الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرح أنطون أحد رواد الفكر العلماني والديمقراطي

رشيد عبد الرحمن النجاب
كاتب وباحث

(Rasheed Alnajjab)

2023 / 12 / 16
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


ولد فرح أنطون في "طرابلس" الشام عام 1874 لوالد احترف تجارة الأخشاب، وبعد إنهاء دراسته الثانوية في مدرسة "كفتين" اشتغل بالتجارة، ثم تركها وتسلم إدارة مدرسة أهلية. تردد بين مصر والولايات المتحدة متمسكا بإصدار مجلته "الجامعة" حيثما ارتحل، وعاد إلى مصر بعد عزل السلطان العثماني عام 1908. ثم شرع يكتب في جريدة "الأهالي" إلى أن اعتلَّت صحته وانقطع عن العمل حتى وفاته عام 1922.
كان فرح أنطون واحدا من مجموعة من البرجوازيين المتنورين من أمثال: بطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، وجرجي زيدان، وشبلي الشميّـل، و محمد رشيد رضا الذين التجأوا إلى مصر هربا من أجواء الحرب الطائفية في سورية، التي دعمتها فرنسا وإنجلترا، و كذلك هرباً من استبداد السلطان العثماني عبد الحميد. وقد تضمنت موسوعة "أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر" لمؤلفها الدكتور أيوب أبو دية معلومات تتناول هذه الشخصيات معززة بحشد من المراجع، ومنهم المفكر فرح أنطون،موضوع هذه المقالة.
اصطدمت أفكار هذه المجموعة من المفكرين ببيئة مصرية متأثرة بمحمّد عبده و جمال الدين الأفغاني، فكان التساؤل : كيف نستقبل العلوم والحضارة الغربية من دون أن تُخل بشريعتنا السمحاء؟
برز تيّاران في سياق التعامل مع السؤال الأخير؛ دعا الأول إلى استقبال العلوم والحضارة الغربية من دون الإخلال بالشريعة، واعتقد أن ذلك يتم من خلال العودة إلى الإسلام النقي في جذوره الأولى
(من خلال التطلع إلى القائد المستبد العادل إسلاميا). وكان محمد عبدو في طليعة هذا التيار. بينما كان التيار الثاني علمانياً، أراد الفصل بين الدين والدولة، وضم عددا من ممثلي أيديولوجيا البرجوازيات الوطنية الناشئة، فرفعوا شعار الدين لله والوطن للجميع. وقد كان أغلب هذا التيار من العرب المسيحيين، وكان جلـّهم من السوريين اللبنانيين المهاجرين إلى مصر.
ويتضح المشروع الفكري لفرح أنطون من خلال المقارنة بين رأيه ورأي محمّد عبده حول مسألة الفلسفة السياسية. فقد رأى فرح أنطون بتأثير من المشروع النهضوي الأوروبي، أن المسألة لا تتوقف عند "عدل الحاكم المستبد"، تلك الدعوة التي أطلقها توماس هوبز في إنجلترا في القرن السابع عشر، وتجاوزتها أوروبا، بل إن المسألة الساخنة التي سادت في ذلك الوقت(أواخر القرن التاسع عشر) كانت تتمثل في الديمقراطية، التي تسمح بالمشاركة المباشرة في الحكم. أمّا تيار محمّد عبده فقد رأى، بالمقابل، أن الحاكم لا يمكن تجريده من دينه.
وقد استدعى ذلك من فرح أنطون الإعلان أن محاولته فلسفية وليست دينية، وأنها تهدف إلى تحقيق مصالحة وطنية ترمي إلى نهوض الشرق العربي وارتقائه. فالمسيحيون والمسلمون في الشرق متساوون من حيث علاقتهم بالغرب،وفي الوقت الذي رفض فرح أنطون دعاوى من اتهموا العرب المسيحيين بأنهم تأثروا بالفكر الأوروبي بسبب مشاركتهم الغرب دينهم، فقد رأى إن أي محاولة شرقية لهدم الدين المسيحي سينجم عنها بالضرورة هدم الأديان السماوية كلها.
كما فصل فرح أنطون بين العلم والدين، ثم شرع في طرح قواعد "الجامعة الشرقية" بديلا" للجامعة الإسلامية"، ورأى في "الله، الوطن، الاتحاد، الارتقاء، والوطنية" أسسا تقوم عيها هذه الجامعة ،و تتحقق بفصل السلطتين الدّينيّة والمدنية. كما رأى في الأسباب الآتية حججا تدعم وجهة نظره في فصل السلطتين:-
- إطلاق الفكر الإنساني من كل قيد، خدمة لمستقبل الإنسانية. و طالما تهدف الحكومات إلى حفظ الأمن وصيانة الحريات ضمن دائرة الدستور، فإن هذا الشأن لا يمكن أن تحققه الديانات، التي تستهدف مُنكِرها بالتحقير والظلم، ذلك أنها تعتقد أن الحقيقة المطلقة بحوزتها، وأنها مخولة بأي إجراء يحمي هذه الحقيقة، وإن اقتضى الأمر اضطهاد العلماء والفلاسفة.
- تحقيق المساواة بين أبناء الأمة مساواة مطلقة بغض النظر عن مذاهبهم واعتقاداتهم. وتكون سلطة الحكومات فوق سلطة المذاهب والامتيازات، ونفوذها، وتعطي الحق للجميع وبالتساوي.
- تتمحور الأديان حول الإيمان بالقلب والتسليم بالله، ورأى أنطون " أن الأديان ربما نجحت في إدارة أمور الدنيا في البداية، ولكن الأحوال تغيرت اليوم". فقد باتت دائرة العلم والفلسفة منفصلة عن دائرة الإيمان لأنها موجودة في العقل، أما الإيمان فمصيره القلب، وهذا التمايز يستدعي أن تستقل كل دائرة عن الأخرى حتى يستطيع أصحابها أن يُنتجوا بحرية وألا يُضطهدوا.
- يقول فرح أنطون إن ضعف الأمة ناجم عن جمع السلطتين المدنية والدّينيّة، وسبب ذلك ما يلي:
• ‌يعجز رجال الدين عن مواجهة العلماء واحتمال قوة ذكائهم، ورجاحة عقولهم، وإحكام منطقهم، لذا، رأى فرح أنطون أن الجمع بين السلطتين يجفف ينابيع الذكاء ومصادر الحياة في الأمة، ويقودها نحو العجز والجهل.
• تميل السلطة الدّينيّة إلى مجاراة العامة حتى في الأمور الضارة بالشعب، لأنها تخاف استغلال أعداء الدين لها كذريعة لإثارة الشعب عليها. ولذلك تـُجيز كل شيء، بما في ذلك إثارة التعصب الديني، مادام فيه استرضاء للشعب وقوة لها.
• إبطال الشقاق الديني والمذهبي لا يتم إلا بتحقيق العدل والمساواة المطلقة بين جميع عناصر الشعب، وهذا ما تحققه السلطة المدنية غير المنحازة لمذهب على آخر، إلا إذا كان رؤساء السلطة الدّينيّة من الملائكة.
• كيف تستطيع الحكومات الدّينيّة الدخول في السياسة والخروج منها مظفـّرة ما لم تحارب الحكومات المدنية بأسلحة السياسية (الرياء والكذب والمصانعة ونحوها). وهل يجوز لها ذلك بوصفها سلطة دينية؟ فما الذي يوجب عليها هذه المذلة؟
• اعتقد فرح أنطون أن العقل البشري مطبوع على التنوع والاختلاف والتباين، وهذا يشير إلى استحالة الوحدة على أسس دينية. وهذه الحقيقة هي من أهم أسباب الفتن والاضطرابات في الإسلام والمسيحية. فمثلاً، المسيحية منقسمة إلى أورثوذكس، وكاثوليك، ونساطرة، ويعاقبة، وموارنة، وبروتستانت، وأحباش، وغيرهم؛ كما تشعب الإسلام إلى مذاهب عديدة من أهل السنة، والشيعة، والبهائية، والدروز، ... إلخ. فكيف يمكن توحيد المذاهب إذاً؟ وعندما ظنـّوا أن القوة هي الوسيلة، سفك الكاثوليك دماء البروتستانت. كما تنازعت فرق الإسلام كذلك، وسقطت الدولة العباسية لعجزها عن حفظ وحدتها الدّينيّة! وما زالت النزعة الطائفية موجودة حتى يومنا هذا سواء في المذاهب المسيحية أم في الإسلامية.
و بناء عليه خلص أنطون إلى أنه: لا يمكن أن يتحقق أي عدل، أو مساواة، أو أمن، أو حرية، أو فلسفة أو عز للدولة إلا بفصل السلطتين.
ورغم تأثر فرح أنطون بالفكر الأوروبي، إلا أن ذلك لم يمنعه من مجابهة الغرب الاستعماري بسلاحه الفكري، وقد تجلى ذلك من خلال مجلة الجامعة التي أسماها "الجامعة العثمانية " في سنتها الأولى داعياً الأمم الشرقية إلى الالتفاف حول عرش السلطان العثماني في مجابهة الطموحات الاستعمارية الغربية.
ختاما يمكننا القول أن فرح أنطون يعد أبا النهضة الفكريّة الحرّة ورسول الديمقراطية في الشرق العربي، وداعية للأخوّة الإنسانية، والتصالح بين الديانات والمذاهب تحت لواء الدولة المدنية الجامعة وقد أدخل على الصحافة العربية النزعة الفلسفية في البحث، وكان رائداً في فن القصص الروائي بما ألفه، أو نقله، أو ترجمه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين أنستغرام والواقع.. هل براغ التشيكية باهرة الجمال حقا؟ |


.. ارتفاع حصيلة القتلى في قطاع غزة إلى 34388 منذ بدء الحرب




.. الحوثيون يهددون باستهداف كل المصالح الأميركية في المنطقة


.. انطلاق الاجتماع التشاوري العربي في الرياض لبحث تطورات حرب غز




.. مسيرة بالعاصمة اليونانية تضامنا مع غزة ودعما للطلبة في الجام