الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة الشاعر خالد القطان تأكل عيون ابنائها!

داود السلمان

2023 / 12 / 14
الادب والفن


التأثر (الروحي والنفسي) بأبسط الأشياء أصبحت سمة عامة من شمات الشاعر، بل هي خصيصة يختص بها وحده، وستظل هذه الخصيصة تلازمه، آناء الليل واطراف النهار، طالما قلبه ينبض بالشعر وبالمشاعر، وفؤاده ينبض بالأحاسيس الصادقة.
ولا عجب، حيث أنّ الانسان هذا الحسّاس، المفرط في احساسه، كونه يتعامل بالمفردة الجميلة، وبالمعاني السامية، لابد وإن يكون كذلك، لأنّ متطلبات ادواته التي يشتغل عليها، هي من يحرك به ذلك الاحساس. وبالتالي لابد أن ينتج معانٍ جزيلة، ترتفع وتسمو بها الكلمة الصادقة، النابعة من سويداء قلبه، وإلّا لماذا نسمي الشاعر شاعرًا، لولا هذه الخصيصة أو البذرة اليانعة في عمقه الشعري؟.
الشاعر خالد القطان، إذا صدق القول، إنّه يمتلك الجزء الكبير، مما ذكرنا من هذه السمة المميزة، وهذا ما لمسناه من خلال مجموعته الأخيرة "نهارات وطرقات موحشة" وهي من إصدارات أتحاد الأدباء والكتاب، لسنة 2023. ففي نص من هذه المجموعة وتحت عنوان "المدينة التي أكلت عيون ابنائها"، نجد في هذا النص اختزال المشاعر الجياشة، المصاحبة للتوهج والتوق لعيون الوطن (النص كتبه الشاعر في سورية عام 2000)، وهو احساس غريب، لأنّ ابتعاد الشاعر عن الوطن، حيث ورائه عودة قريبة، سيحددها هو بنفسه، إلّا أن الشاعر هو دئما هكذا، حاضر الشعور بالغربة.
"أيتها المنافي
أنكِ أباطيل
خدعة
وطلقة مؤجلة
خطوات تلامس أرصفة
الضياع"
دائمًا ما يتعرض الشعراء الى النفي، ودائما ما يسطلون بنار الغربة، وبالابتعاد عن الأهل والاحبة، والسبب إن الشاعر أما أن يكون معارضًا، لنظام الحكم الدموي الذي يمارسه الحاكم المستبد، وأما بسبب قصائده التي تعطي الجمهور حافزًا لمقاومة هذا المستبد، واعادة حقوق الناس المستلبة، كذلك وللمطالبة بالحرية الشخصية، وبالحرية الفكرية، وبرفع الحيف عن المواطن، الذي لا حول له ولا قوة، بعد أن سيطرت أجهزة القمع على كل مفصل من مفاصل الدولة، وراحت تعبث بكل شيء، من اقتصاد ومن ثروات وامكانات الدولة برمتها، بينما الفرد يرزح تحت خط الفقر والمعاناة، وشظف العيش. وكل ذلك نجده في أغلب الدول العربية، وذات الطابع الديني الذي يتحكم به رجل الدين، سواء بالطريق المباشر، أو عن طريق التأثير على الحاكم وعلى القوى التي تحمي ذاك النظام.
الرسالة الانسانية والوطنية التي يحملها الشاعر بين خافقيه، مما لا شك، تحفزه بأن يكون ناقدًا لمجريات هذه الامور، بل معارضًا ساخطًا عما يجري من حوله، فيلهب الجماهير ويزق فيهم روح التمرّد على النظام. لذلك تجد الشاعر هو الشوكة التي تقف بعين المستبد، وتحول بينه وبين المنام، فما يكن من الحاكم، كردة فعل، إلّا أن يسجنه أو ينفيه، أو يتخذ بحقه اجراءات قاسية، تصل حد الموت. لذلك نجد اكثر ما يخافه المستبد هو الشاعر. فكلمة الشاعر هي بمثابة السيف، بل كالصاعقة تنزل على رأسه، لهذا يحاول الحاكم أن يستميل الشاعر الأديب المثقف، ويحاول أن يقربهم اليه زلفى، فيغريهم أما بالمناصب، وأما بالهبات وبالعطايا الجزيلة. والبعض يخضع لهذا الحاكم، فيسمى بـ "مثقف السلطة" وآخر يرفض ذلك الطعم، فيكون مصيره النفي والاقصاء، أو السجن والمعتقل، إلّا أن يصمت هذا المثقف ويلوذ بالاعتكاف داخل منزله، مهزوم من الداخل.
"سيل من اللعنات
تكتب مسار الزمن
الموجع،
احبولة موت تغتال
السنوات"
وهذه هي نتيجة طبيعية لمصير الشاعر الذي يعارض ويدين المستبد، فهو يتعرض لصنوف العذاب والفراق، والابتعاد عما يحب، حيث يتقطع لوعة بشوق عارم يجتاح كيانه الذاوي، بسبب ما يتعرض له من هذا الالم الذي يقاسيه، وهو ألم داخلي يطغى على احساسه بالضياع، وخوفه من المجهول، يصاحب ذلك شدة الغربة، وهذا الأخير هو الاشد والأقسى ايلامًا.
"اليكِ أمدّ يدي ايتها
السنوات،
وأدور في حلقة مقفلة
أدور.. وأدزر.. وأدور
كدرويش مسه الجنون
أو ثمل أسكرته خمرة العشق الإلهي"
إذن، إلى أين يتجه هذا الشاعر الذي وقع عليه كل هذا الحيف، وكل هذا الظلم، وكل هذا التعسف؟، فالطرق مغلقة والابواب موصدة، والدروب ضائعة. وما بين هذا وذاك تعصف به الذكرى، فيحن الى السنوات الخوالي، سنوات الطفولة، سنوات العمر الاولى التي عاشها في كنف وطن يحتضنه كالأم. وهنا يشبّه الشاعر نفسه بالدرويش، فالدرويش في طقوسه الخاصة يتحول الى مجنون، أو هكذا يعتقد بعض الناس، وهذا أمر مغلوط، فهذه الطقوس لا يعيها إلا المتصوف نفسه، ووحده يدرك معانيها السامية. الدرويش حين تسكره خمرة العشق الإلهي، ينسى نفسه فيذوب في ذلك المعشوق، ذوبان المتعطش، ذوبان الظامئ الى المعين. وبالتالي لا يشعر بألم ولا بغربة روح ولا بقسوة فراق، وهو يرى معشوقه حاضرا أمامه كالنور الساطع، يزيح مدلهمان الضنك، فتطمئن نفسه، وتُزاح أشجانه.
"آهٍ.. تلك المدينة الجنوبية
هجرتها مذ حلت فيها لعنة
,سيزيف,
مذ أكلت عيون ابناءها
مذ نفضت رمال طرقاتها
بوجوه الأطفال
والتهمت قلوب الجنود"
إنّ الإنسان إذا تعرض للعيش النكد، وسُلبت أرادته وفقد حريته، لابد أن يهجر تلك المدينة التي عاش في ربوعها، وتغذى من رحم واقعها، لاسيما إذا حلت بتلك المدينة ,اللعنة, وأصبحت جحيما لا يطاق، حينئذ سيفكر في هجرها حتى الإنسان البسيط، فضلا عن المثقف والمفكر، والشاعر الحاذق فحسب، وتلك هي غريزة متوطنة بالإنسان، بل وحتى بالحيوان الاعجم، اذا شعر، هذا المخلوق، بمخاطر على حياته، ومصاعب تقف إزائه، ونُكدَ عيش، وضاقت عليه الارض بما رحبت. بل إذا ظلَّ الانسان في هذه المدينة يتحمل ما يجري عليه من قسوة، فهو إنسان ليس بسويّ، ولعلَّ ابسط كلمة تقال بحقه إنّه مجنون، عديم الاحساس، لا يستطيع أن يقرر مصيره بنفسه.
"هي نفسها تلك المدينة
التي هجرتها،
تسلب دموع النساء
وتفترس أمنيات الصبايا"
ويستمر التصدع الروحي والنفسي، ويظل العذاب نفسه، والاحساس ذاته الاحساس. أنها سلسلة الضياع والشعور بالغربة وبالمصير المجهول مستمرة، وهي ذاتها باقية، طالما ثمة من يعبث بالمشاعر الانسانية ويستفزها، ويحاول تجاهل الآخرين من بني جلدته بهضم حقوقه، فيستمر في ظلمه لهم، فيقصي من يقصي، ويبعد من يريد ابعاده، ظلما وعدوانا، وغريزة الظلم والعدوان كامنة في الانسان، ومن الصعوبة أن يبرحها، طالما يمارس ظلمه وتعسفه. والنتيجة ثكالى ودموع، وامنيات تتأرجح، ومصير مجهول، وقلق وعدم استقرار.
الشاعر، في هذا النص، عبّر عن مكنونات الانسان الزائفة، واستعرض تاريخ البشر، وغاص في اعماق النفس البشرية، وازاح الستار عن تلك النفس، وقرأ ما في دواخلها من ترسبات ومن نكوص، ومن خفايا امتازت بها، وبالخصوص النفس التي تميل للترفع والتكبر والغرور، وتجعل هدفها التعالي عن طريق التعسف في الوصول إلى غايات مبيتة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة