الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر والكتلة الجيوثقافية الثالثة: استراتيجية الخروج من الأزمة

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2023 / 12 / 10
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


تفجرت معركة "طوفان الأقصى" 7 أكتوبر 2023م في ظل ظروف وتوازانات عالمية وإقليمية محددة، وتسببت في أزمة على عدة جهات أبرز هذه الجهات هي المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني الباسل في قطاع غزة بأرض فلسطين المحتلة، والدولة المصرية خاصة مع الخروج بمخططات صفقة القرن للعلن وطرد الفلسطينيين بقطاع غزة إليها.
ولأن مشروع دولة الاحتلال يأتي محمولا بالأساس على الحضارة الغربية ونظرياتها السياسية العاملة على الأرض بمختلف مرجعياتها، فإنه لمواجهة هذا المشروع ومخططه الأخير مع صفقة القرن الأصلية مع ترامب أو نسختها المعدلة مع بايدن، يجب النظر بشكل كلي للمحددات التي تحكم التوازنات الدولية، واختيار مقاربة استراتيجية جذرية ممكنة لإحداث التأثير فيها بما يُمكن مصر والذات العربية من مواجهة الوضع المتأزم.

(1)
والحقيقة أن النسق الثقافي الحاكم لمعظم نظريات العلاقات الدولية والفلسفات الإنسانية، التي نعيشها في الحقبة التاريخية الحالية مركزه القيمي العميق يكمن بعيدا عن كثرة التفريعات والتفاصيل الكثيرة التي يغرق فيها الكثير من الباحثين والمتابعين، إذ يرجع لفكرة المسألة الأوربية والحضارة المطلقة التي تتمثل في الاختيار بين بديلين مطلقين أو من ورث هذين البديلين، حيث حضارة الدولة الطبقية الرأسمالية المطلقة ضد حضارة الدولة غير الطبقية الشيوعية، والتي تحولت الآن إلى حضارة الدولة الطبقية الرأسمالية المطلقة ضد حضارة "الأوراسية الجديدة" ورثة الدولة الشيوعية بشكل جديد.
وفي واقع الأمر بالدراسة العلمية لمعظم المقاربات العربية في مجال السياسات الدولية ونظرياتها في القرن العشرين، سنجد أن معظم هذه المقاربات تمت في محاولة للتعايش مع صراع الحضارة المطلقة والمسألة الأوربية، وأن أبرز محاولات الاستقلال في المجال الدولي عربيا كانت محاولة جمال عبد الناصر مع مشروع "دول عدم الانحياز"، لكن على المستوى العملي مع خروج مصر جريجة من حرب عام 1967م والانحياز إلى أمريكا بعد حرب 1973 العظيمة، فقدت المشروع حضوره العالمي.

(2)
وفي هذه المقالة العلمية القصيرة سنقارب أزمة حرب غزة من مدخل البحث في المقاربات الدولية الممكنة، لدعم الثوابت العربية ومستودع هويتها وتقديم مقاربة عربية بديلة في السياسات الدولية والنظريات الحاكمة لها، منطلقين من منهج ثقافي يقوم على فهم فكرة الحضارة المطلقة وإعادة إنتاج المسألة الأوربية وهيمنتها بين "الأوراسية الجديدة" و"الغرب الليبرالي" القديم.

بداية من خلال الدراسة العلمية لـ"نمط السياسة الدولية" الذي كانت مصر قد طرحته القرن الماضي مع "دول عدم الانحياز"، سنجد أنه كان استقطابا سلبيا على المستوى الثقافي ولم تمكنه ظروفه التاريخية وسياقه الحاكم، من تجاوز المسألة الأوربية وطرح بديل إيجابي لفكرة الحضارة المطلقة ونظرية الشمولية الطبقية الرأسمالية مع هيجل (التي ورثتها أمريكا) أو الشمولية غير الطبقية الشيوعية مع ماركس، وكان النسق الثقافي الذي يحكم ذلك هو خضوع مصر وجغرافيتها السياسية الداخلية لفكرة "القومية الاشتراكية" كبديل جزئي مستورد من الحضارة الغربية عموما... لكن مشروع "عدم الانحياز" ومشروع "القومية الاشتراكية" لم يطرح التجاوز الثقافي الفعلي لهيمنة الحضارة الغربية، لكنه تحداها بدرجة ما في نطاق دفاعه عن مستودع الهوية العربي، مع الوضع في الاعتبار أن نضج المعرفة العربية بالتجربة الغربية لم يكن قد وصل لمدى أبعد من ذلك في المواجهة الثقافية أو القيمية أو الحضارية بينهما، سوى بالشعارات العامة والفضفاضة لليمين الديني التي لم تختبر فعليا وعندما تم اختبارها في القرن الحادي والعشرين ثبت عجزها وعدم صحة المنطلقات التطبيقية العلمية والفكرية التي انطلقت منها، في حين كان اليسار العربي والليبراليين العرب مجرد انعكاسات للنمط القيمي المركزي الذي مصدره يقع في الغرب.


لذا عند طرح "النمط البديل" والمقاربة الممكنة في السياسات الدولية ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وفي ظل حرب غزة الدائرة حاليا، يجب على من يطلب الموضوعية بكل صدق وتجرد أن يسعى لتجاوز محاولات القرن العشرين وعثراتها التي وقعت فيها دولة ما بعد الاستقلال بنظريتها "القومية الاشتراكية"، وكذلك فرق الدين السياسي بخطابها عن "عالمية الدين" كشعار لم تجتهد في الأخذ بالأسباب لتنفيذ ذلك، وأيضا اليسار والليبرالية كانعكاس بحث للاستقطاب الغربي.


(3)
وهنا سوف ينتقل المقال إلى نقطة أخرى لابد من أن يقف عندها في السياسات الدولية وخطابها الثقافي السائد، ففي واقع الأمر يحكم مجال السياسات الدولية عدة تمثلات معرفية ونظرية مرتبطة بالمسألة الأوربية والحضارة المطلقة، من هذا التمثلات مجال "الأمن القومي" ودراساته ونظرياته، ومجال "الجغرافيا السياسية" للدول وتطبيقاته الداخلية في علاقته بالشمولية الرأسمالية أو الشيوعية والدرجات التي بينهما، ومجال "الجيوبولتيكا" ودراسة حضور الدولة السياسي في موقعها الجغرافي الإقليمي وبدائله واحتمالاته، ومجال "الجيواستراتيجية" ودراسة موقف الدولة السياسي بالنظر إلى موقعها الجغرافي وحضوره عالميا بالنسبة للقوى المهيمنة الرئيسية بين الشرق الشيوعي أو "الأوراسي الجديد" مؤخرا، وبين الغرب الرأسمالي قديما وحديثا.
وعند النظر للكليات التي حكمت المجالات العلمية الأربعة: الأمن القومي، الجغرافيا السياسية، الجيوبولوتيكا، الجغرافيا الاسترتيجية، سنجد أن المركز القيمي أو الثقافي الحاكم لها منذ نشأتها كان دورانها حول مركزية الحضارة المطلقة والمسألة الأوربية بين الشرق الذي جذره العميق يقع جغرافيا في المنطقة الأوراسية بين قارة أوربا وآسيا (ولهذا سميت أوراسية أو قوى البر)، وبين الغرب الأطلسي نسبة إلى شاطئ المحيط الأطلسي أو قوى البحر.. ومن ثم كان الجميع يتكيف ويتعايش مع المجالات العلمية المحددة للقوى والتوزان في السياسات الدولية من داخل هذه الأطر ووفق هيمنتها التاريخية، ومن ضمن الجميع كانت المقاربات العربية في مجال السياسات الدولية بالطبع.

(4)
وإذا عدنا إذن بعد هذا السرد العلمي القصير؛ للبحث عن فكرة "النمط البديل" في السياسات الدولية الممكن له أن يدعم الموقف المصري والفلسطيني ومستودع الهوية العربي عموما في أزمة حرب غزة الدائرة حاليا ضد الشعب الفلسطيني المحتل، وانطلاقا من البحث عن مدخل جديد يعضد المأزق الوجودي المصري/ الفلسطيني/ العربي الراهن؛ فيمكن القول إن هذا النمط البديل وفي مركز قيمته الثقافية يجب أن يتجاوز المسألة الأوربية نظريا وتطبيقا، فيأتي إضافة نظرية تطبيقية.
من ثم يطرح هذا المقال العلمي تصورا مقترحا لـ"نمط بديل" وفق قراءة علمية راصدة لتاريخ النمط العربي وبدائله، تنطلق من تسمية مجال جديد في السياسات الدولية وهو مجال "الجيوثقافية" أو "الجغرافيا الثقافية" تحديدا على المستوى الداخلي العربي سيمنحه المقال تمثلا نظريا خاصا باسم "الجغرافيا الثقافية الرابطة"، وعلى المستوى الخارجي العام سيكون تمثله الاستراتيجي المرتبط بالسياسات الدولية تحت اسم "الكتلة الجيوثقافية الثالثة".

(5)
ويمكن تعريف مجال "الجغرافيا الثقافية" في سياقه العربي (لوجود استخدام للمفهوم في الغرب بسياق مغاير وبنية ثقافية مغايرة)؛ بأنه ذلك المجال الذي يضع البعد الثقافي بوضوح في لب التصور الجغرافي، وكإعادة صياغة إيجابية ورافعة فيما يخص الذات العربية في مجالات الجغرافيا السياسية والبولتيكية والاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين، أما "الجغرافيا الثقافية الرابطة" ونظريتها العربية الداخلية فتقوم على أن الكتل أو الوحدات الجغرافية لا تتصل أو تترابط إلا من خلال الثقافة، وباعتبار الثقافة هي المادة اللاصقة أو المجمعة لشتى مكونات تلك الوحدات الجغرافية، وأن هذا المجال يظهر للوجود ويطرح نفسه في لحظة تاريخية ذات صلة تفجرت فيها الجغرافيا السياسية في وجه مصر والدول العربية والقضية الفلسطينية، وبعد أن ضربت التناقضات مستودع هويتها، على أثر مسعى التمدد للسردية الثقافية الصهيونية على حساب الجغرافيا المصرية في سيناء، لتكون هذه النظرية المقترحة هي إطار العمل أو "النمط البديل" لوقف التمدد الجيوثقافي الصهيوني المرتبط بالحضارة الغربية المطلقة والمسألة الأوربية القديمة.
وفي سبيل وضع المجال الجديد "الجيوثقافي" والنظرية الجديدة "الجغرافيا الثقافية الرابطة"؛ يطرح المقال مقاربة في السياسيات الخارجية العالمية تقوم على فكرة أهمية ظهور "الكتلة الجيوثقافية الثالثة" التي تتجاوز وهم المسألة الأوربية وتمركز الوجود الإنساني حتى اللحظة الحالية –وقت كتابة هذا المقال- حول كتلة جيوثقافية شرقية تعيد إنتاج نفسها حاليا باسم "الأوراسية الجديدة"، وكتلة جيوثقافية غربية قديمة جديدة تتمركز حول مشروع دولة الليبرالية الديمقراطية.


(6)
لتكون "الكتلة الجيوثقافية الثالثة" مركزا جديدا يضبط خرافة نهاية الحضارة البشرية الجامد عند الاستقطاب الغربي وتمثلاته المتعددة القديمة والجديدة بين الشرق والغرب، مع أطروحة مكملة ان تكون مصر مركزا محتملا لهذه الكتلة الجيوثقافية الجديدة، تدير التناقضات وتتجاوزها مع المراكز الإسلامية والعربية والأفريقية تحديدا، أي مع إيران وتركيا، ومع دول الخليج الصاعدة، ومع أفريقيا ومشروع "البان أفريقانيزم".
وذلك عن طريق استثمار المحفظة الجيوثقافية المصرية المركبة في بعدها الإسلامي مع تركيا وإيران، وبعدها المتوسطي، والأفريقي، وجزئها الذي يقع في قارة آسيا، حيث أن المحفظة الجيوثقافية المصرية بمكوناتها تتسم بالفرادة الشديدة في قدرتها على تجاوز التناقضات وإدارتها الخاصة بـ"الكتلة الجيوثقافية الثالثة".
خاصة في ظل الاستقطاب الراهن حول الحشد لدعم وجهة النظر الجيوثقافية العربية عموما والمصرية والفلسطينية على وجه الخصوص.

(7)
لأن المقالة تطرح في الوقت نفسه أن اتباع "النمط القديم" والتقليدي للسياسات الدولية ومقاربته في مصر والدول العربية، سييؤدي إلى الفشل الاستراتيجي، وإلى نجاح المسألة الأوربية والحضارة المطلقة بجيوثقافيتها الجديدة بين "الأوراس الجدد" و"الأطالسة" او غرب أوربا وأمريكا، في اعتبار حرب غزة مجرد ملف هامشي لاستعراض النفوذ وتمرير المصالح الكبرى والصراع الجيواستراتيجي/ الدولي بينهم على الهيمنة على جغرافيا العالم.

لذا تختتم المقالة تصورها العلمي بـ"استشراف مستقبلي"؛ يرى أن الذات العربية أمامها طريقين أو اختيارين للعمل؛ إما السير في "النمط القديم" للعلاقات الدولية والبقاء في دائرة التهميش كملف يعلب فيه الكبار في اللعبة الجيواستراتيجية العالمية الموروثة من القرن الماضي مع المسألة الأوربية وخرافة الحضارة المطلقة (الجديدة والقديمة)، أو السير في طريق "النمط الجديد" أو "النمط الجيوثقافي"، والسعي لتأسيس "كتلة جيوثقافية ثالثة" مركزها عربي إسلامي يسحب المركزية من قوى البر في شرق اوربا وقوى البحر في غربها وأمريكا، ويؤكد على احترام القيم الثقافية الخاصة بهذه الكتلة الجيوثقافية الثالثة.

وتوصي المقالة العلمية في خاتمتها وحسب "دراسة الحالة" بأن اتباع "النمط الجديد" هو المقاربة العلمية الوحيدة الممكنة لتحقيق أقصى مكسب للذات العربية وثوابتها الجيوثقافية التاريخية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل - حماس: أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق


.. فرنسا: لا هواتف قبل سن الـ11 ولا أجهزة ذكية قبل الـ13.. ما ر




.. مقترح فرنسي لإيجاد تسوية بين إسرائيل ولبنان لتهدئة التوتر


.. بلينكن اقترح على إسرائيل «حلولاً أفضل» لتجنب هجوم رفح.. ما ا




.. تصاعد مخاوف سكان قطاع غزة من عملية اجتياح رفح قبل أي هدنة