الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نور الروح

نورجان سرغاية
كاتبة وناشطة مجتمع مدني

(Nourjan Srghaieh)

2023 / 12 / 17
سيرة ذاتية


لم يكن السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر يوما عاديا من أيام السنة، إنه يوم مولدي. حينها تأنَقتْ الدار وتَزيِنتْ بالبالونات الملونة، وصَدَحتْ أصواتُ أغانيهِ المفضلة، ملأتْ الأرجاء موسيقى رقيقة تنساب بلا انقطاع، وعلى الطاولة الكبيرة وقفتْ المزهرية العتيقة وقد تزاحمتْ فيها أزهار القرنفل الطاغية بجمالها على سواها من الباقات المجاورة. مما يخلق مشاعر بهجة احتفالية.
أما قالب الكعك المزين بحبات الفراولة العائمة على طبق القشدة المحلاة كان مخبوزا بحب عائلتي.
كان بطلي رجلا جادا تبدو على مُحياه الصرامة والحزم، يُضفي حضوره نوعا من المهابة الدافئة ولا يَخفي أنه صاحبُ قلبٍ كبير، لا يعرفُ الكره والبغضاء. كان دقيقا متأنيا بأداء أي عمل يقوم به.
مع نهاية فصل الخريف ومجيء الشتاء تتعرى أغصان الدالية المتدلية في ساحة دارنا بحي المهاجرين وتفقد حلتها، فيتولى تشذيبها بتأن ودقة، كما لو أنه يصفف تسريحة شعر صبية لتبدو أكثر أناقة.
أنى حضر يكون محور الوجود ومركز الاهتمام، أما الآخرين فعناصر مكلمة وليست أساسية في اللوحة، بل كان المقياس الذي من خلاله كنتُ أصنف جنس الرجال إلى صنفين لا ثالث لهما: النموذجي منهم يشبه أبي والباقون دونه.
كان عمر الخامسة عشر مفصليا، مختلفا عما سبقه وكل ما تلاه نسخة عنه. في ذلك اليوم عادةً طلباتي مجابة، إنه يوم ميلادي، فقررتُ أن أرفع السقف، فهي فرصتي ولن تقتصر رغباتي على الهدايا التقليدية هذه المرة، وقبل أن أطفي الشمعة الخامسة عشرة وضعت شروطي بصراحة ووضوح على الطاولة وبلغة العتاب قلتها مدويّة:
- أبي أنت اخترت لي اسما على هواك ودون رغبة مني، اسما لا يليق بي، وحان الوقت لإصلاح هذا الخطأ، يجب تغيير هذا النعت الذي لازمني طيلة الخمس عشرة سنة الماضية، مطلب لا رجوع ولا بديل عنه.
- قال مستفسرا: وما به!،
كنت أنتظر هذا الاستفسار فاسترسلت كمحامٍ يرافع أمام لجنة قضاة بمفرداتي البسيطة آنذاك، مترجمة إلى ما يشبه:
- ما كان يجب أن تستورد لي اسما من أعماق التاريخ ذو دلالة أو صبغة قومية أو مذهبية، غريبا تستحضره من غياهب الجغرافيا، التي لا علاقة لي بها ولا تربطني بها أواصر معرفة، حتى صرتُ أسيرة التبرير ودفع التهم! … لماذا لم تَختر اسما محليا مثلا (ليلى.. سلمى.. أمل.. أميرة.. رانيا.. مها.. سوسن) أياً من الأسماء كان لا يهم.
رد على انفعالي مهونا من الكارثة العظيمة وأن حلها متاح، وبابتسامته العريضة كعادته أخذني بحضنه الكبير، وبقُبلةٍ حانية هدأ من انفعالي، وأخذ يمسد شعري ببطء، ويقول مطيبا خاطري المنزعج: (أنتِ نور روحي) النور الذي أضاء عالمي، بطلتي الخارقة، لا مشكلة في ذلك، غدا سنذهب لإجراء معاملةِ تغيير اسمك ولكِ ما تريدين، وليكن اسما محايدا كما تريدين، لكن قبل أن تُودعي اسمك الحالي سأحكي لك سبب تسميتي لك نورجان وماذا يعني لي هذا الاسم..
قلتُ: قل، ومهما كان السبب لن يُثنيني عن مطلبي بتغيير الاسم. واستمرَ بالحديث:
كنتُ وسيدتي الأولى في نزهة في حديقة السُبكي، تعرفينها تلك الحديقة التي رأيتُك ذات مرة مع حسان ابن جيراننا، ابن القوقازية تتجولان هناك...!
قلتُ: أنت تُغير الموضوع، من فضلك دون همز أو لمز!
* * *
لكنه استمر بالحديث، ولم يغير نَبرته جراء مقاطعتي له وقال:
ذات يوم كنت وسيدتي الأولى وهي حُبلى نتنزه في حديقة السبكي الدمشقية، كان آخر أيام صوم المؤمنين، وفي ذات الركن الذي رأيتك فيه تتسكعين مع حسان ابن جارتنا القوقازية... كانت هناك سيدة سمراء بشعرٍ أجعدٍ وقامةٍ هيفاء تقفُ خلف عربة تَعرض عليها حلوى "الناعم" المقرمش، وتقف بجانبها طفلة صغيرة، وعلى غير العادة كان غارقا في الدبس الشهي. أخذنا قطعتين، لكن رفضتْ أن تأخذ الثمن... وشرحتْ السبب قائله:
أنا لستُ بائعة حلوى، بل طبيبة وميسورة الحال، ابنتي في السابعة من عمرها ومازالت تحبو، نذرتُ لله إن مشت سأقدم الحلوى مجانا لمن يشتهيها. وأردفتْ:
نحن قدمنا من بلاد الحرب، هناك تعرضتْ ابنتي لإصابةٍ شلّت حركتها، وكنا غريبتين لا نعرفُ أحدا في المدينة، إلى أن أهدانا القدر إلى "نورجان" وهي شابة رائعة الخَلق والخُلق، تعمل في مشفى قريب، سعت لي عند مديرها فتم تعييني وباشرتُ العمل، كما أُجريتُ عملية جراحية لابنتي وها هي الآن تسير بفضل سعي نورجان.
لهذه الصبية من اسمها نصيب، والذي يعني "نور الروح".
استرسلت الصغيرة بشرح حالتها فَرِحة، أنها فكت الأربطة وتسير بدون معونة أحد، فأسرتْ أمك بروحها الطفولية وفرحتها الغامرة، وتقول لأمك "*أنا اسير .. أنا أسير * أمسكت بيد أمك وجَرّتْها لتؤكد أنها فعلا تمشي، فأمسكتْ يدها وسارتا معا في الحديقة قليلا، وماهي إلا ساعة وبدأتْ رفرفتُك تتحول لعراك وكأن غيرةِ الصبية أصابتكِ، وأتيتِ إلينا نوراً بروحٍ شجاعة تأبى الخضوع وتستنكر الاستسلام.
وقال: كان لقاء السبكي فأل خير وبشرى، وأتيت إلى الدنيا كنور الروح الهائمة، تضيء من حولها وتبعث الفرح، كنتِ دائما متمردة، طامحة للحرية وكسر التابوهات.. أنتِ نورجاني.
أنهى حبيبي (بطلي الأكبر) حديثه وماهي سوى ثوان حتى كنت باكيةً في أحضانه، شكرتُه لاختياره اسما بهذه الجمال، فخورةً بما أهداني..
ولما باعدت بيننا تكاليف الحياة وتنوعها في الجغرافيا كان الحاضر الغائب، لا يكتمل يومي دون لمساته السحرية حتى عن بعد باتصال تلفوني.
لكن دارت الأيام، وأرتأى القدر وضع نقطة على السطر! أما السابع عشر من ديسمبر جاء مجددا دون تأخير، لكن هذه المرة بدون أبي ...!
رحل والدي وبقيتْ كلمته الطيبة....
حصاد عُمرهِ محبة الناس دون تفرقة أو تفريط،
رحل والدي وبقي دينه خالدا....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القضية الفلسطينية ليست منسية.. حركات طلابية في أمريكا وفرنسا


.. غزة: إسرائيل توافق على عبور شاحنات المساعدات من معبر إيريز




.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كاليفورنيا لفض اعتصام مؤيد


.. الشرطة تقتحم.. وطلبة جامعة كاليفورنيا يرفضون فض الاعتصام الد




.. الملابس الذكية.. ماهي؟ وكيف تنقذ حياتنا؟| #الصباح