الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجيش السوداني والحرب ضد أشقياء الجنجويد-مقدمة-(3-4)

محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)

2023 / 12 / 9
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


نواصل في هذا الجزء من المقال المقدمة استعراض طبيعة الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع، الذى بدأناه في الجزء الثاني من المقال حيث أوضحنا أن الحكومات العسكرية السودانية جاء تشكيلها ليس نتيجة مغامرات ورغبة ذاتية لبعض الجنرالات، بل هي ضرورة سياسية لا يمكن أن تحدث بمنأى عن الظروف الحقيقية المتعلقة بواقع البلاد السياسي والاقتصادي وميزان الصراع الدائر بين قواه الاجتماعية. كما بيَّنا أن احتكار الجيش للقرار السياسي لأكثر من خمسة عقود أدى الى تدمير الحياة السياسية واهدار الحقوق الأساسية للمواطنين السودانيين؛ وكذلك ظلت هيمنة الجيش على السلطة السياسية تشكل عقبة كأداء تحول دون تحقيق البلاد تحرير سيادتها الوطنية واطلاق عجلة النهضة الاقتصادية وبلوغ الشعب طموحاته المتعلقة بالتحول الديمقراطي الحقيقي.

عقب انتفاضة الشعب في ديسمبر 2018 ضد نظام الإسلاميين استولى في 11 أبريل 2019 القادة العسكريين في "اللجنة الأمنية" للنظام البائد على السلطة السياسية واخضاعها للسير على خطى السياسات الاقتصادية للنظام البائد ولكن بتركيز أكثر مجافاة للاعتبارات المحلية والمطامح الشعبية. فقد جيء بحكومة (من المدنيين) تمثل الجهاز التنفيذي، حكومة ذكر رئيسها وزرائها انها تعمل بتناغم مع المكون العسكري في علاقة شراكة وصفها بأنها نموذجية.

بعد 11 أبريل 2019 صار الجيش بالاشتراك الوثيق مع مليشيا الدعم السريع قابضا بأحكام على كل مفاصل السلطة سياسيا واقتصاديا والتحكم الكامل في السياسة الخارجية؛ وبلغت هيمنة الجيش ذروتها بمهزلة تعيين قائد مليشيا الجنجويد "رئيسا للجنة الاقتصادية" التي شملت عضويتها رئيس الوزراء ووزير المالية؛ واللجنة الاقتصادية موكل لها حل الازمة الاقتصادية التي تعانى منها البلاد. وكما جاء في الجزء الثاني من المقال، فان الحكم الانتقالي الجديد سار (تحت اشراف العسكر) على النهج الاقتصادي المحافظ القديم. لكن كان ثمن ترميم علاقات السودان مع مؤسسات التمويل الدولية اكبر مما كان يقترحه الحكم السابق لإزالة عقبات نشأت بين البلاد في تسعينات القرن المنصرم وهذه المؤسسات، وذلك بانصياع الحكم الانتقالي التام لشروطها وتوصياتها. كما تم على يد السلطة الأوتوقراطية للجيش وتابعها رئيس الوزراء الخضوع التام للابتزاز السياسي الذى يمارسه الغرب على السودان؛ ففي خيانة وطنية مشينة تم التطبيع مع إسرائيل وإلغاء قانون مقاطعة إسرائيل ل 1958 والسماح في العام 2020 لوفد عسكري إسرائيلي يضم عناصر من الموساد زيارة المنشئات والصناعات والدفاعية التابعة للجيش السوداني. وتحت سمع وبصر الحكم ظلت العملية السياسية، قبل الحرب، مُهيمن عليها من قبل سفراء امريكا وبريطانيا والامارات والسعودية (اللجنة الرباعية) بالإضافة الى الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية-إيقاد-(الآلية الثلاثية) ؛ وكانت "اليونتامس"، البعثة التابعة للأمم المتحدة تعمل كسكرتارية للجنة الرباعية والآلية الثلاثية.

وخلال الفترة الانتقالية في أعقاب زوال النظام البائد، شهدت الساحة السودانية بروز جيشين. فنتيجة للتعديلات على قانون الدعم السريع، التي أجراها في 2019 الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجس السيادة، تحول الدعم السريع في 2023 الى جيش مليشيا (militia army) مكون من 120 الف جندي، تابع لأسرة واحدة امتلكت أغنى مناجم الذهب في البلاد ومفوضية خاصة بأراضي الدعم السريع. كما تمتعت شركات استثمارية لقادة الدعم السريع بامتيازات (concessions) كثيرة. كذلك منح الجنرال البرهان، بقرار انفرادي، الدعم السريع نسبة ٣٠٪ من منظومة الصناعات الدفاعية التابعة للجيش؛ فقد اتخذ البرهان هذا القرار بمفرده من دون الرجوع لهيئة الاركان أو المكون العسكري في مجلس السيادة. كما وصل قائد الدعم السريع بشكل عشوائي إلى رتبة فريق أول وتسنم موقع نائب رئيس مجلس السيادة. كذلك، وجدت قوات الدعم السريع دعما كبيرا من قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة البرهان تمثل في تقويتها مقابل الجيش وذلك بتسريح كثير من القادة العسكريين النظاميين.

بجانب الدعم الكبير الذى حصلت عليه من رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش، حظيت قوات الدعم السريع بإسناد القوى الاستعمارية، الممثلة في اللجنتين الرباعية والثلاثية وبعثة اليونتامس، التي قدمت لها السلاح ومختلف المساعدات العسكرية الأخرى. وتقدم دولة الامارات دعما كبيرا في مختلف المجالات لقوات الدعم السريع مقابل الذهب الذى يصدره لها بأسعار رخيصة قائد المليشيا الذى مكنه الحكم البائد والحالي من امتلاك مناجم لإنتاج الذهب يقدر انتاجها ب(60%) من انتاج البلاد. وليس الذهب وحده وراء العلاقة القوية بين الامارات والدعم السريع اذ أن الدولة الخليجية لها تعاقد مع المليشيا لقتال أفرادها في اليمن وليبيا مقابل المال.

بازدياد قوته، جنح الدعم السريع لتأكيد وضعه كقوة عسكرية معتبرة لكنها كانت منبوذة من الشعب لفتكها بآلاف الدارفوريين وترويع الموطنين في المدن وقتل المعتصمين والمتظاهرين ضد سلطة العسكر قبل وبعد سقوط النظام السابق؛ وتم تقارب بين الدعم السريع و” قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي“ التي بدورها كانت تفتقر الى دعم السواد الأعظم من افراد الشعب. كما كانت” قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي“ الأداة التي راهنت عليها اللجنتان الرباعية والثلاثية وبعثة اليونتامس في تفكيك الجيش ولهذا السبب وجدت هذه القوى ضالتها في الدعم السريع لتسهيل القيام بهذه المهمة. وجدير أن رغبة القوى الغربية، المنضوية في اللجان المذكورة في تفكيك الجيش ترتبط بأهدافها الخاصة بتوسيع تدخلها وهيمنتها على السودان في ظل الصراع الحالي الدائر في المنطقة بين دول العالم الكبرى المتعلق بتعزيز مناطق النفوذ. فمساعي الدول الاستعمارية لهيمنة (جديدة)، انصبت حول اثارة الاضطرابات وتأجيج الصراعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهدف إعادة رسم خريطة سكانها وبالتالي تفتيت دولها لكنتونات او دول صغيرة تقوم على أسس عرقية، أو أثنية، أو دينية، أو قبلية؛ وكان المدخل لهذا التفكيك هو تدمير الجيوش النظامية واستبدالها بمليشيات غير تابعة للدولة أو متمردة عليها. واستطرادا بإيجاز، فان شبح المؤرخ والمستشرق الصهيوني برنارد لويس يطل على العالم، فهو صاحب الدعوة لتفكيك الدولة القومية الشرق أوسطية بتركيبتها الحالية. وأفكار لويس وتلاميذه أمثال كونداليزا رايس صاحبة "الفوضى الخلاقة" ليست مجرد نظريات مؤامرة، فهدف الاستعمار لتقسيم دول المنطقة يدل عليه امبريقىيا( empirically) انهيار الجيوش في العراق وليبيا وسوريا واليمن حيث حلت مكانها المليشيات المسلحة المتحيزة الى العرق أو الاثنية أو المذهب الديني أو المناطقية.

نختتم هذا الجزء من المقدمة بالتأكيد على أن تقييم حرب الجيش السوداني ضد الجنجويد ومحاولة استشراف ما بعدها يجب ان لا تغييب عن افق من يقوم به حقيقة وطبيعة الجيش المربوطة بالنهج السياسي/الاقتصادي السائد وطبيعته المحافظة وتبعيته للخارج (الدول الغربية). فالسودان منذ بزوق المرحلة الوطنية في 1956، اتسم اقتصاده بالتبعية التي تحميها سلطة عسكرية. وظلت هذه خاصية راسخت في المسيرة السياسية السودانية حتى الآن. ورغم هذه التبعية، الا ان القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية تعمل بجهد لوضع البلاد تحت هيمنتها الكاملة وتفكيك الجيش أحد الطرق لتحقيق هذا الهدف؛ وهذا المسعى لأمريكا ليس لتقوية وضعها في المنافسة التي تفرضها القوى الاستعمارية المتصارعة في المنطقة وحسب، بل لتكثيف أهدافها الاستغلالية. وفى هذا الاطار، فان قوات الدعم السريع التي استخدمها النظام البائد في محاربة معارضيه، أصبحت أحد الأدوات التي وجدت فيها الدول الاستعمارية الغربية ضالتها لإحلالها محل الجيش النظامي.

ان القتال في الخرطوم بين الجيش ومليشيا الجنجويد فجره صراعهما حول الاستحواذ على القرار السياسي النهائي في الدولة. فالصراع بين الكيانين كان حول مشروع "الاتفاق الاطارى" الموضوع أصلا بواسطة الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها بالصورة التي تعبر عما يريدونه للسودان بما يخدم مصالحهم. ولهذا، انحصر التنازع حول مسائل تنظيمية تتعلق بتمثيل القوى السياسية المختلفة في الاتفاق الاطارى، ومواضيع إجرائية أخرى، ولم يكن (النزاع) يدور حول رؤى جديدة مغايرة للتوجه السياسي/ الاقتصادي القديم الذى طالما تبنته الأنظمة السابقة، وبإفراط من قبل الحكومة الانتقالية التي احتضنت التوجه النيوليبرالى المتضمن بالضرورة في "الاتفاق الاطارى".

يتبع، وفى الجزء الأخير من هذا المقال المقدمة نستعيد مقولة جورج كليمنصو: " الحرب أخطر من يعهد قرارها لجنرالات الجيش" لتوضيح الدمار الذى حاق بالبلاد نتيجة احتكار الجيش السوداني للسلطة والدخول في حروب، سابقة للنزاع المسلح الحالي، الهدف منها قمع المعارضين وتصفية كل من ينتفض ضد هيمنته السياسية. اما بالنسبة للحرب الحالية سنقدم عرضا للمواضيع التي يجب التركيز عليها من أجل التحليل المعقول لمخرجاتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Politics vs Religion - To Your Left: Palestine | فلسطين سياس


.. ماذا تريد الباطرونا من وراء تعديل مدونة الشغل؟ مداخلة إسماعي




.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط


.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص




.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل