الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العفونة والأيقونة

صبحي حديدي

2006 / 11 / 21
الادب والفن


تآلفت عناصر فنية عديدة لكي تحوّل فيلم "الملكة" إلى تحفة سينمائية حافلة بالفتنة، على صعيد البناء والأداء والكتابة الدرامية والتقنيات البصرية. في رأس هذه العناصر تأتي، بالطبع، براعة المخرج الإنكليزي ستيفن فريرز، والدور الفائق والصاعق للمثلة هيلين ميرين (الملكة إليزابيث)، ثمّ السيناريو البديع الذي كتبه بيتر مورغان. هذه، في نهاية المطاف، هي الوصفة المبدئية التي لا غنى عنها لكي ينجح أيّ شريط سينمائي، حتى إذا كان المرء لا يملك إلا تسجيل فضائل كبرى في المستويات الثلاثة مجتمعة متجانسة، وفي كلّ منها منفردة مستقلة.
غير أنّ العنصر الرابع الذي يصنع نجاح الشريط ليس فنياً هذه المرّة، أو لعلّ الأحرى القول إنّ قيمته في العمل لا تنبثق مباشرة من اعتبارات فنية، بل من أخرى وقائعية وسياسية وسوسيولوجية ونفسية، وأعني الحدث الرئيسي الذي تبدأ منه، وتدور في حيثياته، حبكة الفيلم وأحدوثاته الفرعية مثل ذروته الدرامية الختامية: مقتل الليدي ديانا في صيف 1997، وهل يتوجّب على الملكة ـ أمام المطلب الشعبي، وضغط صحافة التابلويد، والهستيريا الجماعية أو الجَمْعية بالأصحّ ـ أن تبدي اكتراثاً علنياً بالحدث، على نقيض من البروتوكول الملكي الصارم (كأنْ يتمّ تنكيس العلم فوق قصر بكنغهام حداداً، الأمر الذي ليست له سابقة في تاريخ العرش)؟ أم تواصل إقامتها في بولمورال، منتجعها السكوتلندي البعيد عن صخب العاصمة، غير آبهة بإلحاح الشارع ومناورات رئيس الوزراء توني بلير، الذي أقنعه سكرتيره الصحفي (ألستير كامبل، بطل فضائح التقارير التهويلية عن اسلحة الدمار الشامل في العراق، دون سواه!) أن يركب الموجة الشعبية العارمة؟
وبين أشدّ مشاهد الفيلم قوّة وتأثيراً ذلك الذي يسجّل عودة الملكة صاغرة إلى لندن، واستعراضها أكداس الزهور التي تسابق الناس على وضعها أمام القصر تكريماً للأميرة الراحلة، وحيرتها في فهم طبيعة هذا الدفق العاطفي الهائل الذي اجتاح نفوس العامة. وفي خاتمة المشهد تلحظ الملكة طفلة تقف خلف الحاجز الأمني وتحمل باقة زهور، فتقترب منها وتسأل: هل تريدين أن أضعها لك على باب القصر؟ فتردّ الطفلة: كلا، بنبرة توحي أنها قد تكون عاتبة على الملكة، قبل أن تكمل الطفلة بعذوبة: هذه الباقة لك أنت! مدهش ذلك التعبير الذي يرتسم على وجه الملكة، الطافح بالأسى والفرح والحيرة، إذْ ترى أنّ طفلة بريطانية واحدة حملت إليها باقة زهور، بعد كلّ ما حفلت به صحافة التابلويد من لوم للعائلة الملكية.
وفي ختام الفيلم، وقبل أن تنذر رئيس وزرائها بلير من أنّ ما فعلته بها هستيريا الشارع وحمّى الصحافة الشعبية قد تتكرر معه في أية لحظة فتفضي به إلى مصير مشابه، تشدد الملكة أنها لن تفهم ما جرى في أيّ يوم. وما جرى لا يسهل فهمه في الواقع، خصوصاً إذا أعاد المرء تكرار طرح الأسئلة العجيبة: هل كان من المحتوم على هذه الشخصية، الشكسبيرية بامتياز (ديدمونة العاثرة المرتبكة أمام زوج قُدّ قلبه من جلمود، أو كليوباترا المستعدة لاقتراف أي شيء في سبيل خطب ودّ أنطونيو، أو كورديليا التي ضاقت ذرعاً بعفونة بلاط أبيها الملك لير، أو أوفيليا الرقيقة الجزعة أمام جموح هاملت والمسّ العصابي الذي أودى به بعد أن أودى بها، أو فرجيليا العاجزة أمام انقلاب زوجها كوريولانوس إلى دمية وأداة تنفيذ عمياء في يد والدته الشرهة إلى مجد لا يحدّ...)، أن تنتهي على هذا النحو المشحون بالدلالات غير العادية؟ وهل توجّب أن يكون الفصل الأخير من المأساة بمثابة خاتمة «التطهير» التقليدية، على الطريقة الإغريقية؟ وماذا عن مصادفات غريبة وغرائبية مثل الموت في نفق تحت الأرض (وليس في رحاب القاعات الفخمة للقصور الملكية البريطانية)، وفي عاصمة جمهورية مستنيرة مثل باريس (صنعت واحدة من أعظم الثورات في تاريخ الإنسانية واحتضنت شوارعها متاريس الكومونة)، وليس في عاصمة موناركية معيارية مثل لندن (واصلت وتواصل إنتاج وإعادة إنتاج أكثر الأخلاقيات الفكتورية جموداً ومحافظة)؟
وكيف لا يتساءل المرء عن «التطهير الناقص» لروح معذبة، فاتنة ساحرة في آن، أُزهقت بسبب من عذاب وفتنة وسحر الصورة الصحفية، أيقونة الإنسان المعاصر، هذا الحيوان الإعلامي بامتياز؟ لقد كانت ديانا قريبة بالفعل من حيازة اللقب الآخر التطهيري، «أميرة قلوب الناس»، الذي شرعت تحلم ببلوغه منذ أن تفاقمت قسوة الحياة الملكية وأخذت تهدد بتجريد الصبية من أي معنى إنساني. ولقد انخرطت في نضال حقيقي ضدّ صنمية فكتورية صلدة، لم تقتصر على تقاليد الرياء البروتوكولي فحسب، بل اقتضت التنقيب في شرايين الصبية التي باتت أميرة، بحثاً عن «شوائب» ما في الدم غير الملكي مئة في المئة. والإنصاف يقتضي القول إنها نجحت كثيراً، بل وأنجزت سلسلة اختراقات كبرى ألحقت «الضرر المفيد»، إذا صحّ القول، بتراث ملكي أخلاقي وفلسفي عتيق لا تغيب عنه رائحة العفونة.
وكشف الغطاء عن الكثير من هذه العفونة كان أحد أغراض ستيفن فريرز، خصوصاً وأنّ للانكشاف منطقه الدلالي الراهن، المتمثل في الروائح العطنة التي تفوح من باطن السياسة البريطانية الراهنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب