الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسطين اغنية الأرض المنتزعة من أرضها

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2023 / 12 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


الأرض تلك الكلمة التي ينثر اللفظ بها كنانة هائلة من الصور والأخيلة فهي ترمز إلى المكان، الكينونة، مسقط الرأس، البلد، الوطن، الأم ، الحضن، النهد ، الرحم، الحمل ، الولادة، المنزل، الحي ، المدينة، الأهل ، الصحاب، الأحباب، الذكريات الحدود، المجال الحيوي للكائن الحي، الزرع، الحرث ، الري، الحصاد ، السماء النجوم ، القمر، الشمس، العرض الشرف الحياة والموت وكل شيء تقريبا يدور حول الأرض ومنها واليها فهي الثبات الوحيد في عالم الكائنات الحية وغير الحية ولولا ثباتها النسبي لاستحالة الحياة برمتها. وربما كان هو هذا معناها في لسان العرب لابن منظور" الأَرْض: التي عليها الناس، أُنثى وهي اسم جنس…وتأَرَّضَ فلان بالمكان إِذا ثبت فلم يبرح، وقيل: التَّأَرُّضُ التَّأَنِّي والانتظار وتَأَرَّضَ الرجلُ: قام على الأَرض؛ وتَأَرَّضَ واسْتَأْرَضَ بالمكان: أَقامَ به ولَبِثَ، وقيل: تمكن. ويقال: أَرْضٌ أَرِيضةٌ بَيِّنةُ الأَراضَةِ إِذا كانت لَيِّنةً طيبة المَقْعَد كريمة جيِّدة النبات. وقد أُرِضَت، بالضم،" ولازال أهلنا في حضرموت يتبادلوا تحية المقبلة بهذا السؤال: ويشك عساك ريّض؟ من الريضة والإحساس بالراحة والأمن والأمان. وبهذا المعنى الأرض هي المكان الذي يحتوي الكائن فالمكان هو البعد الأساسي للكائن الحي. كون، كان، مكان ، كائن، كيان، كينونة، مكين، تمكين وغير ذلك من الأسماء والصفات التي تدل على المكان بوصفه كيانا مشخصا متعينا للعيان. فلا كيان بلا مكان وليس شخصا ذلك الذي لاينتمي إلى أي مكان. فالمكان هو الثابت الدائم الذي يمنح الإنسان كينونته الوجودية في هذا العالم. ولا كينونة خارج المكان، أنه الأرض أو السطح الذي يحتوي الأجسام كلها بوصفها كياناتا وكائناتا محسوسة ملموسة يمكن رؤيتها بالعين المجردة أو بالتلسكوبات الرقمية. فلا شيء خارج الأمكنة التي تحيط بالكائنات من جميع الجهات. الأمكنة هي لغة الكينونة الأصلية التي تقول كل شيء دون أن تتكلم! صمتها يدل عليها وصخبها يمنحها هويتها. لغة بصرية وسمعية زاخر بالمعاني الدلالات المفعمة والأسطح والأبعاد والامتدادات والنتوءات والانحدارات والفضاءات والألوان والضلالات بالأنوار والظلمات. أنها قاع كل شيء وأصل كل كيان من الكون ذاته إلى أصغر ذراته. للأمكنة سطوتها وسلطتها القاهرة التي يستحيل الهرب منها أو تجاوزها فكل ما تستطيعه الكائنات بإزائها هو التكيف معها بإعادة تأثيثها بالوسائل الممكنة. وهذا هو كل ما يستطيع بلوغه الإنسان في هندسة المكان وتسويسه بما يجعله قابلة للعيش والتمكين أما الحيوانات فهي تعيش المكان بطبيعته الأصلية وبغريزتها الفطرية. الإنسان وحده عبر تاريخ الطويل الذي تمكن من منح المكان ملامحه الإنسانية بالفعل والنشاط والانفعال والبناء والتعمير والتنمية وبهذا المعنى يمكن القول أن الجغرافيا تحضر بصور شتى أما التاريخ فهو ذاكرة الزمان والمكان. لقد شكّل المكان منذ الكينونة الأولى لحياة الإنسان وما زال يشكّل وسيستمر محور الرهان الجيوبوليتيكي في صراع القوى الفاعلة على كوكب الأرض وهذا هو موضوع كتاب روبرت كابلان انتقام المكان." ثمة مكانٌ جيدٌ لفهمِ الحاضر، ولطرح الأسئلة حولَ المستقبل، وهو أديمُ الأرض، مع السَّفر فوقها بأبطأ ما يمكن"( ينظر, روبرت كابلان، انتقام الجغرافيا، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، عدد420، أبريل 2015)
كان ميكافيللي في كتاب الأمير يقول : "أن الناس ينسوا موت اباهم وأمهاتهم أسرع من نسيانهم لفقدهم حفنة من النقود" وهذا حقا فعلا لكن ليس هناك كارثة تحل بالناس بأفدح من اقتلاعهم من أرضهم وطردهم منها بالقوة العارية. وتلك هي مأساة فلسطين وجرحها النازف الذي يستحيل دمله بدون عودة الحق إلى أصحابه. أنَّ البحث عن شيء يتصف بالدوام، هو من أعمق الغرائز الإنسانية وأكثرها التهابا إنه تعبيرا عن حب الإنسان لداره لمسقط رأسه وطنه الحبيب ورغبته في مأوي پسكن إليه من الخطر والجوع والتشرد والضعف والعجز والموت وصروف الدهر وتقلبات الزمن. قال تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت % الذي اطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوفاً) وأول المدنية كهف او مغارة او موطئ قدم يحتله الانسان ويجد فيه اسباب العافية والامن والامان فيدافع عنه وطناً في العراء قبل اللجوء الى الكهوف والمغارات، واول الحضارة هو الاحساس بالخوف من العجز والوحدة. كل هذه الاحساسات التي تنتاب الانسان في جميع الازمنة وفي كل مكان وفي جميع العصور هي فطرة وغزيرة وطبع دفعه للبحث عن حلول عملية لها.�ان البحث عن القوي الدائم الثابت الازلي، البحث عن المعنى حيث لا معنى، البحث عن النظام فيما وراء الفوضى، البحث عن الواحد فيما وراء الكثير، البحث عن الابدي خلف الزمني، البحث عن الخلود فيما وراء الموت والفناء، البحث عن الحاضر فيما وراء الزائل هي من أقوى الدوافع في ذات الانسان, بل ان الظروف الفسيولوجية والحاجة الى الحفاظ على الذات ليست هي الجانب الوحيد في طبيعة الانسان، بل هناك جانب اخر ضاغط بالمثل وهو جانب ليس قائماً في العمليات الجسمانية بل هو قائم في صميم الحالة الانسانية وممارسة الحياة الا وهو الحاجة الى التعلق بالعالم خارج النفس الفردية الحاجة الى تجنب الوحدة، "ان الشعور بالوحدة والعزلة تماما يفضي الى الموت، حتى روبنسون كروزو المنفرد كان يصحبه "فرايداي" بدونه كان من المحتمل ان يموت" ان احساس الانسان بتفاهته وضآلته مقارنة مع بالكون والاخرين يشعره بحاجة الى التوحد بالكون والمجتمع، وما لم يحدث التعلق، ما لم يكن لحياته معنى ما واتجاه ما، فانه يشعر بانه شبيه بذرة التراب الطائرة وتقهره تفاهته الفردية وضعفه وعجزه ومحدوديته, لقد دفع الانسان خوفه الشديد من التغير والزمان الى البحث عن الله الواحد الاحد القوي الثابت قال تعالى: «فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما افل قال لا احب الافلين�﴾ فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما افل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من الضالين�﴾ فلما رأى الشمس بازعة قال هذا ربي هذا اكبر، فلما أفلت قال يا قوم اني برئ مما تشركون�﴾ اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض، حنيفا وما أنا من المشركين» يقول كولن ويلسون: «والحق ان الدين نفسه استجابة للغز الزمان الاساسي . افتقار الانسان الى إلامن حين يحيا في الحاضر. واعياً بابعاد الماضي والحاضر التي تسحقه في كون لا يمتلك سلطاناً مباشراً عليه والمحاط بخطر الموت والفناء الظاهري. "والحل الذي تقدمه معظم الاديان هو تأكيد على نمط للوجود يتحقق بالخلود والتعالي والابدية، بغير بداية ولا نهاية مبرءاً من الاخطاء ومنزهاً من التغير فالدين يعمد الى ادماج الحاضر الأرضي والطبيعي والإنساني في الماضي والمستقبل" وقد كان الخوف أساس الطوطمة، فتطور حتى أصبح حبا فشعائر وعادة للأسلاف. والمكان هو البعد المميز للكائن السياسي. والزمان هو البعد المميز للكائن الحي، وهاتان المعادلتان مرتبطتان، لأنَّ الأولى هي النتيجة الطبيعية للثانية ويؤدي العقل السياسي لعبة التأمين، أي المكان ضد الزمان ، ومبدأ التسجيل بثبت الوجود في المکان، لأنَّ المكان هو الذي يمنح الوجود، والمكان يرمز إلى الهوية، هوية الذات الأصلية، وينبغي أن يكون في مقدور المرء على الدوام أن يجيب على أعظم سوال ديني: من أين أنت؟ فليس شخصًا مَن لا ينتسب إلى مكان، ومَن يذهب إلى أي مكان يصبح أيًّا كان" "والجغرافيا هي بنت التاريخ بمقدار ما هي أمُّه" ، ويرى إدوارد سعيد في كتابه (الثقافة والإمبريالية) أن السرد الروائي والمسرحي والقصصي هو الوسيلة التي تستخدمها الشعوب المستعمرة التأكيد هويتها الخاصة ووجود تاريخها الخاص، ولا شك أن المعركة الرئيسة العملية الإمبريالية تدور طبعًا من أجل الأرض وملكيتها وحق السيادة عليها، ومَن يملك حق استيطانيا واستثمار خيراتها.. إن موضع الرهان والمجازفة إنما هو الأراضي "الأمكنة، والممتلكات، والجغرافيا، والقوة، فكل شيء يتعلق بالتاريخ البشري متجذر طبعًا في الأرض، وهذا يعني أن علينا أن نفكر بالسكن والمعاش" هكذا يمكن القول مع "جيل دلوز" يبدأ الفن لا من اللحم أو الدم، بل من المكان، المنزل، الشارع، الحي، الإقليم، البلاد، الوطن، الشعب، الأمَّة، الشجر، الرمل، وكل تلك اللازمات الحميمة الصغيرة التي تترنم يأغنية الأرض المنتزعة من أرضها.هكذا علينا أن نفهم ذلك الشغف المثير بالأمكنة في الأدب الفلسطيني بعد عام 1948م بحضور طاغٍ للهَمِّ السياسي؛ إذ جرى توظيف معظم الأجناس الأدبية والجمالية للتعبير عن القضية الجوهرية الأرض الفلسطينية المنتزعة من أهلها، وتجلى ذلك في جملة من المظاهر، منها: الاهتمام بالمكان والإزاحة عن المكان، وهو ما يعني هنا ظهور أزمة خاصة بالهوية بمعناها الواسع: الهوية الثقافية واللغوية والسياسية والتاريخية والأيديولوجية والجمالية والاهتمام بالمكان، أو استعادة علاقة فعالة بين الذات والمكان يُعَد واحدًا بؤرة الصراع الجوهري بين الكياني الصهيوني المغتصب والشعب الفلسطيني المقاوم.
كتب الدكتور بن شرقي بن مزيان قبل أيام مقال بعنوان :حرب غزة استئناف لسؤال الأرض. جاء في مستهله" لم تكن الشعارات المخطوطة أو الصوتية التي ظهرت في الأيام الأولى من "طوفان الأقصى" بالاعتباطية بقدر ما أنها تحمل استئناف لمسألتين: تتعلق الأولى بسؤال الأرض والثانية بتحقق للوجود من صلب الارتباط بالأرض. ولشرح ذلك علينا الانتباه إلى بعض الشعارات ومنها:
1- إما نحن أو نحن
2- حاولوا دفننا ولم يعلموا أننا بذور
3- صامدون ولن نرحل
4- عهد الله ما نرحل
5- فقط في غزة....فلسطين
6- ...، عجينة الشعب الفلسطيني عجينة صلبة. عجينة انتصار. عجينة قوة. نحن خلقنا لننتصر. نحن الله عز وجل ثبتنا بهذه الأرض. نحن في أرض الرباط، ونحن يعني نقول لهذا العدو أقتل دمر كما تشاء لن تنال من عزيمتنا. ولن تنال من قوتنا الملائكة بيننا هي التي تنشل أطفالنا ونساءنا وبيوتنا. يقتلون لأن الله أراد" (ينظر، بن شرقي بن مزيان، حرب غزة استئناف لسؤال الأرض)
وعلى مدى 48 يوما من القصف الاسرائيلي المتواصلي على مدينة غزة الباسلة شاهد العالم أجمع ذلك الصمود الأسطوري لسكانها والإله الصهيونية تعركهم عرك الرحى. مشهد ينطق بلسان شاعر الأرض والثورة محمود درويش:

و لو أنّا على حجرٍ ذُبحنا

لن نغادر ساحةَ الصّمت التي سوّت أياديكم

سنفديها ونفديكُم

مراكبُنا هنا احترقت

وخيّمنا على الرّيح التي اختنقَت هنا فيكم

ولو صعدت جيوشُ الأرض هذا الحائط البشريّ

لن نرتدّ عن جغرافيا دمكم.

مراكبنا هنا احترقت

ومنكم؛ من ذراعٍ لن تعانقنا

سنبني جسرنَا فيكم

شوتنا الشمس

أدمتنا عظام صدوركم

حفّت مفاصلنا منافيكم

ولو أنّا على حجر ذبحنا"

لن نقول" نعم"

فمن دمنَا إلى دمنَا حدود الأرض

من دمنا إلى دمنا

سماءُ عيونكم وحقول أيديكم

نناديكم

فيرتدّ الصّدى بلدا

نناديكم

فيرتدّ الصّدى جسدا

حقا شكَّلت الأرض، كمكان وكيان جغرافي، وكذلك كموئل وحضن يأوي إليه الإنسان، بؤرة الخطاب الفلسطيني، اليومي والثقافي، السياسي والأدبي، إلى الحد الذي جعل حياة الفلسطينيين، خلال ما يزيد على قرن من الزمان، حفرًا وسواسيًّا على المعاني المتكاثرة للأرض ودلالاتها الحافَّة وبؤرها الرمزيّة.
فلا شيء غير الأرض ودلالاتها الرمزيّة ومعاني غيابها وانتظارها ورغبات العودة إليها والإيواء إلى حضنها والالتحام بها ودخول فردوسها المفقود، بل إلى الغور فيها والاندفان تحت سطحها، ما يعادل (بسبب الإحساس بالمآزق التاريخيّة المتتابعة للتجربة السياسيّة للفلسطينيين) بين الرغبة في العيش في الأرض والرغبة المهووسة بالموت من أجل الأرض أو التضحية فداءً لها.
لقد استمعت للباحث الفلسطيني جمال العمله المتخصص في شؤون الأراضي الفلسطينية؛ استمعت اليه وهو يسرد حكاية اغتصاب فلسطين واقتلاع أهلها الأصليين منذ ما قبل عام 1948 عام النكبة إذ كان الفلسطينيون يمتلكون 98 من مئة من أرضهم وعلى مدى أكثر من 75 عام من النكبة والمقاومة تم تغيير خارطة فلسطين لصالح المغتصب الصهيوني بشكل لا مثيل له في تاريخ الاستعمار القديم والحديث والمعاصر.
لقد ادرك عقلاء الغرب ما سوف ينجم عن جريمة اغتصاب فلسطين وتشريد أهلها ويعد فيلسوف التاريخ البريطاني أهم من بين حقيقة ما حدث إذ كتب" إنني في كلتا الحربين العالميتين خدمت موظفاً مؤقتاً في وزارة الخارجية ولم أكن قط في موقف موالٍ للعرب، وكنت على الدوام معارضاً شخصياً للسياسة البريطانية بشأن فلسطين. وإنني أحمل بريطانيا أكبر قسط من المسؤولية في النزاع بين العرب واليهود، ولكوني بريطانياً، فإنني أشعر شخصياً بهذه المسؤولية، ولأنني لست عربياً ولا يهودياً، فليس لي أية مصلحة شخصية في أن أحابي أو أحمل على أي الفريقين، وأنني أعتقد فيما يتعلق بالمشكلة القائمة بين الفلسطينيين والصهيونيين، أن الفلسطينيين العرب على صواب وأن الإسرائيليين على خطأ" إذا كان موقف توينبي من القضية الفلسطينية قد شابه الغموض والتردد قبل الحرب العالمية الثانية، فإن هذا الموقف تبدل كلياً بعد الحرب، ولاسيما بعد أن شاهد معاملة اليهود للعرب في فلسطين سنة 1947 وما تلاها, منذ ذلك الحين أخذ توينبي يصرح بموقفه الرافض للاستيطان والاحتلال الإسرائيلي ويؤكد حقوق الفلسطينيين في أرضهم وهو ما كشف عنه في كثير من الحوارات والمحاضرات والمقالات والكتابات. ومنها ذلك الحوار الذي جرى بينه وبين الصحفي البريطاني (لويس أيكس) ونشر في مجلة دراسات فلسطينية عدد الربيع لعام 1973، وجاء في رده على سؤال أيكس: "هل تعتقد أن بلفور كان أعمى عن رؤية مرامي التصريح؟" رد توينبي: "كلا. لقد كان يفهمها. وهناك مذكرة منه إلى زملائه يقول فيها: لا أستطيع أن أفهم لماذا جعلتم هذا الانتداب حرف (أ) الذي يعني حق تقرير المصير، إذ أننا لا ننوي أن نعطي هؤلاء حق تقرير المصير. وهو يعني (بهؤلاء) الفلسطينيين (العرب). وإذن فقد كان يعرف ما يفعل. إنني أقولها لك صريحة: لقد كان بلفور رجلاً شريراً. كان بلفور يعرف كل التعبيرات الغامضة مثل تعبير وطن قومي. وكانت هذه متعمدة في تصريح بلفور. وكذلك قوله (الحقوق المدنية والدينية) وليست (الحقوق السياسية) للجماعات غير اليهودية الأخرى في فلسطين. إنني أعتقد أن كل كلمة قد كتبت بعناية لتكون غامضة. وهذا أمر سيء جداً"
من الإنصاف القول أن انتقادات توينبي لإسرائيل واليهود قد أثارت عليه موجة واسعة من النقد والتنديد، المباشر وغير المباشر، وفي 31 يناير 1961 حدثت مناظرة بين توينبي وسفير إسرائيل في كندا (ياماكوف هرتزوك) وهذه المناظرة هي عرض موجز لدعاوى اليهود وأسلوبهم في طرح مشكلتهم والدفاع عن دعواهم، تحتوي أيضاً على أهم الأفكار التي دافع عنها توينبي بشأن إسرائيل وفلسطين، وخلاصة آراء توينبي في تلك المناظرة يمكن تلخيصها بالآتي: يقول هرتزوك: "إن لليهود حقاً تاريخياً في فلسطين". ويرد توينبي: "إن حق اليهود في فلسطين قد زال بزوال دولتهم ومجتمعهم من فلسطين على يد الرومان منذ سنة 135م. وأن فلسطين أصبحت من حق الشعب الذي سكنها من قبل ذلك التاريخ ومازال يسكنها عندما أعلنت بريطانيا وعد بلفور. ولو سلمنا بصحة دعوى اليهود لكان علينا أن نسلم بحق الويلشيين في بريطانيا. وعلينا في هذه الحال أن نرحل نحو 50 مليون إنجليزي ونطردهم ليكونوا لاجئين". ويقول توينبي: "إن السفير يناقض نفسه فهو يطالب بعودة اليهود إلى فلسطين مع أنه لم يكن هناك استقرار سكاني يهودي ثابت في فلسطين منذ سنة 135م وينكر على العرب الفلسطينيين هذا الحق مع أنهم طردوا بالقوة من بلادهم منذ عهد قريب، سنة 1948م. ويقول هرتزل: "أن اليهود لم يطردوا الفلسطينيين، وإنما ترك الفلسطينيون بلدهم وأصبحوا لاجئين استجابة لنداء زعمائهم". ويرد توينبي: "إن الفلسطينيين أكرهوا على ترك وطنهم نتيجة المذابح الصهيونية ونتيجة لإنذارات القوات المسلحة الإسرائيلية بأنهم سيذبحون كل فلسطيني يبقى في فلسطين كما ذبحوا النساء والشيوخ والأطفال في (دير ياسين). ويقول هرتزوك: "إن الفلسطينيين قد فقدوا حقهم وأملاكهم في فلسطين نتيجة لخروجهم الطوعي منها". ويرد عليه توينبي: "إن خروج العرب من فلسطين سواء كان حكمة منهم أو لأنهم هربوا من خطر الموت المحتم لم يفقدهم حقوقهم في وطنهم وأملاكهم. كما أن اليهود الذين هربوا من ألمانيا في عهد هتلر، وملايين الفرنسيين الذين نزحوا من شمال فرنسا إلى جنوبها بعد الغزو النازي سنة 1940. لم يتخلوا عن حقوقهم وأراضيهم وممتلكاتهم وبيوتهم، فكذلك الفلسطينيون مازالوا أصحاب الحق في فلسطين. وأن ما فعلته إسرائيل هو سرقة ونهب" ويعترض هرتزوك على مساواة توينبي بين مذابح النازيين لليهود وسلوك الصهاينة مع العرب سنة 1947 - 1948. ويرد توينبي: "إن القتل هو القتل سواء أكانت الضحايا عربياً واحداً أم ستة ملايين من اليهود، وأن ما نكره فيما فعله الألمان هو أن جرائمهم كانت تدرس وتخطط سابقاً، ثم يجري تنفيذها بدم بارد وعنف شنيع، وهدف لعين. وأنا موقن أن جميع الصفات تنطبق على مذابح إسرائيل للعرب في فلسطين". ويضيف توينبي: "زرت اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم، وشاهدت مأساتهم وسمعت أطفالهم في غزة يقولون: "كانت هذه أرضنا ونحن مصممون على العودة" وفي حوار توينبي مع ابنه فيليب، قال الابن أنه شخصياً ينظر إلى اليهود بكونهم غرقى يتعلقون بالمجداف، ورد الأب: "نعم يتعلقون به ويدفعون أصحاب المجداف الشرعيين من فوقه". وأكد توينبي لابنه أن بلاده تتحمل مسؤولية ضخمة، لأنها هي التي مكنت اليهود من احتلال فلسطين، كما أن الولايات المتحدة تتحمل القدر نفسه من المسؤولية، فالأمريكيون يعرفون اليهود ولكنهم لم يسمعوا أبداً عن العرب، ولديهم شعور بأن المواطنين الأصليين ليست لهم حقوق وقد نظروا إلى العرب في فلسطين نظرتهم إلى الهنود الحمر الأمريكيين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين أنستغرام والواقع.. هل براغ التشيكية باهرة الجمال حقا؟ |


.. ارتفاع حصيلة القتلى في قطاع غزة إلى 34388 منذ بدء الحرب




.. الحوثيون يهددون باستهداف كل المصالح الأميركية في المنطقة


.. انطلاق الاجتماع التشاوري العربي في الرياض لبحث تطورات حرب غز




.. مسيرة بالعاصمة اليونانية تضامنا مع غزة ودعما للطلبة في الجام