الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على أيِّ سَبيلٍ نَطغى؟!

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2023 / 12 / 11
الادب والفن


ثمَّةَ عددٌ كبيرٌ منَ الآراء الفلسفيَّة، ومَن يؤيِّدُها مِنْ دارسي الإنسان، يُقرِّرُ حقيقةً مُؤدَّاها أنَّ الإنسانَ كائنٌ مُندهشٌ. على أنَّ هذا التَّقرير لا يشملَ مُطلقَ الإنسانِ وإنَّما هو مُقيَّدٌ بما مفادُه أنَّ هذه الدَّهشةَ تُلازمُ الإنسان في الفترةِ المُمتدَّةِ بين محطَّتَيْن لاإراديَّتَيْن من طفولتِه؛ بينَ بدايةِ الإدراكِ ونهاية تشكُّلِ اللَّاوَعي. تتلازمُ مسيرةُ الاندهاشِ عندَ الطِّفلِ مع مسيرةٍ يُعمَدُ فيها، عن غيرِ إرادةٍ أيضًا، إلى القضاءِ على هذه الدِّهشةِ وإنتاجِ كائنٍ ذي قُدرةٍ "مُدهشةٍ" على الاعتياد وما يَقتضيه منِ اغتيالٍ للدَّهشة. ويَعترفُ كثيرٌ منَ العباقرةِ بأنَّ أحدَ أسبابِ عبقريَّتِهم يُمكنُ أن يُصاغَ بالصِّيغةِ التَّالية؛ «النَّجاةُ منَ الاعتياد»! بيدَ أنَّ الإنسانَ، من حيثُ هو كائنٌ ماضَوِيٌّ، يحتفظُ، عن غيرِ إرادةٍ منه طبعًا، بحدٍّ أدنًى منَ الاندهاش؛ التَّعجُّب.

وإذْ أنَّ التَّعجُّبَ فعلٌ إنسانيٌّ محضٌ فإنَّه يخضعُ، بصورةٍ أو بأُخرى، لقانونَيْ النِّسبيَّةِ والتَّفاوتِ الكميِّ والنَّوعيِّ، فالنَّاسُ مُختلفون في تعجُّبِهم من الأشياءِ فمِنهُم من يَعجبُ، قليلًا أو كثيرًا، ومِنهُم من لا يعجبُ أبدًا. وبقَدْرِ ما يكونُ مَرَدُّ العجبِ إلى انعدامِ العِلمِ بأسباب الأمور المُعجِبة، فإنَّ الكثيرَ من هذه الأمورِ يَكونُ مُثيرًا للعجبِ، بالقَدْرِ نفسِه على الأقلِّ، حينَ تُعلَمُ أسبابُه. ومِنَ الدِّقَّةِ، في مكان، القولُ أنَّ هذه الأسبابَ هي التي تُصبحُ مَحَلَّ التَّعجُّب!

أحيانًا يكونُ العَجبُ نفسُه مَحَلَّ تعجُّبٍ بكُلِّ ما يعنيهِ التَّعجُّبُ من استغراب. تمامًا كالذي يحدثُ في حضرةِ الطُّغيانِ الذي لم نَبْرُؤ منه، نحنُ العربَ، منذ زَمنٍ عتيقٍ، إذْ كُلَّما ازدادَ طُغيانُ الطَّاغيةِ يزدادُ معه حجمُ التَّعجُّبِ عندَ المَطغِيِّ عليهم ومَن حولَهم. وإذْ أخُصُّ العربَ بعدمِ البُرْءِ منَ الطُّغيان فهذا يَدلُّ على أنَّ المُرادَ هُنا هو طُغيانُ حُكَّامِنا، أو ما تَطيبُ لي تسميتُه بالطُّغيانِ البَلَديِّ؛ أي المحلِّيِّ الصُّنع. وكثيرًا ما سألتُ نفسي وساءلتُها عن تعجُّبِها، أيَّامَ كانتْ لم تزلْ تتعجَّب، منَ الطَّاغيةِ حينَ يَطغى. ولستُ أراني في مقامِ مُبالغةٍ إذا قلتُ أنِّي لا أجدُ مُبرِّرًا واحدًا يُمكنُه تبريرُ ذلك، وإلَّا فأيُّ معنًى وراءَ تسميةِ «الطَّاغيةِ» بالطَّاغية؟! قد لا يَكونُ هذا الكلامُ ذا أهميَّةٍ للوَهلةِ الأولى، بيدَ أنَّ انتفاءَ الأهميَّةِ هذا يَنفيه التَّمثيلُ القائل؛ «لا تضعْ يَدَكَ على جمرٍ وفي ظَنِّكَ أنَّه لن يَحرقَها. وإنْ فعلتَ فلا تَعْجَبْ منَ الاحتراق». ولا يعني هذا أنَّ نترُكَ الطَّاغيةَ على طُغيانِه وإنَّما هو سؤالٌ عن كيفيَّةِ مواجهةِ الطُّغيان وليسَ الطَّاغية. سؤالٌ مؤدَّاه: «كيفَ نُسقِطُ الطُّغيانَ دونَ أن نَطغى؟»، أي كيفَ نُواجه الطَّاغيةَ دونَ أن يَنتقلَ إلينا طُغيانُه؟

ليسَ في ذِهنيَّةِ العربيِّ ما هو أشدُّ ارتباطًا، منْ بينِ مُفرداتِ لُغته، منَ القَتلِ في ارتباطِه بالطُّغيان. ولعلَّ هذا الارتباطَ هو من أكثرِ الأمور التي عرفَها العربيُّ بالتَّجربةِ الشَّخصيَّة. والقتلُ هو منْ أقوى مُوجباتِ إسقاطِ الطُّغاةِ، وأحيانًا يكونُ المُوجبَ الوحيد. لا يُلامُ العربيُّ في مِثلِ هذا، بيدَ أنَّ القَتلَ، رغمَ خطورتِه وإجراميَّتِه، ليسَ أخطرَ ما في الطَّاغية. لأنَّ الأخطرَ المُطلقَ في الطَّاغيةِ هو المَنطقُ/ الخطابُ الذي به يُبرِّرُ الطَّاغيةُ طُغيانَه مُحاولًا بذلكَ أن يَدفعَ عنه حقيقةَ أنَّه أداةُ قتلٍ واعية. بعبارةٍ أُخرى؛ الطَّاغيةُ هو السِّلاحُ والخِطابُ هو الطُّغيان.

لو قُدِّرَ لأحدٍ أن يرى العربَ مُتعاليًا عن المكانِ فيراهُم من فوق، ومُتحرِّرًا منَ الزَّمان فيرى ماضيَهمُ القريبَ في لحظةٍ، أو اثنتَيْن لا أكثر، فإنَّه حتمًا سيسألُ: «ما بالُ هؤلاءِ كُلَّما سقطَ طاغيةٌ يأتيهمُ الأكثرُ طُغيانًا؟!». وعلى الأرجحِ أنَّه سيَخلُصُ إلى ما مؤدَّاه: «سقطَ الطَّاغيةُ وبقيَ الطُّغيان». ومنَ المُستحيلِ ألَّا يسألَ عنِ السَّببِ الذي يُبدِّدُ عَجَبَه منْ حالِ هؤلاء، أي نحنُ العرب، وتقلُّبِها بين طاغيةٍ وطاغية: «لماذا هم هكذا؟». قد أُجيبُه، لو قُدِّرَ ذلك، فأقولُ: «طاغيةٌ يُسقطُ طاغيةً فكيف للطُّغيانِ أن يسقُطَ؟». قد يستدركُ على جوابي: «ولكنَّ الذي أسقطَ الطَّاغيةَ هم الذين طغى عليهم!»، سأُجيبُه مُباشرةً: «طاغيةٌ طغى عليه طاغية فكيف للطُّغيانِ أن يسقُطَ؟». قد يظنُّ أنِّي خبيرًا في شؤون الطُّغيان فيُبادرُني بالتَّساؤل: «أقدرٌ هو؟»، سأُجيبُه: «بل وُلِّيَ عليهم كما كانوا، وكما وُلِّيَ عليهِم صارَ أبناؤهم». قد يظنُّ أنَّ خِبرَتي في الطُّغيانِ مردُّها إلى كَوني طاغية فيُسائلُني بأدبٍ التَّلميذ ونبرةٍ الإبنِ البارِّ: «والطَّاغيةُ ما الذي أطغاهُ؟». سأُجيبُه غيرَ آبهٍ بأيِّ مُساءلةٍ أؤمنُ أنَّها لن تطالَ مقامي، تمامًا كأيِّ طاغيةٍ: «أطغاهُ الذي طغى». سيسألُ بتعطُّشٍ شديدٍ للجواب: «كيف أكونَ طاغية مثلك؟»، وسأُجيبُه بسُرعةٍ: «أنتَ كذلك». سيسألُ باستغراب: «كيف حدثَ ذلك؟». سيكون جوابي: «عندما تُسائلُ الطَّاغيةَ بأدبٍ، وأنتَ تُدركُ أنَّه طاغية». حين أُجيبُه بهذا سيُوَلِّي مُدبرًا لأنَّ مُراقبتَه لماضي العربِ القريب أخبرتْه أنَّ الطَّاغيةَ يكرهُ وجودَ طاغيةٍ آخرٍ في مجالِ طُغيانِه الحيوي، وأنَّ الطَّاغيةَ إذا كَرِهَ قَتلَ.

ليستْ مُطلقةً صورةُ العربِ هذه بيدَ أنَّها غيرُ قابلةٍ للتَّخصيص، وإلَّا فما الذي يُفسِّرُ حالَنا الذي صِرنا إليه؟ بعيدًا عنِ الحوارِ الذي اختلقتُه أعلاه عن غيرِ تخطيطٍ مُسبقٍ منِّي، أستطيعُ القولَ بأنِّي لستُ طاغيةً إلى هذا الحدِّ، بيدَ أنِّي في الآن نفسِه أعترفُ بأنِّي لا أُبرِّئُ نفسي من احتماليَّةِ أن أكونَ طاغيةً مثلَ أيِّ واحدٍ مِنْ الطُّغاةِ العرب لو أنِّي أُعطيتُ سُلطةً وأتباعًا كسُلطتهم وأتباعِهم. إذا كانتِ السُّلطةُ المُطلقةُ المُستحوَذُ عليها بالقوَّةِ باعثًا على الاستزادة من الطُّغيان، فكيفَ بها إذا حملتْها ملايين الأيدي وكتبتْها بالدِّم والعرقِ؟ لستُ أُبرِّئُ نفسي من أن تطغى، ولستُ أُبرِّئُ الطُّغاةَ أيضًا من طُغيانِهم، ولكنِّي أتَّهمُ الكثيرَ من المَطغِيِّ عليهم؛ أولئكَ الذين التزموا الصَّمتَ حينَ كانوا قادرينَ على الصُّراخ، والذين يَعجبونَ مِنْ طُغيانِ الطَّاغيةِ ولا يَعجبونَ من بقائه على كُرسيِّه المُرصَّعِ بالجماجِم والمَطليِّ بالدَّم والعرق الذي يُعطيه لمعتَه التي أعمَتْ عيونَ المُعجبينَ بالطَّاغية. أتَّهمُ الذين يُحاربون الطَّاغيةَ بالطُّغيان؛ أولئكَ الذين يَفرحُ الطَّاغيةُ بمُحاربتِهم! والذين يَمرُّونَ بالطُّغيانِ فيَنقِمون على الله ولامُبالاتِه بالمَسحوقين ثُمَّ يَمضونَ. والذين يظنُّونَ أنَّ الطَّاغيةَ ليسَ مُجرمًا لمُجرِّدِ أنَّه لم يَقتلْهم بعدُ. والذين يكتفونَ بمُحاربةِ الطَّاغيةِ ويتركون الطُّغيان لا لشيءٍ سوى أنَّهم طُغاةٌ مع وقفِ التَّنفيذ. لكنَّ الأكثرَ طُغيانًا منَ الطَّاغيةِ نفسِه هُم ثلاثة: الذين يُبرِّرون له طُغيانَه، والذين يُحاربون طاغيتَهم ويُنكرونَ على شعبٍ آخر مُحاربةَ طاغيتِه، وهؤلاء فرعٌ من الصِّنفِ الثَّالثِ الذي يقيسُ الطُّغيانَ كمًّا وليسَ نَوْعًا، فيجعلون للقتل نقطةً حَرجةً تكونُ فاصلًا بين المُبرَّرِ وغير المُبرَّر؛ هؤلاء الذين يُحدِّدونَ العددَ المقبول من القتلى والذي يُؤدِّي تجاوزُه إلى اعتبارِ الطَّاغيةِ يقومُ بعملٍ «غير مقبول»؛ هؤلاء الذين يتعاطَوْنَ مع القتلِ تعاطيًّا كَميًّا! في حضرةِ هذه الأصناف الثَّلاث أمقتُ نفسي أشدَّ المَقتِ حين تُشعرُني بتعاطفٍ معهم إذا أصابَهم طاغيةٌ بطُغيانِه.

أعترفُ بأنِّي كائنٌ ضعيفٌ أمام آلامِ المخلوقاتِ الحيَّة في هذا العالَم؛ تُرهقُني فكرةُ أنْ ثَمَّةَ إنسانٌ، أو حيوانٌ، يتألَّمُ في هذه الأرض، أيًّا كانَ هذا الألمُ وأيًّا كانَ هذا الإنسان، حتَّى لو كان عدوِّي الذي أُحاربُه. لكن ثَمَّةَ فريقٌ مُجرمٌ منَ البشر لا أُحبُّ لنفسي أن تكونَ في هذه الحال معَهم! أعني الذينَ يُبرِّرون العذابَ والقتلَ الذَيْنِ يتركبُهما الطَّاغيةُ في النَّاس. هؤلاء المُجرمونَ على سبيل التَّبرير أُكرِه نفسي على عدمِ التَّعاطُفِ مع آلامِهم، أُجبرُها أن تطغى على ذاتِها وألَّا يَكونَ لها تعليقٌ على آلامِ هؤلاء سوى: «ذُقِ السُّمَّ الذي قُلتَه».

ثَمَّةَ طاغيتان جميلان جدًّا يحتارُ الذي يطغيانِ عليه أيُّهما أشدُّ عُمقًا وأكثرُ رِقَّةً. إنَّهما الحُبُّ والكِتابةُ! أمَّا الحُبُّ فبحرٌ لا نجاةَ منه إلَّا بالغرقِ فيه لأنَّه إذا حَلَّ أقامَ، وإذا أقامَ طغى، وإذا طغى طغا، وإذا طغا انفجرَ المكانُ فصار لا مُتناهيًا وانقبضَ الزَّمانُ فصارَ أبدًا، وإذَّاكَ تتعانقُ العودةُ إلى الوراء مع القُدرةِ على التَّوقُّفِ وتدخُلانِ بابَ الاستحالةِ فيفنى منَ الإنسانِ ما كانَ ويُخلقُ من هذا الفَناءِ ما هو كائنٌ ليكون. وأمَّا الكِتابةُ فسِحرٌ يرتكبُه المَرءُ بكُلِّ ما أوتيَ من إيمانٍ، وبحرٌ لا نجاةَ منه إلَّا بالإبحار فيه، ومَفَرٌّ ممَّا يُرادُ لنا إلى ما نُريدُ لأنفُسِنا، وعالَمٌ أجملُ ما فيه أنَّكَ تستطيعُ أن تُنهيَه متى أردتَ! تمامًا كما سأفعلُ الآن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال