهجرة إلى الجحيم 165
عيني وهمست!
- أنت تجيد الغزل وبشاعرية!
- أنت الإلهام الذي يخلق الشعر!
- كلاَّ! أنا الحياة حيث تقتل الحياة!
- أنت أنشودة عذابي!!
- أنا لحن في قصيدة ممنوعة من التداول!
- أنتِ مطر انهمر على قطيع فتك به الظمأ!
- أنا شمعة مضيئة في ليل عاصف!!
وقطع علينا مناجاتنا لحن ثوري حزين أخذ الشباب يرددون
كلماته بحزن مع عازف العود وعيونهم تغرورق بالدموع. كانوا
ينشدون بالعبرية فأخذت راحيل تنشد معهم.
لم أفهم شيئاً. وأحسست للحظات أنني غريب. لكن اللحن
كان مؤثراً فانسجمت معه.
قلت لراحيل بعد أن فرغوا من الغناء:
- ما هذا العناء؟
- إنّه نشيد كتبه أحد رفاقنا قبل أن يغتالوه في السجن!
- ماذا تقول كلماته؟
- ))يا رفاقي يا رفاقي
الدم ينزل من شراييني
والجلاّدون يقولن اعترف!!
فأتمثل وجوهكم!!
أراكم في المعامل
أراكم في المصانع
أراكم في البيادر
166 الهجرة إلى الجحيم
أراكم في المعاهد
أراكم في الحقول
أراكم في الكروم
أراكم في الشوارع
أراكم ف الجبال!
تهزّون سواعدكم
ترفعون بنادقكم
وتزلزلون عروش الطغاة!
فأقول فأقول:
ثائر! ثائر!
ثائر ضدَّ عروشكم ثائر!
غاضب! غاضب!!
غاضب على نظمكم غاضب!
لن تقتلوني! لن تقتلوني
فالفجر آت فالفجر آت!!((
- هل أعجبك؟
- جداً
خيّم الصمت للحظات. رفعت راحيل كأسها وقالت: ))كأس
أركاديوش(( فرفعت كأسي وأخذت أقرعها بكؤوسهم...
وضعت راحيل اسطوانة انبعثت منها موسيقى هادئة فقمنا
نرقص على أنغامها ضممتها إلى صدري فأسبلت جفنيها وهي
تريح رأسها فوقه. قبّلتها فوق الجفنين. كانت الأنغام تنساب
بشاعرية حالمة، فأحسست بغبطة كبيرة وأنا أتأمل وجه راحيل
الهجرة إلى الجحيم 167
الهادئ الجميل.
رقصنا كثيراً. تبادلنا عشرات القبل... وعدنا إلى الجلوس...
تفرّق الشباب في أرجاء الصالون وأخذوا يتعانقون ويضطجعون
كيفما اتفق.
همست راحيل في اذني:
- ألا تفضّل أن نقوم بفعل الحب قبل العشاء؟
- هذا رائع!
- سأسبقك إلى تلك الغرفة. انتظر خمس دقائق واتبعني.
- حسناً.
انتظرت برهة ودخلت. كانت تقف في منتصف الغرفة عارية
تماماً. خطوت ببطء وأنا أتأمل جسدها. ولا أعرف كيف وجدت
نفسي أركع على قدميها وأقبلهما. قالت:
- ماذا تفعل؟
رفعت رأسي ونظر إلى وجهها:
- أسجد أمام الجمال!!
ولم أنتظر إجابتها. كنت احتضن ساقيها فأخذت أقبلهّما
صاعداً إلى أعلى. وظللت استمتع بمبادلة جسدها القبل إلى أن
بلغت قمّة رأسها...
حملتها على يدي واضجعتها على السرير...!
* * * * * *
نهضنا لتناول العشاء نصف عراة. فوجئت أن الجميع كانوا
كذلك، بل أن البعض كانوا شبه عراة!
كان العشاء فاخراً: لحومات منوّعة ومقبّلات لذيذة.
قالت راحيل هامسة:
168 الهجرة إلى الجحيم
- ما هو إحساسك الآن؟
- أشعر أنني في عالم جديد!
- ليس هذا ما أبغيه.
- ماذا إذن؟
- هل أنت سعيد؟
- لم أبلغ من السعادة في حياتي ما بلغته هذه الليلة.
أشعر أنني بلغت القمّة!
- لا لا! أنا اختلف معك! فالسعادة أكثر من هذا بكثير.
نحن هُنا نمارس حقاً واحداً من حقوقنا في الحياة،
وهو أن نقوم بفعل الحب كما نريد ومع من نريد. لكن
هناك حقوقاً كثيرة مرتبطة بعوامل خارجية لا نستطيع
تحقيقها بمعزل عن تلك العوامل. إننا نحقق شيئاً يسيراً
فقط من السعادة!!
فرغنا من تناول الطعام وعدنا نضطجع في الصالون... جاء
أحد الشاب وقبّل راحيل قبل خفيفة. أحسست بالغيرة في
داخلي لكنني كتمت ذلك وخاصة عندما بادلته راحيل قبل أكثر
حرارة. وحمدت الله في سريرتي عندما عاد يجلس إلى جانب
صديقته بعد ذلك. إنّها ))سارة(( السوريّة.
كانت سارة تضاهي راحيل من حيث الجمال. حتى أن
نهديها أكثر جمالاً من نهدي راحيل. سألت نفسي وأنا أتأملها:
))أصحيح أنني لا أشعر تجاهها بأي رغبة الآن؟!(( وأخذت
أتأمل عنقها الطويل على نور الأضواء الخافتة، نهديها! يا لهما
من نهدين! يندفعان كصقرين جارحين!! لا أظن أنني سأرتوي
الهجرة إلى الجحيم 169
من رضعهما فيما لو أتيح لي أن أرضعهما مدى الحياة!!
احسّت بي أتأمل جمال قوامها فنظرت إلي. شعرت بالخجل،
فحنيت رأسي إلى أسفل! لقد كنت أكبر الموجودين بل وأقلّهم
وسامة... ويبدو أنّها عرفت ما أرمي إليه فلم أتنبّه إلاّ وهي
تطوّقني من الخلف وتأخذ في تقبيلي، وقد اندفع نهداها
الصلدان ليضغطا على كتفي. لم أتجاوب معها! حتى أنني
ازددت خجاَ!! نظرت إلى راحيل مستنجداً بيد أنّها ابتسمت
ولم تعر انتباهاً بينما حصار ))سارة(( يشتد علي. فقد شدّتني
إليها والتهمت شفتي بشراسة لم أعهدها من قبل. ولم أتنّبه
كيف استقرت يدي فوق نهدها. وما أن أحسست بصلادته تحت
يدي حتى رحت أهترسها!!
ومَرّت ساعة اختلط فيها الحابل بالنابل!! لم أعرف أين
كانت راحيل خلالها. فقد سدّت سارة علي كل المنافذ. بل
أنستني الوجود! ولم تدعني أرى أو أحِس إلاّ بجسدها قرابة
نصف ساعة.
ولدهشتي لم أر راحيل عندما نظرت إلى مختلف أرجاء
الصالون، فنهضت أبحث عنها. وجدتها في المكتبة تفتح كتاباً
بالإنكليزية عن الحياة الجنسيّة في العصور البدائيّة. لم تكن
تقرأ كانت تصالب يديها على الكتاب وتجلس صامتة.
أحسست أنّها منزعجة من شيء ما. طوّقت عنقها وقبلتها
على أمّ رأسها:
- هل أنت منزعجة مِنّي؟
ابتسمت:
- ولماذا أنزعج منك؟
170 الهجرة إلى الجحيم
- إذن لماذا تجلسين هنا وحدك؟
- انزعجت من شيء آخر!
- ما هو؟
- أنانيتي!
- أنانيتك؟!
- أجل! فأنا أحمل بقايا أنانّية في داخلي هي مصدر
إزعاجي. لا أعرف لماذا؟ أحسست أن ))سارة((
اغتصبتك اغتصاباً في اللحظة التي كنت أحِسُّ فيها
أنني بحاجة لأن أكون معك ومعك فقط. لو تأخرت
قلياً لاختلف الأمر. لكن في هذه اللحظة كنت أحس
بشوق عارم تجاهك. بل هممت لأن أضمّك وأنت تنظر
إليها متأماً.
فأخذت أعتذر إليها وأتودد. لكنها أصَرّت على أن لا ذنب
لأحد فيما جرى. فقبّلتها ونهضنا..
القينا نظرة على الصالون. كان البعض يتحاضنون يقظين
والبعض ينامون. وكانت سارة ما تزال مستلقية باسترخاء!!
قالت راحيل:
- أرغب في الجلوس معك على انفراد.
- وأنا كذلك.
دخلنا إلى غرفة صغيرة فيها سرير واحد. استلقينا عليه.
طوقتها بذراعي. عانقتها بحرارة. قلت لها:
- حدثيني عن حياتك!
قالت:
- هذا ما كنت أفكّر فيه!
الهجرة إلى الجحيم 171
أراحت راسها على ذراعي وأخذت تتحدث:
172 الهجرة إلى الجحيم
- 13 -
كنت طفلة صغيرة يا أركاديوش عندما هاجرنا من العراق.
لا أعرف كيف تمّ الأمر. لكن والدتي حدّثتني عن ذلك فيما
بعد. قالت أننا فوجئنا ذات مساء بالقنابل تلقى على أحيائنا.
كان الناس يقولون أن العرب هم الذين يقومون بذلك انتقاماً
للفلسطينيين...
))لكن الشمس لا تطمس بغربال يا ابنتي!! فلم يمر كثير
وقت عندما عرفنا أن عماء الحركة الصهيونيّة هم الذين
يقومون بإلقاء القنابل. لقد قبض نوري السعيد ثمننا، لكنه لم
يتمكن من إجبارنا على الهجرة فأرسل رجاله ورجال الحركة
الصهيونية ليلقوا القنابل على الأحياء اليهوديّة. فخلقوا حالة
من العداء والذعر بين اليهود والعرب. ولم يجد اليهود سبيلاً
للنجاة إلا بالهرب إلى فلسطين، فلم يسمحوا لنا أن نهاجر إلى
أي بلد غيرها!!((.
كانت اسرتنا تملك ثاث محَاّت تجاريّة. استولت السلطة
عليها وعلى بيتنا بعد أن نهب ما نهب وسلب ما سلب... ولولا
أنّ والدي احتاط للأمر فبدّل بعض أمواله وأخفاها، لطردنا دون
شيء، فقد منعونا من حمل حتى ملابسنا، كما قالت أمّي.
قذفوا بنا في ساحات المطار مع آلاف الأسر اليهوديّة،
ازدحمت الساحات بأكثر من 130 ألف مطرود. وبقينا نرتجف
من البرد تحت العراء إلى أن جاءت الطائرات البريطانيّة
وشحنتنا كالبضائع إلى ))إسرائيل((:
الهجرة إلى الجحيم 173
كانت أسرتنا مؤلفة من ستة أفراد. جدّي وجدّتي ووالدي
ووالدتي وأنا وأخي الذي يكبرني بثلاثة أعوام.
بعد وصولنا إلى فلسطين أرسلونا إلى مستوطنة زراعيّة
ناحية ))بئر السبع((... فتصوّر والدي الذي لم يحمل الفأس
في حياته ولم يقف يوما خلف محراث. تصوّره وهو يرغم على
القيام بهذا العمل؟!
ماتت جدّتي بعد ثلاثة أيام من وصولنا. ماتت غماً وقهراً
وحزناً دفنوها هناك في المستوطنة. وكم تعب والدي بعد
ذلك ليخرج من أسر تلك المستوطنة. فبدد بعض نقوده على
الرشوات لكي يتيحوا له الرحيل. فتّم له ذلك بعد حوالي ثمانية
أشهر.
جاء بنا إلى هُنا، إلى حيفا، استأجر لنا بيتاً ووضعنا فيه.
وراح يبحث عن محل تجاري يشتريه. عثر على محل للنوفوتيه.
كلّفه ثمنه كافة النقود المتبقيّة لديه. لذا راح يبحث عمّن يدينه
بعض النقود ليمأ المحل بالبضاعة. لكنه لم يجد من يدينه.
فاضطر أن يكتفي ببقايا البضاعة التي كانت في المحل، لكن
مردود هذه لم يكفِ لإعالتنا. وأصيب جدّي بداء خطير زاد
من الطين بلّة. ولم تمر سوى مدّة قصيرة عندما طلب والدي
إلى الخدمة في الجيش، ولم يجد إلاّ أن يبيع المحل ليرشو
أولي الأمر، ليس ليعفوه من الخدمة، فقط ليؤجلوها مدّة ثلاثة
أعوام!! فذهب أكثر ثمن المحل للرشوة ومعالجة الجد المريض.
لكن ذلك لم يجدِ فقد مات جدّي بعد أن خسف ميزانيّة والدي.
افتتح والدي بعد ذلك محاً صغيراً لبيع الحمص والفلافل!!
أنني أذكر ذاك المحل يا أركاديوش. كانت أمّي ترسلني وأخي
174 الهجرة إلى الجحيم
لنحضر صحناً من الحمص وبضعة أقراص من الفلافل لطعام
العائلة. وكان والدي يصرخ فينا لأقل شيء. تباطأت ذات مَرّة
عندما أرسلني لإحضار كميّة من الحمص، فلوى شعري على
أصابعه وراح يضربني وأنا أصرخ.
سألت أمّي ذات يوم: لماذا يضربنا والدي هكذا؟! قالت لي:
الذي حدث لنا لم يحدث إلا للفلسطينيين يا ابنتي!! لقد تغيّر
أبوك كثيراً، بعد أن حدث لنا ما حدث. أخاف أن يجن إذا ظَلّت
الأحوال كما هي عليه.
وأخذوا والدي للجندية. حينئذ بدأ يجن فعاً يا أركاديوش.
وصارت حرب 1956 وعاد والدي منها مجنوناً بما تعنيه الكلمة.
لم يعد في استطاعتنا أن نحيا معه. كان يضربنا صباحاً ومساء،
فننزوي في الغرفة إلى جانب الحائط كدجاجة وفراخها!! وكانت
أمّي قد أنجبت طفلة أخرى، فكنت أضمّها ونلتصق بأخي بينما
أمّنا تقف بيننا وبين أبي لتحمينا منه بجسدها. فكان كل الضرب
ينهال على رأسها!
كانت أمّي تقضي اليوم في المحل. تقوم بعمل الحمّص
والفلافل وتبقي الطفلة الصغيرة معها. وكنّا أنا وأخي ننضم
إليهما عندما نعود من المدرسة. لم نكن نجرؤ على الذهاب
إلى البيت خوفاً من أبينا. وكان الناس يقبلون على المحل بكثرة
لجودة الحمص والفلافل اللذين تعملهما أمّي. فأصبحت حياتنا
مقبولة لولا جنون أبي. ولم يعد في الإمكان الاستمرار في
الحياة معه. كما أننا لا نستطيع أن نتخلىّ عنه. فكان لا بد من
إدخاله مستشفى المجانين.
الهجرة إلى الجحيم 175
لن أنسى ذلك اليوم يا أركاديوش عندما جاءَت سيّارة
المستشفى وسيّارة الشرطة. كان أبي في الشارع حينئذ وقد
أغلقه تماماً وأوقف حركة السير بوقوفه إلى جانب كومة من
الحجارة والزجاجات الفارغة. لا أعرف من أين جمعها. كان
يقذف كل من يراه بزجاجة أو حجر، فلم يستطع أحد الاقتراب
منه. وبعد معركة حامية مع رجال الشرطة، تمكّنوا من إلقاء
القبض عليه. وضعوا القيود في يديه ورجليه وأخذوه.
ذاك يوم لن انساه يا أركاديوش، كما أنني لن أنسى اليوم
الآخر الذي جيء فيه بوالدي إلى البيت جثة هامدة. لقد انتحر
يا أركاديوش. لم يصدق أحد ما حدث، فلم يكن عنده أي
شيء في غرفة المستشفى، كما أنه لم يكن وحيداً. لكنه انتهز
فرصة غياب المرضى الذين معه لحضور فيلم سينمائي خاص
وقام بإغاق الباب. عمل حباً من شراشف الأسرّة، ربطه إلى
سقف الغرفة وشنق نفسه. لن أنسى تلك اللحظة عندما أنزل
من السيّارة وقد غطّي بالقماش الأبيض، فأخذت أمّي تصرخ
فصرخنا بدورنا...
ومَرّت الأيام يا أركاديوش. صحيح أنها قاسية لكنها أفضل
من الحياة مع أبي. كان محل الفلافل كافياً لأن يجعلنا نحيا في
استقرار. التعب الكثير كان ينصب على كاهل أمّي، لكننا أخذنا
نساعدها بعد العودة من المدرسة أكثر من ذي قبل.
وكبر ثلاثتنا يا أركاديوش. أنا وأخي وأختي. وأنهينا ثلاثتنا
خدمة العلم! سحقاً له من علم! شارك أخي في حرب حزيران.
وشاركنا ثلاثتنا في حرب تشرين رغماً عنّا. فتخلّفنا سيعرّضنا
لمشاكل شتى. لذا شاركنا. أنا لم أفعل شيئاً وكذلك أخي
176 الهجرة إلى الجحيم
وأختي. أخي طبيب برتبة نقيب في الجيش. الجيش وسيلته
الوحيدة للإرتزاق!! يعرف تماماً أنّ هذا الجيش لم يوجد إلاّ
لخدمة الإمبرياليّة في المنطقة. لكن ليس أمامه خيار...
أختي الآن طالبة أدب عربي في الجامعة العبرية في القدس،
وتقيم هناك. أقصد في القدس. وتعمل في محلٍ للنوفوتية أثناء
المساء...
ثلاثتنا ننتمي سراً إلى أحزاب وجماعات يساريّة في فلسطين.
عندما نلتقي نتفق حول بعض الأشياء ونختلف حول البعض
الآخر. لكن هناك شيئاً لا نختلف عليه أبداً. أننا والفلسطينيين
ضحايا!!
أنا في نظر أختي وأخي يساريّة متطرّفة جداً. لكنني سعيدة
جداً بهذا التطرّف يا أركاديوش. يتهمانني بالعبثية. فاتهمهما
بالتخلّف!! لذا نتشاجر كثيراً عندما نتحاور في الأمور السياسيّة.
أخي يرى أنّ إسرائيل أمر واقع ولا يمكن إزالته، وقد قبل العرب
بوجودها قبل أن توجد!! وبالتحديد منذ اتفاقيّة فيصل - وايزمن
الشهيرة عام 1919 م. والتي من أهم بنودها ))اعتبار فلسطين
وطناً قومياً لليهود(( وليس هذا فقط. بل تعهد فيصل بالعمل
على تهجير اليهود إليها ومساعدتهم في إقامة دولتهم!! ولهذا
يخلص أخي إلى نتيجة تتفق مع ما تطالب به معظم الأنظمة
العربيّة وبعض دول العالم اليوم.
أختي لها موقفان. موقف شخصي. وموقف حزبي!! فأمامي
تقول: ))لتقم دولة فلسطينيّة في الضفة والقطاع ومن ثم
سنتعاون مع هذه الدولة ونطيح بالكيان الصهيوني(( هذا موقفها
الهجرة إلى الجحيم 177
الشخصي. لكن عندما تتحدث أمام الناس لا تستطيع أن تتجاوز
طروحات حزبها، فتلتقي بذلك مع أخي.
أنا ضد الاثنين طبعاً. أنا مقتنعة أنّه لا يمكن إقامة حكم وطني
مستقل للفلسطينيين بما تعنيه الكلمة دون إزالة ))إسرائيل(( وما
يترتب على ذلك!! ولا يمكن تحقيق هذا إلاّ بالنضال الجماهيري
المسلّح. ولا أظن أن معجزة ما ستحدث لتغيير هذا الواقع!!
لهذا أنا متطرّفة في نظرهما. ولا أخفي عليك أنني أتفوّق
عليهما، وخاصة عندما أعود في النقاش إلى أصل المسألة
اليهودّية واستشهد بكلمات مما كتبه ))كارل ماركس( حول ذلك:
))المال هو إله إسرائيل المطماع...(( ))المتاجرة بالمال هذا
هو الإله الحقيقي لليهود...(( ))إذن فنحن نتميّز في اليهوديّة
عنصراً مناهضاً للمجتمع...(( ))والحق إن العصر الحديث
بتحرره من المتاجرة والمال وبالتالي من اليهودّية الواقعيّة
والعمليّة سوف يحرر نفسه بنفسه...(
وهنا يحاولان المراوغة لكنهما لا يجدان مهرباً. فقائل هذا
القول ليس إلاّ كارل ماركس ))اليهودي(( نفسه!!
ولا أظن أنّه في الإمكان الخاص من اليهوديّة دون الخاص
من ))إسرائيل(( التي تعتبر بشكل أو بآخر هيكلاً لبعث اليهوديّة
من جديد ليس حباً باليهوديّة طبعاً، بل حباً بما هو أهم من
ذلك بكثير!! ولو كان كارل ماركس على قيد الحياة، لما تراجع
عن قوله، بل لما توانى في هدم هذا الكيان مهما كلّف الثمن!!
على كل حال، على الرغم من خلافاتي الأيديولوجية مع
أخي وأختي فإنهما يغضان النظر عن كل نشاطاتي العسكرية
والسياسية حتى أنهما يقدّمان لتنظيمي المساعدة ))أحياناً((
178 الهجرة إلى الجحيم
ويشتركان معي في إنجاح بعض العمليات أحياناً أخرى، وإن
كانت عملياتنا قليلة.
أما أمي فهي لا تتدخل في شيء يا أركاديوش، ولا تزال تدير
ذاك المحل حتى اليوم، وقد وسعته قلياً وشغّلت معها فتاة
عربيّة منذ مدّة. وكل المقبّات التي شاهدتها هذه الليلة من
صنع أيديهما.
هذه باختصار سيرة حياتي أو حياتنا بالأحرى. أنا الآن أحيا
كما ترى. أفعل كل ما أنا مقتنعة به، ضمن عالمي الخاص
والمحدود. أعرف أنني سأموت يوماً وأنّ الدود سيأكل لحمي،
ولا أنتظر أنهاراً من الخمر ولا جنّات نعيم. لذا لا أتوانى في
ممارسة قناعاتي كلّما اتيح لي ذلك. ولا استطيع أن أحقق ذاتي
إلاّ هكذا. أحس بسعادة كبيرة في بعض الأحيان كما في هذه
الليلة مثاً. وأشعر أن ممارسة الجنس متعة تخفف من وطأة
معاناتي!! ولا أفكّر فيه كوسيلة للإنجاب ابداً!!
* * * * * *
الهجرة إلى الجحيم 179
- 14 -
في اليوم التالي نهضت في ساعة متأخرة يا فداء. لم يكن
في البيت سوى أنا وراحيل والطفلين وسارة وطرفه.
استأنس الطفلان بالبيت. قالت راحيل:
- اتركهما هنا!
فقلت:
- والمدرسة؟
- أي مدرسة هذه؟! أنسيت أنّه يجب أن تختفي قبل انتهاء
المعرض؟ أم تريد أن يكون مصيرك كمصير أبراهام؟!
- هل هذا يعني أن نقيم هُنا مؤقتاً؟
- طبعاً. وسنحضر المعرض يوم غد إلى هُنا!
وهكذا أبقيت الطفلين وذهبت...
* * * * * *
سرت في الطريق وصور الليلة الماضية تراود مخيلتي. إذا
كان أبراهام قد فتح أمامي بعض الآفاق فإن راحيل حملتني إلى
أفاق أكثر رحابة. لا استطيع أن أحكم فيما إذا كان ما رأيته ليلة
الأمس صالحاً لأن يسود في مجتمع ما. أشعر أنني أضعف من
أن أحكم على سلوك كهذا وإن بدوت سعيداً جداً. بل إن السعادة
بدت لي ذات آفاق غير محدودة...
مررت بطريقي على المدير. لم يحدّثني كثيراً ولم يفدني
بأية معلومات عن مقتل أبراهام. فأطلعته على كل ما عرفته.
لم يعلّق بشيء وإن ابدى بعض الدهشة فقلت:
- لو تساعدنا فقط في العثور على الذي أضاء الشمعتين
180 الهجرة إلى الجحيم
في الكهف لا شك أنّه يعرف الحقيقة كُلّها.
- لكن كيف أعثر عليه؟ لو أراد كشف نفسه لعمل شيئاً
ما. أنا آسف جداً يا أركاديوش. كنت أظن أنّه في
استطاعتي أن أفعل شيئاً لكن تبينّ لي أن الأمر أصعب
مما أتصوّر. انظر ماذا أرسلوا إلي. إنّهم يهددوني
بفصلي من عملي إذا توانيت في طردك من العمل!!
يبدو أنكّ أصبحت قضيّة تشغل جهازنا الأمني برمته.
لم أفاجأ بالأمر... خابر المدير مكتب المحاسبة ليصرفوا
لي راتب شهر كامل فشكرته على ذلك، وودعته وانصرفت...
مررت بمكتب المحاسبة. أخذت راتب الشهر وقصدت البيت.
أحسست برجل مُسِن يرتدي اللباس الديني يتبعني صاعداً
الدرج. لا شك أنّه الرجل الذي جاء أثناء غيابي بالأمس. كان
يتبعني فعاً، فلم يصبر علي إلى أن أدخل البيت. وما أدهشني
أنّه خاطبني بالإنكليزية وكأنّه يعرف أنني لا أجيد العبرية!! لم
يرد التحيّة ودخل في الموضوع با مقدمات، بينما كنت أقوم
بفتح الباب:
- لماذا لا تعلّق تميمة على باب بيتك؟! لم أفهم ماذا
يقصد
فقلت متسائلاً:
- ماذا يا سيّدي؟
لكن الرجل تجاهل تساؤلي وتابع بصوتٍ غاضب:
- تدعي اليهوديّة ولا تعلّق شيئاً على مدخل بيتك؟
مدسوس!! وجاهدت لأن أهدئ الرجل فلست مهيئاً لأن
أفتح علي جبهة أخرى!
الهجرة إلى الجحيم 181
- معذرة يا سيّدي فأنا لم أعرف فيما إذا كان علي أن
أعلّق شيئاً على مدخل بيتي!!
ولم أعرف أنني أسأت إلى نفسي بهذا القول إلاّ بعد أن قال:
- وتعترف أيضاً أنك تجهل اليهوديّة جهاً تاماً أيها
الوقح؟!!
وحاولت أن أنقذ الموقف لكنني ورطت نفسي من حيث لا
أدري:
- يا سيّدي يا سيّدي أقسم لك أنني أحفظ بعض المزامير
عن ظهر قلب!!
- تحفظ بعض المزامير؟
- أجل يا سيّدي أقسم لك!
- أي المزامير تحفظ؟
))يا مصيبتي!!((
- مزامير داود يا سيدي!!
- كُلّها؟!
ولم أكن أعرف أنّ مزامير داود كثيرة فقلت:
- لا بعضها يا سيّدي!
- أي المزامير تحفظ؟!
))اللعنة!!((
- المزمور العاشر يا سيدي!
قلت ذلك وأنا أتمنى أن يكون لداود عشرة مزامير على الأقل
وأن لا يطلب إلي أن أنشد هذا الأخير!
- فقط؟
- والمزمور الحادي عشر أيضاً يا سيدي!
182 الهجرة إلى الجحيم
- وغيرهما؟
- والثالث عشر!!
- حسنا ألا تحفظ المزمور السابع والعشرين؟!!
أيقنت أن هناك مزامير كثيرة لداود هذا. وتكهنت أنّه لم
يختر هذا المزمور إلاّ لأنه يحفظه. وخوفاً من أن يطلب منّي
أن أنشده قلت:
- للأسف لم أحفظه بعد يا سيّدي!!
- لكن هل هناك من يترك هذا المزمور الجميل ويحفظ
غيره؟!
- ألا تسمعني شيئاً منه يا سيّدي إنني أموت شغفاً لسماع
المزامير؟!!
- ))الرب نوري وخلاصي ممن أخاف. الرب حصن حياتي
ممن أرتعب. عندما اقترب إلي الأشرار ليأكلوا لحمي.
مضايقي وأعدائي عَثِروا وسقطوا. إن نزل عليّ جيشٌ
لا يخاف قلبي. إن قامت عليَّ حرب فأنا مطمئن...((!!
- إنّه غاية في النظم والجمال يا سيّدي!!
- طبعاً طبعاً، هيّا أسمعني مطلع المزمور الثالث عشر!!
- ماذا يا سيّدي؟
- ألم تسمع؟
- تقصد أن... ؟
- نعم نعم أن تسمعني؟
وهذا ما كنت خائفاً منه بعد أن وَرّطت نفسي في المزامير
هذه. فحاولت أن أمثل دور الذي يستجمع ذاكرته وينبهها!
- آه ألم تتذكر؟
الهجرة إلى الجحيم 183
وارتبت أن يكون ملماً بالمزمور الثالث عشر هذا فقلت:
- الحقيقة أنني نسيته يا سيّدي!
- إذن الحادي عشر؟!
ودون تلكوء رحت أردد ما يطلع على لساني من كلمات وأنا
أتمنى أن لا يكون ملماً بالمزمور:
- ))عندما تطير الجبال وتهبط السماء!! لا ترتجفوا يا
أبناء شعبي المختار، فالرب حاميكم وراعيكم والأرض
هي الأرض والنار هي النار!! وأنتم شعبي المختار!!!((
- أحسنت أحسنت هذا رائع!!
- الم أخبرك يا سيّدي؟! لقد حفظته عن ظهر قلب
مذ كنت صغيراً. لكن هؤلاء القوم الملحدين ))أقصد
البولونيين يا سيّدي(( جعلونا ننسى كل شيء! لعنة الله
عليهم!!! ألا تتفضل يا سيّدي لتشرب فنجانا من القهوة؟
- حسناً! ولي معك حديث طويل بعد!
- تفضل يا سيّدي تفضّل اعتبره بيتك!!
- ))يا إلهي متى ينصرف((!!
ودخلنا. جاء ساعي البريد. أعطاني رسالتين إحداهما من
زوجتي أمّا الأخرى فكانت من مكتب التجنيد!! وضعتهما جانباً
ورحت أغلي فنجانين من القهوة...
قال ))زائري(( وهو يهم ليرتشف القهوة:
- لماذا لا تتردد على الكنيس؟
- الحقيقة يا سيّدي أنني منهمك في إيجاد عمل يناسبني.
لكنني لن ألبث أن أحضر باستمرار، لأتطهر هناك!!
- سمعت أنّك لست مختوناً!
184 الهجرة إلى الجحيم
- سأختن نفسي قريباً يا سيدي. وسأختن الطفلين أيضاً.
كل هذه الأمور وضعتها في حسابي. بل لم أهاجر إلى
أرض الميعاد إلاّ من أجل أن أتطهر يا سيّدي. لكنني لم
أستقر جيداً بعد! لا تعرف كم أنا متلهف لأن انصهر
في ملكوت الرب يا سيّدي!!
- أحسنت أحسنت! أنا لم أصدّق ما قالوه عنك!
- ماذا قالوا يا سيّدي؟
- لا شيء لا شيء!!
- إنني ملحد أليس كذلك؟
- لا لا كانوا يعتقدون أنّك مسيحي!
- أعوذ بالله أقطع يدي ولا أكون كذلك يا سيّدي!!
- أحسنت! هل غيّرت اسمي طفليك؟!
- منذ وصولنا يا سيّدي!
- أحسنت أيضاً! لكن يجب أن تنفّذ هذه الأمور بسرعة
فائقة فالرب لا يرحم. وأمامك الكثير لأن تتبعه بعد
اليوم. ستعرف كل ما يتوجب عليك أن تقوم به بعد أن
تواظب على التردد إلى الكنيس.
- أجل يا سيدي أجل!
- نحن شعب الله المختار. خير بني البشر وأطهرهم وأنبلهم
يا أركاديوش! نملي على الله إرادتنا متى شئنا! وسنبيد
العرب ونحكم كافة الشعوب الأخرى! ويصبح لكل واحد
منّا 2800 عبد من غير اليهود لكي يخدموه!! فَسِرْ
على الطريق السوي لكي تنعم وأطفالك بهذه الرفاهية
الحقّة في المستقبل يا أركاديوش!! استودعك...
الهجرة إلى الجحيم 185
- في حفظ الرب يا سيّدي!
وخرج... صفقت الباب من خلفه وأنا أقول ))إلى جهّنهم((
وأزفر متأففاً!!
تمددت على الفراش. أمسكت برسالة مكتب التجنيد ومزقتها
وقذفت بها في سلّة المهمات دون أن أعرف ما فيها. ثم أخذت
رسالة زوجتي. فضضتها وأخذت أقرأ:
186 الهجرة إلى الجحيم
- 15 -
أركاديوش:
أين أنت؟ أين جشيجوش واين داريوش؟ أنا سعيدة! سعيدة
جداً يا أركاديوش!! القمر على ارتفاع ثلاثة أمتار منيّ والماء
يجري من تحت قدمي والأشجار تظللني بفيئهاا!!
إيفا طارت يا أركاديوش! طارت في السماء! اخترقت حواجز
الغيوم وحلّقت بين الكواكب وتركتني هُنا أتضوّر جوعاً بين
هذه الصناديق التي يعتبرونها بيوتاً!! وعمّا قريب سألحق بها.
سأطير سأطير لابتعد عن هذا العالم الضيّق إلى عالم أرحب
تجري فيه الأنهار وأرى فيه الشمس والقمر والغيوم!!
بولونيا لم تعد لنا يا أركاديوش. أرغمناهم على طردنا منها
فكان لنا ما أردنا. أبق في أرض ميعادك يا أركاديوش فن
تستطيع اللحاق بي إلى الكواكب الأخرى!! إبق يا عزيزي ولو
من أجل الطفلين اللذين فرض عليهما الشقاء. حاول أن تدعهما
ينسيانني فذلك أفضل من إعطائهما وعوداً كاذبة.
لم أذق شيئاً منذ ثلاثة أيام يا أركاديوش ولا أظن أنني سأجد
من يعطف علي، وكبريائي تأبى التسوّل بل تفضّل الموت على
ذلك!!
إنني أحملّك مسؤولية كل ما حدث ولا أحمِّلُ أحداً غيرك!
فاعتني بالطفلين وحاول أن تكون يهودياً ولو بالتملّق علّهم
ييسرون لك سبل الحياة في أرض ميعادك.
موعدي مع العالم الآخر عالم الشمس والقمر والأنهار الجارية
سيكون بعد أن أضع لك هذه الرسالة في البريد. سألحق بإيفا
الهجرة إلى الجحيم 187
وأحيا معها هناك!! فا تقلق ولا تحزن يا أركاديوش!!
اقبلك. اقبل جشيجوش وداريوش بحرارة.
وإلى اللقاء في العالم الآخر!!
زوجتك:
نينا
188 الهجرة إلى الجحيم
- 16 -
خرجت من الغرفة كالمجنون يا فداء. لم آخذ معي أي شيء
فقد أطارت رسالة نينا صوابي. لا شك أنّها جّنت وقد تنتحر
فعاً إذا لم أنقذها بطريقة ما.
وأنا أنزل الدرج شاهدت المرأة السوفيتية - التي لبّت وصيّة
زوجها فأحضرت جثته في التابوت لتدفنها هُنا - وكنت قد
انقطعت عن مشاهدة الأسرة بعد أن أقمنا في البناية. كانت
تجلس أمام الباب وقد بدأ شكلها مخيفاً. قلت لها محيياً:
- ))شالوم((!
ولم انتظر ردّها، بيد أنّها استوقفتني قائلة:
- عفواً!
التفت إليها.
- نعم!
- ألست أنت اليهودي البولوني الذي وصلت معنا إلى
هنا؟!
- أجل أنا هو.
- كيف حالك الآن؟
- كما ترين! لا توجد حال أسوأ من هذه!! فاقتربت منّي
وعيناها تنمّان عن حزن وندم مخيفين. قالت:
- هل لي أن أفصح عماّ يعتمل في صدري إليك؟
وكنت سأعتذر منها وأمشي لولا أنني أحسست بأعماقها
تتمزق، فقلت:
- طبعاً أجل تفضلي!!
الهجرة إلى الجحيم 189
فقالت:
- أنا وأولادي على استعداد لأن نقطع أوروبا مشياً على
الأقدام لكي نقبل ولو حجراً من حجارة الطرق في
موسكو!!
وخرّت في بكار مرير يا فداء! بكاء مفجع إذا جاز التعبير.
لم أعرف ماذا أفعل. انسحبت ببطء وتركتها تنتحب بحرقة...
رحت أعدو إلى موقف الباص. بلغت بيت راحيل بعد حوالي
نصف ساعة. استقبلتني راحيل بوجه باش والطفان يقفان
خلفها. بديا سعيدين وقد أشرق وجهاهما، فقد عملت راحيل
حماماً لهما وألبستهما ثياباً وأحذية جديدة، فاضطررت أن أفرد
أسارير وجهي لأخفي ما يعتلج في نفسي ليظاّ فرحين لمدة
أطول. وأخذت أشكر راحيل. قالت:
- لا داعي للشكر يا أركاديوش فلم أقم سوى بالواجب
تجاه طفلي صديق. يبدو أنّك أهملتهما إلى درجة كبيرة.
لم أحتمل رؤية ملابسهما الرثّة وحذاءيهما الكبيرين
المهترئين وأقدامهما المشققة واتساخ جسميهما. لماذا
أهملتهما إلى هذا الحد؟!
- أنا آسف يا راحيل! لم يكن في استطاعتي أن اعتني
بهما!
وصمتنا قلياً. خرج الطفان يزهوان بملابسهما الجديدة.
همست لها:
- راحيل!
- ما بك؟
- هل في استطاعتك أن تدبري أمر تهريبنا من هذا البلد
190 الهجرة إلى الجحيم
في أسرع وقت؟!
- هل حدث شيء جديد؟
- أجل! لكن اسمحي لي أن لا أطلعك عليه!!
- لماذا؟
- لا أريد أن أحملك كل آلامي!
- اطمئن فلن أتألم، لقد أعتدت مشاهدة الآلام وليست
قصة أسرتي إلاّ شيئاً يسيراً منها!!
- تلقيت رسالة من زوجتي لقد طرودها من بولونيا. يبدو
أنّها جنّت. تقول أن الطفلة رحلت وأنّها ستلحق بها
قريباً جداً!
- ألم تضع عنوانها؟
- كلاّ لكن الرسالة قادمة من فينا.
- هذا لا يفيد. ما تاريخ الرسالة؟
- لم تؤرخها أيضاً لكن هناك تاريخ البريد لقد مَرّ عليه
حوالي أسبوعين!!
- اقرأ لي الرسالة إذا سمحت.
أخرجت الرسالة. قرأتها لها... قالت وهي تملس على رأسي
مواسية:
- أظن أن الأمر انتهى يا أركاديوش... يبدو أنّها جادة
فيما تقول إلاّ إذا حدثت معجزة ما أنقذتها.
- كلاّ! لا يمكن أن تقدم على الانتحار. أرجوك يا راحيل
ساعديني لأخرج من هذا البلد.
- هل أنت مصر؟
- أجل يا راحيل يجب أن أخرج
الهجرة إلى الجحيم 191
- لكن في البقاء هنا خطورة أقل من التي ستتعرض لها
أثناء خروجك أو حتى بعده أيضاً!
- ماذا تقصدين؟
- أقصد أن الصهيونية تلاحقنا أينما ذهبنا وليس أمامنا
إلاّ أن نجابهها هُنا في قاعدتها!
- أرجوك يا راحيل!
- حسناً يا أركاديوش. سأساعدك لكنني لست مسؤولة
عما يحدث لك.
- حسناً، لكن أرجو أن توضحي لي الأمر.
- هناك صديق فلسطيني في القدس. سأرسلك إليه وقد
يساعدك في الوصول إلى أناس يعرفهم في إحدى
الدول العربية المجاورة وهؤلاء سيتوّلون بدورهم أمر
مساعدتك في السفر إلى حيث تشاء. لا أعرف أية
تفاصيل عن الأمر، لأنه لم يسبق لي أن بحثت معه
ذلك.
- هل تثقين به؟
- كل الثقة إنّه رفيق نضال! هل تظن أنني سأرسلك إلى
أناس لا أعرفهم؟
- ومتى في استطاعتنا أن نذهب؟
- منذ اليوم إذا شئت.
- وقصة أبراهام؟
- قصة أبراهام أشرفت على النهاية. سأقوم ليل الغد
بإحضار لوحاته ومنحوتاته إلى هُنا بمساعدة بعض
الأصدقاء، وبعد مدّة سننشر المعلومات التي لدينا
192 الهجرة إلى الجحيم
وما قد نحصل عليه من معلومات أخرى. ولا تظن أن
في استطاعتنا أن نفعل أكثر من ذلك. وبعد شهر من
الزمان ستنسى قضيته كما نسيت عشرات القضايا من
قبل، فهو ليس الوحيد الذي اغتالته الصهيونية طوال
تاريخها. لكننا سنقوم بالواجب تجاهه كأي مناضل من
رفاقنا. وسنحتفظ بلوحاته ومنحوتاته مهما كلّف الثمن.
- أشكرك يا راحيل. هل في الإمكان أن نباشر في السفر
إلى القدس؟
- منذ الآن؟
- أجل.
- كما تريد. أرجو أن لا تضطر إلى تذكر قولي في لحظة
ما من أن الحل الوحيد أمامك هو أن تبقى معنا وتناضل
إلى جانبنا.
- إنني أحبذ رأيك يا راحيل لو لم أكن في مثل هذه
الظروف.
- ليكن يا صديقي أرجو لك التوفيق. اسمح لي سأخابر
أخي. ونهضت إلى الهاتف. طلبت رقماً وتكلّمت بالعبرية.
عادت إلي:
- ألا تريد أن تحضر متاعكم من البيت؟
- سأتركه للسوخنوت مقابل الفلوس التي استلفتها منها!!
- كما تريد!
وبعد برهة حضر أخوها. عرّفتني عليه. كان شاباً وسيمّا
بهي الطلعة. فاجأتني عندما قالت أنّه هو الذي سيقلّنا في
سيارته إلى القدس.
الهجرة إلى الجحيم 193
ارتدى الملابس المدنية. صعدنا إلى سيّارته وقد أصَرّت
راحيل على مرافقتنا. انطلقنا إلى القدس، بينما ))سارة((
و))طرفة(( تلوّحان لنا مودعتين... صافحت سارة بحرارة قبل
أن أصعد، وشكرتها على السهرة. قالت لي ))سلّم على دمشق
إذا مررت بها!!!((.
ضممت الطفلين إلى جانبي بينما ))النقيب(( يكبح عجات
سيّارته أمام إشارة مرور... لم أصدّق أن الأمر سيتم بهذه
السهولة. لقد حيرّتني راحيل إلى درجة كبيرة. أظن أنّ في
استطاعتها أن تفعل الكثير لكنها لا تريد. فهي تحبِّذ بقائي
لأناضل إلى جانبهم. إنّها وفية لمبادئها كلما يبدو. ولو كان رجل
غيري لما قدّمت له هذه المساعدة.
كانت السيارة تنطلق بسرعة فائقة، تطوي الشارع تحت
عجلاتها. وكان الطفان فرحين والهواء يعبث بشعر رأسيهما
وهما ينظران عبر الشبابيك إلى التال والجبال الخضر.
أحسست بشعور يخالجه الفرح على الرغم من الرسالة التي
عَكّرت مزاجي. وهممت لأن أحتضن راحيل من الخلف وأقبّل
شعرها لولا أن وجود أخيها جعلني أحجم عن الأمر.
كانت تجلس إلى جانبه في المقعد الأمامي وبعض خصات
شعرها تطير إلى الوراء من جَرّاء عبث الهواء به...
* * * * * *
بعد الظهيرة كنا نصل إلى الأحياء الشرقية من مدينة
القدس. كان صديق راحيل يقيم على قمّة جبل الزيتون وشرفة
بيته تطل على الصخرة والحرم وأحياء كثيرة من مدينة القدس.
بدأ كما تخيلته فعاً شاباً وسيماً. وجهه ملوّح بالسمرة. وهؤلاء
194 الهجرة إلى الجحيم
هم معظم أصدقاء راحيل ورفاقها. كلهم من الشباب والشابات
الوسيمين الذين يتمنى المرء أن يعيش بينهم، بل إنني تمنيت
لو أنّ هناك عدالة ليحكم أمثال هؤلاء العالم!! ليس فيهم من
يتجاوز الخامسة والثلاثين كما أظن، ومعظمهم يتراوحون بين
سن العشرين والثلاثين ومن طاّب المعاهد العليا والجامعات
أو العماّل وصغار الموظفين... وصديقها هذا ما أن تراه حتى
تشعر أنّك كنت تعرفه منذ مدّة طويلة. بل لا تصدّق نفسك
أنّك لم تره قبل هذه اللحظة. لقد رأيت في وجهه كل الألفة
والطمأنينة اللتين رأيتهما في وجه راحيل، واللتين أراهما في
وجهك الآن يا فداء!!!
أدخلنا إلى صالون متواضع جداً. قدَّمتني راحيل إليه قائلة:
- الصديق أركاديوش بودليفسكي واحد من عشرات الآلاف
الذين غرر بهم للقدوم إلى أرض الميعاد!
رَحّب الشاب بي بينما راحيل تشير إليه لتقدمّه لي:
- الرفيق الدكتور ))وليم حنّا(( فلسطيني من المغضوب
عليهم في أرض الميعاد أيضاً!!
ثم قدمت الطفلين له.
لم نكد نجلس حتى جاءَت فتاة صافحتنا وخرجت لتعود
بالقهوة. لم تجلس معنا إلاّ قلياً وانصرفت.
أخذت راحيل تخبر وليم بكل قصتي وهو يصغي بانتباه
شديد. وفوجئت أنّ راحيل تجيد العربيّة جيداً. لقد نسيت أنها
من أبويين عراقيين!!
فرغت راحيل من سرد قصتي. خاطبني وليم بالإنكليزية.
- في استطاعتي أن أهرّبك مع بعض الرفاق إلى بلدٍ
الهجرة إلى الجحيم 195
عربي مجاور. العملية سهلة جداً ولا تكلف شيئاً. العقبة
الوحيدة أمامنا هي اجتياز الحدود. إذا ما اجتزتها
اعتبر الأمر انتهى. لكن يجب أن تمهلني مدّة أسبوع
لأجد الرفاق الذي في استطاعتهم أن يرافقوك.
- شكراً جزيلاً!
- هذا واجبنا وإن كنت أحبّذ رأي راحيل، لكنني لا أريد أن
أثقل عليك. ستقيم هُنا في بيتنا هذه الليلة، ونهار الغد
ساصطحبك في المساء إلى مكان آخر أكثر أمناً لتقيم
فيه مع الطفلين. فبيتي شبه مكشوف للناس ويراقب
في كثير من الأحيان. ستقيم هناك إلى أن أحضر من
سيرافقكم إلى الحدود ويدخل معكم إلى البلد المجاور.
وددت أن أسأله عن البلد المجاور هذا لكنني أيقنت أنّه يريد
أن يخفي الأمر إلى حينه فلم أسأله.
* * * * * *
انصرفت راحيل وأخوها بعد أن تناولنا طعام العشاء. أعطتني
عنوانها. تعانقنا بحرارة لحظة الوداع. لفّت الكآبة وجهي وأنا
أضمّها إلي...
))هل سألتقي بها يوماً ما؟! هل سيضمني هذا الصدر
الدافئ النابض بالحنان مرّة أخرى؟ لا أدري!((
كانت حزينة واختلجت عيناها بالدموع وهي تعانقني:
))راسلني يا أركاديوش إياك أن تنسى؟(( ))وهل أنسى هذا
القلب الكبير الذي يحب أكبر عدد من البشر؟ بل هل أنسى
قلبي؟ لو كانت هناك عدالة في هذا الكون لجاءت زوجتي
وعشنا معكم، وضممنا قلبينا إلى قلوبكم! أنت ورفاقك أنبل ما
196 الهجرة إلى الجحيم
عرفت من البشر يا راحيل! كم أكون سعيداً لو في استطاعتي
أن أبقى بقربكم. وداعاً يا حبيبة الكل!!! وداعاً((.
قطع علي ))وليم(( تأملاتي عندما سألني فيما إذا كنت أرغب
في النوم. ولأنني كنت مرهقاً إلى درجة كبيرة قلت ))أجل يا
صديقي إنني متعب((
أخذنا إلى غرفة. هيّا لنا فيها فراشاً على الأرض. اضطجعنا
واحدنا إلى جوار الآخر. قبّلت الطفلين وداعبتهما قلياً. كانت
أوّل فرصة تتاح لهما لأن يسألاني بحرّية علّني لن أجيبهما
باقتضاب كما فعلت معهما في الأيام السابقة. انهارت اسئلتهما
علي:
- لماذا تركنا بيتنا؟
- لماذا نمنا بالأمس في بيت ))العمّة(( راحيل وجئنا اليوم
إلى هُنا؟
- لماذا لم تبقينا عندها؟
- هل سنقيم هُنا أم سنذهب إلى مكان آخر؟
- هل سنعود إلى بولونيا؟
- إذن لن تأتي ماما إلى هُنا؟
- وسنراها ونرى اختي إيفا؟
- متى سنسافر؟
وكنت أجيب على كل سؤال. تارة اصدّق القول وتارة أكذب
إلى أن نعسا وخلدا إلى النوم. فنمت بدوري وصور شتّى تراود
مخيلتي.
صورة واحدة أطبقت على راسي بعنف أكثر من أي صورة
أخرى. وهي أن هؤلاء الناس الذين ذبحوا في ))دير ياسين((
الهجرة إلى الجحيم 197
وغيرها، هم الذين سيقدمون على إنقاذي. إنقاذي أنا الذي
أصبحت شريكاً في هذه المأساة بقدومي إلى هذه الأرض ))هل
مغادرتها الآن تشفع لي؟! هل ينسون أنني يهودي أو محسوب
على اليهوديّة واليهود؟! كلاّ فلن ينظروا إلي إلاّ كيهودي ذبح
أبناءهم وقتل أطفالهم وشردهم واحتل أرضهم. شئت ذلك أم
أبيت. والمأساة أنّ بني قومي ما زالوا يحتلون أرضهم ويقتلونهم
ويشرّدونهم فلن يشفع لي واقعي الذي أعيشه؟!((
هذا ما كان يقلقني يا فداء. فإذا كان وليم يتفهم الأمر، فهل
أهله يتفهّمونه؟! هل كل الفلسطينيين ينظرون إلي كما ينظر
هو؟ إنني أجزم أنّ في داخل هذا البيت من يقول الآن ))يوجد
يهودي حقير ينام في بيتنا! يهودي سفَّاح هو كل مأساتنا!!((.
وظلّت هذه الصورة تطبق على رأسي كمطرقة حدّاد إلى
ساعة متأخرة من الليل. ووددت أن استدعي وليم لأطلعه على
الأمر ليخبر أهله لولا أنّ الليل كان متأخراً. ولا أعرف كيف
نمت وهذه الصورة تراود مخيّلتي فانعكست في أحلامي.
ولحسن الحظ شاهدت نفسي في الحلم أشرح ظروفي لأهل
وليم وأعلن أمامهم براءتي من دم الفلسطينيين وأحيطهم علماً
بكرهي للصهيونية واشمئزازي حتى من اليهود!! فنهضت من
النوم منشرح الصدر لكنني ما لبثت أن أدركت أن هذا لم يجر
إلاّ في الحلم، فرُحت أستدعي وليم على وجه السرعة.
جاء إلي، وما أن رددت عليه تحيّة الصباح حتى قلت متسائلاً:
- وليم أرجوك!
- ماذا؟
- هل أخبرتك راحيل أنني لم أحضر إلى هذا البلد إلاّ
198 الهجرة إلى الجحيم
منذ بضعة أشهر ؟
- أجل أخبرتني.
- وهل أخبرتك أن لا علاقة لي بالصهيونيّة؟
- طبعاً طبعاًّ! لكن ما بك أنت؟
- ارجوك وليم أشعر أنني لا أنتمي حتى إلى اليهود
أنفسهم!
- يا صديقي ما الذي جرى لك كنت عاقلاً بالأمس.
- أرجو أن تقدّر موقفي!
- إنني أقدّره واتفهمّه أيضاً!
- أشكرك وأرجو أن تطلع أهلك على الأمر.
- لكن اهلي يستوعبون هذه القضية جيداً يا أركاديوش،
ويعرفون أنّ اليهودي كيهودي ليس سبب مأساتنا.
- كلاّ أرجوك. لا تعرف كم القضيّة مصيريّة بالنسبة إلي.
أرجو أن تستدعي أهلك لأوضح لهم الأمر أو تطلعهم
أنت عليه!
- يا صديقي لا تدعهم يضحكون عليك، فهم لا يفكّرون
في الأمر نهائياً.
ورفض وليم أن يطلع أهله على حقيقة الأمر. فظلّت القضية
تؤرقني وإن اقنعني بشتى السبل أن لا أفكّر فيها أبداً.
* * * * * *
الهجرة إلى الجحيم 199
اصطحبنا وليم قبل الظهيرة إلى القدس الشرقية. زرنا
المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والمتحف وعدنا إلى البيت.
تناولنا طعام الغذاء واسترحنا، وفي المساء كان ينقلنا إلى
بيت السيدة العجوز التي تقول أنّها امّك يا فداء!!
* * * * * *
لم يخبرني وليم أي شيء عنها. قال لي أنّها ستستضيفني
إلى أن يعود إلي. وقدّمني لها على أنني مهاجر يهودي وانصرف
دون أن يذكر لي حتى اسمها. وأكدَّ لي أنّه سيزورني كل ليلة إذا
تمكن.
ولم تمر سوى فترة قصيرة على ذهابه عندما خطر لي
الهاجس الذي تلبسني وأنا في بيت وليم. كانت المرأة تنظر
إلينا بعينين متسائلتين أو هكذا شعرت. لم استطع أن احتمل
نظراتها، فطلبت إليها أن ترينا المكان الذي سننام فيه...
اشارت إلي بيديها قاصدة أن ننتظر لنتناول العشاء، فأشرت
بدوري أننا تعشينا في بيت وليم، لكنها لم تقتنع، وعلى الرغم
من كل محاولاتها لم أقبل الانتظار ولو لتناول الشاي أو القهوة،
فنهضت. أرتني الغرفة التي سننام فيها وأرتني المنافع والمطبخ
وموضع السكر والشاي والبن إذا فكرت أن أعمل شيئاً خال
الليل.
فرشت لنا على الأرض وخرجت. أشارت لي قائلة ))تصبحون
على خير(( فرددت بنفس الإشارة!
أحسست بيني وبين نفسي أنني مخطئ وإن ما أفكر فيه
ليس وارداً على الإطاق. ورحت استعيد وجه المرأة وحركاتها
200 الهجرة إلى الجحيم
ونظرات عينيها، فلم أتوصل إلى نتيجة وإن بدا لي أنّه ليس
هناك ما يثير القلق في حركاتها ونظراتها.
تبينّ لي أن الطفلين جائعان فأقنعتهما أن يناما حتى الصباح.
أخذا يسألانني كالعادة وأنا أجيب إلى أن ناما.
في اليوم التالي سار كل شيء على ما يرام، وإن ظل الإحساس
إيّاه يراودني على الرغم من هدوء المرأة وعطفها ونبلها...
تعقد الأمر في اليوم التالي عندما خرجت بالطفلين لنتنزه
قلياً، وإذا بها تتبعنا وهي تشير بيديها طالبة إينا الرجوع إلى
البيت. لحظتئذ انتابني ذاك الإحساس بشدّة. كانت تشير بيديها
إلى البيوت القريبة ثم إلى بيتها وهي في حالة من الذعر، فعدنا
إلى البيت دون أن أفهم شيئاً! بعدئذ تذكرت أن وليم أحضرنا
خال الليل لكي لا يرانا أحد، فرحت أعتذر لها راسماً بعض
الحركات بيدي ورأسي وأنا أجاهد لأن أنسى هذا الإحساس
الرهيب الذي راح يطغى علي...
لقد زاد اعتصامنا داخل البيت وبقاؤنا أمام المرأة وجهاً
لوجه معظم ساعات النهار الأمر سوءاً، لا سيمّا وأننا لم نجد
شيئاً نتسلىّ به لقتل الوقت.
ومَرَّت خمسة أيام يا فداء، خمسة أيام شعرت أنها خمسة
أعوام. الطفان جنّا من الضجر. فضربتهما لكي يكفّا عن طرح
الأسئلة. وهذه المرأة لا استطيع التحدث إليها إلاّ بالإشارة، فا
تفهمني ولا أفهمها. نقضي الوقت يجلس واحدنا في مواجهة
الاخر كطيور البوم. عيوننا فقط هي التي تتحدث، فرحت أشتم
وليم وراحيل التي عرفتني عليه. فأين هو؟ وضعني في هذا
السجن ولم يعد؟!
الهجرة إلى الجحيم 201
في اليوم السادس حاولت أن أفتح حواراً مع المرأة لقتل
الوقت. اشرت من النافذة إلى بيوت القرية المتجانسة لتخبرني
ما اسمها، وإذا بها تقول ))دير ياسين(( فتحت فمي من وطأة
الاندهاش ورحت أتاكد منها وأنا اردد ))دير ياسين(؟! فأجابتني
بإيماءة من رأسها وقد ارتسم الذعر على وجهها. ولا أعرف
كيف رحت أضرب رأسي بالحائط. ولولا أنّها هجمت علي
وأمسكتني لفتكت بنفسي. كان الطفان يسرخان إلى جانبي
وأنا أشير إليها مسخراً كل حركة من جسمي لكي أقنعها أنني
لست يهودياً ولم أقتل أحداً في دير ياسين. فأومأت برأسها
وكأنها أدركت ما أقول، لكنني لم أصدّق ذلك!!
ضمَّدت رأسي بمنديل ولا أعرف ما الذي وضعته على الجرح
لتقطع النزيف!!
لم أعد قادراً على احتمال المكوث في البيت لكنني كنت
مرغماً يا فداء. فإلى أين نذهب، والطفان لم يعودا يسألانني
شيئاً نتيجة الرعب الذي انتابهما من جرّاء ضربي لهما ومما
أقدمت عليه ذلك اليوم. أعرف أنهما باتا كسجينين. لكن ماذا
أفعل. قلت سأنتظر أربعة أيّام أخرى وإذا لم يحضر وليم سأخرج
من هذا البيت ولو إلى جهنّم.
ومساء الأمس يا فداء ظللت أرقب الطريق من جانب النافذة،
منذ الساعة السابعة صباحاً وحتى حَلَّ الظام، ولم أتناول شيئاً
من الطعام، ولم يحضر وليم. لا تسألني كم مَرّة نظرت إلى
الساعة، وكم شعرت باليأس والضجر القاتل...
كنت واقفاً بجانب النافذة وأنظر إلى الطريق علّني أشاهد
أضواء سيّارة وليم، عندما أحسست بيد هذه المرأة - التي
202 الهجرة إلى الجحيم
تصر على أنّها أمّك - تربت على كتفي. نظرت إليها. لا أستطيع
أن أصف نظراتها، فليس فيهما أي شيء من هذا الإشفاق أو
الحنو أو الحزن الذي تحدثت عنه. ولا أعرف كيف شرعت
أصرخ في وجهها بالبولونيّة ))لست يهودياً ولم أقتل أحداً في
دير ياسين، هل تفهمين؟ هل تفهمين؟!(( وهممت أن أطبق على
عنقها بكلتا يدي، لولا أنني تراجعت في اللحظة الأخيرة!!
مسكينة يا فداء. وقفت مندهشة يلفها الذعر، بينما رحت
ألبس الطفلين ثيابهما وأخرجهما أمامي. ولم تجرؤ أن تمنعني
من ذلك.
كان الطفان في حالة رهيبة من الذعر. أمسكتهما من يديهما
ورحنا نخطو في اتجاه الشرق إلى وصلنا إلى هنا وجلسنا...
ضممت الطفلين إلى صدري ورحت أنتحب بحرقة!! ما
الذي في استطاعتي أن أفعله يا فداء. لقد بت يائساً من لقاء
زوجتي. وليس في الإمكان البقاء هُنا لا سيمّا وأنني أصبحت
في عداد الملاحقين دون شك. أحسست أن كل المنافذ قد
أغلقت أمامي وخاصة بعد انقطاع وليم، فغمرني اليأس ولم
أجد إلاّ الانتحار!!!
وما أن نام الطفلان حتى شرعت افكّر في كيفيّة التنفيذ....!!!
* * * * * *
هذه قصتي يا فداء. أظن أنني تسرعت إلى حدٍ ما في
سردها عليك! فقد تجاوزت بعض الجزئيات الصغيرة، لكنني
أحطتك بأهم ما حدث معي منذ خروجي من بولونيا وطوال
إقامتي في ))إسرائيل(( حتى اللحظة التي هممت فيها لأن أقتل
طفلي وأقتل نفسي...
الهجرة إلى الجحيم 203
أشكرك لإنقاذنا من الانتحار. علماً أنني لا أحس الآن بهذه
السعادة التي شعرت بها مساء عندما فوجئت بك تجلس أمامي
وتوقظني من غيبوبتي، وتقول لي أنني لم أقتل طفلَي ولم أنتحر!
لكني أحس بشيء من التفاؤل! فأشكرك من القلب!!
204 الهجرة إلى الجحيم
- 17 -
كان القمر يجنح خلف جبل الزيتون في الأفق الغربي فبدأ
وكأنّه سيغيب في سماء القدس، وكانت خيوط الفجر ترتسم في
الأفق الشرقي معلنة قرب انباج النهار عندما انتهى أركاديوش
من سرد قصته المؤلمة لي.
اخرجت آخر سيجارتين من علبة السجائر الأخيرة التي
كانت لدي. قدّمت واحدة له ووضعت الثانية بين شفتي. قلت
وأنا أشعل السيجارة له:
- هذا الذي قصصته علي يا أركاديوش رواية! ولا أعرف
فيما إذا كان من حسن حظّي أو من سوئه أنني سأكون عنصراً
أساسياً في خاتمتها. على كل حال أشعر بالغبطة لأنني سأشارك
في صنع الخاتمة. لقد أنقذتك والطفلين وإنني سعيد لهذا، ولن
تكتمل سعادتي إلاّ بعد أن أجتاز معكم الحدود إلى لبنان. فإمّا
أن نحيا معاً ))وهذا حسن الخاتمة(( وإمّا أن نموت معاً على
الحدود ))وهذا بئس الخاتمة طبعاً((!!
- إذن سنذهب إلى لبنان؟
- أجل يا صديقي وسأكون إلى جانبكم. وفي اللحظة التي
أبتعد فيها عنكم أعرف أنني خذلتكم!
- كما فعل وليم؟
- لا لا وليم لم يخذلكم!!
- هل تعرفه؟
- ومن لا يعرف وليم إنّه رفيق من تنظيم غير الذي أنتمي
إليه، ونحن هنا في العادة ننسق فيما بيننا!!
الهجرة إلى الجحيم 205
- وهل تعرف لماذا لم يعد إلينا؟
- أجل! فهو معتقل منذ تسعة أيّام!!
- ماذا؟
- هذا ما حدث يا صديقي. أي منذ صباح اليوم التالي
لقدومكم إلى بيتنا إذا جئتم قبل عشرة أيّام حسبما
عرفت. يبدو أنهم كانوا يراقبون البيت وتحرّكات وليم.
فارتابوا من قدومكم إليه!!
- يا إلهي! أرجو أن لا تكون راحيل قد اعتقلت أيضاً!
- لا أدري هيّا لننهض، يجب أن نعود إلى البيت قبل رحيل
الظام.
- البيت إيّاه عند العجوز؟!
- أجل عند العجوز!
- أرجوك فأنا لا استطيع رؤية عينيها!!
- أوه دعك من هذا يا صديقي، فليس هناك أي مكان
آخر نذهب إليه. وأعدك أننا سنتحرّك هذا المساء.
- لكن بشرط أن تخبرها بكل شيء!
- سأخبرها!
- وتخبرني لماذا قالت ))دير ياسين(( عندما سألتها عن
القرية.
- سأخبرك لكن هيّا أيقظ الطفلين فلم يعد أمامنا وقت!
وشرع في ايقاظ الطفلين.
قدناهما من يديهما وسرنا. قال:
- ألن تخبرني بحقيقة أمّك هذه؟
- أفضل تأجيل الأمر إلى وقت آخر!
206 الهجرة إلى الجحيم
- لماذا؟
- لكي لا تعود إلى حالتك الأولى!
- أرجو أن لا تكون أمّك من دير ياسين؟!
- كلاّ ليست منها!
- من أين إذن؟
- من قرية قريبة منها!
- لكن لماذا قالت ))دير ياسين(( عندما سألتها عن اسم
هذه القرية؟
- سأخبرك فيما بعد. يجب أن نسرع الآن، لقد انقشع
الظام. ورحنا نحث الخطى ناحية البيت.
* * * * * *
وجدنا أمّي في حالة من القلق. فلم تنم طوال الليل. لكنها
استبشرت خيراً عندما رأتنا:
- أين وجدتهم يا ولدي؟
- وجدتهم على مقربة من هُنا يا أمّي. لكن أركاديوش لم
يقبل أن يعود معي.
- ألم تعرف ما الذي ألم به؟
- خائف منك!
- منّي أنا؟
- يعتقد أنّك تكرهين كل اليهود!
- لكن ما الذي دفعه إلى هذا الاعتقاد؟
- مجرّد سوء تفاهم يا أمّي كونكما لم تستطيعا التفاهم
بالإشارة!
- قل له يا ولدي أنني لا أكره إلاّ الذين تسببوا في نكبتنا
الهجرة إلى الجحيم 207
وهو ليس منهم كما أخبرني الدكتور وليم. فلماذا أكرهه؟
- إنّها مشكلته يا أمي، فهو يشعر أنه أصبح شريكاً في
نكبتنا طالما أنّه هاجر إلى أرضنا.
- أخبره يا بني أننا لا نكن له إلاّ الخير. فهو ليس المخدوع
الوحيد الذي دفعوه إلى الهجرة.
شرعت أخبر أركاديوش بموقف أمّي. وما أن انتهيت حتى
بادرني قائاً:
- أنا آسف جداً أرجو أن تعذرني. أشعر أنني أخطأت
كثيراً، لكن تأخر وليم هو الذي زاد الأمر سوءاً.
ترجمة قوله لأمّي فتصافحا وتصالحا.
أدخلنا الطفلين إلى غرفة النوم، ليكما نومهما، بينما نهضت
أمّي لتحضّر لنا كأسين من الشاي.
قلت لأركاديوش:
- سنشرب الشاي وننام أليس كذلك؟
- أجل فأنا أحس بإرهاق شديد!
وجاءت أمّي بالشاي. شربنا ونمنا...
208 الهجرة إلى الجحيم
- 18 -
استيقظنا من النوم حوالي الواحدة بعد الظهر. رحت أبحث
عن الطفلين في أرجاء البيت. وجدت أم فداء قد ابتاعت لهما
ألعاباً فجلسا يلعبا بها. شكرتها كثيراً وأنا أعانقهما وأقبلهما...
ثم جلست ألعب معهما.
وبعد قليل جاء فداء وشاركنا اللعب.
كم هو مرح هذا الإنسان؟! فقد انسجم الطفان معه
وتركاني. ها هو يركب جشيجوش على كتفيه ويعدو به داخل
البيت. أحسست بفرح كبير وأنا أرقب الطفلين وفداء وأمّه وإن
كان بعض القلق يراودني من مخاطر التسلل عبر الحدود. لكنني
تناسيت هذا القلق ورحت ألعب معهم!!
مكثنا نمرح إلى أن أحضرت أم فداء طعام الغداء. كان وجبة
شهيّة لم أشاهد مثلها في حياتي. كميّة كبيرة من الرز مغطّاة
بلحم الدجاج والباذنجان وكل هذا في طبق واحد كبير. قلت
لفداء:
- ما اسم هذه الوجبة؟
- مقلوبة دجاج!!
- ماذا؟
- مق لوبة دجاج!!
لكني لم أفهم شيئاً ورحت آكل بنهم...
نظرت إلى وجه أم فداء مبتسماً. لم تكن تأكل فقد كانت
تساعد الطفلين لتناول الطعام. لم أصدّق أن هذا الوجه هو
نفس الوجه الذي عاشرته طوال الأيام العشرة الماضية. صحيح
الهجرة إلى الجحيم 209
أنني أحسست بالعذابات التي ترتسم عليه. لكنها لم تبعث في
أي تأثير سلبي كما في السابق! فكيف كنت أتخيّل هذا الوجه
يصرخ بي ))أنت يهودي!! أنت قاتل!(( هذا ما لم استطع
تصديقه لولا أنّه حدث معي. إنني أرى الآن عذاباتي أيضاً في
وجهها.
أحسست بي أنظر إليها متأملاً فابتسمت لي...
فرغنا من تناول الطعام قال فداء:
- سأغيب عنكم حوالي ثاث ساعات. يجب أن أرى رفاق
وليم. قد ننسق معاً أمر تهريبكم. وإذا لم يكن في
استطاعتهم سنتكفل نحن بالأمر. إذا لم أعد فهذا يعني
أنني اعتقلت أو غدرت بكم!! وفي تلك الحال لك أن
تفعل ما تريد!
- أرجو أن لا تصاب بمكروه من أجلنا، فلم أعد قادراً
على تحمّل المزيد من الخطايا!
- اطمئن سأعود وقد هيّأت من يرافقنا. وغاب داخل
إحدى غرف البيت لبعض الوقت وخرج يرتدي ملابس
أنيقة وربطة عنق! فقلت:
- ما هذا؟
- هذا زي النهار يا صديقي! أمّا زي الليل فقد رأيت
بعضاً منه!! وودعنا وانصرف!
لم يغب أكثر من ساعة ونصف. فقد عاد فرحاً مسروراً.
قلت:
- اللهم اجعله خيراً!
- ليس هناك غير الخير!
210 الهجرة إلى الجحيم
- ماذا حدث؟
- وجدتهم يحضرّون أنفسهم للقدوم هذا المساء.
سيحضرون بعد حلول الظام. وليم قد يخرج من
السجن قريباً فلم يثبت عليه أي شيء، وهناك مفاجأة
لك!
- ما هي؟
- إنّها مفاجأة فكيف أخبرك ما هي؟
- مفاجأة سارّة مثلاً؟
- سارّة جداً!
- إذن لن تخبرني؟
- لن أخبرك حتى لا أقتل شيئاً من لحظة الفرح منذ
الآن!
- وإذا تكهنت وعرفت؟
- لن أخبرك أنك عرفت!
- وعلى الرغم من هذا آمل أن أرى راحيل للمَرّة الأخيرة،
فليس هناك ما يفرحني أكثر من مشاهدتها قبل رحيلي.
وآمل أن أسمع بعض الحقائق حول قضيّة أبراهام!!
- لا لقد جنح بك الخيال وأخذت تحلم بأشياء بعيدة جداً
عن موضوع المفاجأة!
- في هذه الحال لن تكون هناك مفاجآت إلاّ إذا جاءت
رسالة من زوجتي وعدلت عن عزمها على الانتحار!!
- اوه لقد حلّقت بعيداً يا صديقي. أنا آسف جداً فليس
هناك أخبار من زوجتك. أرجو أن تكون على قيد الحياة.
وإذا أردت أن أخبرك بالمفاجأة فسأخبرك!
الهجرة إلى الجحيم 211
- أجل أخبرني!
- حصلت راحيل على معلومات هامّة عن أبراهام كما
نشرت قصته في الصحف وأرسلتها مع أحد الرفاق.
لم يقبلوا أن يسلموني إياها، سيحضرها الرفاق معهم
إذا لم يحضر رفيق راحيل نفسه!
- وراحيل ما أخبارها؟
- إنّها بخير وتسلّم عليك وتعتذر لتأخرهم عليك. أظن أن
هناك رسالة منها لك أيضاً!
- لكن طالما تعرف أنني لم أذهب بعد فلماذا لم تحاول
القدوم؟
- لا أدري! أظن أنّهم خائفون من اعتقال وليم!
- ومن الذي سيذهب معنا هذه الليلة؟
- بعض الرفاق من جماعتنا وجماعتهم.
- أشكركم لقد كلّفتكم الكثير حتى الآن!
- بالعكس، فلم نقم سوى بالواجب. إنّها قضيتنا أيضاً.
غربت الشمس وأخذ الظام يهبط من حولننا... وقفت على
النافذة أرقب الطريق، بينما دخل فداء يغيّر ملابسه. أدهشني
عندما ربت على كتفي فالتفت إليه. كان يرتدي بذلة ضابط
إسرائيلي قلت:
- إذن سنجتاز الحدود بكل سهولة!
- كلاّ يا صديقي فهذه البدلة ليست إلاّ لاجتياز الطريق
إلى نقطة قريبة من الحدود.
- هكذا إذن؟
- أجل! هل ستظل واقفاً إلى جوار النافذة هكذا؟
212 الهجرة إلى الجحيم
- كلاّ فالانتظار شيء مقيت!
ولم نجلس إلاّ برهة قصيرة عندما سمعنا صوت محرّك
سيّارة. أطل فداء من النافذة وقال ))لقد جاءوا((.
سرت قشعريرة من الفرح في جسدي!! خرجنا. كان الظام
قد حَلّ تماماً. توقفت السيّارة على مسافة من البيت. أطفِئت
أضواؤها.. سمعت صوت إغاق الأبواب، ثم وطء الأقدام، لكنني
لم استطع تمييز عدد الرجال.
انتظرنا أمام البيت إلى أن اقتربوا. يبدو أنّهم أربعة رجال...
صافحونا دون تعارف. كانوا يرتدون الزي العسكري. لم استطع
أن أتبينّ وجوههم من جَرّاء الظام. شدَّ الرجل الرابع على يدي
وهو يقول لي ))كيف حالك يا رفيق بودليفسكي(( فقلت له
))أهاً يا رفيق(( دون أن أعرف من هو. لكنني تكهنت أن يكون
رفيق راحيل الذي أرسلت معه أخبار أبراهام.
دخل الرجال إلى البيت. هممت لأدخل خلفهم لكن فداء
أمسكني من ذراعي قائاً:
- انظر هناك رجل آخر قادم!
- أهو من الجماعة؟
- أظن أنّه منهم! انتظره يجب أن أدخل لأرحب بالباقين!
خطوت بضع خطوات في اتجاه الرجل. اقترب منّي. مَدّ يده
وهو يقول بالعربيّة ))مرحباً(( فقلت بدوري ))مرحبا أهاً(( وأنا
أمد يدي. لكن الرجل تحاشاها وراح يحتضنني ويضمني إليه
بشدّة ويقبلني دون أن يتكلّم. ولم تمر سوى بضعة ثوان عندما
أحسست باللمسات الأنثوية بل بأنفاس راحيل ونهديها اللذين
اندفعا ليضغطا على صدري، فاعتصرتها وأنا أهمس:
الهجرة إلى الجحيم 213
))راحيل((
فهمست:
))أركاديوش((!
ورحنا نتبادل العناق والقبل الحارة. أحسست أنني أضم
الكون كلّه إلى صدري وأطبع القبل على ثغره!!
همست:
- أيّة مفاجأة هذه؟
- ألم يخبرك فداء؟
- كلاّ لقد خدعني!
- لا وهل هذه خديعة؟
دخلنا إلى البيت. فوجئت أنّ شقيق راحيل كان من بين
الموجودين. صافحته مرّة ثانية:
- مرحباً يا حضرة النقيب!
فقال:
- أوه ألم تعرفني عندما صافحتك؟
- معذرة لم أعرفك!
جلست إلى جوار راحيل وأنا أتأمل وجوههم. كانوا من الشباب
لم استطع أن أميّز اليهودي من العربي. وبدت لي راحيل في
غاية الجمال بهذا الزي العسكري.
قدّمني فداء إليهم وقدّمهم إلي. عرفت من الأسماء أنّ
هناك يهودياً واحداً بينهم. فقد كان اسمه ))شلومو اللقيط((!!
فتسأءلت حول قصّة اللقيط هذه فقالت راحيل:
- شلومو واحد من أكثر من 150 ألف طفل لقيط
جمعتهم الحركة الصهيونيّة من مختلف أنحاء العالم
214 الهجرة إلى الجحيم
لتقيم إسرائيل. فأعطتهم أسماء يهوديّة وعلمتهم الدين
اليهودي. شلومو يصر على عدم نسيان أنّه لقيط فلقب
نفسه بذلك!!
فقلت:
- يبدو أنّه يفضّل أن يبقى لقيطاً على أن يصبح صهيونياً!
وما أدهشني أن شلومو ردّ بالإيجاب، وأضاف قائلاً:
- وإنّه ليسعدني ذلك!!
قال فداء مازحاً وهو ينظر إلي:
- كيف كانت المفاجأة؟
- عظيمة لكن أين المفاجأة الأخرى التي حَدّثتني عنها.
أهي صحيحة أم كانت لتغطية هذه فقط.
- اسأل راحيل!
وقبل أن أسألها، كانت تدير يدها إلى جيب سترتها وتخرج
منها بعض قصاصات الجرائد.
طالعتني صور جثّة أبراهام في القصاصة الأولى، ومقال
مطّول عن اكتشاف الجثة ودفنها من قبل رفاقه. وقد نشرت
بعض الصور لمنحوتاته ولوحاته.
وأرتني راحيل قصاصة أخرى عن نفس الموضوع إنّما بشيء
من الاختصار. ثم أخرجت قصاصة ثالثة كان عنوانها كما يلي:
))الذي أضاء الشمعتين في كهف أبراهام يروي القصّة
الكاملة لاغتياله((!
قرأت لي راحيل تفاصيل المقال:
كان الرجل قد قرأ ما كتبته الصحف وعرف أنّ قصّة
الشمعتين قد وردت ضمن ذلك. فكتب رسالة إلى إحدى الصحف
الهجرة إلى الجحيم 215
يعلن فيها عن تفاصيل الجريمة ووقعها باسم ))الذي أضاء
الشمعتين(( لكنه لم يذكر كيف حصل على تلك المعلومات.
وليس في الرسالة ما يشير إلى أنّه كان شريكاً في العمليّة،
لكنه سرد القصّة الكاملة للاغتيال بشيء من التفصيل. فقد
ذكر أن رجال الأمن كانوا يعرفون أن أبراهام يقضي معظم الأيام
في كهف في الجبل فلحقوا به - صباح اليوم التالي لظهوره في
الشارع - إلى هناك وقتلوه داخل الكهف بإطاق الرصاص على
رأسه ثم أحرقوا جثته!
لقد روى كل هذا بكثير من الدقّة في بعض الأحيان، حتى
أنّه ذكر أشياء لا يمكن أن يرويها إلاّ من شاهد الحادث أو سمع
تفاصيله من أحد الناس.
قلت لراحيل:
- ماذا كانت ردود الفعل؟
- نقمة عارمة في معظم الأوساط!
- ألم تحدث مظاهرات؟
- مظاهرة واحدة قام بها طلاّب معهدنا.
- والسلطة ماذا فعلت؟
- اتهمتك واتهمتنا
- كيف؟
- قالت إن الذين سرقوا لوحات أبراهام واختفوا هم الذين
قتلوه. لككنا نشرنا خبراً في صحيفة الاتحاد نعلن فيه
عن وجود اللوحات بين أيدٍ أمينة وقد اخفيناها خوفاً
من أن تسرقها السلطة ووقعنا الخبر باسمك!
- باسمي أنا!
216 الهجرة إلى الجحيم
- أجل!
- وماذا حدث؟
- لم يردّوا علينا. لكن البحث عنك جار في كل مكان.
- وبيتي ما أخباره؟
- موضوع تحت المراقبة!
- ليراقبوه إلى الأبد إذن!
لم يكن هناك وقت للانتظار. فما أن تناولنا القهوة حتى
أشار فداء إلينا بالنهوض وخاطبني ونحن نهم لذلك:
- أركاديوش!
- نعم!
- اتسمح لي بكلمة قبل أن نتحرك؟!
- طبعاً تفضّل!
- نحن جاهزون لمرافقتك، لكنني أرغب في أن أضم
صوتي إلى صوت أبراهام وراحيل ووليم. مكانك هنا
بيننا يا صديقي، الهرب لن يحل مشكلتنا ومشكلتكم.
أعرف أنني قد أثقل عليك بهذا. لكنه الرأي الصائب
حتى الآن. فأنت مخيّر والكلمة الأخيرة لك.
أحسست فعاً أنني مدان. بل أدفعهم إلى القيام بعمل ليسوا
مقتنعين به. فقلت:
- أنا آسف يا رفاق. اشعر أنني أثقلت عليكم فالحق
معكم. لكنني لا استطيع الإقامة في هذا البلد ضمن
ظروفي الحاليّة.
فقال فداء:
- ليكن يا صديقي، تفضلوا
الهجرة إلى الجحيم 217
وخرجنا من البيت. وقفت أم فداء تودعنا. قبلّتنا كلّنا وكأنّها
تقبل أطفالها!! وأخذت تتضرّع إلى الله أن يحفظنا.
قدنا الطفلين وذهبنا إلى السيّارة. كان سيّارة جيب عسكرية.
فوجئت بوجود رجل آخر فيها. يبدو أنّه ظلّ يحرسها. كان الرجل
صامتاً بدا لي وجهة وكأنّه قدّ من صخر. قالت راحيل وهي
تعرّفني عليه بنفس الطريقة السالفة:
- أقدم لك آخر يهودي ستتعرف عليه في أرض الميعاد. إنه
))آري شليجل(( يهودي الماني. قد تكون قصته أغرب قلياً من
القصص الأخرى. فقد شاهد أمّه وأباه يساقان إلى الحرق بينما
هو سُفّر إلى فلسطين. مَرّ عليه وقت طويل قبل أن يكتشف سرّ
هذا اللغز ))فكيف يساق أبواه إلى الحرق بينما هو يسفّر إلى
فلسطين؟!(( وظَلّ يبحث عن السر إلى أن اكتشف أن الصفقة
التي عقدتها الصهيونيّة مع النازية كانت تقضي ))بغض النظر
عن قتل المسنين من اليهود مقابل إرسال الشباب منهم ))أي
من اليهود(( إلى فلسطين(( لأنهم بحاجة إلى الشباب والشباب
فقط ليقيموا دولة ))إسرائيل(( على أرض الميعاد!!!
))يا إلهي!!(( صافحت الرجل بحرارة وشددت على يديه
وكأنني أعزيه!! قلت لراحيل:
- هل كل رفاقك هكذا، خلف كل واحد منهم تاريخ منج
القهر والمعاناة؟!
فقالت:
- ولهذا أصبحوا رفاقي يا أركاديوش!! هؤلاء هم الذين
قد يكون لهم دور كبير في اللحد الذي يحفر لدولة
الصهيونيّة!!!
218 الهجرة إلى الجحيم
- 19 -
صعدنا إلى السيّارة. جلس شقيق راحيل خلف المقود وقد
جلس إلى جانبه شلومو وأحد الرفاق بينما جلسنا نحن في
الخلف. أشرت له قائاً:
- هيّا يا حضرة النقيب اتكل على موسى!!
فقال: ))ولا يهمّك(( لقد وضعت على الجيب الشارة التي
يضعها الجنود المتدينون على دباباتهم. فسنجتاز كل الحواجز
بسام.
- أحسنت! إذن سيارتنا الآن يهودية أصلية؟
- أجل أصلية مائة في المائة!!
استدار بالسيارة وانطلق بها. تأملت وجه راحيل فوجوه
الرفاق فالطفلين الوديعين ثم وجه أركاديوش. قلت له:
- كيف شعورك الآن؟
- إنني سعيد بوجودكم يا فداء!
- أسعد الله أيّامك يا صديقي.
- أرجو أن لا تعترض طريقنا أيّة عقبات هذه الليلة؟
- اطمئن طالما راحيل معنا فلن يحدث شيء!
والتفت إلى راحيل قائلاً:
- وهل ستذهبين معنا؟
- طبعاً!
- إلى الحدود؟
- بل إلى لبنان يا أركاديوش!
الهجرة إلى الجحيم 219
- وهل استحق كل هذا العناء؟
- إنها مجرّد نزهة ليلية فهل هذا عناء؟
- والخطر المحدق بنا على الحدود؟
- اطمئن فوجهي لا يجلب إلا الخير!!
- فعاً إنني لا استطيع تصوّر الشر بوجودك! لكنني
خائف!!
- لا، اطرد الخوف بعيداً وسترى كيف ستكون المهمّة
سهلة للغاية.
فرغا من حوارهما. أخذت السيّارة تنهب الشارع بسرعة
فائقة قال أركاديوش موجهاً كلامه لي:
- هناك أشياء كثيرة لم أفهمها منك بعد!
- أجل تريد أن تعرف قصّة أمي وحكاية دير ياسين؟!
- وليس هذا فقط!
- ماذا أيضاً؟
- قصتك أنت وما الذي سنفعله بعد وصولنا إلى لبنان؟
- حسناً لنبدأ من الاخر!
وأخذت أتكلّم بينما هو وراحيل يصغيان بانتباه:
))بعد وصولنا إلى لبنان سنضع أمامك عدّة خيارات. فإما
أن تظل هناك وسنضع الطفلين في مدرسة أبناء الشهداء
الفلسطينيين. وإمّا أن تسافر وتتركهما في المدرسة أو تأخذهما
معك. والأفضل أن تتركهما في المدرسة وتذهب لتبحث عن
زوجتك، فإذا ما وجدتها تحضرها وفي استطاعتكما أن تعما
في مؤسسات الثورة، وسنقدّم لكم المساعدة المادّية الممكنة.
ولن نستردها منك كما تفعل السوخنوت!
220 الهجرة إلى الجحيم
- شكراً جزيلاً!
- أمّا بالنسبة لأمّي فهي من ))دير ياسين(( يا صديقي!!!
- من دي ري اس ي ن؟!!
- أجل يا عزيزي وأنا كذلك!!
- يا إلهي!!!
- لا! أظن أننا انتهينا من قصتك القديمة!
- وماذا أيضاً؟
- بقينا على قيد الحياة بأعجوبة. فبالنسبة لأم لم تكن
في القرية عندما حدثت المذبحة. كانت في زيارة لإبنة
لها متزوّجة من رجل يقيم في قرية مجاورة. جاءَت إلى
القرية بعد المذبحة بمساعدة ممثلي الصليب الأحمر.
لم تجد أحداً من أهلها على قيد الحياة. لقد قضي
عليهم جميعاً وبينما كانت تبحث بين أنقاض البيوت
سمعت بكاء طفل ينبعث من خمٍ للدجاج. هل تعرف من
كان ذلك الطفل يا أركاديوش؟
- أنت إذا لم أكن مخطئاً!
- أجل يا صديقي أنا الطفل الذي كان في ذاك الخم!!
أخرجتني الأم وأخذتني، وراحت تبحث في أخمام الدجاج
ومذاود البهائم وتحت طوال العلف وتحت ألقان العجين
وفي زرائب البهائم عن أطفال آخرين، فعثرت على ستة
أطفال ظلّوا على قيد الحياة من بين أكثر من عشرين
طفاً كانوا يختبئون في الزرائب واقنان الدجاج وتحت
أطوال العلف... لكن معظمهم مات رعباً أو اختناقاً!!
كُلّنا فقدنا أهلنا في المذبحة وكانوا قد أخفونا لعل الحياة
الهجرة إلى الجحيم 221
تكتب لنا. أنا أذكر الأمر تماماً عندما قبّلتني أمي وأودعتني
خم الدجاج وأقفلت علي. كنت في الخامسة من عمري حينئذ،
لا أزال أذكر كلماتها وهي تدفعني إلى الخم، لقد حفرت في
ذاكرتي يا أركاديوش ))اكمن يا حبيبي ولا نفس أحسن يشوفوك
اليهود ويذبحوك(( وكمنت يا أركاديوش بل تجمدت لأكثر من
عشرين ساعة داخل الخم!! استمع إلى قصف المدافع وأصوات
الانفجارات وصراخ النساء والأطفال... اخذت أبكي عندما
أحسست بشيء من الأمان... عرفت عندما أخرجتني الأم أنّه
لم يبق من أمي وأبي وإخوتي وأخواتي وجَدّي وبيتنا سوى كلمات
أمّي الأخيرة ))اكمن يا حبيبي ولا نفس...(( إنّه آخر لقاء لي
بأمي يا أركاديوش بل بكل أهلي وأقاربي...
تبنّتنا هذه المرأة ونزحت بنا
ومنذ ذلك اليوم أصبحت أمنّا. كنا أربعة أطفال ذكور وثاث
بنات.
كم تعبت وعانت إلى أن ربتنا وحتى استقرت بنا في هذا
المخيّم ))مخيّم دير ياسين(( هذا هو اسم المخيّم الذي نقيم
فيه الآن يا أركاديوش. ولذلك قالت لك أمّي ))مخيم دير
ياسين(( عندما سألتها عن اسم القرية، لكنك لم تفهم منها
سوى كلمتي ))دير ياسين((!!
وكبرنا وأصبحنا رجالاً على يد هذه المرأة. بل أصبحنا
مقاتلين. لا يوجد مقاتل في سبيل فلسطين يعرفها إلاّ ويناديها
))أمّاه(( إنّها أم لكل المقاتلين يا أركاديوش. فا تستغرب ذلك
يا صديقي. فكلّما كبر طفل من الأطفال الذين ربّتهم ))أقصد
نحن أطفال دير ياسين(( أخبرته بقصّة ذويه كاملة، ودفعته إلى
222 الهجرة إلى الجحيم
النضال لتحرير فلسطين. استشهد منّا ثلاثة شباب وفتاة حتى
الآن يا أركاديوش.
- ماذا؟
- أجل يا صديقي. أرجو أن لا تحزن ولا تغضب فهذا
شيء عادي في حياتنا!! فلم يبق من الأطفال الذكور
الذين ربّتهم إلاّ أنا. استشهد الأول عام 1967 واستشهد
الثاني في عمّان عام 1970 واستشهد الثالث في تل
الزعتر منذ اشهر فقط!! أمّا الفتاة فقد قادت عمليّة
انتحاريّة إلى ))تل أبيب(( واستشهدت هي ورفاقها.
وأمّا الفتاتان الباقيتان وأنا فكماترى: أنا أناضل هُنا
وهما تناضان في أماكن أخرى. تزوّجتا وأنجبتا الكثير
من الأطفال. وكذلك الشباب الثلاثة الذين استشهدوا،
فقد تركوا تسعة أطفال ذكور وتسع إناث!! أنا الوحيد
الذي لم أتزوج. لذلك تخاف أمّي أن استشهد كأختي
التي قادت عمليّة تل أبيب. أي دون أن أترك اطفالاً.
فتلح علي لكي أتزوّج - فأذكرها بأطفال إخوتي الذين
سيكملون مسيرة النضال.
هذه قصتي وقصّة أمّي باختصار يا أركاديوش!!
مدّت راحيل يديها واحتضنت يدي واعتصرتها وآثار الدموع
بادية في عينيها. أما أركاديوش فقد ظَلّ صامتاً لبضع لحظات.
رفع رأسه قلياً ونظر إلي بعينين مغرورقتين. لم أصدق عندما
قال:
- هل في استطاعتنا العودة إلى البيت؟
- لماذا؟
الهجرة إلى الجحيم 223
- لكي أعتذر لأمّك فلم أعتذر منها كما يجب بل إنني لم
أشكرها على حسن الضيافة!!
- أوه! دعك من هذا يا صديقي فلقد اعتذرت لها كما
يجب!
- أرجوك يا فداء! دعني أعود لأقبّل قدميها! لأقول لها
أنتِ أعظم أم شاهدتها في حياتي!!
- سأبلغها هذا القول عندما أعود. لقد قطعنا حوالي ثلث
المسافة الآن وليس من المعقول أن نعود.
- لماذا لم تخبرني بهذه القصة من قبل؟
- يا صديقي لم يمض على تعارفنا أكثر من عشرين ساعة
حتى هذه اللحظة!! أمضيت حوالي نصفها وأنت تقص
علي قصتك، ونمنا حوالي ست ساعات منها، فلم يكن
هناك مجال لذلك، كما أن حالتك السابقة أخافتني يا
أركاديوش! 1
- حسناً يا صديقي!
سحبت راحيل يديها عن يدي. قالت:
- ألن ننزل في نابلس؟
فقال النقيب:
- ولماذا ننزل في نابلس؟ إذا تريدون أن تستريحوا
سنتوقف في جنين، حيث نكون قد قطعنا أكثر من
نصف المسافة.
فأجمعنا الرأي على التوقف في جنين.
أوقفنا حاجز جنود من حرس الحدود على مدخل مدينة
نابلس. إنّه أول حاجز يشير إلينا بالوقف. لكنه أشار إلينا
224 الهجرة إلى الجحيم
بالمرور بعد أن تبيّن زيّنا.
* * * * * *
تجاوزنا مدينة نابلس. تأملت وجه راحيل باحثاً عن الإطراء
الذي اغدقه عليه أركاديوش. فعاً وجه هادئ جميل يبعث على
الفرح. لا يستطيع المرء أن يقاوم سحر وجه كهذا! إنّه سحر
حقيقي لا بد أن يوقع المرء في حبّه. لقد أ جاد أركاديوش
الوصف، ففي وجهها رقة عذبة! وشفافية تبعث في النفس
شعور من يجلس على قمة جبل يلفّه الندى!!! لا أعرف! أحس
وأنا أنظر إليها وكأنّ نسمة هواء منعشة تهب على وجهي ))يا
إلهي هل وقعت في حبّها؟! إنّها لا تؤمن بالزواج؟! هل قال
أركاديوش هذا عنها أم عن غيرها؟ لقد نسيت! كلاّ لقد قاله
عنها! إذن من المحال أن أفكر فيها كزوجة، ثم هل توافق؟ اين
جمح بي الخيال؟! لكن يجب أن أتزوج ولو من أجل أن أنفذ
رغبة أمي!! لا لا ليس من أجل ذلك بل من أجل هذا الإحساس
الجميل الذي يبعثه في نفسي وجود راحيل! أي جنون هذا الذي
أطبق على رأسي إنّها لا تؤمن بالزواج فلماذا ابني قصوراً في
الهواء((؟!
ويبدو أنّها أحسّت بي أتأملها بل وقرأت ما يدور في خلدي،
فابتسمت لي بحنان شعرت معه وكأنّ سحابة من الندى حطّت
على وجهي!!
قام جشيجوش من حضن أبيه وجاء إلى عندي فقطع علينا
مناجاة العيون ودفق المشاعر!! أجلسته في حضني. أخذت
أداعبه، لكننا لم نعرف كيف نتفاهم، فقد أخذ يحادثني
بالبولونيّة، فقلت لأركاديوش:
الهجرة إلى الجحيم 225
- ترجم لي ماذا يقول جشيجوش؟
- يسألك أين نذهب؟
- ماذا أقول له؟
- قال له أننا سنعود إلى ماما!
وشرعت أخبر الطفل بينما أركاديوش يترجم له! كان داريوش
يصغي إلينا باهتمام أيضاً فتساءل قائاً:
- سنرحل عن هذه البلاد ولن نعود؟
فقال أركاديوش:
- لا لن نعود يا بابا!
وصمتنا قلياً... عدت أختلس النظرات إلى وجه راحيل
الأليف. كانت تنظر إلي. ابتسمت فابتسمت.
قالت:
- كم تبعد الحدود من هُنا؟
- أظن أقل من مائة كيلو متر.
- وهل سنجتازها على ضوء القمر؟
- وهذا من سوء حظّنا أظن أنّه بزغ منذ قليل!
فقال أحد الرفاق:
- أجل لقد بزغ.
فقلت:
- ولذلك ستكون مهمتنا صعبة وإن كانت هناك بعض
الأشجار في المنطقة التي سنعبر منها. أفضل أن
تعودي مع النقيب يا راحيل، فلماذا تصّرين على تكبّد
عناء هذه الرحلة معنا؟
- كلاّ يا فداء يجب أن أذهب معكم!
226 الهجرة إلى الجحيم
- لكن لماذا هذا الإصرار؟
- طوال حياتكم تقدمون على الأخطار وحدكم! دعونا
نشارككم هذه الأخطار ولو مَرّة واحدة ومن أجل اليهود،
ليس من أجلكم! ثم لماذا أنت خائف عليّ ولست خائفاً
على نفسك مثاً! هل أنا أحسن منك؟
- كلاّ لم أقصد هذا، لكن العملية خطرة وليس من
الضروري أن نتعرّض كلنا للخطر. نحن ثمانية ماذا
لو عاد اثنان منّا؟! نبقى ستة عدا طفلي أركاديوش،
أظن أنّه في استطاعتنا أن نؤمن حماية كافية فيما لو
اصطدمنا بكمين على الحدود.
- أرجو أن لا تلح علي، فلن أتراجع عن قراري.
- حسناً يا رفيقتي لن ألح عليك!
* * * * * *
قال النقيب:
- هذه جنين يا رفاق أين نقف؟
قلت:
- حاول أن تتوقف في مكان منعزل لكي ننزل الطفلين
وأركاديوش من السيّارة.
- حسناً:
وتابعنا سيرنا إلى أن بلغنا أطراف المدينة حيث وجدنا بقّالة
لم تقفل بعد. نزلنا من السيّارة ووقفنا إلى جانبها بينما راح
البعض يبوّلون تحت أشجار قريبة.
هرعت أنا وشلومو إلى البقالة. ابتعنا سندويتشات ومرطبات.
مَرّت عنّا داورية عسكرية. تأملنا أفرادها قلياً وانصرفوا...
الهجرة إلى الجحيم 227
صعدنا إلى السيّارة فانطلقت بنا ونحن نتناول السندويتشات
والمرطبات.
قال أركاديوش:
- هل سنمر بمدن أخرى؟
- طبعاً سنصل إلى الناصرة بعد قليل ومن ثمّ صفد.
- كم تبعد الناصرة؟
- حوالي ثلاثين كيلو متراً.
- وصفد؟
- تبعد عن الناصرة حوالي خمسة وثلاثين كيلو متراً،
ومنها سنسير حوالي خمسة عشر كيلو متراً لنصل
أقرب نقطة إلى الحدود.
- إذن أمامنا ثمانون كيلو متراً؟
- قد تزيد قليلاً أو تنقص.
- وكم تبلغ المسافة التي سنقطعها سيراً على الأقدام؟
- ليست أكثر من أربعة كيلو مترات.
* * * * * *
فرغنا من تناول السندويشات ونحن نجتاز شوارع الناصرة.
سألني أركاديوش:
- هل هذه بلد المسيح؟
- أظن أنّها هي!!
وأطلّ برأسه من مؤخرة السيّارة لينظر إلى الشوارع...
- ماذا رأيت؟
- لا شيء يلفت الانتباه! بنايات وأضواء. يا ليتني استطيع
مشاهدتها خال النهار.
228 الهجرة إلى الجحيم
- عندما تتحرر فلسطين تزورنا! سآخذك إلى بيت لحم
وأحضرك إلى هُنا!!
- وهل سنكون على قيد الحياة؟
- إذا لم نكن فلا حول ولا!
تجاوزنا المدينة.. زاد النقيب من سرعة السيّارة فقلت:
- حاسب يا رفيق!
فقال:
- شعرت بالنعاس، ففكرت أن أزيد السرعة لكي أظل
متيقظاً!
- كُلنّا نجيد السواقة! توقف ليسق أحدنا عنك!
- لا أريد شكراً!
- أنت حُر!!
ومَرّت لحظات دون أن نتكلم دخلنا خلالها شوارع مدينة صفد.
كانت الشوارع خالية من المارة وقد لف السكون المدينة. قال
أحد الرفاق.
- هذه بلد أبي مازن!!
قالها بالعربية فابتسمت بينما أركاديوش ينظر إلى متسائلاً،
فترجمت له:
- يقول أن هذه مدينة أبي مازن!
ويبدو أن أركاديوش لم يتنبّه لي جيداً مع أنني ترجمت له
بوضوح متقيداً بقواعد الإنكليزية، فاعتقد أن ))أبا مازن(( هو
اسم المدينة، فراح يردده ليحفظه:
))أبي مازن! أبي مازن((!
الهجرة إلى الجحيم 229
انفجرنا في الضحك، مما أدهش أركاديوش. فقلت له وأنا
أجاهد لأن أهدئ نفسي:
- يا عزيزي ))أبو مازن(( ليس اسم المدينة. إنّه اسم
رجل! المدينة اسمها صفد! صفد!! هل فهمت؟
- أوه! من هو ))أبو مازن(( إذن؟
- إنّه قائد فلسطيني يأمل أن توافق الدول العربية على
عودة اليهود من فلسطين إليها!!!
- وهل ستوافق؟
- لا أدري!!
سألت الشباب فيما إذا كانوا يريدون حاجة قبل أن نخرج من
المدينة. فلم يطلبوا شيئاً...
* * * * * *
سرنا عبر شارع فرعي بعد أن تجاوزنا المدينة. أطفأ النقيب
الأنوار وجنح بالسيّارة عبر الطريق الذي كنّا نسلكه في العادة.
تمسك الشباب بمساند المقاعد بينما السيّارة تعلو وتهبط بنا
من جرّاء المطبات والحفر.
التفت النقيب من خلف المقود وقال ))بدأ الجد(( فأخذ
الرفاق يتحفّزون في أماكنهم ويتلمسون بنادقهم ويصلحون من
وضع القنابل وجعب الذخيرة في أنطقتهم.
أركاديوش الوحيد الذي لم يكن مسلحاً. أمّا راحيل ومعظم
الرفاق فكانوا يحملون رشاشات من نوع ))عوزي(( إسرائيلية
الصنع، وأنا وشاب أخر كان ساحنا ))كلاشنكوف(( وهناك
رفيق آخر كان يحمل قاذفاً مضاداً للدروع.
230 الهجرة إلى الجحيم
خرجت السيارة عن الطريق الترابي وتوغلت بنا بين الأشجار
والكروم، والنقيب يديرها إلى اليمين تارة وإلى الشمال تارة
أخرى ليتجاوز شجرة أو حجراً في طريقها.
همست له:
- إلى أين! توقف!
- أريد أن أقرّبكم من الحدود أكثر!
- لا، هذا يكفي فالليل ما يزال في بدايته.
ولحظتئذ وصل إلى مكان وعر فلم يعد في استطاعته التقدم.
أوقف السيّارة وهو يقول:
- جاءَت من الطبيعة وليس منّي!
نزلنا من السيّارة وتفرقنا بين الأشجار نقضي حاجتنا وعدنا
نستريح قلياً.
* * * * * *
حاولنا أن نقنع راحيل بالبقاء لكنها أصَرّت على الذهاب معنا،
فعرضت على أحد الشباب اليهود أن يظل ليعود مع النقيب في
رحلة العودة لكي يسليه، لكن راحيل أصرّت أن نعيد معه أحد
الشابين العربيين، لحظتئذ أحسست تماماً بسلوك أركاديوش
في بيتنا وبيت وليم! لقد بات بعض اليهود يحسّون بالذنب تجاه
الفلسطينيين!! قلت لراحيل:
- إصرارك هذا لا مبرر له!
فقالت وقد بدا الغضب في صوتها:
- فداء أرجوك! إنّها قضيّتنا كما هي قضيتكم، لا تدفعني
إلى تأكيد ما قلته سابقاً!!
- ليكن يا رفيقتي فا تغضبي، سأكون سعيداً بوجودك
الهجرة إلى الجحيم 231
معنا!!
وأشرت لأحد ))رفيقي(( أن يبقى مع النقيب ليعود معه.
وأخذنا نستعد للانطاق.
قال النقيب:
- سننتظر هنا حوالي ساعتين لكي نتأكد أنّكم اجتزتم
الحدود بسام.
فقلت:
- من الأفضل أن لا تنتظروا
- وإذا لم تتمكنوا من اجتياز الحدود ألن تعودوا؟
- إذن انتظرونا ساعة واحدة فقط فإذا لم تسمعوا إطاق
نار فهذا يعني أننا مررنا بسام!
- لماذا لا نرافقكم ومن ثم نعود من هناك بعد أن تعبروا؟
- لا داع لذلك، ثم من سيبقى عند السيّارة؟
- حسناً إذن سننتظر.
- لا تنسوا أن تنتظرونا هُنا ليلة الأحد القادم!
- لا لن ننسى.
- إذن وداعاً!
وقال وهو يمد يده ليصافحني:
- وماذا إذا اصطدمتم بكمين؟
- سندافع عن أنفسنا طبعاً. وأظن أن اجتياز الحدود
حينذاك سيكون أفضل من العودة! على كل لا نستطيع
أن نتكهن بما سيحدث منذ الآن فاحتمال العودة وارد
أيضاً وكذلك احتمال القضاء علينا أو أسرنا. إذا حدث
اشتباك يجب أن تنتظر حوالي نصف ساعة على الأقل،
232 الهجرة إلى الجحيم
فقد لا نتمكن من اجتياز الحدود ونعود!
- ألن نهب لنجدتكم؟
- وهل أنتما قوّة ضاربة حتى تهبّا لنجدتنا؟! يكفي أنكمّا
ستنتظران هنا!
- على كل إذا حدث اشتباك سأحاول أن أحكم من صوت
إطاق النار على نتائجه. وقد أعدو قلياً لألاقيكم
وأسعف الناجين منكم إذا كانوا جرحى.
- حسناً يا رفيقي إلى اللقاء.
- مع السلامة.
ودعناهما وانطلقنا ))أنا وأركاديوش وطفاه وراحيل وشلومو
))اللقيط(( وآري )الألماني(( وشاب عربي من ))رفاقي المقرّبين
إلي!!(( هذه أوّل مهمّة مشتركة نقوم بها معاً وتكون الأغلبية من
اليهود!
لم نبتعد كثيراً عندما دوّى صوت مدفعية ثقيلة في الناحية
الغربيّة. توقف الشباب للحظة وقد انحبست منهم الأنفاس.
قلت لهم:
- لا تخافوا هذه المدفعيّة الإسرائيلية تقصف مواقع
بعيدة للفدائيين((!
وتابعنا سيرنا بينما القصف المدفعي يزداد حدّة وضراوة. كنّا
نسمع صوت انطاق القذائف لكننا لا نسمع صوت انفجارها في
الطرف الآخر. وما هي إلاّ برهة حتى كانت مدفعيّة الفدائيين
تطلق قذائفها، لكنها كانت تقصّر عن بلوغ مواقع المدفعيّة
الإسرائيلية. ومن موقع آخر ناحية الشمال الغربي انطلقت
قذائف مدفعية أخرى. قلت للرفاق ))هذه مدفعيّة الكتائب
الهجرة إلى الجحيم 233
اللبنانية تطلق على مواقع الفدائيين أيضاً((!
جاء النقيب يعدو خلفنا:
- ما بك لماذا جئت؟
- خائف عليكم! قد يمتد الاشتباك ليشمل هذه المنطقة
فتقعون بين نيران مختلف الأطراف.
- عندما يمتد في استطاعتنا أن نكمن، لكن إذا ظلَّ الوضع
هكذا فهذا أفضل لنا لنعبر الحدود بأمان!
وتابعنا سيرنا. حدث شيء مما توقعه النقيب، فقد انطلقت
قذائف مدفعية من منطقة على مسافة بعيدة خلفنا، حتى أن
القذائف أخذت تمر من فوق رؤوسنا. هرع النقيب خلفنا من
جديد. قال:
- والآن؟ ماذا إذا رَدَّ الفدائيون على هذه المدفعية ألن
تأتي القذائف عليكم؟
- يا عزيزي وكيف يمكن للفدائيين أن يكتشفوا موقعها؟ ثم
إن مدفعيتهم قد لا تصل إلى الحدود إذا كانت مواقعهم
بعيدة، فكيف ستصل إلينا هُنا؟
- وإذا كانت مواقعهم قريبة؟
- لا أظن على كل إذا حدثت رماية معاكسة سنلتجئ إلى
كهف في المنطقة، فأنا أعرف بعض الكهوف هُنا.
وظَلَّ النقيب واقفاً بينما رحنا نتابع طريقنا.
كان أركاديوش يحمل جشيجوش ويضمه إلى صدره، بينما
كانت راحيل تقود داريوش من يده وتسير خلفهما.
أشرت لهم أن يتوقفوا. كان الطفان خائفين. داعبت شعرهما
وربتّ على كتفيهما وأنا أقول لأركاديوش وراحيل أن يطمئناهما.
234 الهجرة إلى الجحيم
وخوفاً من أن تسقط قذيفة ))عمياء(( علينا من أحد الأطراف،
قلت لهم أن يسيروا الواحد خلف الآخر، وليتركوا مسافة لا تقل
عن خمسة أمتار بين كل اثنين.
وسرنا هكذا ))أنا في المقدمة تتبعني راحيل وداريوش، ثم
أركاديوش وجشيجوش ثم شلومو فآري فرفيقي.
قطعنا حوالي كيلو متر ونصف ونحن نسير بصمت وهدوء.
كانت قذائف المدفعية تمر على ارتفاع شاهق من فوقنا،
فنستمع إلى صفيرها وهي تمر. وكان ضوء القمر ينير المنطقة
من حولنا ولولا وجود بعض الأشجار والحجارة لسهل اكتشافنا
من أي كمين قريب.
فرّ من أمامي أرنب برّي وراح يعدو ناحية الحدود!! أحسست
براحيل تحث الخطى لتلحق بي هي وداريوش، فأبطأت من
سيري. لحقا بي. همست:
- أريد أن أظل بقربك!
- لماذا؟
- لكي نموت معاً إذا سقطت علينا قذيفة!
- ولماذا تموتين معي؟
- لأظل معك إلى الأبد!!!
وتنكبت براشاشها ومدّت يدها إلى كتفي وأخذت تسير إلى
جانبي ولم أشعر إلاّ وهي تقبلني قبلة خفيفة وسريعة على
حاجبي الأيسر، فبادلتها قبلة خفيفة وسريعة أيضاً على حاجبها
الأيمن!!
قالت:
- هل أنت متفائل؟
الهجرة إلى الجحيم 235
- جداً!!! هل تعرفين ماذا خطر لي في هذه اللحظة؟
- ماذا؟
- أنني سأتزوجك في المستقبل وأنجب منكِ أطفالاً!!!
- اوه! كل هذا خطر لك خلال هذه اللحظة؟
- أجل! فهل توافقين على الزواج منّي بعد عودتنا؟!
- أنا لا أؤمن بالزواج، فهو برأيي يحجّم الحُب بل يقتله!!
والحب شيء أسمى من ذلك وأكبر!!، وعلى الرغم من
هذا يا فداء فإنني على استعداد لأن أتزوّجك إذا لم
توافق على إقامة علاقة معي حسب قناعاتي! ولن
أصبر حتى نعود!! فإذا ما بقينا على قيد الحياة هذه
الليلة سنتزوّج في لبنان غداً أو بعد غد !!!
- راحيل هل تقولين هذا بصدق؟
- لم أكذب في حياتي قط يا فداء!
- أنا عاجز عن الشكر يا راحيل. أشعر أنني أحببتك
بجنون أعطني يدك أقبلها.
ورحت أقبل يدها ونحن نسير:
- راحيل!
- نعم.
- سأقاتل حتى الموت وأقتله هذه الليلة لكي نحيا ونتزوّج
وننجب اطفالاً. لماذا لم أعرفك قبل هذا اليوم؟!
- سوء حظّنا!
- فعاً سوء حظنّا. لكنني لن أنسى هذا الجميل
لأركاديوش ، فلولا ه لم ا تعرّف تعليك ! ه ل أن تمتفائلة؟
- إلى حد ما!
236 الهجرة إلى الجحيم
- ولماذا إلى حد ما فقط؟
- لأنني لم أعتد سماع صوت المدافع واجتياز الحدود
والقتال كما أعتدت أنت ذلك!
- راحيل!
- ماذا؟
- لا أظن أنني سأحتمل الحياة بدونك بعد اليوم، هل
تعرفين منذ متى شعرت بالحب تجاهك؟
- منذ متى؟
- منذ أن جاء أركاديوش على ذكرك ضمن سياق قصته،
لكنني لم أفكّر أنني سأراك! وهذا المساء أيقنت أنني
أحبّك!!
- ومتى كان ذلك عندما روى حادثة المتفجّرة لك؟
- كلاّ بل قبل ذلك. منذ أن رآك أوّل مرّة تدخلين إلى
المعهد. لقد وصفك بطريقة جعلني أشعر أنّك لست
من عالمنا. هل تصدّقين أنني شعرت بالغيرة عندما
تحدّث لي أنه قام بفعل الحب معك في السهرة؟!
- أوه لقد حدّثك بكل شيء إذن هذا الأركاديوش؟!!
- أجل لقد روى لي قصته بالتفصيل، حتّى أنه شوقنّي
لكي أتعرف على معظم الأبطال وخاصة أبراهام!!
موت هذا الفنان خسارة كبيرة! كم تأثرت له!
- لقد كان فناناً عظيماً!
- هذا ما أشعرني به أركاديوش.
- إذن كنت تحبني من قبل؟
- أجل يا راحيل، لم أصدّق نفسي عندما وجدتكم في
الهجرة إلى الجحيم 237
بيت وليم.
- صدَف غريبة. لقد ودّعت أركاديوش ولم أفكّر أنني
سأراه ثانية، لكن اعتقال وليم قلب الأمور رأساً على
عقب!
ورحت أقبل يدها من جديد. قالت:
- هل أنت سعيد؟
- أشعر أنني السعادة نفسها وأنتِ؟!
- سعيدة بعض الشيء، إنني خائفة يا فداء!
- راحيل!! سأقاتل حتى الجبال إذا ما حدث لك شيء
هذه الليلة، لن تكفيني رؤوس الصهاينة جميعاً لكي أثار
لك!
- وإذا متّ معي؟!
- أرجوك فأنا لا استطيع أن أتصورّ الموت هذه الليلة، لن
نموت يا حبيبتي سنحيا!! إذا كنت خائفة فعودي!
- كلا لن أعود!
- اطمئني إذن فسنحيا ولو من أجل هذين الطفلين وهذا
البائس أركاديوش!!
- وإذا ماتوا معنا؟
- راحيل أنت متشائمة أكثر مما أتصور!!
- لست متشائمة إنني أتوقع الخطر كما قد تتوقعه أنت
فقط!!
أخذ القصف يتوقف شيئاً فشيئاً. فاضطررنا أن نقطع همسنا
لكي لا يسمعنا أحد وخاصة عندما تسكت المدفعية.
238 الهجرة إلى الجحيم
انطلقت دفعة قذائف جديدة. قالت راحيل قبل أن يتلاشى
صوت الدوري وصفير القذائف:
- ألم نقترب من الحدود بعد؟
- أظن أننا أصبحنا على مسافة تقارب الكيلو متر.
- لكنني لا أحس بوجود كمائن ولا توجد هُنا قوّات!
سكتت المدفعية تماماً، فاضطررت أن أخفض صوتي
كثيراً:
- الكمائن على الخط الفاصل أو على مقربة منه. أمّا
القوّات فهي في الخلف بعيدة جداً. مررنا عن منطقتها
ونحن في السيّارة.
- وقوات الكتائب أين؟
- أمامنا ))أقصد بعد الحدود(( لا يوجد كتائب، فقط
بعض القوّات الدولية، الكتائب أصبحت مواقعهم في
تلك الناحية حيث تطلق المدفعية!
- وإذا رأتنا القوّات الدولية؟
- أوه مسكينة! فهي لا ترى أحداً، إنّها ضائعة هنا!!
تابعنا سيرنا عبر وادٍ ضيّق تكثر فيه الحجارة والصخور
وبعض أشجار الحراج. كان داريوش يسير صامتاً وقد لفّه
الرعب. انحنيت أتأمل وجهه. ابتسمت له فابتسم لي. قلت له
))لا تخف(( ويبدو أنّه فهم علي فقد ابتسم مَرّة ثانية وهَزّ
رأسه.
* * * * * *
أصبحنا على مسافة قريبة من الحدود. أشرت إلى راحيل أن
تجلس. جلسنا. بادلتها عدّة قبل خفيفة وأنا أضمّها إلى صدري
الهجرة إلى الجحيم 239
أحسست أن الطفل شعر بالغربة أمامنا فرحنا نبادله القبل.
لحقت المجموعة بنا، شربنا ماء واسترحنا قلياً. كان
قصف المدفعية يتوقف قلياً ثم يستأنف خطر لي أن
اسأل أركاديوش - وأنا أتأمل وجهه وقد بدا عليه القلق
- خطر لي أن اسأله فيما إذا كان على استعداد لأن
يتخلىّ عن الخروج الآن، لكنني أيقنت أنّه لو كان يفضّل
ذلك لتكلّم من تلقاء نفسه.
قلت لهم هامساً:
- بعد قليل سندخل منطقة الخطر. يجب أن نسير واحداً
خلف الآخر. حاذروا أن تتركوا مسافة لا تقل عن الثلاثة
أمار بين الواحد والآخر. وراعوا أن يسلك كل واحد
الطريق التي يسلكها الذي أمامه، بل ليجاهد لوضع
قدمه مكان قدم زميله بالضبط لكي نتلافى خطر وجود
ألغام مزروعة... سأهمس للذي خلفي عندما أعثر على
لغم أو أي شيء آخر في الطريق، وهو بدوره يهمس
للذي خلفه، وهكذا لكي نتلافى أي خطر.
هناك ألغام تربط إلى أساك دقيقة جداً بشكل عرضي لكي
يتعثر المرء بها وهي لا ترى إلاّ إذا دقق الإنسان النظر. فعندما
أقول لكم ))سلك عثرة(( يجب أن تتنبهوا جيداً وتتخطوه دون أن
تصطدموا به. هل هناك أسئلة؟
فقالت راحيل:
- وماذا لو رآنا كمين وأطلق علينا النار؟
- يجب أن يأخذ كل واحد الأرض إلى جانب أي صخرة
أو حجر ولحظتها سأرى ماذا في استطاعتنا أن نعمل،
240 الهجرة إلى الجحيم
يجب أن تنتظروا إشارتي إمّا لإطاق النار أو الانسحاب
إلى جهة ما.
- وماذا بشأن الطفلين؟
- جشيجوش سيبقى مع أبيه. ومن الأفضل أن يحمله
على ظهره إلى أن نجتاز المنطقة الخطرة. أما داريوش
فيجب أن تعطيه لشاب أقوى منك ليحمله على ظهره إذا
اضطررنا لذلك. وخاصة إذا وجدنا ألغاماً في طريقنا.
- استطيع أن أحمله!
- أعرف لكن شلومو مثلاً يستطيع أفضل منك.
- حسناً
ونهض الطفل إلى شلومو من تلقاء نفسه
- لقمّوا بنادقكم بهدوء إذا ليست ملقمة.
لكن البنادق كانت ملقمة كما يبدو فلم يقم أي منهم بأية
حركة.
نهضنا وسرنا ببطء كما في السابق... أنا في المقدمة تتبعني
راحيل فاشلومو وداريوش، وفي المؤخرة كان آري ))ورفيقي( أما
أركاديوش وجشيجوش فقد كانا في الوسط.
رحت أزن خطواتي وأنا أتأمل الطريق أمامي، فالسفوح
المحيطة بنا. من المستحيل أن يحس المرء بوجود كمين إذا
كان متمترساً بشكل جيّد بين الأشجار أو الصخور أو في أحد
المواقع!
قطعت حوالي خمسين متراً ببطء وهدوء، جلست خلف
حجر استرق السمع. أشرت إلى الرفاق أن يجلسوا كل واحد
في مكانه. انطلقت قذيفة مدفعية. تابعت صفيرها إلى أن ابتعد
الهجرة إلى الجحيم 241
ناحية الشمال، لكنني لم أسمعها تنفجر فقد ابتعدت كثيراً. لا
شك أنّهم يقصفون أهدافاً بعيدة. انصت جيداً علّني أسمع
ثرثرة كمين لكنني لم أسمع.
نهضت وسرت ببطء وأنا في كامل تخفزّي واستعدادي ويداي
تتمسكان بالبندقية في وضع شبه جاهز للرمي.
قطعت حوالي خمسين متراً أخرى وجلست اتنصت من جديد
وأنا أنظر أمامي ذات اليمين وذات الشمال. لم يبق أمامنا سوى
حوالي خمسين متراً لنصل الحدود.
نهضت. سرت أقل من عشرين متراً حاني الظهر وجلست.
نظرت إلى راحيل خلفي. كانت تجلس بهدوء وصمت كطفل وديع.
وما أن رأتني التفت إليها حتى حبَت لتلحق بي. ملست بيدي
على شعرها وأنا أنظر إلى مختلف الجهات. قبلّتها وتابعت.
حبوت حوالي خمسة عشر متراً وجلست. أشرت إلى راحيل
أن تتبعني، وما أن وصلت إلي حتى استأنفت الحبو!! قطعت
عشرة أمتار أخرى وكمنت.
لحقت راحيل بي. همست لها ))بدأت مرحلة الخطر الشديد((
فهمست بدورها للذي خلفها.
ألقيت نظرة على التال من حولنا وأمامنا فلم أحس بوجود
شيء. ولم تعد المدفعية تطلق من خلف منطقتنا إلاّ قذيفة كل
خمس دقائق تقريباً. سحبت سنكة البندقية من نطاقي ورحت
أجس الأرض أمامي متحسساً وجود ألغام. كان علي أن أمد يدي
ببطء حتى لا يؤدي اصطدام السنكة بسلك عثرة إلى تفجير أي
لغم يتصل به.
242 الهجرة إلى الجحيم
كانت الأرض شبه منبسطة وتكثر فيها النتوءات والحجارة
وبعض أشجار الحرج الصغيرة. لقد سبق لي أن اجتزتها قبل
هذه المَرّة فهي ليست صالحة تماماً لزراعة الألغام ))تحت
الأرضية(( لأن أرضها صلبة ومن السهل اكتشاف مكان اللغم إذ
أن موضعه يصبح رخواً..
قطعت حوالي عشرة أمتار وأنا أسير على قدمي مقرفصاً
وكأنني أقلّد مشي البطّة. نظرت إلى راحيل والرفاق من خلفي،
كانوا يقرفصون مثلي تماماً وقد أركب أركاديوش وشلومو
الطفلين على ظهريهما.
تابعت جس الأرض أمامي برأس السنكة. هناك أكثر من
أربعين متراً أمامي عليّ أن أجسّها هكذا!!
أحسست برخاوة الأرض عندما ولجت السنكة فيها في
موضع أمامي. سحبتها ورحت أدسهّا على بعد سنتمترات
فولجت. تحسست برأسها جسماً صلباً. أيقنت أنّه لغم وأنا
أسحب السنكة وأغرسها ببطء من جديد. تناولت حجراً صغيراً
من جانبي وأوقفته إلى جانب موضع اللغم. التفت إلى راحيل.
همست لها:
- ))هنا إلى جانب الحجر الصغير يوجد لغم عندما
تصلين إليه تهمسين ل شلومو لكي يهمس للذي خلفه
وهو يشير إلى موضع اللغم. هل فهمت؟((
- أجل.
تجاوزت اللغم ورحت أتابع وخز الأرض بالسنكة على عرض
يقارب نصف المتر لكي أضمن سامة الشباب.
الهجرة إلى الجحيم 243
قطعت حوالي مترين وجدت لغماً آخر. وضعت إلى جانبه
إشارة وهمست لراحيل...
قطعت مترين آخرين وجدت فيها ثلاثة ألغام حتى بت أشك
أنني تجاوزت بعض الألغام ولم اكتشفها. أشرت إلى كل واحد
منها وأخبرت راحيل بالأمر..
قطعت مترين آخرين وجدت لغماً في كل منهما. اعترض
طريقي حجر بحجم رأس الثور فوجدتها فرصة لأن أصعد عليه
وأمر. وبينما كنت أهم لرفع رجلي ووضعها عليه وأنا أحدّق
جيداً أمامي شاهدت ))سلك عثرة(( يمتد على ارتفاع يقارب
عشر سنتمترات منه. أعدت قدمي بسرعة. كان السلك رفيعاً
جداً. اسمك من الشعرة بقليل. ولا أعرف كيف شاهدته. يبدو
أن لي حظاً في الحياة!!
رحت أرقب امتداد السلك لكنني لم أتمكن من رؤية نهاية
طرفيه، شاهدت حوالي متر ونصف منه في كل ناحية. يبدو أنّه
يمتد على عرض كبير.
بلّغت راحيل ))هنا فوق هذا الحجر يوجد سلك عثرة((!
وأتبعت ذلك في سّري ))لماذا أيتّها الوداعة أصررت على
القدوم؟ هل أنت مسرورة لهذا الوضع الذي تجدين نفسك فيه
الآن بين الحياة والموت؟! أقل خطأ نرتكبه يجعلنا نتناثر أشاء
خال رمشة عين((!!
تجاوزت الحجر. قطعت حوالي مترين آخرين. لم أجد إلاّ
لغماً واحداً. أحسست بالسنكة تدق بشيء ما وأنا أمدُّ يدي بها،
فأيقنت أنّه سلك آخر. اقتربت وأنا أحدّق. كان سلك آخر كما
توقعت، يرتفع عن الأرض حوالي عشرين سنتمتراً.
244 الهجرة إلى الجحيم
قطعت بضعة أمتار أخرى اكتشفت فيها خمسة ألغام!! وبدأت
أثق بنفسي جيداً لأنّه م يحدث شيء حتى الآن مما يدل على
أنني اكتشفت كافة الألغام.
لم أعد أعرف كم قطعت حتى الآن وكم بقي أمامي. كان
كل همّي أن أضمن حياة القافلة التي تتبعني. لا أعرف ما هو
شعورهم الآن وهم يراوحون بين الحياة والموت؟ كم هي الحياة
تعيسة عندما تصبح مرهونة باجتياز بضعة أمتار كهذه فوق
اليابسة؟! سحقاً لهذا الكون ما ارحبه وما أضيقه في الوقت
نفسه!!
ألقيت نظرة على راحيل. أحسست أنها شبه متجمّدة من
جَرّاء الرعب. همست لها:
))حبيبتي((
فهمست:
))حبيبي((!
يا إلهي ما أروع لفظها للكلمة! وكأنها تنطقها لأول مرّة!!!
ضممت أصابع يدي اليمنى إلى شفتي وقبّلتها ثم قذفت القبلة
في الهواء لينقلها إليها ففعلت بالمثل، ولمحت على ضوء القمر
طيف ابتسامة ترتسم على ثغرها!!
استأنفت مشي البطة!! قطعت حوالي مترين آخرين. عثرت
على لغمين. أيقنت أنّه قد يكون هناك لغم في كل نصف متر
بعد الآن، إن لم يكن أكثر، فلم يعد بيننا وبين بر الأمان بل
الدنيا برحابتها سوى ثلاثة أمتار على الأكثر، هذا ما تبينّ لي
وأنا أحدّق أمامي!!
الهجرة إلى الجحيم 245
أحسست أن رجلي تكسرّتا من جَرّاء ))زحف البطّة(( هذا.
وودت لو في استطاعتي أن أقف عليهما قلياً لأريحهما ولو
لدقيقة. كم من الوقت مَرّ علينا في صراط جهنّم هذه؟ لا
أدري. أحسست أنني قضيت فيها أكثر من ساعتين! بل عمري
كُلّه! لم أجد خال كل ذهابي وإيابي ألغاماً كما وجدت هذه
المَرّة!! هل حظّي أم حظ أركاديوش أم حظ طفليه البائسين أم
حظ راحيل الوديعة؟!
لا أدري!
حبوت متراً آخر فوجدت فيه لغمين.. أخذ الفرح يغمرني فلم
يبق أمامي سوى مترين. مترين فقط! قطعت نصف متر منهما،
لم أجد فيه شيئاً. غريب! غريب فعاً!! وهممت لأن أتقدم أكثر
فأحسست بشيء يدقر في وجهي! نعم في وجهي، بل جبيني!
كان ))سلك عثرة(( على هذا الارتفاع! ولا أعرف لماذا فكرّت
للحظة في احتمال أن يكون سلكاً كهربائياً. تراجعت إلى الوراء
قلياً وأنا أتابع أحد طرفيه بنظري محدّقاً، فتبّين لي وجود
أساك أخرى تتصل به وتمتد إلى مختلف الجهات لتتصل
بألغام مزروعة فوق الأرض أو تحتها. أيقنت أننا داخل حقل
مخيف للألغام. حقل لم أر مثياً له في حياتي. يتصل كل لغم
فيه باللغم الاخر. هذا ما توقعته عندما رأيت شبكة الأساك
الكثيرة أمامي وعلى جانبي...
))يا إلهي لماذا كل الأشياء ضدّنا؟ هل سنجتاز مسافة المتر
ونصف هذه بسام؟ وكيف سنجتازها؟ هل نقفز من هنا؟ ليس
في الإمكان! ثم من يضمن أنهم لم يزرعوا الجانب الاخر
بالألغام أيضاً؟! فكيف سنقفز؟! متر ونصف فقط!! اجتيازهما
246 الهجرة إلى الجحيم
يعني الحياة بكل معانيها وقيمها، والبقاء دونهما يعني الموت
بما ينطوي عليه من مآسٍ وويات!!((.
لم أعد قادراً على القرفصة، فجلست على ركبة ونصف
لأستريح وأفكّر!! أشرت إلى راحيل أن تدنو منّي وأنا أحذرها
من الألغام. وددت أن أضمّها إلى صدري وأقبلها...
كانت كل المجموعة في منتصف الحقل الآن، فبت حائراً
بين المتابعة أو العودة لا سيمّا وأن اجتياز المتر ونصف هذين
سيخرجنا من الظلمات إلى النور!! لكن كيف سنجتازهما؟
والرفاق تكسرّت أرجلهم. ولا أعرف ما هي حال أركاديوش
وشلومو وهما يحمان الطفلين على ظهريهما. إنني خائف أن
يتعثر أحدهما ويسقط فوق أحد الألغام.
كانت راحيل تدنو منّي وهي تجاهد لتتخطى الألغام وأساك
العثرة... أحسست أنّها على وشك السقوط من جَرّاء الرعب
والتعب. همست لها:
))لن نموت يا حبيبتي، لن يقتلوا الحياة فينا يا راحيل نحن
أقوى من الحياة!!((.
دنت مني. مدّت يدها اليسرى نحوي وهي تتكئ على إحدى
ركبتيها ويدها اليمنى، فمددت يدي لها وأنا أميل بجسمي إلى
ناحيتها وقبل أن تلتقي يدانا كانت الأرض تزلزل من تحتنا
وترتفع بنا إلى أعلى ثم تهوي بنا!!!
لم أعرف كيف تفجّرت الألغام لا بد أن أحد الرفاق قد داس
على أحدها. ولا أعرف ماذا حدث لي حتى الآن!! أشعر أنني
احتفظ بشيء من وعيي حتى هذه اللحظة. حاولت أن أتّحرك
لكنني لم أتمكن لحظتها أيقنت أني مصاب بجراح خطيرة.
الهجرة إلى الجحيم 247
تحسست جسدي. تبينّ لي أن كل جسمي من اسفل السُرّة قد
تناثر أشاء قذفها الانفجار بعيداً عنّي!! حاولت أن أفتح عيني
الممتلئتين بالحصى والتراب لكنني لم أتمكن.
لم أسمع أي صراخ أو أنين لأي من الرفاق. يبدو أنّهم
ماتوا جميعاً ))ماتوا جميعاً؟! راحيل ماتت؟! أركاديوش وطفاه
ماتوا؟! لا! لا! راحيل! راحيل! أين أنتِ؟! راحيل هل تسمعينني؟!
يا إلهي لا أحد يرد وهذا قصف مدفعي ينصب على منطقتنا
أيضاً!! لأجاهد علّني استطيع مدَّ يدي إلى جانبي. كانت راحيل
قريبة منّي. ألم تكن تمد يدها إلي؟! مددت يدّي. تحسست
التراب والحصى. هذه يدها! لقد أمسكت أصابعها. شددتها
إلي فانسحبت بسهولة!! يا إلهي! يا الله! لم يبق من راحيل
غير يدها التي كانت ممدودة إلي؟! لا! لا!! راحيل! راحيل!!
راحيل!!!((.
))راحيل! هاتي يدك يا حبيبتي! لتبقى هنا على صدري!!
لن يقتلوا الحياة فينا يا حبيبتي!! لا لن يقتلوها!! لن يق تُ لُ و
ه.... !!!!((.
تمت
كتب ما بين تشرين أول ل 1979 وأيار 1980
248 الهجرة إلى الجحيم
محمود شاهين في سطور
- من مواليد السواحرة- القدس 1946
- درس الصحافة في القاهرة )في معاهد إعلامية وصحفية(
- ودرس الأدب العالمي والعربي والأسطورة والعقائد البشرية
والفلسفة دراسة خاصة.
- روائي. قاص. فنان تشكيلي. باحث. ناقد.مفكر. ويكتب الشعر
كهواية.
********
*أعمال أدبية:
-1 نار البراءة - قصص - دار ابن رشد - 79 )ترجم منها إلى
الانكليزية: نار البراءة. ضمن مختارات من الأدب العربي.
والنهر المقدس. ضمن مختارات من الأدب الفلسطيني.
الترجمتان بإشراف الدكتورة سلمى الجيوسي.
-2 الخطار - قصص - دار القدس - بيروت - 79 . ترجم منها
قصة «العبد سعيد « إلى الانكليزية والويلزية والفرنسية
والألمانية وغيرها.
-3 الأرض الحرام - رواية - وزارة الثقافة - دمشق - 83 )ترجمت
إلى التركية عام 2002 (
-4 الهجرة إلى الجحيم - رواية - المؤسسة الجامعة - بيروت
- 84 . طبعة ثانية 87
-5 الأرض المغتصبة - رواية - دار الشيخ - دمشق - 89
-6 غوايات شيطانية - رواية ملحمية - نثر وشعر )ترجمت إلى
الألمانية عام 99 ( )نشرت بالعربية على شبكة الإنترنت(
الهجرة إلى الجحيم 249
وصدرت عن دار نينوى في دمشق عام 2008 (
-7 موتى وقط لوسيان - قصص - وزارة الثقافة الفلسطينية -
رام الله - 98
-8 رسائل حب إلى ميلينا. دار البيروني -عمان. بدعم من وزارة
الثقافة الأردنية
-9 ألملك لقمان. ملحمة روائية.جزءان.نشرت على شبكة
الإنترنت أولا ثم صدرت عن دار نينوى في دمشق 2009 (
-10 أبناء الشيطان - رواية قصيرة دار البيروني. عمان 2014
-11 أديب في الجنة. ملحمة روائية فلسفية تكمل ملحمة الملك
لقمان. مكتبة كل شيء. حيفا أب 2017
-12 أيوب التوراتي وفاوست جوته. بحث مقارن. مكتبة كل شيء.
حيفا. 2018
-13 عديقي اليهودي. رواية. مكتبة كل شيئ. حيفا. 2018
-14 زمن الخراب. رواية. مكتبة كل شيئ. حيفا. 2019
-15 قصة الخلق. رواية. مكتبة كل شيء 2021
-16 ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة. مكتبة كل شيء حيفا. 2022
-17 أسبوع الآلام عشر روايات قصار. مكتبة كل شيء حيفا
2022
-18 أم محمود أم الشهداء. ست روايات قصار. دار الفاروق
نابلس. 2022
-19 سعيد وزبيدة. رواية مكتبة كل شيء. حيفا. 2023
-20 قراءات نقدية في الرواية. دار شهرزاد. عمان. 2023
********
250 الهجرة إلى الجحيم
* منشورات على النت:
21 * - الخالق. الخلق. الغاية. دراسات في العقائد والأساطير
الشرقية.وتقديم فهم معاصر لماهية وجوهر الخالق،والغاية
من الخلق.
-22 شاهينيات: مقولات وخواطر في الفكر الإنساني والمعرفة
والخلق والخالق،تكمل موضوع شاهين عن الخلق والخالق
والغاية من الخلق: 1545 مقولة ومقالة منشورة حتى آب
2022
)نشرت في خمسة أجزاء في دار كتابات جديدة للنشر
الالكتروني(
-27 قراءة نقدية للتوراة. عشرة أجزاء.
-37 دفاعا عن محمد )رد على كتاب العفيف الأخضر
« من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ )«
-38 السام على محمود درويش. )أشعار عن ديوان محمود
درويش، لماذا تركت الحصان وحيدا(
- مقالات في الألم الإنساني والمعرفة منها:
-39 تحولات الألوهة من الأنوثة إلى الذكورة
-40 التحالف بين يهوة والشيطان
-41 فصول من روايات
-42 قصص قصيرة وأشعار.
-43 صلاة الفذاذة العظمى. رواية قصيرة
* أبحاث أخرى نشرت في مجلات وعلى النت:
-44 هيكل سليمان بين الحقيقة التاريخية والخيال الأدبي.
-45 القدس تاريخيا بين منطق العقل ومنطق الجهل والخرافة.
-46 القدس مدينة السماء في بعض النثر قديمه وحديثه.
********
الهجرة إلى الجحيم 251
*أعمال صحفية:
-47 فلسطين أرض وحضارة - الدار الجماهرية - طرابلس - 85
-48 حرب المواجهة في لبنان - الاعلام الموحد - دمشق - 83
*- دراسات ومقالات نقدية في صحف ومجلات شهرية وفصلية
أهمها:
-49 التحول من البداوة إلى النفط في مدن الملح
-50 الحزن الدفين - دراسة في قصص الأديبة الفلسطينية
سميرة عزام
-51 مقالات في الرواية الفلسطينية
-52 مقالات في الرواية العربية
-53 مقالات في الرواية العالمية
-54 مقالات في القصة الفلسطينية
********
مخطوطات لم تنشر:
-55 الأرض المغتصبة - جبل المنطار، رواية
-56 الأحزان المتعانقة - رواية
كما ترجمت بعض قصصه إلى الانكليزية والألمانية والفرنسية
والإيطالية والاسبانية والروسية وغيرها، وبيعت بعض قصصه
إلى السينما والتلفزيون.
- حولت قصته «نارة البراءة » إلى المسرح وعرضت في عمان
عام 1991
* * * * * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب