الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إثنان من كارل ماركس

رسلان جادالله عامر

2023 / 12 / 8
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


إعداد سيرجي غليزيروف
ترجمة رسلان عامر


قالت عنه الموسوعة السوفيتية الكبرى: «هو مؤسس الشيوعية العلمية، ومعلم وقائد البروليتاريا العالمية. كشفت تعاليم ماركس عن قوانين التطور الاجتماعي وأظهرت للإنسانية الطريق إلى التجديد الشيوعي للعالم».
في أوائل شهر مايو 2018، مرت مئتا سنة على ميلاد كارل ماركس. ما مدى أهمية هذا الرقم اليوم؟ وهل أصبحت تعاليم ماركس ملكية للتاريخ فقط، أم أنها لا تزال محافظة على فاعليتها حتى اليوم؟ محاورنا هو باحث أول في متحف التاريخ السياسي لروسيا، مرشح (candidate) العلوم التاريخية ألكسندر سميرنوف (Alexander Smirnov).

- الكسندر بافلوفيتش، الشخصيات التاريخية التي شكلت الأجندة السياسية للقرن العشرين في روسيا ليبست كثيرة، ولا شك في أن كارل ماركس ينتمي إليهم...
-وهذه مفارقة كبيرة، فعلى الرغم من أنه تحدث باستحسان عن الثوار الروس، إلا أنه على العموم كان يعامل بلدنا بشكل سلبي للغاية، وبعض مقالاته عن التاريخ الروسي لم تُنشر حتى في الاتحاد السوفيتي، إذ أن حجج المفكر حول هذا الموضوع، إذا ما تحدثنا بمصطلحات حديثة، كانت ضد روسية إلى حد كبير، لدرجة أنها لم تكن مناسبة حتى للحكام السوفييت.
على سبيل المثال، عملُ ماركس "الكشف عن التاريخ الدبلوماسي للقرن الثامن عشر" لم يتم تضمينه في بلدنا في أي من مجموعات أعماله، ولم يتم نشره لأول مرة إلا في عام 1989، وقد أشار ماركس إلى أن «موسكوفيا (Moscovia - دولة موسكو) قد نشأت وترعرعت في مدرسة رهيبة ومشينة من العبودية المغولية، وقد أصبحت أقوى فقط عندما أصبحت بارعة في فن العبودية، وحتى بعد تحريرها، استمرت موسكوفيا في لعب دوره العبد التقليدي الذي تحول إلى سيد، وفي وقت لاحق، جمع بطرس الأكبر بين الفن السياسي للعبد المغولي مع التطلعات الكِبرية للسلطان المغولي، الذي أوصاه جنكيز خان بتنفيذ خطته لغزو العالم... »
لم يكن ماركس وحده في مثل هذه التقييمات، فلفترة طويلة، نقلت الحركة العمالية اليسارية الأوروبية كراهيتها للقيصرية الروسية وللاستبداد إلى روسيا والروس بشكل عام، وكانت روسيا بالنسبة لماركس مصدر للرجيعة، والناس فيها يطيعون القيصر، ما يعني أنهم رجعيون أيضا، كما أن فريدريك إنجلز زميل ماركس في عمله "الديمقراطية السلافية" الصادر عام 1849 لم يعترف بشكل عام لبعض الشعوب السلافية بحقها في إقامة دولتها، على سبيل المثال، التشيك، السلوفاك، الأوكرانيون والبيلاروسيون.
لذا اندهش ماركس بوجود اهتمام خاص في روسيا بتعاليمه، فقد كانت اللغة الأجنبية الأولى التي تُرجم إليها رأس المال هي الروسية.
بعد الثورة، تحول ماركس في بلادنا تقريبا إلى إله، إلى أحد "القديسين السوفييت" على قدم المساواة مع لينين وستالين، وفي أصغر البلدات الريفية، كان هناك دائما شارع باسم كارل ماركس ونصب تذكاري له، وباسمه تمت تسمية المكتبات والمصانع ومزارع الدولة والمسارح والمعاهد ... وتم تعليق صوره أو إقامة تماثيل نصفية له في معظم المؤسسات.
صحيح أن هذه كانت صورة بعيدة كل البعد عن حياة الإنسان العادي برغباته وعيوبه وشكوكه، وكما يقول الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي: «ماركس! يرتفع الشعر الأشيب في إطار الصورة إلى العينين، كم هي حياته بعيدة عن التصور! ويرى الناس رجلا شائخا باردا محاطًا بالرخام والجص».

- في المدرسة في العهد السوفيتي، درس الجميع "بيان ماركس للحزب الشيوعي" بتصريحاته حول الصراع الطبقي وحتمية الثورة الاشتراكية، فماذا نتذكر؟ ربما فقط العبارة الشهيرة عن شبح "يتجول في أوروبا" ...
- نعم، للوهلة الأولى، وحينها كانوا يحاولون الترويج لأعماله بأكبر قدر ممكن، ومع ذلك، ففي الوقت نفسه، تم حظر طبقة كاملة من آراء ماركس المبكرة في الاتحاد السوفيتي. على سبيل المثال، تلك الواردة في "مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لعام 1844"، التي في عام 1932 فقط تم نشرها بالكامل لأول مرة في أوروبا والاتحاد السوفيتي باللغة الألمانية، وقد تسبب هذا في حدوث انعطاف معين في تقييم ماركس وآرائه في أوروبا، وظهرت "الماركسية الجديدة"، ومنها نمت "الشيوعية الأوروبية" التي انتشرت في أوروبا الغربية في الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
باللغة الروسية، نُشرت "المخطوطات" لأول مرة فقط في عصر ذوبان الجليد في عهد خروشّوف، وقد استخدمت الطروحات الواردة في هذا العمل في النضال الأيديولوجي ضد "القفزات الصينية" لماو تسي تونغ، ثم صارت أعمال ماركس الأولى مطلوبة بشدة في أواخر الثمانينيات في موجة التغيرات السياسية، عندما كان المجتمع يبحث عن مخرج من مأزق نظام الحكم والإدارة، وأنا بدوري أيضا قرأتها في ذلك الحين، وبدا لي أن بعض الآفاق غير المسبوقة قد انفتحت ومنفذا إلى بُعد آخر قد انوجد.
لماذا كان ماركس الأول مثيرا لانطباع مدهش؟ هذا لأنه يقدم نفسه كإنساني وليس كمدافع عن الصراع الطبقي.
إن نظريته في أربعينيات القرن التاسع عشر يمكن صياغتها على النحو التالي: جوهر الملكية الخاصة هو العمل المغترب، حيث يُجبر الإنسان على العمل لسبب واحد فقط، وهو كسب المال من أجل معيشته هو وعائلته، وليس من أجل تنميته الذاتية، وليس من أجل الإبداع، وليس من أجل المتعة، ولكن لتلبية احتياجاته البدائية، وبهذا المعنى، يكون الإنسان عبدا للقوى الاقتصادية الخارجية. لقد اعتقد ماركس أنه من الضروري تحرير الإنسان من اضطهاد علاقات الإنتاج.
كيف يتم فعل ذلك؟ بإخراجه من عملية الإنتاج، عندما يتم استبدال العمل البشري بآليات، لكنها لن تكون في ملكية خاصة، بل ستكون تحت تصرف المجتمع، ولن تكون هناك ملكية خاصة على الإطلاق، بل ستختفي من تلقاء نفسها، ولكن من أجل هذا، يجب أن تأتي اللحظة التي تصنع فيها القوى الاقتصادية الوفرة والازدهار في المجتمع ولن يحتاج الإنسان إلى العمل من أجل الكسب.
وعندئذ، ليس بالإكراه، ولكن بمحض إرادته، سوف يشارك الإنسان في تلك الأنشطة حيث يمكنه إظهار قدراته الإبداعية لصالح المجتمع، ويُستبدل عالم الضرورة بعصر الحرية. لقد اعتقد ماركس أن الناس لديهم العقل الكافي إلى درجة أنهم سيستخدمون هذه الحرية لصالح المجتمع، وسيكون تطور كل منهم شرطًا للتطور الحر للجميع.
لن يكون هناك مال، ولن يكون هناك ممتلكات، ولن يكون هناك تبادل للسلع، وسيوفر المجتمع للإنسان كل ما يحتاجه.

- أليست هذه يوتوبيا؟
- ماركس لم يعتبرها يوتوبيا، لقد كان على يقين من أن لدى الإنسان حدود لاحتياجاته، كما كان يعتقد أن القيود الخارجية فقط هي التي تعرقل سعادة الإنسان، وهذا ما كان هذا نقصا خطيرا في تعاليمه. لقد أشار سيغموند فرويد، على سبيل المثال، إلى أن سلوك الإنسان تتحكم فيه رغباته الداخلية، وشهواته، ومخاوفه المكبوتة، وغرائزه الجنسية، لكن بالنسبة لماركس، مثل هذه المشكلة لم تكن موجودة على الإطلاق...
لنفترض أن حقبة تحل فيها الآليات محل الناس ستأتي فعلا، فهل سيتمكن الإنسان من استخدام وقت فراغه ووفرة المواد لديه بشكل لائق؟ تشهد حياة الريعيين المعاصرين، وسلوك "الشباب الذهبي"، أن الكسل يؤدي غالبا إلى التدهور، وللأسف، قلة من الناس في ظروف الوفرة قادرون على تحسين الذات والإبداع والبحث العلمي، ولذا يعتقد إريك فروم أن ماركس كان مخطئا في اعتقاده أن الإنسان كائن عقلاني.

- وماذا كانت الفكرة الأساسية لـ "رأس المال"، العمل الرئيس لكارل ماركس؟
- ببساطة، أن يظهر للعمال أن الرأسمالي ليس فاعل خير، بل مستغل يأخذ ما ينتجه العامل، ونتيجة لذلك، يكون هناك توزيع متفاوت وغير عادل للدخل.
وفي الحقيقة، "رأس المال"عمل صعب للغاية، وقليل من الناس يستطيعون التغلب على صعوبته وفهمه، وكان هذا الكتاب مخصصا في المقام الأول للمفكرين، وقد انطلق ماركس من فرضية أنهم هم الذين يجب أن يقودوا العمال، فالعمال أنفسهم لا يدركون مصالحهم واحتياجاتهم، وبالمناسبة، أخذ لينين هذه الفكرة بوضوح شديد على أنها تعني أنه يجب رئاستهم!
إن أكثر ما يثير في الأمر هو أن كتاب رأس المال، الذي نُشر في ألمانيا عام 1867، لم يُحظر في روسيا القيصرية، حيث نُشر لأول مرة باللغة الروسية بعد ذلك بخمس سنوات، ولم تدرك السلطات لفترة طويلة خطورة هذا الكتاب، وبالمناسبة، هناك مفارقة: في مكتبة متحفنا إصدارات ما قبل الثورة الموجودة من رأس المال هي أكثر من إصدارات ما بعد الثورة، وفي العهد السوفيتي، ظهر الإصدار الأول فقط في عام 1929.
أما لماذا أثار الكتاب في روسيا بالضبط هذا الاهتمام بين الجمهور القارئ؟ فهناك سببان:
بالنسبة لأولئك غير الراضين، بدرجة ما، عن البقايا الإقطاعية التي كانت موجودة في روسيا، تحدثت أفكار ماركس عن المجيء الحتمي للمجتمع الرأسمالي، وليس غريبا أن الماركسيين القانونيين أكدوا أن الرأسمالية الغربية هي حضارة يجب أن تتطلع إليها روسيا، وأشاروا إلى أنهم بفضل ماركس بالضبط اكتسبوا الثقة بأن روسيا سوف تتعلم من الغرب وتتغلب على التخلف.
وبالنسبة للثوار، برهنت تعاليم ماركس بشكل علمي أن البلاد ستتغلب على الرأسمالية وستصل إلى مجتمع أكثر كمالا، ولهذا كان من الضروري تطبيق الأساليب الثورية.

- يمكننا أن نسمع في كثير من الأحيان أنه في الاتحاد السوفياتي لم يكن هناك اشتراكية حقيقية وفقًا لماركس، وأن تعاليمه كانت محرفة، وأن أفكاره كانت مشوهة...
- في إحدى رسائل ماركس إلى إنجلز، هناك عبارة بخصوص تفسير تعاليمه خلال حياته تقول: «إنني أعرف شيئا واحدا فقط، وهو أنني لست ماركسيا»! وهنا مفارقة أخرى، فهناك "اثنان من ماركس"، أحدهما فيلسوف يشرح العالم، وإنساني يحتج على استعباد الإنسان بالظروف الاقتصادية الخارجية، أما الآخر فهو ثوري يريد تغيير العالم.
كفيلسوف، أدرك ماركس، أن العالم يقوم بشكل غير عادل، ولكن كيف يمكنه الانتظار حتى تستنفد الرأسمالية نفسها؟ بالطبع، أراد ماركس أن يفعل شيئا في الوقت الحالي، وفكر أين توجد الرافعة التي يمكنها أن تغير المجتمع، ورأى مخرجا في الثورة وفي الطبقة العاملة التي ستنفذها، ولماذا العمال؟ هذا لأنهم الجزء الأكثر حرمانا من السكان، وقد رفض ماركس الفلاحين، فهم برأيه "رجعيون" لأنهم لديهم ملكية.
بالنسبة لتفسير لينين للماركسية... لم يعجب لينين بفكرة ماركس أن الرأسمالية يجب أن تبلغ ذروتها، ولينين لم يرغب في الانتظار أيضا، فطرح مفهوم الوضع الثوري، الذي تستولي فيه طليعة الطبقة العاملة، أي الحزب الثوري، على السلطة، فيما لم يكن لدى ماركس مثل هذا الموقف.
من وجهة نظر ماركس، من المستحيل بناء الاشتراكية في بلد متخلف اقتصاديا، والرأسمالية نفسها هي من يصنع المتطلبات المسبقة الموضوعية للانتقال إلى التشكيل الجديد، لكن لينين فكر بشكل مختلف: سوف نستولي على السلطة، وبعد ذلك سننشئ المتطلبات الأساسية.
بالنسبة لماركس، كانت الثورة في بلد واحد مستحيلة، وفكرة مثل هذه الثورة روجها ونفذها لينين، فيما انطلق ماركس وبليخانوف من فرضية أن الثورات ستنتصر في وقت واحد في البلدان المتقدمة والمتطورة اقتصاديا، وصحيح أن لينين آمن أيضا بثورة عالمية، لكنه آمن بأن روسيا ستصبح "حطبا" لنيران العالم.
لقد فهم لينين ورفاقه بشكل حرفي كلمات ماركس حول القضاء على الملكية الخاصة، وأن ذلك يعني انتزاعها من "البرجوازية" وإعطاءها للدولة، أما ماركس فقد كان متأكدا من أن الملكية الخاصة لن تختفي نتيجة لأعمال العنف، ولكن نتيجة للتطور الاقتصادي الطبيعي، وحذر من أنه إذا تم انتزاعها من البرجوازية وتسليمها إلى الدولة، فلن يختفي الاستغلال، وفي نفس "المخطوطات الاقتصادية الفلسفية"، حذر من أن القضاء المبكر على الملكية الخاصة سيؤدي إلى شيوعية الثكنات ذات المساواة الفظة.

- إذن، وعلى أية حال، صمدت تعاليم ماركس بطريقة ما أمام اختبار الزمن، ولكن فقط أصبحت الرأسمالية عنيدة...
- كانت تعاليم ماركس نتاج العصر الصناعي، وفي البداية جذبت الكثيرين بانتقادها للرأسمالية وإجاباتها، التي بدت للوهلة الأولى أنها المفتاح لحل جميع مشاكل ذلك المجتمع.
انطلق ماركس من فكرة أنه من المستحيل تحسين الوضع المادي في ظل الظروف الرأسمالية، لكن في الواقع، نجحت في ألمانيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر إصلاحات بسمارك، التي أطلقوا عليها اسم "اشتراكية الدولة"، وقد قدم بسمارك لأول مرة معاشا عاما للشيخوخة لجميع العمال، أي أن الدول، بغض النظر عن تعاليم ماركس، ذهبت إلى الإصلاحات الاجتماعية.
وبالمناسبة، بعد وفاة ماركس، لاحظ إنجلز أنهما ربما كانا مخطئين في توقع الانهيار الوشيك للرأسمالية وقيام الثورة، وأنه من المحتمل أن الطبقة العاملة، في الوضع الحالي، يمكنها تحسين حياتها بشكل كبير، فيما كان ماركس نفسه يؤمن بالثورة حتى نهاية أيامه، وبالنسبة له، كانت كومونة باريس هي نذير المستقبل.
بعد وقت قصير من وفاة ماركس، بدأ أتباعه في التخلي عن أفكاره غير المبررة، وهكذا، في نهاية القرن التاسع عشر، دعا العضو النشط في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الألماني، إدوارد برنشتاين، وهو، بالمناسبة، صديق فريدريك إنجلز، إلى مراجعة الافتراضات الأساسية لماركس، وكان أول من شكك في علمية تعاليم ماركس.
وقد رفض برنشتاين تأكيد ماركس أن الرأسمالية غير قادرة على التطور والتحسن وأنها ستواجه حتما انقلابا عنيفًا، وأكد أن انهيار الرأسمالية ليس حقيقة مثبتة علميا، ولكنه موضوع إيمان، ولذلك، فالاشتراكية هي مجرد مثال أخلاقي تم اختياره بشكل عقلاني وفقًا لـ "الضرورة الأخلاقية" لكانط، وليست مجتمعا مستقبليا قائما على أسس علمية وحتميا تاريخيا.
وابتداء من برنشتاين بدأت عملية تخلي الاشتراكيين الغربيين عن هذا البعض أو غيره من أحكام تعاليم ماركس ...
وفي روسيا، "استوعب" العديد ممن كانوا مفتونين في البداية بالجانب الثوري لماركس تعاليمه ومضوا قدما، ومنهم على سبيل المثال، الفلاسفة الدينيون الروس نيكولاي بيردياييف، وسيرجي بولجاكوف، وسيميون فرانك.
في وقت لاحق، كشف التطبيق العملي للعديد من وصفات ماركس عن فشلها، على سبيل المثال، فرضية التضامن الدولي للعمال، فقد أثبتت الحربان العالميتان في القرن العشرين أن شعار "البروليتاريون ليس لديهم وطنهم"، أي فكرة أن لديهم مصالح مشتركة، هو شعار لا يمكن الدفاع عنه، وعندما بدأت الحرب الوطنية العظمى، كان سوفيتيون كثيرون يتوهمون أن العمال الألمان لن يقفوا ضد إخوانهم الطبقيين من الاتحاد السوفيتي، وسوف ينتفضون ضد هتلر، لكن هذا لم يحدث.
وثمة مثال آخر، حيث اعتقد ماركس أن الثورات هي قاطرة التاريخ، وقد اتضح عكس ذلك، فغالبا ما تعيد الثورات المجتمع إلى الوراء، ويتم استبدال بعض الظالمين بآخرين ...

- هل ما يزال الاهتمام بالماركسية اليوم قائما؟
- إنه موجود ولكنه نسبي للغاية. نعم، يدرس طلاب الاقتصاد رأس المال، ولكن ليس على الإطلاق لتطبيق أحكامه في الممارسة، بل لأن ماركس احتل مكانا معينا في تاريخ الفلسفة والاقتصاد، وعدم معرفة آرائه هو ببساطة أمر غير احترافي ...
والماركسيون عمليا ليس لديهم في أي مكان أي تأثير جاد ليؤثروا على سياسة الدولة، فالاشتراكيون الديمقراطيون الألمان ليس لديهم علاقة بماركس، وفي في فرنسا، حدث "اندفاعة" الماركسية الأخيرة في عهد الرئيس فرانسوا ميتران، عندما دخل الشيوعيون الحكومة، والآن، يغازل الاشتراكيون الديموقراطيون الفرنسيون تعاليم ماركس، لكن ليس أكثر من ذلك، وحتى الصين لا علاقة لها بالماركسية، سواء من وجهة نظر الشيوعيين الأصوليين أو معارضيهم.
ولا تزال أنواع مختلفة من الماركسية تحظى بشعبية لدى جماهير محددة نوعا ما، كالتروتسكيين والماويين وغيرهم من الراديكاليين اليساريين، ولكنهم ليس لديهم أي تأثير جدي على التطور السياسي.
وبرأيي، اليوم، في عصر ما بعد المعلومات، تعتبر تعاليم ماركس "مفارقة تاريخية" (anachronism)، صحيح أن المعجبين به يؤكدون بأن التناقضات بين العمل ورأس المال لا تزال قائمة في روسيا الرأسمالية ما بعد السوفييتية، ومع ذلك، هذا تأكيد تخميني، ففي المجتمع الحديث، هناك من الموظفين المكتبيين والمبرمجين والعاملين لحسابهم الخاص أكثر من العمال الكادحين بمرات عديدة؛ ومن مثلا يستغل عامل متحف وكيف يحسب فائض القيمة في راتبه؟ ولمْ تصبح وسائل الإنتاج هي القيمة الرئيسة في الإنتاج، بل هذا ما أصبحته الملكية الفكرية، التقنيات التي لا يمكن ببساطة إضفاء الطابع الاجتماعي عليها.

- في العهد السوفياتي، كان ماركس، من بين أمور أخرى، مثالاً يحتذى به كشخص يتمتع بصفات أخلاقية عالية...
- وماذا إذن عن قوله الشهير: "كل ما هو بشري ليس غريبا عني"؟ هكذا قال، مجيبا عن أحد أسئلة استبيان الاعتراف في عام 1865، عندما كان يبلغ من العمر سبعة وأربعين عاما.
في الواقع، حياته كلها هي تأكيد لهذه المقولة، فقد كان شخصا شغوفا، ولعب في البورصة، وكان غير متسامح مع الرأي المختلف، ولا يمكن التوفيق بينه وبين معارضيه، ولا يضبط نفسه حتى مع مؤيديه، وقد تجاوز الحدود الأخلاقية، فعلى سبيل المثال، اتهم باكونين بأنه عميل للاستبداد القيصري، وتهكم على غيرتسين؛ وقد أطلق عليه الناقد الأدبي بافيل أنينكوف في مذكراته "عقد رائع، 1838-1848" لقب" ديكتاتور ديمقراطي."
وبشكل عام، لكي نكون صادقين، فقد اعترف كارل ماركس في استبيانه بأنه كان رجلا يعاني من العديد من نقاط الضعف، وقد كان كذلك، فعلى سبيل المثال، لم يعتبر أنه من المعيب العيش على حساب الآخرين، وهناك رسائل منشورة من والده موجهة إلى ماركس الطالب يرِد فيها: يقولون إنك تتلقى مني أموالا لا يتلقاها حتى أبناء الآباء الأغنياء؛ ولم يكن الأب يعلم أن ماركس الشاب يحب الحانات واللهو، ثم عاش هذا المفكر على ميراث زوجته ووالديه. نعم، هو حصل على عائدات، لكن آرائه في ذلك الوقت كانت هامشية، ولم يتم نشرها بشكل مميز، ولم يتقاض أجرا كبيرا، وكان من المستحيل العيش على هذا المال ...
هناك فكرة أن ماركس كان دائما فقيرا. لا شيء من هذا القبيل! فلفترة طويلة عاش في رخاء، وقد بدأت الصعوبات عام 1848، بعد هزيمة الثورات في أوروبا، لكن ماركس نفسه كان هو المسؤول عن وضعه المالي الصعب، وقد تبين أنه من السهل جدا عليه صرف الأموال التي كانت لديه، وقد تعجب أصدقاؤه من إسرافه.
وفيما يلي بعض الاقتباسات الأكثر إثارة للاهتمام من استبيان اعتراف ماركس: "السمة التي تقدرها أكثر في الناس: البساطة. السمة التي تقدرها أكثر في الرجل: القوة. السمة التي تقدرها أكثر في المرأة: الضعف. فكرتك عن السعادة: الكفاح. فكرتك عن التعاسة: الاستسلام.عيب من المرجح أن تبرره: السذاجة. شعارك المفضل:"شك في كل شيء"، أما بالنسبة للأطروحة الأخيرة، فقد اعتقد ماركس نفسه أن تعاليمه لم تكن الحقيقة المطلقة.
كيف تقيم شخصيته اليوم؟ عبقري؟ لكن أفكاره، على الرغم من أنها أثرت في تطور البشرية، فهي لم تحقق هدفها. عملاق فكر؟ نعم، يمكننا أن نتفق مع هذا، لكن على الرغم من أن ملايين المواطنين في الاتحاد السوفيتي قرأوا أعماله، فمن الذي فهم ماركس حقًا؟ إنهم أفراد! وهنا من الممكن أن نتذكر سطور سيرجي يسينين، في النسخة المسودة من قصيدته "عاصفة ثلجية" حيث كتب: "أديري أيتها الأيام غزلك القديم، فلا يمكنك إعادة بناء روح حية إلى الأبد. أفتعرفين، لهذا السبب لا يمكنني التوافق مع ماركس، إنه غريب بالنسبة لي، وشخص ممل ."...
*
سيرجي غليزيروف (Sergei Glezerov) هو كاتب وصحفي روسي، ولد في لينينغراد عام 1974، وتخرج كمتخصص في التاريخ في عام 1996 من أكاديمية سانت بطرسبرغ للثقافة، وحصل فيها على الدكتوراه عام 2001؛ ألف العديد من الكتب، وحصلت أعماله على العديد من الجوائز؛ وهو عضو في مجلس إدارة اتحاد سان بطرسبرج للمؤرخين المحليين، وعضو في المجلس العام في متحف الدولة التذكاري لدفاع وحصار لينينغراد؛ وقد نشر هذه المقابلة في 16 مايو 2018 على موقع "بيانات سان بطرسبرج" بمناسبة الذكرى 200 لميلاد كارل ماركس، وعنوانها بالروسية هو "إثنان من كارل ماركس.. في ذكرى ملهم الاشتراكية".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تعتقل متظاهرين في جامعة -أورايا كامبس- بولاية كولوراد


.. ليس معاداة للسامية أن نحاسبك على أفعالك.. السيناتور الأميركي




.. أون سيت - تغطية خاصة لمهرجان أسوان الدولي في دورته الثامنة |


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غ




.. تعمير - مع رانيا الشامي | الجمعة 26 إبريل 2024 | الحلقة الكا