الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسائل من الغربة وعنها

حسن مدن

2023 / 12 / 16
الادب والفن


استوقفني في جناح «دار الرافدين» بمعرض الشارقة الدولي للكتاب في نوفمبر/ تشرين أول الماضي، مؤلف ضمّ مراسلات الأديب والناقد العراقي علي جواد الطاهر (1919 – 1996) إلى زوجته، وللدار المذكورة فضل كبير في تعريفنا بمراسلات مشاهير من الأدباء، ومنها «رسائل فرانز كافكا إلى ميلينا»، «رسائل فلاديمير بانكوف إلى فيرا»، «رسائل مارسيل بروست»، «مراسلات مكسيم جوركي وأنطون تشيخوف»، وكذلك الرسائل السرية للشاعرة الإيرانية فروخ فَرخزاد، وغيرها من الكتب الشائقة، لكنها المرة الأولى، في حدود اطلاعي، التي تصدر فيها الدار الرسائل الخاصة لأديب ومفكر عربي، وإلى زوجته، على ما تنطوي عليه من خصوصية.

المؤكد أن أهمية علي جواد الطاهر النقدية والأدبية تضفي أهمية على رسائله الخاصة، فهو صاحب مشروع ثقافي ترجمةً وتأليفاً وتنظيراً، حتى أنه عُرف بشيخ النقاد، وفي رصيده أكثر من أربعين كتاباً، تعكس ثقافته الموسوعية العالية، هو الذي نال شهادة الدكتوراه من «السوربون» الفرنسية، بعد تخرجه في كلية المعلمين في بلاده العراق، وجمعت مؤلفاته بين دراسات تهتم بالتراث، وكذلك بالاتجاهات الأدبية المعاصرة، مثل كتابه «مقدّمة في النقد الأدبي».

ما جذبني إلى الكتاب، وأنا أراه في جناح «دار الرافدين»، هو رسائل الطاهر، ولم أدقق كثيراً في عنوانه الرئيسي وهو: «سغب العواطف»؛ حيث حسبته في الأول «شغف العواطف» أو حتى شغبها، ولم أنتبهْ إلا لاحقاً إلى أن المفردة هي «سغب»، وأعترف أنها مفردة جديدة على أذني، فقصدتُ المعجم سائلاً، فأفادني أنها تعني التعب، خاصة منه ذاك الناجم عن الجوع، ويفيدنا «لسان العرب» أنه ربما سُمِّي العَطش سَغَباً.

في كل الأحوال نحن إزاء شحنة عواطف يبثّها علي جواد الطاهر إلى زوجته، في رسائل خطّها إليها من بعد، مفصحاً عما يعتمل في صدره من مشاعر تعِبة بسبب بعد المسافات، فترات سفره في مهام علمية وأكاديمية، أو حين وجد نفسه محمولاً على مغادرة العراق؛ خشية الملاحقة الأمنية من السلطات، ويطمئن فيها على أحوالها وعلى أحوال أولادهما، ويتقصى منها الأخبار، ويدلي برأيه في أمور تخصّ العائلة، كما يبث بعض تأملاته في الحياة.

وتشير د. لقاء موسى الساعدي، وهي زوجة الابن الأصغر للطاهر، التي قامت بجمع وتقديم وتحرير تلك الرسائل وجمعها في الكتاب، إلى أن زوجة الطاهر، السيدة فائقة، احتفظت بتلك الرسائل في علبة صدفية، وبعد أن اطلعت عليها الدكتورة لقاء وبهرتها «بأسلوبها وصياغتها وتدفق العاطفة الصادقة فيها»، ارتأت نشرها، ولم يكن ذلك هيّناً؛ حيث واجهت معارضة من بعض أفراد العائلة، باعتبار تلك أموراً شخصيّة تخص العائلة، لكنها، أي معدّة ومحررة الرسائل، نجحت، ولحسن حظّنا، في إقناعهم بأهمية نشرها.

في «سغب العواطف» لن نكون، تماماً، إزاء رسائل عاطفية بالصورة التي اعتدناها في رسائل أدباء إلى حبيباتهم، فلا عتب هنا ولا لوم ولا شكوى من صدّ أو هجران، إنما نحن بصدد رسائل توجز، في الجزء الأكبر منها، معاناة الطاهر في الغربة التي كانت قسرية، وفيها يمكن أن نقرأ أوجهاً من معاناة الكثير من مثقفي العراق وأدبائه وفنانيه المستمرة، ممن وجدوا أنفسهم محمولين على مغادرة وطنهم.

الحقيقة أن رسائل الطاهر إلى زوجته فائقة، التي أكثر من مناداتها بأسماء دلع في تلك الرسائل: «فيوقتي»، «فيق» تحوي شحنة عالية من الأشواق والعواطف ومشاعر التقدير لزوجة بدت في عينيه مثالية جداً، في تحمّلها تبعات تدبر أمور العائلة والأولاد في ظروف غياب الزوج، وهي إلى ذلك امرأة متعلمة، عملت معلمة ثم أصبحت مديرة مدرسة: «أنت فيق التي لا تغيب عن الخاطر، فيق الحبيبة الكاملة، أم البيت المثالية، أرجو ألا تكون سفرتي قد سبّبت لك إزعاجاً كثيراً». وفي رسالة أخرى يصف فائقة ب«الزوجة الصالحة، الحبيبة، الحكيمة، التي تعرف كيف تحبّب إلى رجل بيته وتريه الجنة فيه، وتعلم كيف يقدّر النعم التي تهيأت له، فجنبته المتاعب وأحلّت له السعادة والاطمئنان». وفي مكان آخر يقول: أُجلّ زوجتي وأُحبّها، معتذراً لها؛ لأن «توافه الدنيا» تشغله عن الإعراب عن عواطفه لها.

لم تستطع هذه الزوجة بكل تلك الصفات فيها أن تحول دون قسوة الوطن على الزوج، فبعد الانقلاب العسكري على أول رئيس لجمهورية العراق، عبدالكريم قاسم، في العام 1963، فُصل الطاهر من وظيفته كأستاذ للأدب في جامعة بغداد، ولوحق زملاء آخرون له، فاضطرّ لمغادرة العراق إلى بيروت، التي منها كتب جلّ الرسائل التي حواها الكتاب، رغم أن هناك رسائل سابقة لها وتالية، كتبها من بلدان حضر فيها مؤتمرات وفعاليات، وبلدان أخرى عاش فيها كالسعودية التي أتاها أستاذاً جامعياً في الرياض، بعد أن تعذرت عودته إلى الوطن.الرسائل من بيروت حوت إضافة إلى شحنة الأشواق العالية إلى زوجته وولديه، حينها، الكثير من التفاصيل، حتى يمكن أن نعدّ بعضها بمنزلة يوميات للطاهر في لبنان، كما حوت قضايا عملية تتصل بشؤون الأسرة في بغداد، وتدبير شؤون سفر الزوجة والولدان إليه، بعد أن استقرّ على السفر للرياض للعمل.

صحيحة ملاحظة معدّة الكتاب د. لقاء الساعدي في أن رسائل الكتاب ترينا صورة الطبقة الوسطى العراقية في نموّها، وتأثير القمع السياسي عليها، وتبعثرها بين المنافي والسجون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل