الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من غزّة إلى تونس: أن تقف وسط الهتافات وتفكّر (أسئلة تثيرها الحرب لتبقى بلا أجوبة)

ضياء البوسالمي

2023 / 12 / 8
القضية الفلسطينية


من غزّة إلى تونس: أن تقف وسط الهتافات وتفكّر
)أسئلة تثيرها الحرب لتبقى بلا أجوبة(

"لا يوجد فقط أجوبة خاطئة، ثمّة أيضاً الأسئلة المغالطة." جيل دولوز (1925-1995)، فيلسوف فرنسي.

منذ السابع من أكتوبر الماضي، أغرق طوفان الأقصى العدوّ الصهيوني في أزمة غير مسبوقة. وامتدّ الطوفان إلى العالم العربيّ ليغمره بموجة غير مسبوقة من الفخر والفرح الذي لم يعرف له مثيل منذ عقود طويلةٍ. انّه تغيّر مجتمعيّ متواتر يتحوّل نسقه بتسارع الأحداث في غزّة.
في تونس، قسمت الأزمة السياسيّة الشارع أكثر من أيّ وقتٍ مضى وأبعدت شريحة مهمّة من المواطنين لا عن السياسة فقط بل عن الشّأن العام عموماً. لكنّ حصار غزّة، أعاد للواجهة الحراك الذي خمد منذ مدّة طويلة. وكأنّ التونسيّ استعاد الشارع.
من وسط الجموع التي تصرخ نصرة للقضيّة تنفجر مجموعة من الأسئلة في ذهني. لا في إطار عملي كصحفيّ، بل كجزء من مجموعة بشريّة لا تعبّر فقط عن سخطها ممّا حصل بل تتجاوزه لتكون تمظهراً لشيء أكبر من مجرّد فعل الاحتجاج. لا يمكن أن يتحدّد ولكنّه – حتماً – أمر جلل بصدد التشكّل. أمر يحمل تفاصيل تتطلّب أن نتوقّف ونطرح مجموعة من الأسئلة أو نتتبّع بداية طرقٍ لفهم ما يحيط بنا بعيداً عن التحاليل الاستراتيجيّة ومصطلحات الغلبة والزاد والعتادْ. أمور بسيطة تحدث هنا وتغيّرات يغطيّها زخم الأحداث.

لماذا لا يخاف التاكسي من الأومبوتياج*؟
عندما حاولت أن أتنقّل من الضاحية الشمالية للعاصمة ليلا لمواكبة الاحتجاجات التي اندلعت في شارع الحبيب بورقيبة، خرجت إلى الشّارع لأوقف تاكسي. في خضم ما يحصل، كنت أستعدّ للرّفض المعتاد بتعلّة أنّني "موش في ثنيّة" السّائق. لكن، على عكس المتوقّع، ما ان وصلت إلى الطريق السيّارة المؤدية إلى وسط المدينة حتّى وجدت ضالّتي.
حدّثني السّائق عن القضيّة والقصف والمستجدّات التي ينقلها الراديو في نشرات مفصّلة. رغم بشاعة الأخبار التي تأتينا من غزّة، راودني شعور بالارتياح استغربتُه نظراً لدقّة الموقفِ. واصل السّائق حديثه إلى أن وصلنا إلى مفترق "حي الخضراء" أين بدأ الاكتظاظ وثقُلَ تحرّك السيّارات.
"أنا الليلة بالذّات ما عادش خايف من الأومبوتياج، والله."
يضحّي السّائِق ببعض الوقت. يغامر بالانضمام إلى سيل السيارات التي تتجّه إلى شارع بورقيبة. ما شدّني هو هذا الرّبط بين الزحمة والقضيّة الفلسطينيّة. ثمّة صدق في تناول الأمور وتنازل يعبّر عن إحساس – ولو بقدر ضئيلٍ – بالمسؤوليّة تجاه قضيّة عادلةٍ.
"مادامك ماشي تتظاهر، نهزّك. ربّي يرحمهم وينتقم من الصهاينة"
أوكة بايدن، حكى سمعتو؟" يضيف التاكسي بنبرةٍ لا تخلو من سخطٍ. تُغيّر الأحداث الأليمة في واقع الأمور على الصعيد الدوليّ لكنّها أيضاً تترك أثراً في الأنفس ينعكس اهتماماً قد لا يكون محلّ اهتمامنا في فترة نعدّ فيها القتلى كلّ دقيقة في عزّة.
في شارع محمّد الخامس وقبل أمتار قليلة من الوصول إلى مفترق "المنقالة"، ينحرف السائق بسيّارته إلى طريق فرعيّة ليقف. يخرج لينزع "البلاكة" لكي لا يوقفه حرفاء آخرون. أودّعه وأنا أتساءل عن عودة هاجس الأومبوتياج مجدّداً. تنساهُ لفترة. اعتبر نفسه في مهمّة اقتضتها الحاجة الملحّة جرّاء الظروفِ التي تعيشها غزّة.
التاكسيست أيضاً – بلعناته لبايدن والصهاينة واقدامِه على الزحمة – مساند للقضيّة بطريقته. تماماً كهؤلاء الذين خرجوا نصرةً لغزّة بأصواتهم.

أي علاقة بينَ سفير فرنسا وحذاء الستان سميث؟
منذ فترة طويلة، لم أر شارع بورقيبة بهذه الحيويّة ليلًا. العاشرة، في هذا الوقت، اعتدت رؤية أعوان الشرطة يحرسون وزارة الداخليّة تحت نظرات تمثال بورقيبة. وبعض مرتادي حانات وسط البلد يكملون بقيّة حديث على امتداد الأرصفة.
استعاد الشارع عافيته. تمطّى وبدأ يومه بعد غياب الشّمس.
لفت انتباهي وأنا ألج الشارع من الرّصيف المقابل لنزل "الأفريكا". أنّ الحشود توزّعت بين عائلات وشباب وسياسيّين. لكنّ قلب الاحتجاج كان من جهة الحدّ الفاصل الذي تشكّله سيارات الأمن التي تحمي السفارة الفرنسيّة. الشعارات المعتادَة المطالبة بالمحاسبة والداعية لسقوط الكيان.
في الاحتجاجات الدّاعمة لفلسطين، والتي واكبتها كصحفيّ، يحضر الأمريكان في الهتافات والأهازيج كمتّهمين. ليلة الثلاثاء في تونس. صوّبت الحشود وجهها صوب السفارة الفرنسيّة.
"الشعب يريد طرد السّفير"
كسائق التاكسي، كان الحاضرون مستعدّون للخروج من مساحة الأمان (confort zone) ومواجهة مستعمر الأمس الذي يساند الصهاينة في حربهم على غزّة. تتوالى الهتافات ضدّ الأمريكان، الصهاينة وفرنسا. للحظة وقع خاصّ في النفوس تحسّه عندما يغيّر المتظاهرون لغة التعبير عن سخطهم. يُشتَم بايدن بالعربيّة. ويخاطَبُ ماكرون بلغته.
"Macron assassin"
وسط الحشودِ أتذّكر كاتب ياسين وحديثة عن الفرنسيّة كغنيمة حرب. هنا، تستعمل اللغة كوسيلة من وسائل الحرب للتقدّم بالفعل الاحتجاجي إلى ما وراء الشعارات. تقول سنية (37 سنية): قدمت أنا وصديقاتي خصّيصا للوقوف أمام السفارة. هذي بلادنا وما فماش علاش نسكتو على مساندة فرنسا للصهاينة.
تلخّص الشّابة موقف جلّ الشباب الحاضر والساخط على موقف فرنسا من العدوان على غزّة. فالجميع – في عصر وسائل التواصل الاجتماعي – قادر على معاينة الأوضاع بتفاصيلها في مختلفِ أنحاء العالم. هذا ما يؤكده سامر (24 سنة). عندما سألته عن الشعارات التي ترفع ضدّ فرنسا. "النّاس الكل تعرف اليوم إلّي فرنساَ مانعة التظاهر لمساندة فلسطين. قلّك بلد الحريات." ويسترسل عن سبب قدومه "أنا عمري ما تظاهرت. أما الليلة جيت على خاطر شيْ يوجع القلب وما نتصورش فمّة انسان ينجّم يبقى ساكت في وسط هذا الكل. في أنستغرام تصاور متع رضّع موتى. وليّد بدنو ما بقى منّو شي. شفت كان الستان سميث مطيّش ومبقّع بالدّم."
ثمّة تغيّر حتميّ بعد قصف المستشفى في غزّة. صور الأشلاء والرضّع. استوقفت الملايين. لكنّ التفاصيل التي تتوقف عندها العين في بعض الأحيان تدفع بالمتلقّي إلى الهيجان. كالقطرة التي تفيض الكأس. فوسائل التواصل الاجتماعيّ خلقت مساحة تعبير جديدة رغم محاولات الصنصرة. وأتاحت للجيل الذي واكبها منذ نشأتها لكي يكون ثوريّا راديكاليّاً على طريقته.
صور الأشلاء والستان سميث الملطّخ بالدّم، دفعوا بالشّاب إلى النّزول إلى الشّارع للتعبير عن رأيه ومواجهة آلة القتل الصهيونيّة التي يتردّد صداها إلى قلب العاصمة التونسيّة وتجد من يناصرها ويحاول طمس ملامح أيّ نفسٍ مقاوِمٍ.

هل هو فعلا مجرّد جدارِ؟
يأتي سخط المتظاهرين على فرنسا، لا فقط بسبب مواقفها الرّسميّة من خلال رئيسها. بل أيضا بسبب إزالة علم فلسطين الذي رسمه مجموعة من الشباب على جدار المعهد الفرنسي في شارع باريس بالعاصمة. عمليّة استنكرها الكثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي. وأدّت إلى تحرّكات أعادت رسم العلم على الجدار ذاتهِ مع إضافة شعارات رافضة للكيان الصهيوني.
هل هو مجرّد جدار؟ قطعاً لا. هي محاولة لاستعادة الفضاء العام بما في ذلك الجدران التي كانت بمثابة المتنفّس في مختلف الأحداث التي عاشتها البلاد منذ الثّورة بفضل شباب خفتت أصواتهم بسبب الخيبات المتتالية في فترة ما سميّ بالانتقال الديموقراطيّ.

لنسافر قليلًا.. إلى المستقبل؟
قرّر طلبة كليّة الطب والعديد من الجامعات الأخرى مقاطعة الدروس والتظاهر تنديداً بما يحصل في غزّة. بدأت احتجاجات يوم الأربعاء منذ التاسعة صباحاً كأنّ الجميع قرّر أن يبدأ حصص الدروس في الشوارع. كأنّ الأمور امتداد لما حصل الليلة الماضية.
دخلتُ لشارع الحبيب بورقيبة من جهة شارع المنجِي سليم بمحاذاة باب بحر. من هناك، تتبعت مسيرة لمجموعة من طلاب كليّة الطب بتونس. كانوا فعلا كجيش أبيض. "يا صهيوني يا جبان المستشفى لا يهان". حدّثتني سارة (21 سنة) عن المساعدات التي يتمّ تحضيرها في الكليّة. وشرحت لي أنّه بمبادرة فرديّة من الطلاب، تمّ حصر قائمة بمجموعة من الأدوية التي سيتمّ توفيرها بالتنسيق مع الهلال الأحمر لإرسالها لغزّة.
هنا أيضاً، كانت وسائل التواصل الاجتماعيّ حاسمة في تسهيل الأمور، فالتنسيق حصل مع مختلف الأطراف بما في ذلك طلبة الطبّ في سوسة وصفاقس ومع منظّمات المجتمع المدني عن طريق مجموعات في الفضاء الافتراضيّ.
رغم البروباغندا الصهيونيّة وتطويع وسائل التواصل الاجتماعيّ للتّضليل، انبثقت مجموعة من الفضاءات كباحة خلفيّة تدار فيها حملات مساندة، تنظيم لوقفات وعمليّات تنسيق لجمع المساعدات تماماً كمَا تحدّثت سارة.
خلف مسيرة طلبة الطبّ، مسيرة لمجموعة من التلاميذ قادمة من الحفصيّة. لمحت وسطهم يوسف، أحد الأطفال الذين اشتغلت معهم في ورشات الكتابة. كان يسير مع رفاقه رافعا راية فلسطين.
عندما التقت كلّ الجموع أمام المسرح البلديّ كان التجمّع متكوّناً من شباب من مختلف الجامعات والمعاهد في العاصمة. نفس جديد وطرق جديدة في الاحتجاج أيضا تمتزج فيها الشعارات بأهازيج الفيراج. على الهامش في آخر التجمّع من جهة المقاهي المقابلة للمسرح البلديّ، لمحت مجموعة من السياسيّين من مختلف الشقوق. كانوا يتأمّلون المشهد. القضيّة التي نجحت حيث فشلوا. أعادت الشباب إلى الشوارع.
احتضن الشارع الرئيسيّ بالعاصمة كلّ الفئات العمريّة والشرائح الاجتماعيّة تقريباً خلال اليومين الماضيين. لكنّ الأكيد أنّ معظمهم كانوا من الشّباب. كأنّها رسالة واضحة بأنّ الالتزام بهذه القضيّة يمرّ لا إراديّاً من جيل إلى آخر. والأهمّ، أنّ فلسطين بكلّ مآسيها مازلت تقدّم شهداء بشكل يوميّ، تعطي فرصة للبسطاء للتقدّم – ولو ببطء- خارج سجن الخوف، وتجعلني كصحفي أنتبه إلى تفاصيل صغيرة كحبّات رمل لا توقف الآلة لكن تترك فيها أثراً لا يُرَى بالعين المجرّدَة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتخابات رئاسية في تشاد بعد 3 سنوات من استيلاء الجيش على الس


.. الرئيس الصيني في زيارة دولة إلى فرنسا والملف الأوكراني والتج




.. بلحظات.. إعصار يمحو مبنى شركة في نبراسكا


.. هل بات اجتياح مدينة رفح قريبا؟




.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم طولكرم بعدد من الآليات العسكرية