الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوب أفاكيان : لماذا تنمو الأصوليّة الدينيّة في عالم اليوم ؟ مقتطف من كتاب - لنتخلّص من كافة الآلهة ! تحرير العقل و تغيير العالم راديكاليّا ! -

شادي الشماوي

2023 / 12 / 16
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


بوب أفاكيان : لماذا تنمو الأصوليّة الدينيّة في عالم اليوم ؟ مقتطف من كتاب " لنتخلّص من كافة الآلهة ! تحرير العقل و تغيير العالم راديكاليّا ! "

و من ضمن أكثر المظاهر المميّزة للوضع هي القفزات التى تحدث فى العولمة ، فى إرتباط بتسريع فى سيرورة مراكمة رأس المال فى عالم يهيمن عليه النظام الرأسمالي – الإمبريالي . و قد قاد هذا إلى تغيّرات ذات دلالة و عادة دراماتيكية فى حياة أعداد هائلة من الناس ، غالبا مقوّضا علاقاتهم و عاداتهم التقليدية . و هنا سأركّز على آثار هذا فى ما يسمّى بالعالم الثالث – بلدان أفريقيا و أمريكا اللاتينية و آسيا و الشرق الأوسط – و كيفية مساهمة ذلك فى النموّ الحالي للأصولية الدينية هناك.
عبر ما يسمى بالعالم الثالث يُدفع الناس بالملايين كلّ سنة إلى خارج أراضيهم الزراعية حيث كانوا يعيشون و يحاولون تدبّر حياة فى ظلّ الظروف الإضطهادية جدّا و لكنهم الآن لم يعودوا يقدرون حتى على ذلك : يقع رميهم إلى المناطق المدينية ، فى غالبية الأحيان إلى أحزمة مدن الصفيح ، فى أحياء مدن الصفيح التى تحيط بنواة المدن . ولأوّل مرّة فى التاريخ ، نسجّل الآن أن نصف سكّان العالم يعيشون فى المناطق المدينية ، بما فيها تلك المدن الفقيرة الكبيرة و المتسعة النموّ أبدا .
و قد وقع إجتثاثها من ظروفها التقليدية – و الأشكال التقليدية التى كانت تستغلّها و تضطهدها – يُزجّ بالجماهير الشعبية فى وضع حياتي غاية فى عدم الأمن والإستقرار ، و هي غير قادرة على الإندماج بأي نوع من " الطرق المفصلية " فى المصنع الإقتصادي و الإجتماعي و سير المجتمع . و فى عديد هذه البلدان من ما يسمّى بالعالم الثالث ، يعمل غالبية الناس فى الإقتصاد غير الرسمي – مثلا كباعة متجوّلين او تجّار صغار من شتىّ الأنواع أو فى نشاط سرّي و غير قانوني . و إلى درجة ذات دلالة بسبب هذا ، يتحوّل عديد الناس إلى الأصولية الدينية بهدف الحصول على عماد وسط كلّ هذا التفكّك و الإضطراب .
و عنصر إضافي فى كلّ هذا هو أنّ هذه التغيّرات و التفكّكات الكبرى و السريعة فى ما يسمى بالعالم الثالث تحدث فى إطار هيمنة الإمبرياليين الأجانب و إستغلالهم - و لهذا علاقة بالطبقات الحاكمة " المحلّية " المرتبطة إقتصاديّا و سياسيّا بالإمبريالية و التابعة لها ، و هي معتبَرة على نطاق واسع عبارة عن عملاء فاسدين لقوّة غريبة يشجعون كذلك على " ثقافة غربية منحطّة ". و يمكن لهذا على المدى القصير أن يعزّز من تأثير القوى الأصولية الدينية والقادة الذين يأطّرون معارضة " الفساد" و " الإنحطاط العربي " للطبقات الحاكمة المحلّية و الإمبرياليين الذين يدعمونها بمعنى عودة العلاقات و التقاليد و الأفكار و القيم التى هي ذاتها متجذّرة فى الماضي و تجسّد أشكالا متطرّفة من الإستغلال و الإضطهاد و فرضها بثأر.
و حيث الإسلام هو الدين المهيمن – فى الشرق الأوسط و كذلك فى بلدان أخرى مثل أندونيسيا – يتمظهر هذا فى نموّ الأصولية الإسلامية . و فى عدد كبير من بلدان أمريكا اللاتينية حيث المسيحية و خاصّة فى شكل الكاتوليكية هي الدين المهيمن ، يمتاز نموّ الأصولية بوضع أين تنزع أعداد هامة من الناس لا سيما الفقراء الذين صاروا يشعرون بأنّ الكنيسة الكاتوليكية قد خذلتهم ، ينزعون نحو أشكال متنوّعة من الأصولية البروتستانتية على غرار البنتيكوستالية التى تمزج بين أشكال من التعصّب الديني و خطاب يدّعى التحدّث بإسم الفقراء و المضطهَدين . وفى أجزاء من أفريقيا أيضا ، خاصة ضمن الجماهير المزدحمة فى أحياء مدن الصفيح ، كانت الأصولية المسيحية بما فيها البنتيكوستالية ، ظاهرة نامية فى نفس الوقت الذى كانت فيه الأصولية الإسلامية تنمو فى أماكن أخرى من أفريقيا . (15) لكن ظهور الأصولية يعزى أيضا إلى تغيرات سياسية كبرى و سياسية و أفعال واعيين من قبل الإمبرياليّين على الصعيد السياسي ما كان له تأثير عميق على الوضع فى عديد بلدان ما يسمى بالعالم الثالث و منها الشرق الأوسط . و كبُعد مفتاح فى هذا ، من المهمّ جدّا عدم الإستهانة بتأثير التطوّرات فى الصين منذ وفاة ماو تسي تونغ و التغيّر التام فى ذلك البلد من بلد كان يتقدّم على طريق الإشتراكية إلى
بلد أين جرت فيه بالفعل إعادة تركيز الرأسمالية و تمّ تعويض التوجّه لتشجيع الثورة و دعمها فى الصين و عبر العالم بتوجه البحث عن إيجاد موقع أقوى للصين فى إطار سياسات القوى العالمية التى تهيمن عليها الإمبريالية . و كانت لهذا تبعات عميقة – سلبيّا – على المدى القصير فى تقويض الشعور صلب الكثير من الناس المضطهَدين عبر العالم بأنّ الثورة الإشتراكية وفّرت مخرجا من بؤسهم و فى توفير مزيد من الأرضية للذين كانوا ومنهم خاصة الأصوليين الدينيين ، يبحثون عن توحيد الناس وراء شيء بطرق معيّنة يتعارض مع القوّة الإضطهادية المهيمنة فى العالم لكنّه يمثّل فى حدّ ذاته نظرة للعالم و برنامج رجعيين .
وقد عكست تعاليق " أخصّائي فى الإرهاب " هذه الظاهرة إذ لاحظ بشأن بعض الناس المتهمين فى المدّة الأخيرة بأعمال إرهابية فى أنجلترا أنّه قبل جيل كان هؤلاء الناس سيصبحون ماويين . الآن ، رغم أنّ أهداف و إستراتيجيا و تكتيكات الماويين الحقيقيين – الناس الذين تقودهم الإيديولوجيا الشيوعية – مختلفة جذريّا عن أهداف و إستراتيجيا و تكتيكات الأصوليين الدينيين ؛ و أنّ الشيوعيين ينبذون مبدئيّا الإرهاب كطريقة و مقاربة ، هناك شيء صحيح و هام فى تعليقات هذا " الأخصّائي فى الإرهاب " : قبل جيل الكثير من ذات الشباب و غيرهم الذين ينجذبون الآن إلى الأصوليات الإسلامية و الدينية الأخرى ، كانت ستنجذب نحو القطب المغاير جذريّا والثوري ، قطب الشيوعية . وتعزّزت هذه الظاهرة أكثر بإنهيار الإتحاد السوفياتي و " الكتلة الإشتراكية " التى يترأسها . فى الواقع ، قد كفّ الإتحاد السوفياتي عن أن يكون إشتراكيّا منذ زمن إفتكاك التحريفيين ( الشيوعيين قولا و الرأسماليين فعلا ) فى الخمسينات مقاليد السلطة و شروعهم فى تسيير البلاد وفق القوانين الرأسمالية ( لكن فى شكل دولة رأسمالية و بمواصلة التقنّع بقناع " إشتراكي ". ) لكن مع تسعينات القرن العشرين ، طفق قادة الإتحاد السوفياتي فى إستبعاد الإشتراكية بصورة سافرة ، و ثمّ جرى القضاء على الإتحاد السوفياتي ذاته و روسيا والبلدان الأخرى التى كانت جزءا من" الكتلة " السوفياتية تخلّت عن أي إدّعاء بأنّها " إشتراكية ".
و أدّى كلّ هذا – و فى صلة بهذا ، هجوم إيديولوجي لا هوادة فيه من قبل الإمبرياليّين و أتباعهم فى المجال الفكري – إلى مفهوم منتشر و تقام له دعاية كبرى هو هزيمة الشيوعية و موتها و فى الوقت الحالي ، أدّى إلى خلخلة الثقة فى الشيوعية فى صفوف قطاعات عريضة من الناس بما في ذلك فى صفوف الذين يبحثون بإستمرار عن طريق لقتال الهيمنة والإضطهاد و الإنحطاط الإمبرياليّين . (16).
لكن ليست الشيوعية وحدها هي التى عمل الإمبرياليّون على إلحاق الهزيمة بها و النيل من سمعتها . فقد إستهدفوا أيضا قوى و حكومات علمانية أخرى كانت إلى درجة أو أخرى قد عارضت أو مثلت موضوعيّا عوائقا أمام مصالح الإمبرياليّين و أهدافهم ، لا سيما فى أجزاء من العالم كانوا يعدّونها ذات أهمّية إستراتيجية . مثلا ، بالعودة إلى خمسينات القرن العشرين، نظّمت الولايات المتحدة للإطاحة بحكومة محمّد مصدّق الوطنية فى إيران إنقلابا لأنّ سياسات تلك الحكومة كانت تعتبر تهديدا لتحكّم الولايات المتحدة ( وثانويّا بريطانيا ) فى نفط إيران و هيمنة الولايات المتحدة على المنطقة بصورة أشمل . وكانت لهذا تداعيات ونتائج لعقود مذّاك. و ضمن أشياء أخرى ، قد ساهم فى نموّ الأصولية الإسلامية و فى الأخير فى تركيز جمهورية إيران الإسلامية ، عندما إستولي الأصوليون الإسلاميون على السلطة فى إطار نهوض جماهيري لشعب إيران أواخر سبعينات القرن العشرين ما أدّى إلى الإطاحة بالحكومة القمعية للغاية لشاه إيران الذى ساندته و بالفعل حافظت عليه فى السلطة الولايات المتحدة منذ طرد مصدّق . (17 )
وفى أجزاء أخرى من الشرق الأوسط و غيره من الأماكن ، لعدّة عقود ، نشط الإمبرياليون كذلك عن وعي لإلحاق الهزيمة حتى بالمعارضة العلمانية الوطنية وتفتيتها ؛ و بالفعل قد غذّوا أحيانا عن وعي نموّ القوى الأصولية الدينية . و فلسطين مثال ساطع عن هذا : عمليّا القوى الأصوليّة الإسلامية هناك ساعدتها إسرائيل – و الإمبرياليّون الأمريكان أسياد إسرائيل التى تمثّل قاعدتهم العسكرية المسلّحة – لأجل تقويض منظّمة تحرير فلسطين الأكثر علمانية . و فى أفغانستان ، لا سيما خلال الإحتلال السوفياتي لذلك البلد ، فى ثمانينات القرن العشرين ، دعّمت الولايات المتحدة الأصوليين الإسلاميين المجاهدين و زوّدتهم بالأسلحة ، لأنّها رأت أنّهم سيكونون مقاتلين متزمّتين ضد السوفيات . وقوى أخرى منها ليس فقط قوى وطنية أكثر علمانية بل ماوية عارضت الإحتلال السوفياتي والحكومات العميلة التى ركّزها فى أفغانستان ، لكن بالطبع لم يكن الماويّون بصورة خاصة مدعومين من قبل الولايات المتحدة و بالفعل الكثير منهم قتلهم الأصوليون الإسلاميون " الجهاديون " الذين كانت الولايات المتحدة تساعدهم و تسلحهم.
و فى مصر ، بالعودة إلى خمسينات القرن العشرين ، وُجدت ظاهرة القائد الوطني الشعبي جمال عبد الناصر و" الناصرية" كشكل من القومية العربية التى لم تكن منحصرة فى مصر بل كان تأثيرها واسع الإنتشار بعد وصول ناصر إلى الحكم . فى 1956 ، تطوّرت أزمة حينما تحرّك ناصر ليأكّد مزيدا من التحكّم فى قنال السويس ؛ و إسرائيل إلى جانب فرنسا و أنجلترا- اللتان لم تستسلما بعد ُلخسارة إمبراطوريتهما – عارضتا ناصر معا . و الآن كمثال على تعقّد الأمور ، فى " أزمة السويس" تلك ، وقفت الولايات المتحدة ضد إسرائيل و فرنسا و بريطانيا . و لم يكن دافع الولايات المتحدة دعم القومية العربية أو ناصر بصفة خاصة بل كان ما يدفعها هو أن تحلّ أكثر محلّ الإمبرياليّين الأوروبيين الذين قد إستعمروا فى السابق هذه الأجزاء من العالم . و نلقى نظرة مقتضبة على خلفية هذا فنقول إنّ غداة الحرب العالمية الأولى ، مع هزيمة الإمبراطورية العثمانية القديمة و مركزها فى تركيا ، تقاسمت فرنسا و أنجلترا بالأساس الشرق الأوسط بينهما – ألحق بعضه بمجال التأثير الفرنسي كمستعمرات فرنسية ، و وُضعت أجزاء أخرى تحت سيطرة بريطانيا . بيد أنّه عقب الحرب العالمية لثانية – التى هُزمت خلالها كلّ من اليابان و ألمانيا و إيطاليا هزيمة صريحة وغدت فرنسا و بريطانيا أضعف بينما صارت الولايات المتحدة أقوى بكثير- تحرّكت الولايات المتحدة لتوجد نظاما عالميّا جديدا و كجزء من ذلك ، لتفرض فى ما يسمى بالعالم الثالث ، عوض الإستعمار من الطراز القديم ، شكلا جديدا من الإستعمار ( الإستعمار الجديد ) عبره تحافظ الولايات المتحدة على تحكّم فعلي فى البلدان وفى هياكلها السياسية و حياتها الإقتصادية ، حتى حيث غدت هذه البلدان شكليّا مستقلّة. و كجزء من هذا ، صُنعت إسرائيل لتجد مكانها فى علاقة بما تحقّق بصورة أتمّ وتأكّد بعدوانية أي الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط .
لكن بسبب موقفه من ما بات معروفا ب" أزمة السويس " ونتيجة تحركات وطنية أخرى ، أضحى لناصر و " الناصرية " أتباع كثر فى البلدان العربية خاصة . و فى هذا الوضع ، عملت الولايات المتحدة ، وإن لم تكن تبحث بشكل واضح عن الإطاحة بناصر ، على تقويض الناصرية و عامة القوى الأكثر علمانية – بما فيها طبعا القوى الشيوعية – التى كانت تعارض الإمبريالية الأمريكية و تقف فى وجهها . و ساهمت هزيمة 1967 التى ألحقتها إسرائيل بمصر [ و بلدان عربية أخرى ] بشكل كبير فى إنهيار صورة ناصر و " الناصرية " و تأثيرهما – و حدث الشيء ذاته تقريبا مع تيارات وقادة علمانيين – ضمن الناس فى الشرق الأوسط . و زمن وفاته فى 1970 ، قد شرع ناصر بعدُ فى خسارة قسم هام من بريقه بعيون الجماهير العربية .
هنا مجدّدا يمكن أن نرى بُعدا آخر فى تعقّد الأشياء . و كان للهزائم العملية لناصر و فشله إنعكاس تقويض شرعية أو حيوية ما كان ناصر يمثله إيديولوجيّا فى عيون أعداد متنامية من الناس . لا تجسّد " الناصرية " و تيارات إيديولوجية و سياسية مشابهة ولا يمكن أن تقود إلى قطيعة تامة مع الهيمنة الإمبريالية و كافة أشكال إضطهاد الشعوب و إستغلالها . غير أنّ هذا شيء يجب أن يكون ،وهو بالفعل، مرتكزا على تحليل علمي لما تمثّله مثل هذه الإيديولوجيا و البرامج و ما تهدف إلى تحقيقها . و ما هي عمليّا قادرة على بلوغه لا يدلّ عليه أنّه فى بعض الأمثلة المعيّنة أو حتى طوال فترة محدّدة من الزمن ، القادة الذين يجسّدون مثل هذه الإيديولوجيا و البرامج و يبحثون عن تكريسها يعانون تراجعات وهزائما. فى الطرق التى ردّت بها جماهير الشعب فى البلدان العربية ( وعلى نطاق أوسع ) على مثل هذه التراجعات و الهزائم ، من قبل ناصر و الذين يمثّلون تقريبا ذات الإيديولوجيا والبرنامج ، هناك عنصر معيّن من البراغماتية – مفهوم أنّه حتى على المدى القصير، ما يتغلّب صحيح و جيّد و ما يعاني من الهزائم مخلخل و مفلس . وبطبيعة الحال ، تعزّزت نزعة عفوية تجاه البراغماتية فى صفوف الجماهير الشعبية بفعل الأحكام التى أصدرها الإمبرياليّون والرجعيون الآخرون – ليس فقط طبعا فى علاقة بالقوى العلمانية مثل ناصر لكن حتى أكثر من ذلك ، فى علاقة بالشيوعيين و الشيوعية اللذان يمثّلان معارضة أكثر جوهرية بكثير للإمبريالية والرجعية .
فى كلّ هذا من المهمّ أن نتذكّر أنّه طوال عدّة عقود ، و على الأقلّ إلى فترة حديثة ، عملت الولايات المتحدة و إسرائيل على تقويض القوى العلمانية صلب معارضيهم فى الشرق الأوسط ( وغيره من الأماكن ) وعلى الأقلّ قد آثرتا موضوعيّا أين لم تحتضنا عن قصد نموّ القوى الأصولية الإسلامية . و خلال " الحرب الباردة " كان هذا ، إلى درجة هامة نتيجة حسابات أنّ هؤلاء الأصوليين الإسلاميين سيكونون على الأرجح أقلّ نزوعا بكثير للإصطفاف مع الكتلة السوفياتية . و إلى درجة ضئيلة ، تشجيع الأصوليّين الدينيّين على حساب القوى الأكثر علمانية دفع إليه الإقرار بالجوهر الكامن المحافظ و بالفعل الرجعي للأصولية الدينية و أنّه بقدر هام يمكن أن يعملوا كوقود مفيد للإمبرياليّين ( و إسرائيل ) فى تقديم نفسيهما على أنّهما قوى تقدّم مستنيرة و ديمقراطية .
و من مهازل القدر أنّ هذه التجربة برمّتها هو أنّ ناصر و رؤساء دولة آخرين عرب قوميين بخبث و إجرام قد قمعوا ليس المعارضة الأصولية الإسلامية ( مثل الإخوان المسلمين فى مصر ) فحسب و إنّما أيضا الشيوعيين . لكن مع ما جدّ على النطاق العالمي ، فى العقود الأخيرة – بما فى ذلك ما جدّ فى الصين و الإتحاد السوفياتي ( كما ناقشنا أعلاه ) و الحكم الواسع الإنتشار بأنّ هذا يعدّ " هزيمة " للشيوعية ؛ و إفتكاك السلطة فى إيران من طرف الأصوليين الإسلاميين مع سقوط شاه إيران فى أواخر سبعينات القرن العشرين ؛ و مقاومة الإحتلال السوفياتي فى أفغانستان ، التى فرضت فى أواخر ثمانينات القرن العشرين إنسحاب السوفيات وساهمت بدرجة كبيرة فى إنهيار الإتحاد السوفياتي ذاته ؛ وتراجعات و هزائم حكّام علمانيين بدرجات مختلفة مثل ناصر ( و فى المدّة الأخيرة شخص مثل صدّام حسين ) فى الشرق الأوسط و أماكن أخرى – على المدى القصير كان الأصوليون الإسلاميون أكثر من الثوريين و الشيوعيين ؛ هم الذين إستطاعوا أن يتجمّعوا من جديد ويشهدوا نموّا هاما فى التأثير وتنظيم القوّة .
و مثال آخر لكلّ هذا المسار، من خمسينات القرن العشرين إلى الوقت الراهن – ما يجسّد بمعاني جدّ تامة و بالغة ، النقاط التى أثرنا أعلاه – هو أندونيسيا . خلال خمسينات القرن العشرين و ستيناته ، كان لأندونيسيا ثالث أكبر حزب شيوعي فى العالم ( فقط فى الإتحاد السوفياتي و الصين كان الحزبان الشيوعيان أكبر منه ) . و كان للحزب الشيوعي الأندونيسي عدد كبير من الأتباع فى صفوف الفقراء فى المناطق المدينيّة ( و كانت الأحياء القصديريّة ، فى مدينة جاكرتا و غيرها ، بعدُ أسطوريّة ، بالمعنى السلبي ) و كذلك فى صفوف الفلاحين فى الريف و قطاعات من المثقفين و حتى بعض الشرائح الأكثر برجوازية وطنية . و لسوء الحظّ ، كان للحزب الشيوعي الأندونيسي أيضا خطّ إنتقائي جدّا – حقيبة مختلطة من الشيوعية و التحريفية للبحث عن تغيير ثوري لكن كذلك لمحاولة النشاط عبر الطرق البرلمانية صلب الهياكل الحكومية القائمة .
و كان يقود الحكومة آنذاك قائد وطني هو أشمد سوكرنو . و قد وفّرت لي زيارة قمت بها إلى الصين فى سبعينات القرن العشرين عمق نظر هام فى هذا فخلالها تحدّث معى أعضاء من الحزب الشيوعي الصيني عن تجربة الحزب الشيوعي الأندونيسي و رووا لي بصفة خاصة : عادة ما كنّا نتصارع مع الرفيق آيديت ( قائد الحزب الشيوعي الأندونيسي أثناء فترة حكم سوكرنو ) ، و حذّرناه من ما يمكن ان يحدث نتيجة محاولته أن يضع ساقا فى الشيوعية و الثورة و ساقا أخرى فى الإصلاحية و التحريفية . بيد أنّ الحزب الشيوعي الأندونيسي إستمرّ على ذات الطريق بمقاربته الإنتقائية ؛ و فى 1965 ، نظّمت الولايات المتحدة و نفّذت من خلال السي آي آي منسقة مع الجيش الأندونيسي والجنرال القائد ، سوهرتو، إنقلابا دمويّا جرى أثناءه إرتكاب مجزرة فى حقّ آلاف الشيوعيين الأندونيسيّين و آخرين ، و جرى تفتيت تام للحزب الشيوعي الأندونيسي و فى نفس الوقت وقعت الإطاحة بسوكرنو رئيس الحكومة و أخذ مكانه سوهرتو .
فى أثناء هذا الإنقلاب ، غدت الأنهار حول جاكرتا طافحة بجثث الضحايا : كان الرجعيون يقتلون الناس المدّعى أنّهم شيوعيون أو الشيوعيين فعلا و يرمون بجثثهم بأعداد كبيرة فى الأنهار . و فى ظاهرة معلومة جدّا ، عندما إنطلق الإنقلاب – الذى قادته السي آي آي و نظمته و نفّذته – و طفق كلّ الذين كانت لهم خصومات و عداءات قديمة شخصية أو أسرية يتهمون الآخرين بكونهم شيوعيين و يسلّمونهم إلى السلطات و النتيجة كانت أنّ الكثير من الذين لم يكونوا حتّى شيوعيين وقع التنكيل بهم ، إلى جانب عدد لا يحصى من الشيوعيين . و لمّا أطلق الإمبرياليون و الرجعيون العنان لهذه المجزرة الدامية شجّع ذلك و دفع أناسا كثر فى نوع من الإنتقام بسفك الدماء . و السي آي آي تتفاخر بصراحة كيف أنّها نظّمت و خطّطت لهذا الإنقلاب و كذلك قد إستهدفت بصورة خاصّة آلافا من الشيوعيين القياديين و تخلّصت منهم مباشرة فى خضمّ هذه المجزرة الأوسع لمئات الآلاف .
و المشكل الجوهري مع إستراتيجيا الحزب الشيوعي الأندونيسي أنّ طبيعة الدولة – و خاصّة طبيعة الجيش – لم تتغيّر : و كان البرلمان إلى درجة كبيرة متكوّن من قوميين وشيوعيين لكن الدولة ظلّت بأيدي الطبقات الرجعية ، و نظرا لأنّ قبضتهم على الدولة لم تكسر أبدا و لأنّ جهاز الدولة الذى إحتفظوا فيه بالسيطرة لم يحطّم أبدا و لم يفكّك ، إستطاع سوهرتو و القوى الرجعية الأخرى العمل معا و تحت قيادة السي آي آي لكي ينفذوا بنجاح هذا الإنقلاب الدموي بتبعاته الفظيعة .
بهذا الشأن ، قصة قصيرة أخرى رواها لى أعضاء الحزب الشيوعي الصيني معبّرة و لاذعة جدّا . لقد رووا لي كيف أنّ سوكرنو كان إعتاد حمل صولجان و سأله الرسميون الصينيون الذين إلتقوا به " ما هذا الصولجان الذى تحمله معك ؟ " فأجاب سوكرنو : " هذا الصولجان يمثّل سلطة الدولة " . حسنا و الرفاق الصينيون يروون هذه القصّة لخّصوا بعد الإنقلاب ما حدث فقالوا : " لا يزال سوكرنو يحمل الصولجان ، لقد تركوه يحتفظ به ، لكنّه لم يكن يملك أية سلطة دولة ".
لقد سُحق الحزب الشيوعي الأندونيسي سحقا تاما مثلما يسحق جسد – أعضاؤه قُضي عليهم و لم يبقى منهم سوى قلّة هنا وهناك – تعرّض إلى ضربة مدمّرة لم يتعافى منها قط . و التفتيت لم يتمّ فقط بالمعنى التام و الملموس بل أيضا تمّ التعبير عنه فى هزيمة إيديولوجية و سياسية و إضطراب و يأس . و طوال عقود مذّاك ، ماذا حصل فى أندونيسيا ؟ أحد أكثر التطوّرات اللافتة للنظر هو النموّ الهائل للأصولية الإسلامية فى أندونيسيا . لقد وقع مسح البديل الشيوعي . و عوضا عنه – و فى جزء منه عن وعي ، شجّع الإمبرياليون و القوى الرجعية الأخرى ، لكن فى جزء آخر منه نمى زخمه الخاص فى إطار حيث جرى تحطيم معارضة علمانية قوية و شيوعية على الأقلّ قولا – ملأت الأصولية الدينية الفراغ الذى خلّفه غياب بديل حقيقي للحكم الشديد القمع لسوهرتو و المخلصين له ، الذى أوصلته الولايات المتحدة للسلطة و حافظت عليه فيها لعقود . (18)
و كلّ هذا ، ما شهدته أندونيسيا و أيضا مصر و فلسطين و أجزاء أخرى من الشرق الأوسط – بُعدُ سياسي إمتزج بعوامل إقتصادية و إجتماعية مرّت بنا الإشارة إليها – إضطراب و سرعة التقلّب و سرعة التغيّر المفروض من الأعلى و على ما يبدو المتأتّى من مصادر و قوى غير معروفة و / أو غريبة و أجنبية – لتقوّض و تضعف القوى العلمانية و منها الثورية و الشيوعية حقّا و تقوية الأصولية الإسلامية ( بطريقة تشبه كيفية كسب الأصولية المسيحية قوّة فى أمريكا اللاتينية و أجزاء أخرى من أفريقيا ).
بداهة هذه ظاهرة ذات دلالة هائلة . إنّها جزء هام من الواقع الموضوعي الذى ينبغى على الناس عبر العالم الذين يبحثون عن إحداث تغيير فى إتّجاه تقدّمي – و حتى أكثر الذين يجتهدون لبلوغ تغيير راديكالي حقيقي تقودهم فى ذلك نظرة ثورية و شيوعية - أن يواجهوه و يغيّروه . و من أجل القيام بذلك ، من الضروري ، قبل كلّ شيء ، أن نعالج ونفهم بجدّية هذا الواقع ، عوض البقاء على جهل به بشكل خطير ، أو تبنّى توجّه تجاهله بحمق . و من الضروري و بالفعل الحيوي ، النبش عميقا تحت ظاهر هذه الظاهرة و تمظهراتها المتنوّعة بغاية أن نفهم بصفة أعمق الديناميكية و الدوافع الكامنة وراء كلّ هذا – ما هي التناقضات الجوهرية و الأساسية ، على النطاق العالمي و فى بلدان و جهات معينة من العالم – و أنّ هذه الأصولية الدينية هي تعبير عن كيف يمكن ، على أساس ذلك الفهم الأعمق للديناميكية ، تطوير حركة لجلب جماهير الشعب بعيدا عنها ، نحو شيء يمكن فعلا أن يولّد عالما مختلفا جذريّا و أفضل بكثير .

نبذ " الغرور المتعجرف للتنويريّين "

هناك نزعة محدّدة وسط هؤلاء " التنويريين " وجب أن نقول – و منهم بعض الشيوعيين – نحو السقوط فى ما يعود إلى موقف غرور متعجرف تجاه الأصولية الدينية و الدين بصورة عامة . و لأنّه يبدو عبثيّا جدّا و عسيرا على الفهم ، فإنّ الذين يعيشون فى القرن الواحد و العشرين يمكنهم فعلا أن يتشبّثوا بالدين و بالفعل ينخرطون فى طريقة متزمّتة و مطلقة و أفكار دغمائية و مفاهيم بوضوح لا أساس لها فى الواقع ؛ إنهم يستبعدون بيسر هذه الظاهرة برمّتها و يخفقون فى الإعتراف أو المقاربة الصحيحة لكون هذا أمر تأخذه الجماهير فعلا مأخذ الجدّ إلى درجة كبيرة . و هذا يشمل أكثر من بضعة أناس من القطاعات الأدنى و الأعمق من البروليتاريا و المضطهَدين الآخرين الذين نحتاج أن يكونوا القاعدة و الأساس الحقيقيين – و القوّة المحرّكة فى الثورة التى تقود عمليّا إلى التحرّر .
و الإخفاق فى أن يأخذ مأخذ الجدّ إعتقاد العديد من الجماهير فى الدين ، بما فى ذلك فى الأصولية الدينية من هذا النوع أو ذاك شكل من الإزدراء ، بالضبط كالتذيّل لكون الكثير يعتقدون فى هذه الأشياء و يرفضون النضال ضدّها للتخلّص منها، الذى هو كذلك فى الواقع تعبير عن إزدراء لها . إنّ قبضة الدين على جماهير الشعب حتى ضمن الأكثر إضطهادا عائق ضخم أمامها و حاجز كبير يحول دون تعبئتها فى سبيل القتال من أجل تحرّرها الخاص و من أجل أن تكون محرّرة لكافة الإنسانية – و يجب مقاربتها [ قبضة الدين ] والنضال ضدّها بفهم أنّه كلّما كان ممكنا و حيويّا فى القتال ضد اللامساواة و الإضطهاد ، يتعيّن إيجاد أوسع وحدة ممكنة مع الناس ذوى المعتقدات الدينية .

نموّ الدين و الأصوليّة الدينيّة : تعبير خاص عن التناقض الأساسي [ للرأسماليّة – الإمبرياليّة ]

و تعبير آخر غير مألوف و خاص عن التناقضات فى عالم اليوم هو أنّه من جهة ، هناك كلّ هذه التقنية العالية التطوّر و التقنية الحديثة فى مجالات مثل الطبّ و أصعدة أخرى ، و منها تقنية الإعلامية ( و حتى آخذين بعين الإعتبار أنّ قطاعات عريضة من السكّان فى عديد أركان العالم ، و أعداد هامة حتى فى البلدان " المتقدّمة تقنيّا " لا تزال غير متوفّرة لها هذه التقنية المتقدّمة ، لأعداد نامية من الناس عمليّا إمكانية الربط بالأنترنت و بالكميات الكبيرة من المعلومات المتوفّرة عبر الأنترنت ، و بطرق أخرى ) و مع ذلك ، فى نفس الوقت ، هناك نموّ هائل لما نسمّيه كما هو : جهل منظّم ، فى شكل الدين و الأصولية الدينية على وجه الخصوص . و يبدو هذا ليس فقط بارزا بل تناقضا غريبا : كمية ضخمة من التقنية و المعرفة من ناحية و من الناحية الأخرى كمية ضخمة من الجهل المستشري و الإعتقاد فى التطيّر الظلامي والعودة إليه.
حسنا ، إلى جانب تحليل هذا بمعنى العوامل الإقتصاديّة و الإجتماعيّة و السياسيّة التى أسفرت عن ذلك ( و التى تحدّثنا عنها أعلاه ) ، طريقة أخرى ، و حتى أكثر جوهرية ، لفهم هذا هي أنّه تعبير فى منتهى الحدّة فى عالم اليوم عن التناقض الأساسي للرأسمالية : التناقض بين الإنتاج الجماعي بدرجة عالية و الإمتلاك الفردي ( الرأسمالي ) لما يتمّ إنتاجه .
من أين تأتي كلّ هذه التقنية ؟ على أي أساس وقع إنتاجها ؟ والحديث بصورة خاصة عن إشاعة الإعلام ، و أساس حصول الناس على المعرفة – على ماذا يقوم ذلك ؟ جميع التقنية الموجودة – و بالمناسبة ، الثروة التى خلقت – وقع إنتاجها بفضل أشكال جماعية من قبل ملايين و ملايين الناس من خلال شبكة عالمية للإنتاج والتبادل ؛ لكن كان هذا يجري فى ظلّ تحكّم حفنة نسبية من الرأسماليين الذين يتملكون الثروة المنتجة – و يتملكون المعرفة المنتجة أيضا – و يطوعونهما لأهدافهم .
و عن ماذا يعبّر هذا ؟ إنّه من ناحية دحض ل " نظرية القوى المنتجة " التى تحاجج بأنّه بقدر ما تملك من التقنية ، بقدر ما سيوجد تنوير ، تقريبا فى علاقة مباشرة بالتقنية – و التى فى تعبيرها " الماركسي " تجاجج بأنّه بقدر ما يكون التطوّر التقني أكبر ، بقدر ما تكون الأمور أقرب إلى الإشتراكية أو إلى الشيوعية . حسنا ، لننظر إلى العالم حولنا . لماذا ليس الأمر كذلك؟ مردّ ذلك عامل جوهري : كلّ هذه التقنية ، كلّ هذه القوى المنتجة " تمرّ عبر " و يجب أن " تمرّ عبر " نوع معيّن من علاقات الإنتاج - يمكن تطويرها و إستعمالها فقط بدمجها فى ما هو سائد عموما من علاقات إنتاج فى زمن معطى .
و بالمقابل ، هناك بعض الطبقات و العلاقات الإجتماعية التى هي تعبير عن ( أو هي على كلّ حال فى إنسجام عام مع ) علاقات الإنتاج السائدة ؛ و هناك بنية فوقية من السياسة و الإيديولوجيا و الثقافة و طبيعتها الأساسية تعكس و تعزّز كافة هذه العلاقات . لذا ليست مسألة قوى منتجة - بما فيها التقنية و المعرفة - ببساطة موجودة فى فراغ إجتماعي و يقع توزيعها و إستعمالها بطريقة منفصلة عن علاقات الإنتاج التى عبرها تُطوّر و تُستعمل ( و الطبقة و العلاقات الإجتماعية و البنية الفوقية المناسبتين ) . و يجري هذا وليس بوسعه إلاّ أن يجري عبر واحدة أو أخرى من جملة من علاقات الإنتاج و العلاقات الإجتماعية و العلاقات الطبقية ، فى تناسب مع العادات و الثقافات و طرق التفكير و المؤسسات السياسية و ما إلى ذلك .
فى عالم اليوم ، الذى يهيمن عليه النظام الرأسمالي – الإمبريالي ، هذه التقنية و المعرفة " تمرّ عبر " العلاقات الرأسمالية و الإمبريالية و البنية الفوقية القائمة ، و من التمظهرات الأساسية لهذه الفروقات الشاسعة بين ما تتملّكه حفنة صغيرة جدّا – و الكمّية الأقلّ التى توزّع على شريحة أوسع فى بعض البلدان الإمبريالية لأجل إستقرار هذه البلدان و تليين و مسالمة أقسام من السكّان الذين ليسوا جزءا من الطبقة الحاكمة هناك – بينما فى صفوف الغالبية العظمى من الإنسانية هناك فقر و عذاب و جهل لا يصدّقون . و إلى جانب هذه الفروقات العميقة ، نشهد هذا التناقض الخاص بين القدر الكبير من التقنية و القدر الكبير من المعرفة من جهة ، و من جهة ثانية ، إنتشار هذه المعتقدات و العودة إلى التطيّر الظلامي ، لا سيما فى شكل الأصولية الدينية – كلّ هذا هو بالفعل تعبير عن التناقض الأساسي للرأسمالية .
هذه نقطة فى منتهي الأهمّية فهمها . و دون هذا الفهم ، إن كان المرء سينطلق من مقاربة و منهج أكثر خطّية ، سيكون من اليسير السقوط فى قول : " لا أفهم الأمر ، هناك كلّ هذه التقنية ، كلّ هذه المعرفة ، لماذا هناك عدد كبير جدّا من الناس على هذه الدرجة من الجهل و إلى هذه الدرجة من الإنغماس فى التطيّر ؟ " مرّة أخرى ، الإجابة هي – وهي إجابة تلمس العلاقات الأكثر جوهرية فى العالم – أنّ السبب فى ذلك هو علاقات الإنتاج و العلاقات الإجتماعية و الطبقية و المؤسسات السياسية و الهياكل و السيرورات و بقية البنية الفوقية السائدين – الثقافة و طرق التفكير و العادات و التقاليد و ما إلى ذلك السائدين ، التى تتناسب مع و تعزّز مراكمة النظام الرأسمالي ، كما يجد هذا تعبيره فى عصر حيث الرأسمالية تطوّرت إلى نظام عالمي للإستغلال و الإضطهاد .
هذا أفق هام آخر إنطلاقا منه نفهم ظاهرة الأصولية الدينية . و بقدر ما تنمو هذه الفروقات ، بقدر ما هناك أرضية تفرز الأصولية الدينية و النزعات المرتبطة بها . و فى نفس الوقت ، و فى تناقض حاد مع هذا ، هناك كذلك أساس كامن أقوى للتغيير الثوري . فكلّ الفروقات العميقة فى العالم – ليس بمعنى ظروف الحياة بل أيضا فى علاقة بتوفّر المعرفة – يمكن تجاوزها فقط عبر الثورة الشيوعية و هدفها هو إنتزاع السيطرة على المجتمع من أيدى الإمبرياليّين و المستغِلين الآخرين و التقدّم عبر المبادرة الواعية المتصاعدة للأعداد النامية من الناس لتحقيق ( حسب صيغة لماركس ) إلغاء كلّ الإختلافات الطبقية ، كلّ علاقات الإنتاج التى تقوم عليها هذه الإختلافات الطبقية و كلّ علاقات الإنتاج التى تتناسب مع علاقات الإنتاج هذه ، و تثوير كلّ الأفكار التى تتناسب مع هذه العلاقات الإجتماعيّة بهدف إيجاد فى النهاية و جوهريّا على النطاق العالمي مجتمع من البشر المتجمعين بحرّية و الذين يتعاونون بوعي و عن طواعية من أجل المصلحة العامة فى حين يعطون مدى متنامي لمبادرة و إبداع أعضاء المجتمع ككلّ .

الهوامش :
15- لعديد الأسباب ذاتها التى لمسنا هنا ، فإنّ الأصولية الدينية قد تعزّزت أيضا فى العقود الحديثة ضمن قطاعات من الفقراء والمضطهَدين و المهمّشين داخل الولايات المتحدة . و هذا يشمل وجود لإستراتيجيا واعية من قبل الشرائح القوية من الطبقة الحاكمة فى الولايات المتحدة ، تهدف إلى التشجيع على الأصولية الدينية فى صفوف الجماهير الشعبية التى تصرخ ظروف حياتها بالتغيير الجذري وإيقاعها فى شرك الإديولوجيا الرجعية والبرنامج السياسي اللذان تمثّل هذه الأصولية الدينية التعبير المركّز عنهما .
نموّ الأصولية فى صفوف أعداد هامة من الناس ضمن شريحة واسعة من " الطبقة الوسطى " فى الولايات المتحدة يُعزى إلى درجة كبيرة لعوامل أخرى بما فيها : شعور حاد بالتوتّر بفعل إقتصاد و ثقافة يشجّعان على و يوفّران على ما يبدو إستهلاكا لا يتوقّف على أساس ديون كبيرة : شعور بسرعة التقلّب و عدم أمان فى الإقتصاد و فى المجتمع ككلّ ؛ شعور فقدان السيطرة حتى على الأطفال فى وجه التغيرات التقنية ( الكابل و التلفاز بالأقمار الصناعية و الأنترنت إلخ ) ؛ شعور بفقدان " مكانة " و الجماعة فى مجتمع و ثقافة ينتجان تذرّرا و يشجعان أقصى الأنانية . لكن ما هو فى غاية الأهمّية للفهم، خاصة صلب " الطبقة الوسطى " فى الولايات المتحدة ، هو أنّ هذه الظاهرة من نموّ الأصولية هي كذلك نتاج لطفيلية الإمبريالية – لكون الإمبريالية الأمريكية بوجه خاص القوّة المهيمنة على العالم التى تعيش من و لا تستطيع إلاّ أن تعيش من منتهى إستغلال جماهير الشعب عبر ما يسمّى بالعالم الثالث ، و أنّ الناس فى الولايات المتحدة ، لا سيما ضمن " الطبقة الوسطى " موجودين فى " أعلى السلّم الغذائي " بين شعوب العالم . و من المهمّ ملاحظة أنّ ما تعنيه الأصولية الدينية التى تجد منخرطين خاصة فى الضواحي و الروابض بأمريكا ، شعور متجذّر عميقا فى دور أمريكا ك " أمّة الله المختارة " مترافقة بتأكيد عدواني للشوفينية الأمريكية و كذلك للعلاقات و القيم التقليدية التى تجسّد تفوّق البيض والتفوّق الذكوري.
و سنعود إلى ظاهرة الأصولية و خاصة الأصولية المسيحية الفاشية فى الولايات المتحدة فى قسم لاحق من الكتاب .
16- علاوة عن ما تضمّنته الكثير من كتاباتي و خطاباتي التى تعالج هذا الموضوع ، فإنّ تحليلا لمظاهر هامة من التجربة الفعلية للإشتراكية فى الإتحاد السوفياتي و فى الصين ، بما فى ذلك أخطاء و نواقص حقيقية جدّا و كذلك مكاسب غير مسبوقة تاريخيّا – و يردّ على تشويهات هذ التجربة ، يوفّره مشروع " وضع الأمور فى نصابها " و يمكن الحصول على هذا و على المزيد من المعلومات حول هذا الموضوع على الأنترنت بموقع :
Thisiscommunism.org
17- مصدر معلومات وتحليل هامين بخصوص هذه الأحداث فى إيران و إنعكاساتها هو " كافة رجال الشاه : إنقلاب أمريكي و جذور الإرهاب فى الشرق الأوسط " وهو كتاب لستيفان كنزار و الناشر هو شركة جون ويلاي و أبنائه ، 2003 . 18- إضافة إلى القمع الوحشي لشعب أندونيسيا ذاته ، فإنّ نظام سوهرتو قد كرّس حكما إرهابيّا و مأقام مجازرا جماعية فى تيمور الشرقية ، متسبّبا بمجازر جماعية أودت بحياة قسم كبير من السكّان هناك . و فى هذا أيضا ، كان يتلقى الدعم من الإمبريالية الأمريكية بإداراتها المتتالية بما فيها إدارة بيل كلينتون .

++++++++++++++++++++








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل وبخ روبرت دينيرو متظاهرين داعمين لفلسطين؟ • فرانس 24 / FR


.. عبد السلام العسال عضو اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي




.. عبد الله اغميمط الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه


.. الاعتداء على أحد المتظاهرين خلال فض اعتصام كاليفورنيا في أمر




.. عمر باعزيز عضو المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي