الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيركية الساحات الثقافية ومَسرحتها

إيرينى سمير حكيم
كاتبة وفنانة ومخرجة

(Ereiny Samir Hakim)

2023 / 12 / 8
الادب والفن


أصبحت الثقافة في زماننا سيركية للغاية، ومسرحية استعراضية بغير ثقافة أو غاية، أبطالها المزيفون في المقدمة، جاعلون المفكرين الفارقين، والموهوبين الحقيقيين بها، في خلفية مَشاهِد حضورهم المبتذَل، مصارعون على تحويلهم إلى كومبارسات، تبشيرهم الثقافي الأعوَج، سارقون بحِرَفيَّة النشَّالين، لفاعلية المبدعين الواعين، مُحتالون على اللحظة المتألقة، مُدَّعون الموهبة، متربصون بأمجاد المثقفون الحقيقية، متلصصون على كرامة المعرفة، التي تلمع في عقول الباحثين الجادين، ويتحسرون على فقدانهم لامتلاكها، فينقشون أفكار المفكرين الصادقين، وتشكيلات فطنتهم، في دفاتر حضورهم الركيكة، ثم يُطلقون أسماءهم الرخيصة عليها، مُنتحلون الصفات الثقافية، مُحتَّلون صدراة ساحاتها، بنجاح الأراجوز في ضوضائيته وصَيحاته، مُقبلون للأيادي المُصفِّقة، عبيداً للَّفت الأنظار، نحو أمجادهم الهزيلة الزائلة، المُحقَّقَة بخطوات رقصاتهم السفيهة، على سطح المعرفة.

هؤلاء الممثلون المفتَعَلون من المثقفين، تترعرع فيروساتهم في أجواء التمثيل الجَهوري، وذبابية الجماهير المخدوعة، مثقفون متلونون، يطلّ المدَّعي منهم، على خشبة مسرحهِ الواهي، كمؤدي المونودراما، المتعدد الشخصيات، بحركاته المتغيرة المغايرة، ونبرات صوته المتلاعبة، إنَّهم سيركيون بامتياز، كثيري الأوجه، ومتعددي المبادئ والتحركات.

ولكن ... كل منهم يُكمِّل البعض الآخر ... فالمهرج، يُمِّهد لحضور الساحر، والأسد المريض، يقدم فقرته المُهينة، إلى جانب الكلب الضئيل!

عرض ثقافي لمهرج يمتطي أعلى درجات الزيف، فترتفع أعين الجماهير، نحو استعراضه الدون كيشوتي، لحذرٍ كاذبٍ، في مواجهة الهمجية والجهل، مُتأرجحاً فيها بتوازنه المُهتَز، وضميره المُهترئ، على حبال تغييب المتفرجين بعلمهِ الناقص، ووعيه الزائف، في حالة من التصفيق الحاد المرض الانتقائي، والإعياء الإدراكي.

ثم في حالة من الذهول المغفِّل للجماهير، الضعيفة الوعي، الخاضعة للمزاج، يأتي ساحر، ليستعرض قواه الخبيثة، فيتسلل إليك في نشوة الفضول، ليشتت انتباهك، ويسرق ساعتك من معصم قواك وتحكمك في ذاتك، ليقدم بها عرضه المأجور.

انتبه أيها المُنبهر! فقد سرق هذا الساحر من واعٍ حقيقي بخبايا الموقف، ومبدع حق، فرصته في الظهور، وليس هذا وحسب، بل سرق مجهوده قبلاً، وزيَّف حق تدوين اسمه عليه سَلَفاً، ثم أتى الدور عليك أيها المتجمهر الساذج، والمُشيِد بعرض ثقافة هذا الأرعن القارح، ليسرق فكرك، ووعيك، وساعة انتباهك من غفلتك!
إنَّها عروض .. لمزادات بيع الضمير المعرفي، ومزايدات إدعاء الوعي!

يندهش فيها المتفرجون، الجائعون للدَهش والمفاجآت الذهنية السطحية، فيُنَوَّمون مغناطيسياً بساحر ركيك الألعاب الذهنية، الجديرة بسبي أفكار الحاضرين المُتساهلين، وسَلب قوى وعيهم، وفرص نضج اختياراتهم، فيسقطون بسلاسة، في شِباك ضعف قدراته، مُستسلمين كدمى مطيعة، سهلة الشكيل والتوجيه والترديد.
جمهور يذهب بقدميه إلى دجاليّ المعرفة، من مُحترفي الشعارات الرنَّانة، والمصطلحات المتعجرفة، مَن يقدحون بخور عناوين معلوماتهم المقصوصة، فوَّاحة الرائحة، واسعة الانتشار بين خُشم التمييز الثقافي، الذين لا يميزيون بين الحقيقيّ والغاش، الذين يأخذون لقمة الوعي من ذوي أنصاف المعرفة، لأن ضمائرهم راضية بالأنصاف الواهية، ولا تتحمَّل مسؤولية الحقيقة الكاملة!

والحق أنَّ هذه الأجواء الثقافية المُفبرَكَة، لا تلوث مدارك ونفوس وأهداف تابعيها وحسب، بل تُشوِّش بجلاجل ادعائاتها، من ثياب المثقف البلياتشو، في طريقهِ لنشر تراهاته، بين طالبي المعرفة، على انطباعاتهم النفسية، ونتائج أبحاثهم العقلانية، فتؤثر حتى على الصادقين، الناشدين لجوهر التثقف، لا فقط على الخانعين له، من جماهير التلفيق والكذب، والنصف رؤية.

ويتفاقم هذا التأثير السلبي على الثقافة، في زمن "السوشيال ميديا"، والتكنولوجيا المُتطوِرة، الصَخبة الاستخدامات، والتي أصبحت مرتَعاً، لدجالي الوعي، أراجوزات الثقافة، وبهاليل الحكمة، المُتلوِّنين حسب المصالح الموَثَّقة، بحجم الألقاب، وأعداد المتابعين.
ويُزيد الأمر سوء، سلبية وانهزامية، مَن هم أحق بمنابر التعريف والتعليم والتنوير، أمام السيل الجارف لعبثية عملية التثقيف، ومجرياتها في الوقت الحالي، وسرعة انتشارها وشهرة أراجوزاتها، الذين يتقاذفون فيما بينهم، المدح والألقاب المُحفِّزة للجشَع، والسُلطان الذهني على تابعينهم برشاقة أكروباتية، وخدع سحرية بصرية عقلية، يُثلَج لضلالاتها صدور الباحثين عن أنصاف المعرفة، المخادعين المخدوعين، الذين لا يستحقون شفقة الاحترام أو التقدير، لأنَّهم شحاذون أمجاد الوعي الباطل، فهم لا يطلبون قوة المعرفة وعمقها وحقيقتها، بل مظهرها، مكتفين بما يُلقيه عليهم أسياد عقولهم المثقفون المزيفون، من فتات الثقافة السام، هؤلاء الذين يَسخرون منهم في قرارة أنفسهم، ويُسخرونهم لنشر ضلالاتهم المعرفية بينهم وبهم، مشجيعنهم على الفخر الوهمي بهم وبأنفسهم، فقط لأنَّهم تابعين لهم، وهؤلاء الجماهير ما هم إلا ذباب، لا يعرف إلا مناطحة مصادر النور، بينما هم هاوون للاستسلام والالتصاق بقطع الخراء كما بقطع الجاتوه، فاقدين لقيمة الفرز المُدقِق، وكرامة البحث الجاد.

وبسقوط هؤلاء الأمناء في قوالب الإحباط، المُتمثل عادةً في التنظير، والاكتفاء بالإشارة من بعيد على هذه الدعاية الدجالية المعرفية الواهية، يُفسَح الطريق أمام طغاة استباحة التنوير، ويُسهَّل لهم الاستمرار في إظلامه وإفساده، والتسبب في تمزيق وتشتيت وعي مجتمع بأكلمه! فمواصلتهم في طريق مصالحهم وأنانيتهم وتمثيلهم، هو قدرتهم على النجاح المسترسل، في مثل هذه الأجواء، الموبوءة بالاكتفاء بالازدواجيين والخبثاء.

لذا فإنَّه على المستنيرين الحقيقيين، والمرشدين التثقيفيين الصادقين، الاستمرار أياً كانت حيثيات موت الوعي والضمير مِن حولهم، فهم المسؤولون الأساسيون، لدفع مركبة السلامة إلى عمق بحر المعرفة، وهم منَ منوط بهم الاستمرار والمثابرة، لا المتصنعين والمُلفقين، وذلك مهما كان نشاط السيركيين المحيطين، ومُصدِقيهم المُتعجرفين بقشرة الثقافة والمعرفة، لذا واجب عليهم أن يُجرِّدوهم بكفاحهم المعرفي الحيّ، من كل مجد ذاتي شعبوي، كاذبٍ ميتٍ مميت.

أما عن دور الباحث المخلِص عن التثقف، فإنَّ سُبُله الوحيدة للنخر في أبراج الغباء العاتية تلك، هي في التزام النيَّة الصادقة، في البحث بين ثنايا المعلومات الرائجة، والتدقيق في مرجعية الأقلام والحناجر ذائعة الصيت، القاصدة للشهرة والتبعية، الباحثة عن أرقام من بشرٍ وأموالٍ، والصبر على نتائج الاستقصاء، والقبول بالحقائق كما هي، دون تجميل أو تحوير.

كما يجب على كل مُبتغٍ حقيقي للتثقف، أن يواجه بشجاعة، كل ما تقبَّلَه المثقف السيركيّ في داخله، وكل حيثيات المراهقة الفكرية، التي مر بها قبلاً، وجعلت منه صَيدة فكرية سهلة، لأحد هؤلاء الممثلين الفاشلين والسيركيين الفاشيين، بهذه المعلومة أو تلك، وعلى هذا المثقف الناشئ النضج البحثيّ، ألَّا يتخلى عن ضميره الإنساني تحت أي ظرف، وفي ظل أعتى المواجهات الداخلية قبل الخارجية، هذا الضمير الذي يجعل منه نافعاً، لا مُنتفعاً وحسب، وبهذا التوازن، يكون عملياً وفعلياً قادراً، على مواجهة أنصاف الحقائق ومُروِّجيها، ضارباً في مقتل، كل فرص هؤلاء المُحتالون في الانتشار، وائداً لفتنتهم المعرفية في مهدها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة