الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة (2 من 8)‏

عبداللطيف هسوف

2006 / 11 / 22
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة (2 من 8)‏

فيفيان فورستير‎( VIVIANE FORRESTER )‎‏ روائية في الأصل، كاتبة وناقدة في صحيفة لوموند ‏الفرنسية وعضوة في لجنة تحكيم جائزة فيمينا ‏‎( Prix Fémina )‎‏. أصدرت عدة كتب أدبية منذ سنة 1970: (فان ‏غوغ أو الدفن في حقول القمح)، (عنف الصمت) ، (هذا المساء، بعد الحرب)، (عين الليل)، (أيادي)...إلخ. لكنها ‏قررت سنة 1996 مساءلة الأفكار الاقتصادية والتوجهات السياسية بكتابها الذي حاز شهرة واسعة : (الرعب ‏الاقتصادي). كتاب حصل في نفس السنة على جائزة ميديسيس ‏‎( Prix Médicis )‎‏ وترجم بعد ذلك إلى 24 لغة.‏‎ ‎في شهر فبراير سنة 2000، يصدر لفوريستر كتاب آخر ينتقد الليبرالية في شكلها المعاصر تحت عنوان : ‏‏(ديكتاتورية غريبة). ‏
تقول فوريستير: إننا نعيش اليوم تحت سيطرة ما يسمى بالعولمة ونرزح تحت ثقل نظام سياسي كوني وأحادي ‏التوجه. هذا النظام يتخفى تحت غطاء الليبرالية المتوحشة التي تتحكم في العولمة وتستغلها لصالح عدد محدود ‏وضد مصالح الفئات الشعبية الواسعة. تنتقد فوريستر في هذا الكتاب الفكرة القائلة بأن الاقتصاد يهيمن على ‏السياسة، و تبين أن هذه السياسة المهيمنة والأحادية التوجه تخرب اليوم الاقتصاد لصالح المضاربة، لصالح الربح ‏الذي أصبح متعارضا مع توفير الشغل، مع كل ما يتعلق بالمجال الاجتماعي (الصحة، التربية والتعليم... الخ)، بل ‏ضد كل ما يرتبط بالحضارة الإنسانية. ترد فيفيان فورستير على الدعاية الغربية التي تروج خطأ بأن البطالة تكاد ‏تنعدم في الولايات المتحدة الأمريكية فتقول : (نعم لقد تقلصت البطالة مقابل ارتفاع عدد الفقراء، حتى وإن كانوا ‏يتوفرون على شغل. إنهم في الحقيقة يمولون بطالتهم وفقرهم). إنها دعوة لمقاومة هذه الديكتاتورية الغريبة التي ‏تقصي عددا كبيرا من الاستفادة من التقدم الذي حققته الإنسانية. نعم يمكن مقاومتها لأنها تحافظ رغم ذلك على ‏تمظهراتها الديمقراطية: إنه في آن واحد الفخ والأمل المنشود.‏
‏------------------------‏
الحلقة الثانية: ‏
‏(العولمة تقتضي...) و(التنافسية تستلزم...): عبارات أصبحت تتردد كأنما هي وحي منزل. لم تعد الأمور ‏تتعلق بحجج مقنعة وإنما هي مرجعية مذهبية أو عقدية تقضي على كل إرادة في المقاومة. ‏
مصطلح (عولمة) ينتمي إلى ذلك القاموس الواسع الاستعمال، والذي يتكون من مصطلحات انحرف معناه ‏وشوهت دلالتها لخدمة دعاية ناجعة تقنع دون أن تلجأ لاستعمال خطاب مسهب. النطق بمثل هذا المصطلح أصبح ‏كافيا للتحكم في العقول والتسليم بالأمور. مصطلحات أخرى من نفس القبيل يمكن أن نذكرها: (السوق الحر) الذي ‏يعني في الحقيقة (تحقيق الربح). (إعادة البناء) الذي يعني (القضاء على مقاولات و تعويضها بأخرى)، أي ‏‏(تسريح العمال). (تحضير برنامج اجتماعي) الذي يعني (تخريب مؤسف للمجتمع) أو أيضا (محاربة العجز ‏العمومي)، أي في الواقع (محاربة الربح العمومي). هذا الربح الذي يعتبره الاقتصاد الحر خسارة يجب تعويضها. ‏إنه يعتبر خسارة كل هذه المصاريف التي تلعب دورا هاما في تمويل المجالات الاجتماعية كالتعليم والصحة، هذه ‏المجالات الضرورية التي يتوقف عليها المستقبل وحياة أية حضارة.‏
إلا أن المصطلح الرائع الذي حققت الدعاية له نجاحا باهرا هو مصطلح (العولمة)، فهو يغطي جميع أفكار ‏هذا العصر تقريبا. لقد استطاع هذا المصطلح أن يحجب، بطريقة مبهمة، هيمنة هذا النظام السياسي الذي يصادر ‏مجموع السلط ويتحكم في كل القوى الكونية: إنها (الليبرالية المتوحشة) أو (الليبرالية الفائقة).‏
وللعلم، ليست (العولمة) هي التي تثقل كاهل السياسة وتجمد حركاتها، بل إنها تستغل لخدمة إيديولوجيا ‏محددة وسياسة مدققة تسمى الليبرالية المتوحشة. هذه الإيديولوجية هي التي تستعبد العولمة و تخضع بإذلال ‏الاقتصاد. يتعلق الأمر بسياسة لا تفصح عن اسمها، لا ترغب في الإقناع، لا تدعو لأي انتماء حقيقي، لاتسعى ‏لامتلاك أي سلطات رسمية، بل إنها تتجنب حتى الكلام عن مبادئها التي لا تهدف لشيء آخر سوى تحقيق أرباح ‏ضخمة لصالح اقتصاد السوق مهما كلف ذلك من ثمن.‏
هذه السياسة المتخفية تكتفي بزرع الفوضى في عالم الأعمال والمرور من اقتصاد السوق إلى شكل آخر ‏للاقتصاد يعتمد على المضاربات. إنها تعطي الشرعية لتفكيك وحدات عمالية وتهريب الرساميل. كما أنها تعمل ‏على تقديس أو تخريب عملات على حساب أخرى، بالإضافة إلى تهريب التدفقات المالية وتشجيع الحركات ‏‏(المافيوزية).‏
استطاعت الليبيرالية المتوحشة، سواء رحبنا أو نددنا بها، أن تتخفى تحت غطاء العولمة وتظهر كما لو ‏أنها واقع محتوم يؤول إليه التاريخ. هل نثور ضدها؟ إن السؤال المطروح لم يعد هو: هل نحن مع أو ضد ‏الليبيرالية الفائقة؟ فقد يسخر منك بعضهم فيقول: من يستطيع أن يرفض التكنولوجيا المتطورة وكل ما يرتبط ‏بالتقدم الذي يعد ميزة هذا العصر؟ نرد بدورنا فنقول: أكيد لا يمكن فصل التكنولوجيات المتطورة عن العولمة، ‏لكن ما دخل الإيديولوجيا (الليبيرالية) التي تلبس لباس العولمة في ذلك؟
لقد سمحت هذه التكنولوجيا بانتصار الليبرالية، إلا أنهما لا تتطابقان. إن الليبرالية هي التي ترتبط بالتكنولوجيا، ‏هي التي تستعملها وتستغلها. وإن حدث وانفصلتا، فلن تشتكي التكنولوجيا من ذلك، بل بالعكس، ستجد نفسها آنذاك ‏مهيأة لاستعمالات جديدة بدل مصادرتها، ستصبح أخيرا التكنولوجيا تستعمل لصالح الفئات الواسعة عوض أن ‏تمثل شؤما ونحسا عليها. الخلاصة إذن هي أن مصطلحي (الليبرالية المتوحشة) و (العولمة) ليسا مترادفين. ‏
عندما نظن أننا نشير إلى العولمة (تعريف هادئ ومحايد لحالة العالم المعاصر)، فإننا في الغالب نتكلم عن ‏الليبرالية (إيديولوجيا نشطة هجومية). هذا الخلط يسمح للآخرين بنعت أي رفض لهذا النظام السياسي (الليبرالي) ‏على أنه رفض للعولمة وما يصاحبها من تقدم تكنولوجي. بل يعطي لمداحي الليبرالية الفرصة للسخرية من ‏منتقديهم ونعتهم بالمتحجرين الرافضين للتاريخ والتقدم.‏
إننا في الواقع نخلط بين عجائب التكنولوجيا الجديدة التي لا يمكن إيقافها اليوم، ونظام سياسي يستغلها ‏ويسخرها لمصلحته. إنه في الأساس دهاء و تحايل يعتمد على قاموس حرفت مصطلحاته. ويبدو الأمر كما لو أن ‏رصيد الحرية الهائل وحركية المجتمع التي عرفتها الإنسانية عن طريق الأبحاث، الاكتشافات والاختراعات ‏العظيمة ألقت بالجميع في أحضان دمار مميت. هكذا، فهم يلصقون اليوم بالتاريخ صفة الخلود، في حين أنه عبارة ‏عن انفلاتات وطوارئ وتحولات. على الدوام كان التاريخ وسيبقى أداة للحركة. هذه الحركة الأبدية هي التي ‏تعرف التاريخ ولا تجعله ثابتا خلال مرحلة من المراحل. لا ننسى أبدا أننا لا نعيش (نهاية التاريخ)، رغم أن ‏الاستراتيجيات المعاصرة تسعى لإقناعنا بعكس ذلك، بل إننا نعيش هيجانا قويا تطبعه طفرة حضارية أسست ‏باستمرار على العمل الذي يتعارض مع اقتصاد المضاربة الذي أخد يسيطر على العالم. هذا التوجه الجديد في ‏الاقتصاد يؤدي إلى البطالة، إلى تكريس الأجور المجمدة أو المخفضة، إلى بدائل الشغل، أو إلى أشباه أجور لا ‏تكفي للعيش. ‏
عوض أن نبني مجتمعا على أسس جديدة، وذلك بتحملنا حزن مجتمع يسير نحو التحول، نجد أننا، مستفدين ‏وضحايا، نتجنب القيام بأي شيء في هذا الاتجاه. إذ ليس هناك أسهل بالنسبة للدعاية (الليبرالية) من مواصلة ‏إقناعنا، كما لو كانت دينا منزها، بأن لا حول لنا ولا قوة وبأننا وقعنا في فخ لا مناص منه، كما لو أن الأمر ‏قضي. من هنا فإن ادعاء الشجاعة، والاتصاف ب(الدونكيشوتية)، أو إبداء أدنى مقاومة لم يعد له أي مبرر. لا ‏نملك إذن سوى أن نجادل دون الوصول إلى نتيجة، إننا سجناء داخل بنيات لا تتبدد وإن كانت تتفكك ويعاد ‏تشكيلها كل يوم. باستمرار يتم إقناعنا بفوات الأوان، كما لو أن جميع الأبواب قد غلقت.‏
إنها دعاية ناجعة. ذلك أننا إن لم نع الاستعباد الذي تخضع له الكرة الأرضية، ستسيطر علينا هذه الدعاية ‏دون التمكن من تحليلها. سنسلم للشعور بالإحباط أمام ما نظن أنه ثقيل، منيع ولا هروب منه. حقا، إننا نعيش اليوم ‏مرحلة انتصار الليبرالية، انتصار يتعزز وإن صاحبته بعض الهزائم التي لم تتمكن لحد الآن من إحداث تصدع ‏كبير في ركائزه. انتصار يتزايد كما لو أن الكوارث التي تحدثها الليبرالية تغدي غطرستها وتؤكد نجاح أهدافها ‏الحقيقية التي سبق أن أبرزناها ونددنا بها.‏
ومع ذلك، فإن هذا الانتصار لن يستمر إلى الأبد. كم من نظام صلب، كان يظن أنه لن يخور، انهار ‏وسقط. لكن الفرق بين هذه الأنظمة والليبرالية المتوحشة هو أن الأولى كانت أنظمة سياسية واضحة يمكن ‏مواجهتها، أما قوة الثانية فتستمدها من كونها تعمل على نطاق عالمي واسع. إنها غير معروفة، متخفية ويصعب ‏إدراكها، لذا فهي أكثر قهرا و جبروتا. ولكي نتحرر منها يجب قبل كل شيء إبراز جوانبها المتخفية وإزالة ‏الغطاء عنها.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و