الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الملحمة والواقع في قصيدة -قالت غزة ، حوارية- عمر أبو الهيجا

رائد الحواري

2023 / 12 / 12
الادب والفن


الملحمة والواقع في قصيدة
"قالت غزة ، حوارية"
عمر أبو الهيجا
بداية ننوه إلى أن فكرة تمازج السوائل/الماء/العسل/الخمر/الدم بالتراب هي فكرة سورية قديمة، من هنا نسب احمرار شقائق النعمان لموت "البعل" والتي تعد أهم صورة عن هذا التمازج، ففكرة مزج التراب بما هو نفيس وثقتها الملحمة السورية "البعل":
"رسالة البعل، أوقفي الحرب على الأرض، أزرعي محبة في التراب، اسكبي خمرا في كبد الأرض، صبي عسلا على الحقول" ص154و155، ملاحم وأساطير" أنيس فريحة، وقد استمر السوري/الفلسطيني في تناول هذه الفكرة حتى يومنا هذا، الشاعر "عمر أبو الهيجا" في قصيدة "غزة" يقدم صورة صراع البعل مع الموت من خلال:
"كانت السهول بوهج الدمع تغتسل
ويحملني دمي لنشيد شجري في الطرقات
المنازل بالدم تكتحل، أنا ابن دمي
ودمي بموجي يحتفل"
هذا المقطع يمثل (اختصار) لملحمة البعل، فنجد فيه بكاء عناة على أخيها الغائب، والشاعر قدم صورة جديدة عندما مزج دموع "عناة" بالسهول، ودم البعل بالمنازل، وحافظ على الاحتفال بعودة "البعل"
هذا التناول لفكرة الصراع يؤكد تجذُر الثقافة السورية/الفلسطينية واستمراريتها رغم مرور أكثر من خمسة آلاف عام على وجودها، وبما أن العناصر النسائية حاضرة في الملحمة ومؤثرة فقد حافظ الشاعر على هذا النسق الملحمي من خلال إعطاء الأنثى "غزة/عناة" مساحة لتتكلم كما تكلمت قديما:
" قالت غزة:
قمصان جسدي ملوثة،
ممزقة، ورائحة البارود في الشوارع صاحية،
وأنت تعد نشيدك، وخطى الدرب،
تمضى بين يديك الكفن،
لا تؤجل صلاتك في بوابة العشق،
مرّوا جميعهم على جرحك،
وغابت عنك المدن،
لا لم تعد بنادق أخوتك صالحة،
بنادقهم أصابها العفن."
نلاحظ أن فكرة الصراع حاضرة في قول: "غزة/عناة" فهناك حرب ودمار ودماء تسفك: "ملوثة، خطى، ممزقة، البارود، الكفن، جرحك، غابت، بنادق/بنادقهم، العفن" فالشاعر يحافظ على التوازن بين ما يجري الآن في غزة وبين النسق الملحمي، فقد استخدم عين الأسلوب الذي استخدمته "عناة" عندما ذهبت إلى "إيل" لتشكو له غياب البعل، فعل الشاعر، فجعل "غزة/عناة" تتحدث عما أصاب البعل/المقاتل من نوائب الحرب، مؤكدا حالة البؤس التي أصابته، فهو وحيدا يواجه الموت/يم.
بعد هذا المزج بين ما هو ملحمي/أسطوري وما هو واقعي، (يتخلى) الشاعر عن الماضي (ويغرق) فيما يجري الآن في غزة، فنجد (المباشرة/الواقعية) بكل تجلياتها:
" قال الشهيد:
أنا رقصة البحر،
نشيد طفل في مدرسة الريح،
حجارة أهل الضفة،
أصوات فلسطين حين تغني،
حين تعزف لحن العاصفة،
أنا جرس اللحظة،
موسيقى الطلقة،
والقصيدة الواثقة،
تموت الأمنيات في الدواوين،
الشهداء وحدهم لا ينامون،
صورة الفجر في أعينهم ناطقة،
هزي يا غزة أغصان المدائن،
تساقط أوراقهم في ساحات الوغى ناشفة،
ما كان من صوت دمي،
سوى شمس معلقة من جديلتها
وهذي الخيول الصاهلة."
نلاحظ أن هناك الكثير من الكلمات متعلقة بغزة، بالحاضرة: "أهل الضفة، أصوات فلسطين، لحن العاصفة، القصيدة الواثقة، هزي يا غزة" ولكن دور الشاعر لا يكمن في نقل الواقع كما هو، بل في استخدام المحسنات/التجميلات التي توصل الفكرة وتمتع المتلقي، من هنا نجد لغة الشاعر وأسلوبه من خلال اهتمامه باللغة/بالقصيدة/بالنشيدة التي نجدها في: "نشيد، أصوات/صوت، تغني، تعزف، لحن، جرس، موسيقى، القصيدة، ناطقة، صاهلة" فكل هذه الألفاظ لها علاقة بالسمع/بالأصوات، وبهذا يكون الشاعر قد أوصل "صوت/رسالة" أهل فلسطين للمتلقين، فبدا من خلال هذا المقطع وكأنه يعبئ المتلقي معنويا للاستعداد لخوض المعركة.
ومن المحسنات التي استخدمها الشاعر التناص مع الآية القرآنية:
" هزي يا غزة أغصان المدائن،
تساقط أوراقهم في ساحات الوغى ناشفة"
"وهزي إليك بجذع الشجرة تساقط عليك رضبا جنيا" لكنة (يغرب) الحدث ويجعل المتساقط بؤس/"ناشفة" فرغم أن القسوة تكمن في المقطع، إلا أن هذا النتاص جعله سهل التناول لما فيه من تغريب للحدث/للفكرة القرآنية، ولما فيه من جمال أدبي.
ومن المحسنات التي جاءت في المقطع اهتمام الشاعر بالنسيج الاجتماعي الفلسطيني من خلال "أنا جرس اللحظة" وهو بهذا يتماثل مع لغة الخطاب التي استخدمها السيد المسيح بكثرة: "أما أنا فأقول لكم" فهو بهذا يؤكد اجتماعية وتعددية الفلسطيني/السوري.
من هنا نقول إن (الواقعية) في الأدب تتضمن نواحي جمالية وفنية، ما يجعل المتلقي يصل إلى الفكرة بصورة أدبية/شعرية يستمع بها، ويتأثر بها لما تتركه فيه من إحساس أدبي وشاعري.
" قالت غزة:
إن عزَّ في الأجساد النبض،
خذني كي أحتطب الروح،
في ذاكرة الشوارع،
سطرا من الشعر في قاموس الرفض،
أنا سيدة البحر،
تفاصيل الهواء، أغنية الماء،
في خاصرة الوطن،
انفلات الناي،
أنا أنا.. الأرض،
غير أني لم أنم على جرحي،
هنا فوق رصيف الموت صحوت،
وصحت على بعد شهيدين،
وأكملت النشيد،
هنا أنا.. وأنا هناك،
أقرأ تفاصيل من رحلوا،
ومن جاؤوا بفن القتل،
أنا مهرة الشهيد ودفتره الناري،
أنا العرس.. أنا.. أنا الثورة،
هنا قرب البحر، مددت صدري جسرا،
لتعبر هذا الزمن،
يا ولدي كل البلاد تغفو على دمك،
وأنت وحدك تمضي،
راسما شكل الحياة."
نلاحظ أن الشاعر يعود إلى المزج بين الأسطورة والواقع من خلال صوت "غزة/عناة" الذي فيه العظمة/القدسية التي تليق بها: "أنا عز، أنا سيدة، أنا الأرض، ها أنا، أنا مهرة، أنا العرس، أنا الثورة" واللافت أنها تعطي نفسها صفة الأمومة: "يا ولدي" وهذا يتماثل ما صفات "عشتار" التي تجمع صفات القدسية، الخصب/الأمومة، الحرب، وبهذا يكون الشاعر قد تقدم خطوة جديدة نحو الأسطورة من خلال "عشتار" التي تتقدم على "عناة" دينيا وأسطوريا وكأنه يريد أن (يعوض) عن تخليه للنص الملحمي في المقطع السابق.
فقلة الأفعال في المقطع، والأكثر من استخدام "أنا" تُوصل فكرة القدسية للمتلقي، فمن يتحدث هو (مقدس)، لكن "غزة/عشتار" لا تريد من المتلقي تمجيدها فقط، بل تريده أن يتقدم نحو الفعل، من هنا وجدناها تهتم بالحدث/بالفعل/بالحركة كما تهتم بالصوت/بالقول: "خذني، أحتطب، صحوت، مددت" فما بدأه الشهيد بالكلمة/بالصوت تكمله غزة وتبني عليه بالفعل/بالحركة.
" قال الشهيد:
ريح تمضى محملة بالريح،
رأيت الزيتون عاريا،
رأيت خيمة الوقت ممزقة،
وزناد البنادق مكسرة،
وفي الأيدي تصيح،
أنا نجم الليل، أجمع بقاياي في أتون الحرب،
أمضى من موت إلى موت،
معي، دمي، وحكاية امرأة
لفت حول خصرها شوك الدرب،
يا غزة..
ها دمنا في المتاريس مضاء،
والطائرات تلهو بنا،
جرحنا، لغتنا، وشمنا اللاهبة"
في هذا المقطع نجد أكثر من شكل في تقديم الفكرة، منها ما يجمع بين واقعية الحرب ورمزيتها: "الزيوت عاريا، وزناد البنادق مكسورا" ومنها ما جاء بصورة شعرية: "خيمة الوقت، في الأيدي تصيح، شوك الدرب، دمنا مضاء" وهذا التعدد في الاستخدام يثري المقطع ويعطيه جمالية تجعل القارئ يدخل إلى الأحداث رغم دمويتها وقسوتها، فالمضمون قاسي ومؤلم، لكن شكل وطريقة التقديم تخفف من هذه القسوة وتجعل القصيدة سهلة التناول.
وإذا ما توقفنا عند ما جاء فيه نجده يتحدث من داخل المعركة وليس من خارجها، فالحرب مشتعلة، من هنا تم تكرار "رأيت، موت" وما وجود: "الزناد، البنادق، الطائرات" إلا تأكيدا أن الشهيد يتحدث من داخل المعركة، وكما نادت "غزة/عشتار" على ولدها لبى الشهيد النداء وخاطبها: "يا غزة" وهكذا يستمر الحوار بين الأم/عشتار وابنها/الشهيد/البعل، فترد عليه بقولها:
" قالت غزة:
حنانيك وأنت تمضي إلى آخر الرصاص،
حنانيك وأنت في خيبة السكوت تقرع الأجراس،
جميعهم مرّوا على جرحنا، أشعلوا الشمع،
وأقاموا لنا الأقواس،
حنانيك يا ابن الرقص المجنح،
هاك ما تبقى من نبض في العروق،
أطلق خيلك في مواسم الجفاف،
غنِّ ما شئت من سورة الموت،
أقم فينا رقصة الميجنا،
واشعل في الميتين لغة النار."
اللافت في فاتحة المقطع الحنان/الحب/العاطفة التي تحملها الأم لابنها "حنانيك" التي تكررها ثلاث مرات، وكأنه تعطيه حنان/حب مقدس ودائم، مما يجعله يقاتل بمساند سماوية/ربانية، من هنا نجدها تدعوه ليقوم ب: "أطلق، عن، أقم، وأشعل" فهذا الأفعال جاءت بعد أن مدته الأم المقدسة بدعم الرباني/سماوي مما جعل فعله أقوى وأكثر بأسا على العدو.
قبل أن نغادر المقطع ننوه إلى تركيز الشاعر على فكرة انبعاث الحياة من الموت، وهي فكرة تعود إلى أكثر من خمسة قرون، وقد أكدها القرآن الكريم في أكثر من سورة: "يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون" الآية 19 سورة الروم، فالسوري المؤمن يرى في الموت حياة/انبعاث جديد، لهذا لا يتعامل مع الموت كحالة جمود/سكون/نهاية، وما الأفعال التي طلبتها غزة/الأم:
"واشعل في الميتين لغة النار"
إلا تأكيدا لرؤية الانبعاث/الانطلاق من جديد.
"قال الشهيد:
حملتني الشهقات،
حملتني الطعنات،
إلى سجدة الروح في احتدام البارود،
وفوق حدود الموج،
احتشدت بوجهي،
حاصرت الإعصار،
قلت: أهبط نحو الأرض،
وفي ذاكرة الرمل أرتفع بالخطو،
تماما كما الرعد،
وأعانق من لهفتي زرقة البحر،
أمعن كثيرا في الإبحار،
هنا أنا،
أفتح القلب،
تمتد الشمس نحوي،
أتهجى كل اللغات،
وفي لجة الليل أشرع كل الأسئلة لوجه النهار،"
نلاحظ أن خطاب الأم: "حنانيك" له صدى/أثره على الشهيد، من هنا وجدنا لغة ناعمة/هادئة رغم أنه موجود في أجواء الحرب: "حملتني (مكرر)، سجدة، الروح، أعناق، لهفتي، أفتح، القلب، تمتد، الشمس، النهار" وهذا يعود إلى التماهي بينهما، فهما أم وابنها.
هذا على صعيد لغة الخطاب، أما على (أوامرها) وما طلبته منه، فهو ينفذها كما طلبتها: " اطلق خيالك/ أمعن كثيرا في الإبحار، غني من سورة الموت/حاصرت الإعصار، وأشعل لغة النار/ أتهجى كل اللغات"
"قالت غزة:
هذى قناديلي ديوك تهتف،
وأنا في أول الضوء أقف،
عن كتفي يفرُّ الحمام،
راقصا ويعصف،
ورائحة العشب تمضى لصلاة الحراب،
مجبول بغيم المأساة أنا،
وفوق ثريات الجسد،
يرقص فوضويا هذا الخراب،
وأنا مثقلة أصغى لوصايا السيف،
أتعمد بحناء الجرح،
تعبرني أغبرة اللحظة المارقة،
أتكاثر مثل السنابل في الحقول."
تعود عشتار إلى الحضور من خلال الأرض: "العشب، السنابل، الحقل، الحمام، ديوك" ومن خلال طقوس الفرح: "قناديلي، تهتف، راقصا/يرقص" ومن خلال الحرب: "ويعصف، الخراب، السيف، الجرح،" ومن خلال القدسية: "لصلاة، لوصايا، أتعمد" ومن خلال الخصب: "أتكاثر" نلاحظ أن هناك (ثنائية متناقضة) وهذا ما يميز عشتار، فهي تأتي بصورة الخير مرة، وبصورة الخراب أيضا، لكنه الخراب المتعلق بالأعداء/بالأشرار، لهذا هي: "تصغي لوصايا السيف" وفي الوقت ذاته: "أتكاثر مثل السنابل في الحقول" وكتأكيدا لما تحمله من خير استخدمت "الحقول" وليس الحقل.
"قال الشهيد:
قل إنه الفسفور الأبيض يهوي،
يهوى على أفق الطفولة وهدأة المكان،
ينام الطيبون.. أحلامهم تسعى،
مزنرة بنجمتين وحصان،
أيهذا اللحم المتطاير على حافة الكلام،
ما ظل في الكف أصابع تشير،
العمر غدا غبار في غبار،
قل إنه الفسفور الأبيض يهوي،
تنهض البلاد من جلابيب الفراغ،
رمحا، أغنية، ما غفت أحرفها في شفاه الأرض،
لكنها راقصت القمح والسفح،
عانقت الإنسان،
قل إنه الفسفور الأبيض يهوي،
ولم أزل أصعد قامة الليل،
أسرد على ذاكرة الجرح،
ما علمني الله سرَّ دمي،
كيف الصعود إلى برّية الشمس،"
نجد لغة الخطاب معاصرة/واقعية (خالية) من الأسطورة، فهناك تكرار ثلاث مرات ل "الفسفور الأبيض" وكأن أثر هذا الفسفور وشدة تأثيره جعلت الشاعر (يفقد) القدرة على الأبداع وعلى استخدام الأسطورة، فلسفور كارثي على من يقع عليه، لهذا أنعكس أثره على الشاعر وأثر عليه (سلبيا) من هنا وجدناه يريد الخروج من المكان الذي يتساقط/"يهوي" فيه الفسفور صاعدا إلى السماء: "نجمتين، أصعد/الصعود إلى الشمس"
وإذا ما توقفنا عند لفظ "يهوى" نجده مكرر أربع مرات، والصعود وما هو قريب منه في المعنى أيضا أربع مرات: "المتطاير، تنهض، أصعد/الصعود" ونجد ذكر ما هو أرضي: "المكان، الأرض (مكررة)" يقابلها ما هو سماوي: "نجمتين، الله، الشمس" وهكذا يتوازن الصراع بين ما هو أرضي وما هو سماوي.
" قالت غزة:
تيّبس السؤال في خواطر الماء،
تيّبس في ملامح الأمهات،
أنقش الآن في زند الوقت فوضاي،
أباريق ناري،
أطلق عصافير السهل ،
للداخلين حلم العشب والتراب،
غير أن الموت كامن فينا،
كامن في حلق هذي الجهات."

نلاحظ فاتحة المقطع غارقة في السواد/الجذب/"تيبس" وخاتمته نشرت الموت على كل "الجهات" وهو متعلق بالإنسان بصورة أساسية: "الأمهات، فينا" فالمقطع يمثل القتامة المطلقة والشاملة، أي أن الموت/الشر وصل إلى ذروته وحان سقوطه، وما قاله الشهيد وقالته غزة معا:
" قال الشهيد.. قالت غزة:
المـــــــوت معـــــراج
…. الحيـــــــــاة
الموت معراج الحياة "
هكذا تأتي الحياة وتبزغ من جديد، خارجة من عتمة الأرض وظلمتها إلى نور السماء ومعراجها.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر
Omar Abuo Al Haija








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى