الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا المدفونُ أدناه

احمد ابو ماجن
شاعر وكاتب

(Ahmed Abo Magen)

2023 / 12 / 17
الادب والفن


أنا المدفونُ أدناه...

لمْ أكنْ مُلتحِفا بغيرِ عيونِها، حينَ جاءتْ صَرختهم بغيرِ الحقِّ،  عِبرَ صُورٍ مُسروقٍ من إسرافيل، تشظّى حينها الوجودُ كلُّهُ، وتفاقمتْ سُقوطاً واحدةً تلو الأخرى سَماواتُ العقائد، ومَشينا، ومَشينا، ومَشينا، قرابةَ ألفِ ألفِ عامٍ، فلمْ نصلْ إلا هذهِ اللحظة، أيعقل يا إلهي أن تكونَ القيامةُ نذيرَ شؤمٍ على من توهّجَ بالصدقِ، وبذلَ قصارى بكائهِ لصاحبِ القلبِ المُغيَّبِ!!، أيعقل يا إلهي أن تقومَ القيامةُ في غرفةٍ مليئةِ برائحةِ جواربِهم العَفِنةِ، وليس معي إلا كتابُ نبوءتي، وحقيبتان ملؤهما البخور، ونَظَراتٌ مُنكسِرةٌ، وشيطانٌ ماثِلٌ على عرشهِ أمامنا، يودُّ مُحاسبتَنا على خطيئةِ التهذيبِ، ولأننا لم نكملْ بعدُ... قدحَ الشّاي!!

تمتمَ الوقتُ، جلسَ ينتظرُ، يغفو تارةً، ويُزيحُ عن وجههِ وشاحَ التنكرِ تارةً أخرى، فتشيبُ على وجهينا براءةُ الموقفِ، نحنُ الذَينِ تهامسا مُصارحةً بالبياضِ في زحمةِ العلاقاتِ المتورمةِ بالسوادِ، نخدعُ الزمانَ بالأقاصيصِ والأفكارِ، والتنظيرِ للشوائكِ الثابتة، فيسيلُ لعابُهُ ولم يدركْ مَهارتنا في تهييجِ شهوةِ الشوقِ لديه، وتحريكِ قاعَ فضولهِ الراكد، وهو ينتظرُ كلَّ ليلةٍ إتمامَ الحكايةِ التي لم تَنتهِ في الليلةِ الماضية، كانتْ العفويةُ تُحرّضُنا على اتخاذِ كأسٍ فارغٍ، وملحٍ، وقُبلةٍ هاربةٍ من فمِ أحدِ السومريينَ، لعلَّها تجدُ وجهتَها على وجنةِ من يُحِب، أو نتقلَّبُ حنيناً بين صفحاتِ استغرابِنا بينَ المطرِ والجنونِ والعسل، أو نقرأُنا شِعراً، ونُدِهشُ السكونَ حَولَنا، فلمْ ينبسْ ببنتِ شفةٍ، لعلَّ السكونَ شيطانٌ مارقٌ لا يقولُ (الله.. الله) حتى وإن لطمتهُ الدهشةُ، وأثارتْ ينابيعَ إعجابهِ قطراتُ الدَّم.

الوقتُ جريمةٌ فاضحةٌ تراهنُ على الخطايا، تسجنُ آثارَها في وجهِ المُحبينَ على شَكلِ شُحوبٍ يُثيرُ الأسئلةَ الصارخةَ؛؛ أما من جواب! فلا جوابَ حينئذٍ إن كانَ الجسدُ نهراً، والقلقُ يشقُّهُ طولياً بقاربهِ البطيء، ويغرسُ باستمرارٍ مِجدافَهُ ذا الرأسِ المُدبب، ولم أصرُخ، فالصراخُ ليسَ من شيمِ الرجالِ هكذا قيلَ وإن تقطَّعوا، وكأنَّ الصراخَ أرجوزةٌ قالَها كافرٌ ما، في بلادٍ آمنتْ بالصَّمتِ، ولم تزدد هدىً غيرَ التواري عن السؤالِ المُعتاد، السؤالُ المُنفلِتُ عن فمِ إلهٍ قاصرٍ، إلهٍ فضائيّ، مُجرَّدٍ من صفاتِ التواضع، لا يتكلمُ إلا إذا مسحَ أنفهُ الذي داهمَهُ الزّكام، يسألُ المُوتى عن أيِّ قبورٍ كانوا قد حلَّوا فيها في دينونتِهم الحَقيرة، أذكرُ أنَّ أحدَ المَوتى أجاب : آخرُ قبرٍ كنتُ قد مَكثتُ فيهِ كانَ الوطنُ، ياه... كم كانَ ضيِّقاً كالحِذاء...

لحظةُ صمتٍ تسودُ الموقفَ، نظرَ لي طوليا، كانَ مُستغرِباً من هيأتي، شعرتُ وكأني من عالمٍ آخر، لا مدينةٍ من القوقعةِ النتنةِ ذاتِها، قال: من أينَ أنتَ؟ ألتفتُ خَلفي، وَجدتكِ تَضمحلين، وقد امتزجَ الكحلُ مع الدمعِ، مع التّعرقِ، مع الأسفِ، حتى شقَّ هذا المزيجُ طريقَهُ على وجهِ الشمسِ فانكسفت، ألتفتُ مراراً لأتحققَ من فعلِ (أورفيوس) لعلَّكِ تَختفين ولم يعدْ لكِ حضورٌ في هذا الموقفِ الأقلِ شناعةً من وجهِ السائرِ معي وهو يحصي خطاي وأنفاسي، ولفتاتي اتجاهكِ، من يدرك شعوري وأنا أبتلعُ شظايا الزُّجاجِ الآتي من خاطرِكِ المَكسورِ خَلفي!!

لن تنتهيَ الحكايةُ، وأنا وأنتِ مُتّصلينِ بحكايةِ الخطيئةِ الأولى، خطيئةَ المعرفةِ، كانتْ الثمارُ/الكتبُ كلُّها متاحةٌ إلا ثمرةٌ واحدةٌ/كتابٌ واحدٌ، يُشبعُ رغبةَ العقلِ، ويُحررُ الجسدَ من سَقمِ العادة، ولم أتوجسْ خيفةً حينَ أحترقتُ بكِ، وعليكِ، وإليكِ، واقفاً باستقامةٍ، واثقاً يَحثُّ الأخرينَ على الانطفاء، شكايتي كانتْ ما أثيرهُ من تبسّمٍ في وجوهِ الراحلينَ، وحكايتي كانتْ مأهولةً بالكبتِ الصارخِ في رأسِ مُعذَّبةٍ صمَّاء، ودموعي عزفٌ مُنفرِدٌ على حِبالِ آلهةٍ لا تجيدُ الاستماعَ، وقوتي خواءٌ أزليٌّ في هيأةِ رجلٍ أقمرَ لسانهُ قبلَ شعرهِ وهو يندبُ حلمَهُ الذي دَهستْهُ عجلةُ درّاجةٍ هوائية كانَ قد وُعِد بها في الجَنة، وليكنْ كلُّ ذلكَ لابأس لكنْ كيفَ يهربُ واقعٌ من بينِ فَتحاتِ أصابعٍ كانتْ تَمسكُهُ مَسكةَ رضيعٍ لشعرِ أمِّه!

فالأنهارُ المتعبةُ من سفرِِها الطويلِ، تتلاشى في نهايةِ المَطاف، هكذا هي العلاقاتُ، هكذا الحياةُ؛ سوسنةٌ رقيقةٌ في مَرمى زوبعةٍ حمقاءَ، نكونُ كأننا لم نكنْ، من يتضامنُ معنا؛ نحنُ الرذاذُ الذي يُندِّي وجهَ المَقبرةِ، رعاةُ اللا أدري، المُطوَّقونَ بحزامِ الحَيرةِ، التائهونَ ، الآتونَ من خطأٍ في سلسلةِ النسلِ، العالقونَ في روؤسِنا المُنتفخةِ بالأفكارِ والأحاديث، وإن كانتْ فينا فائدةٌ فلا تعدو استخداماً واحداً ونُرمى في سلّةِ نسيانٍ باهضِ الهُراء، أقفُ الآن بينَ دَهسةٍ رَحيمةٍ وعناقٍ سقيمٍ، بينَ حبٍّ طاعنٍ وفُراقٍ حديثٍ الولادة، بينَ أنا وأنتِ، روحاً شجيةً أضاعتْ مفتاحَ وجودِها، فبقتْ حبيسةَ جدرانِ تعاستِها، كفأرٍ داخلَ مصيدةٍ مَنسيةٍ، وأنتِ تَعلمينَ ذلكَ من دونِ أن تفكري ولو للحظةٍ عابرةٍ بتمريرِ يدِكِ النّاصعةِ على وجهي التريبِ، تركتِني هنا أعتِّقُ نفسي بظلمةِ الأيامِ الحالكةِ، عَسى أن تَشتهيني سَكرةُ الموتِ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??


.. فيلم -لا غزة تعيش بالأمل- رشيد مشهراوي مع منى الشاذلي




.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط