الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إسرائيل، مشروع مُفتَعَل

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2023 / 12 / 10
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


غزة تقاتل الحلف الأطلسي والغرب بِرُمتِه. ولا تُقاتل الجيش الإسرائيلي فقط.

معركة طوفان الأقصى والحرب على غزة جعلتني أنتبه إلى أن العبارة التي قالها أسلافنا منذ مئة سنة كون "القضية الفلسطينية هي قضية عربية". ورددتها الأجيال لعقود. ودأبنا نحن جميعا على تكرارها واستخدامها كأحد المضامين الأساسية للمسألة الوطنية. أعتقد أنها عبارة خاطئة. فالقضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين لأنهم هم الذين آفتُكّت أرضهم. وهم الذين قُتِلوا وشُرِّدوا. ومازالوا يُقتلون لِوحْدِهِمْ. ويواجِهون العّدوان لِوَحْدِهِمْ كما نراهم اليوم. والأصحّ هو أنّ جوهر قضية العرب هي مسألة "إنشاء دولة إسرائيل". وليست القضية الفلسطينية.

بأيّ معنى إسرائيل هي قضيّة العرب؟
أولا لأن فلسطين أصبحت قضية بسبب إنشاء دولة إسرائيل. وثانيا إسرائيل لم يكن دافع إنشائها إنهاء محنة اليهود كما يدّعي مُنْشِؤوها. بل هي مشروع بريطاني لحراسة تأخّر العرب. هذه هي الفكرة الأصلية لنشأتها. فكما هو معلوم منذ أواسط القرن التاسع عشر. وتحديدا منذ تمّ إجهاض نهضة مصر محمد علي، لمّا تحالفت ضده القوى الاستعمارية ومنعته من الإجهاز على الباب العالي، فردّته على أعقابه. ثم أطردته من الشّام، وألزمته حدود مصر. وفرضت عليه تدمير صناعة مصر لصالح البضائع الغربية بموجب معاهدة الاستسلام المُذلّة عام 1838. منذ ذلك الوقت بدأ التفكير بجدية في زرع دولة غريبة على المنطقة، غير منسجمة حضاريا مع ثقافة شعوبها. تكون بمثابة الجدار الشّاهق، والمانع لأيّ محاولة لتوحيد المشرق العربي، وبالأساس لمنع نهضة مصر مرة أخرى، وعودتها للتّصنيع والتوسع.

ماهي الدّوافع؟ وما الذي شجّع بريطانيا على ذلك؟
بعد احتلال فرنسا للجزائر. ثم سيطرة بريطانيا على الهند عبر "شركة الهند الشرقية" في مرحلة أولى، ثم استعمارها بالكامل آواسط خمسينات القرن التاسع عشر، بدا واضحًا أن الإمبراطورية العثمانية تتراجع وتَسِيرُ إلى الزّوال. حينئذ بدأ الانجليز يُجهّزون لملأ الفراغ والسيطرة على المشرق العربي باعتباره مربط أهم معابر التجارة العالمية. علاوة على أنه الممرّ التجاري والعسكري الرئيسي نحو التّاج البريطاني في الهند. ولذلك كان مطلوب تفتيته ومنعه من التحوّل إلى كيان سياسي عربي موحّد قد يُهدّد المصالح الاستعمارية. ضمن هذه الرؤية البريطانية ولدت فكرة زرع دولة يهودية قويّة ودائمة في فلسطين، لِتقوم بهذا الدور الاستراتيجي.
في ذلك الوقت لم يكن هنالك لليهود أي اهتمام بهذه المسألة، فلا الفكرة طُرحت للنقاش. ولا اليهود فكروا فيها، لا نُخبهم ولا عامّتهم. ولكن في إطار عمليات تجهيز القوى وتهيئة شروط السيطرة على منطقة مهمة، لا يمكن السيطرة على النظام العالمي دون السيطرة عليها، يتنزل ترسيم الخرائط، وتتنزل الحاجة إلى كيان استيطاني في قلب المنطقة العربية. ومنذ ذلك الوقت أصبح الخطاب المتداول في بريطانيا وفي الغرب عموما، يشير إلى أن وضعية اليهود كـ "شعب" مشرّد، ويعيش ظروفاً صعبة، تفرض أن تعمل "المدنية الأوروبية" على إعادته إلى "أرض وطنه"، أرض الميعاد وفق ما هو وارد في التوراة. حيث بدأ التحضير بعنوان "قضية إنسانية"، قضية شعب مشرّد بلا أرض، بينما أرضه الموعود بها فارغة تنتظر عودته لإعمارها منذ قرون. وتوسّعت الدّعاية على أن فلسطين أرض بلا شعب لسنوات طويلة، تم خلالها الضغط على اليهود بمختلف أدوات التّرغيب والترهيب، إلى أن تطورت الأمور، ووصلت ذروتها في جرائم محارق الهولكوست النازية، التي شكّلت صدمة إنسانية، وتحولت إلى تبرير شرعي وأخلاقي لوجود "الدولة اليهودية"، يظهر من خلاله الغرب كقوّة ضميريّة إنسانيّة تتوافق مع رسالة "التّمدين" المطروحة عليه. وبدأ نقل اليهود إلى فلسطين. أوّلًا لتأمين المصالح الاستراتيجية الاستعمارية التي أشرنا إليها أعلاه. وثانيا للتخلّص من وزر الهولوكست. وثالثا للتخلّص ممّن بقي منهم من المُفقّرين ضحايا الحروب المنكوبين، وإزاحتهم خارج أروبا، وتلافي اندماجهم في حركات التمرّد الآخذة في التوسّع آنذاك.

نعود لكيفية تجهيز المشروع؟
كانت عملية الترحيل هذه تحتاج إلى مُحفّز ايديولوجي متين، يربط بين اليهود وفلسطين. وكان لا بد من استحضار البحوث التاريخية التي قدّمت مقاربات لمعالم مرحلة من تطور التاريخ البشري تدلُّ على أن لليهود أثر ثابت في المنطقة. وعلى أساسها تم ابتداع مصطلح: "السّاميون". وتم اختراع ربط ايديولوجي موجّه لرواية متماسكة تتبنّاها الصهيونية، ويبني عليها الاستعمار مشروعه الاستيطاني. ونظرا للهوة الزّمنية السّاحقة بين القرن التاسع عشر وبين 1358 ق.م تاريخ وفاة "يوشع بن نون" خادم موسى ووريثه(حسب الأسطورة)، وتبدّل الأزمنة باندثار أمم وولادة أخرى عبر العصور، ظلت هذه الأمور بحاجة إلى تزوير للتاريخ، وتزييف للحقائق، بما يسمح ببناء رواية "متماسكة منطقيّا"، هدفها تحقيق الربط بين هؤلاء البشر الذين تم تجميعهم من كلّ بقاع العالم في القرن العشرين، وحقّهم في فلسطين قبل ثلاثة آلاف وأربعمائة عام!
من ضمن الدّعايات التي خدمت المشروع، كان التّرويج لرواية "فلسطين هي أرض الميعاد ووطن اليهود"، وأن "تهجيرهم منها هو سبب كل مأساتهم عبر التاريخ". وها أن أروبا "التمدن والإنسانية" تساعد هذا "الشعب" المظلوم على العودة إلى "وطنه السّليب". غير أن الدّعاية وحدها لا تكفي. بل القضية تتطلب برنامجا متكاملا.

اشتغلت وزارة المستعمرات البريطانية ما ببن 1840 و 1897 تاريخ عقد المؤتمر الصهيوني الأول بمدينة بازل السويسرية، على ثلاثة محاور متزامنة ومتوازية:
الأول: العمل على تصنيع مُنظّرين يهود قادرين على بناء مشروع فكري متماسك ويقودونه. وبدأ التجريب مع عديد الشخصيات حتى وجدوا "هرتزل" الذي تبنى المشروع، وأخذه بجدّية، ونجح.
المحور الثاني: هو ايجاد برجوازيين يهود وإغرائهم بالامتيازات والتسهيلات مقابل تمويل المشروع في جميع نشاطاته. فظهر روتشيلد الرأسمالي الكبير والتزم بالمهمة.
أما المحور الثالث، فهو وضع اليهود في حالة هلع وتهديد دائمين في مجتمعاتهم، لدفعهم نحو فلسطين.

بعد حوالي خمسين عاما، في مؤتمر بازل 1897 أصبحت الصهيونية حركة عالمية على الأرض، ممثلة بالوكالة اليهودية. وتبلورت كفكرة وكعقيدة في كتاب "دولة اليهود". وبدأ العمل.

حتى لا أُطيل، وبالمختصر، أفرزت المواجهة مع ألمانيا وحلفائها، استفراد فرنسا وبريطانيا باقتسام المنطقة العربية التي كانت قبل الحرب تحت النفوذ العثماني. لن نتحدث هنا عن تفاصيل أطوار الحرب العالمية الأولى، ونكتفي بالتذكير بثلاثة حقائق مترابطة ترابطا سببيا مباشرا، كانت من نتائج الحرب العالمية الأولى، وأسّست ما يُسمى النظام الإقليمي، وحكمت مستقبل المنطقة لاحقا:

الأولى: خديعة "الثورة العربية الكبرى" وتقويض المضمون التحرري لمعنى الثورة ومعنى الاستقلال، منذ اليوم الأوّل، وذلك بسبب انتقال الحكم من المستعمر القديم (العثماني)، إلى المستعمر الجديد (الغربي) بأدوات عربية، ونُخب مسلوبة الإرادة، ومعزولة تماما عن شعوبها، ستتشكّل منها الطبقة الحاكمة لدول وظيفية معطوبة في جيناتها الأولى، أشرفت على تأسيسها إدارات الاستعمار.

الثانية: اتفاقية سايكس بيكو، التي مزّقت المنطقة تمزيقا جغرافيا وديمغرافيا شامتا، يستحيل معه سيطرة شعوب المنطقة على خيراتها، أو خلق أية ظروف استقرار، ولا أية قابلية للحياة دون وصاية أجنبية.

والثالثة: هي وعد بلفور، وقيام إسرائيل ككيان استيطاني إحلالي متفوّق على جميع دول المنطقة، يحلّ محل الحضور العسكري للقوى الأجنبية، ويستمر في تأمين مصالحها الاستراتيجية.

ما يعنينا في كل هذا. هو أن إسرائيل كوظيفة سابقة لِوُجودها. هي مشروع استعماري مُعِدّ للمنطقة بِرُمتها. وليس لفلسطين فقط.
بهذا المعنى، وبناء عليه، يبدو أن قضية المنطقة ومشكلتها وعلّة عِللِها هي "قضية إنشاء إسرائيل"، وليست "قضية فلسطين". وما كان لفلسطين أن تتحول إلى قضية لولا الاستعمار.

طوفان الأقصى، وحرب الإبادة الجماعية التي تُشنّ على غزة منذ ستين يوما، هي إحدى تمظهرات المشروع الصهيوني. وليست تمظهرات مشكلة فلسطين. وبيّنت بما لا يدعو مجالا للشكّ بأنها حرب ردع يقودها الحلف الأطلسي على شعوب المنطقة لإعادة إخضاعها، وقد تعثّرت بالشعب الفلسطيني مجرّد التعثّر. والتمييز بين الفهمين هنا، يبدو لي على غاية الأهمية، لأننا صرنا نسمع بعض الأصوات في الخليج العربي، تُحمّل المسؤولية للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. وتقف إلى جانب المُعتدي! والحقيقة أن هذا الاحتلال الذي دام أكثر من سبعين سنة ليس قضية فلسطينية فقط. ولم يكن ردًّا على مأساة اليهود في أروبا. ولا يستهدف فلسطين في حدّ ذاتها. بل قضية إسرائيل كمشروع استعماري، وكجزء أساسي من ميكانيزم السيطرة الغربية على الشرق الأوسط، الذي صُمّم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى بمعاهدة سايكس-بيكو. وتبلور واكتمل نهاية الحرب العالمية الثانية بإنشاء دولة إسرائيل رسميا. وكل المآسي التي يغرق فيها العالم العربي اليوم، أو الجزء الأساسي من مآسيه، إنما يعود بشكل مباشر إلى الدور الذي لعبته اسرائيل، أولا في إخضاع المنطقة العربية للإرادة الغربية في إطار الصراع الدولي على النفوذ، على اعتبارها منطقة ذات أهمية استراتيجية، سواء من جهة الموارد والممرات البحرية، أو من جهة كونها مصدرا من مصادر الطاقة المهمة في العالم، أو من جهة كونها حسّاسة حضاريا ورمزيًّا، بما تختزنه من تراث ثقافي، وبما هي مهد الديانات ومستقر المقدسات. وثانيا حتى تضمن للغرب عدم تصالح دول المنطقة وتفاهمها على التعاون أو توحدها أو توظيف موارها وسيطرتها على مقدراتها. أو كل ما من شأنه تهديد الهيمنة الاجنبية، ولو بخطوة استقلال واحدة.

لهذا السبب، يقال اليوم باستنكار مُخاتل "لقد فشل المجتمع الدولي في حل النزاع وإقامة دولة فلسطينية ألى جانب الدولة العبرية". وبفضل هذه الوظائف الاستعمارية الأساسية التي تقوم بها إسرائيل، ظلت دولة مّدلّلة، مُعفاة من العقوبات منذ 1948. بل هي فوق القانون الدولي. ولنفس السبب تجد هذا الدعم الغربي الأعمى. فلقد كان واضحًا جدا أن طوفان الأقصى ضرب غلاف غزة، فيما انهمرت دموع كل قادة الغرب في جميع عواصم أروبا وأمريكا الشمالية. وكأنما الاعتداء تمّ على بيوتهم. ولهذا السبب أيضا تندهش البشرية ولا تفهم السرّ وراء فشل المجتمع الدولي في ايجاد حلّ لهذه القضية..

غزة الحافية، غزة الجريحة، غزة المُصابة.. غزة الأطفال والامهات.
غزة اليوم تُقاتل بلحم أطفالها ونسائها نيابة عن كل دول المنطقة وشعوبها. نيابة عن كل أحرار العالم. نيابة عن أحرار اليهود والمسلمين والمسيحيين. إنها تواجه حربا استعمارية تشارك فيها جميع دول المركز الامبريالي. وإذا انكسرت، ستنكسر القاهرة ودمشق والرياض .. وسينكسر الإنسان في كل مكان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فولفو تطلق سيارتها الكهربائية اي اكس 30 الجديدة | عالم السرع


.. مصر ..خشية من عملية في رفح وتوسط من أجل هدنة محتملة • فرانس




.. مظاهرات أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية تطالب الحكومة بإتم


.. رصيف بحري لإيصال المساعدات لسكان قطاع غزة | #غرفة_الأخبار




.. استشهاد عائلة كاملة في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي الس