الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصهيونية

عمار أسامة جبر
كاتب

(Ammar Jabr)

2023 / 12 / 17
القضية الفلسطينية


لم تحظ حركة سياسية اصطبغت بصبغة دينية بهذا القدر من اللغط والكثير من الأوهام والتفخيم وبل الترويج لعبارات أو أحداث لم تحصل أو في حالات كثيرة نقل أشياء قالها شخوص ونسبت لآخرين ولربما كانت كلها غير صحيحة أو مغلوطة نسباً أو ترجمة، ومنها المقولة الأشهر "الكبار سيموتون والصغار سينسون" تداولت المنبر السياسية هذه العبارة على مدار سبع عقود متتالية وكانت حاضرة في كل المناسبات والخطب التي تدعوا لعودة الحق الفلسطيني ﻷصحابه، لكن ما غفل عنه ناقلوها أو الذين يستشهدون بها أن هذه العبارة والتي لا يعرف على وجه التحديد قائلها، لتنسب تارة لجولدا مائير(1898-1969) وتارة إلى بن غوريون (1886-1973) وتارة أخرى إلى وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس (1888-1959) وهذا النسب للأخير منشور فقط في كتاب (The Palestinian Liberation Organisation,People,Power,and Politics) ، على لسان القائد ياسر عرفات (1929-2004)، هي في الأساس ترجمة خاطئة للقول المنسوب عن دالاس أو النقل الخاطئ عن أبي عمار، ففي العبارة الأصلية الإنجليزية "The new generation of Palestinian would not even know Palestine" 1، لكن الهام في هذا الصدد أنها حركة تتدثر بعباءة اليهودية، يقول شمعون بيريز " لقد نهضت الصهيونية، لإزالة الجور النازل باليهود، ومنحهم الحقوق الإنسانية" 2، وتطالب اليهود دخولها وهدفها المعلن جمع شتات "شعب الله المختار" في مكان أو بقعة جغرافية واحدة، على الرغم من تعدد الخيارات الجغرافية في البدايات لكن فلسطين كانت محط أنظار الصهيونية، لاعتبارات عديدة.


أرض الميعاد، شعب الله المختار، هيكل سليمان، أرض إسرائيل (الشعب اليهودي، الخصوصية اليهودية، المنفى، ارتباط اليهود الأزلي بأرض الميعاد) 3، كلها هالات لتجميل زيف ادعاء الحركة الصهيونية وتورية الهدف الحقيقي لما ستقوم بها مستقبلاً، فهي أي الحركة الصهيونية بذلت جهود جبارة على صعيد اليهود أنفسهم ﻷقناعهم بتبني "الصهيونية" أيدولوجية لهم والخروج من ظلام (الغيتو)، وهي الأحياء التي عاش فيها المجتمع اليهودي في أوروبا بمعزل عن المجتمعات المحيطة، ولعل أهم أسباب خلق هذه الأحياء هي عدم ولاء وأمانة اليهود لتلك المجتمعات، ورفض الأوربيون عموماً تقبل اليهودي بسبب احتكاره التجارة وغناهم الفاحش وتحكمهم برؤوس الأموال 4، ومن المشاهدات الحية للغيتو في التاريخ ما ذكره هتلر (1889-1946) في مذكراته كفاحي "وما لبثت أن وجدتني في عداد المعنيين بالمسألة اليهودية بعد أن لمست بنفسي تكتل اليهود وتجمعهم في حي واحد من أحياء فينا ومحافظتهم الشديدة على تقاليدهم وعاداتهم وطقوسهم " 5 لكن البدايات لم تكن بتلك السهولة ولولا الانفتاح والنهضة التي أتت رياحها على القارة الأوروبية لما وجدت الصهيونية ولا منظروها الأوائل مدخلاً ضيقاً جداً للبدء بدخول الغيتو وتفريغه من سكانه، فالصدام الأول كان مع اليهود أنفسهم الذين عادوا الفكرة وأطلقوا على أنفسهم اليهود الأحرار 6، وانقسم المجتمع اليهودي الأوروبي حول الاصطفاف معها أو ضدها، فهي فكرة مشبوهة منذ البداية ﻷنها غطاء (للصهيونية المسيحية) التي تبث سمومها في العالم وتدعوا إلى عودة اليهود الى فلسطين لسبب واحد وهو تهيئة "أرض الميعاد" للعودة الثانية للمسيح، ولعل الممارسات الأوروبية نفسها وتصاعد الكراهية بين الاوربيون واليهود والحوادث التي حصلت بينهما أجج الصراع، وجمع الفرقاء اليهود على طاولة واحدة في دفع نحو ما سمته الوكالة الصهيونية آنذاك "وطن قومي"، وحتى نفهم كيف استطاعت القوى الصهيونية استغلال حوادث فردية وجيرتها لتصبح مثار جدل وانقسامات في المجتمعات الأوروبية، لا بد من إلقاء نظرة فاحصة على قضية دريفوس 7، التي تم استغلالها لتصبح رمزاً لمعاداة السامية وأداة لخلق الفوضى والاضطرابات في المجتمع الفرنسي وشرارة لما سيأتي بعدها .


ومن أجل وعي جيد لجذور هذه الحركة تاريخياً ودينياً، يجب أن ننظر إلى كيفية تحولت العلاقة بين الديانتين والتلاقي بعد تضاد فالعلاقة ليست سوية منذ السيد المسيح ففي انجيل متى "وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ" ، "وَقَالَ لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ" (متى 21 : 13-14) ، فاذاً التغيير في النظرة المسيحية وبالاخص البروتستانتية كان حاداً جدا، من خانة الكراهية الى المداهنة والمحاباة، وأصبحت البروتستانتينية والصهيونية في سلة واحدة والتقى مسارهما في خط واحد، فالعداء التاريخي بين الديانتين ظل قائماً حتى القرن السادس عشر، الذي انتهى بظهور البروتستانتية كنتاج للحركة الإصلاحية، التي ساهمت وبقوة بإبراز أهمية العهد القديم والاعلاء من شأنه في مقابل العهد الجديد، وبالتالي تغيير وضع العداء القائم بين المسيحية واليهود، وما أن هبت رياح التغيير في الأوساط الأوروبية خلال عصر التنوير (نهاية القرن 16-القرن 17) انطلقت الأفكار التي كانت نتاج فترة تعج بالمفكرين وموج هادر من النظريات والأفكار والتي صارت محط انظار الأقليات والقوميات، ودارت عجلة التاريخ ليحمل لواء الفكر الصهيونيفي تلك الفترة، ديفيد روبيني ومن ثم أوليجر باولي وحاول استثمارها نابليون بونابرت، خلال الحملة الفرنسية على فلسطين، وانتهاء بالصحفي النمساوي تيودر هرتزل (بنيامين زئيف) مؤسس الصهيونية السياسية في العصر الحديث، وبالطبع أيضاً من استطاع لم شتاتهم واختلاف توجهاتهم في المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل (29 اب 1897).


من الهام قراءة ما يمكن اعتباره البذرة الأولى للصهيونية، وهو ما كتبه مارتن لوثر(1483-1546) في كتابه عيسى ولد يهودياً "إن الروح القدس أنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم" ، "إن اليهود هم أبناء الله، ونحن الضيوف الغرباء، ولذلك فإن علينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل مما يتساقط من فتات مائدة أسيادها.."، ويأتي هذا الرأي في ظل آراء الكنيسة الكاثوليكية بأن اليهود هم المسؤولون عن صلب المسيح بشكل مباشر فهم لم يؤمنوا برسالته وساعدوا في إلقاء القبض عليه وصولاً إلى صلبه حسب الروايات المسيحية على يد بيلاطس البنطي، وهو ما ذُكر في الكتاب المقدس "إِنَّ إِلهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، إِلهَ آبَائِنَا، مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ، الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ، وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ." أعمال الرسل اية 13، "لكن أنتم أنكرتم القدوس البار وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل، ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك" (أعمال الرسل ايه 15 )، والذي بذر بذرة الصهيونية المسيحية، ثم هاجم اليهود بعد فترة في كتابه ( اليهود وأكاذيبهم)، في تحول مطلق لما بدأ به، لكن هذه الصدمة التي رافقت ما صرح به لوثر ، رافقها بالطبع التحولات الأخرى في الأوساط الأوروبية والتي كانت بمجملها في صالح الأقليات والقوميات.


ومن خلال دراسة الصهيونية وآثارها المستقبلية، يتوجب إعادة التفكير بشكل جدي بتوصيفها والاحاطة بها وتجفيف منابعها، ومحاصرة وسائل دعمها، وتشجيع حركات المقاطعة (BDS)، والتقاط كل الإشارات التي تنطلق من خلال عالم تعصف به العولمة والمعلوماتية التي يستطاع تحويلها الى سلاح فتاك ومضاد، ومع تزايد موجات الكراهية والحنق تجاه الكيان المحتل يحضرني بقوة ما ذكره شمعون بيريز في كتابه الشرق الأوسط الجديد " وبعد ستة وعشرين عاماً من انتصار (إسرائيل) في حرب فرضت عليها وارغمت البلاد على فرض حكم عسكري في المناطق، يمكن لنا استخدام كلمات توماس مور للوصول الى بعض الاستنتاجات على علاقة (دولة إسرائيل) بالفلسطينيين، إن (إسرائيل) تدير نظامين حكوميين متوازيين بنوعين متناقضين من القيم، إن الحكومة العسكرية قمعية بطبيعتها، قمعية للشعب الذي تحكم، وقمعية لمواطني الدولة، إنها النقيض المباشر للقيم الديمقراطية الأساسية التي وردت في صلب (بيان الاستقرار) وفي دستورنا وثقافتنا السياسية، وفي نظرتنا الاجتماعية العالمية،لقد نهضت الصهيونية، لازالة الجور النازل باليهود، ومنحهم الحقوق الإنسانية، لذا فإن الحكم القسري لأمة أخرى، وفرض السيطرة القسرية للنظام العام في منطقة تخضع للحكم العسكري لا يؤثر على أداء الهيئات الحكومية في المناطق وحسب، بل يؤثر أيضا على الأنحاء الواقعة في قلب (إسرائيل)، ورغم أن هدفنا هو وأد النشاطات الارهابية، فإن وجود الحكومة العسكرية ذاته يكفي لتوليد المشاعر السلبية) 8.


1.
The Palestinian Liberation Organisation,People,Power,and Politics, Helena Cobban, ch11 pp 245-262.
2. كتاب الشرق الاوسط الجديد الطبعة الأولى 1994/ صفحة 58.
3. الأكاذيب الصهيونية من بداية الاستيطان حتى انتفاضة الأقصى ، د. عبد الوهاب المسيري صفحة 5.
4. معجم الأعلام والمصطلحات الصهيونية والإسرائيلية، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) ص 45.
5. أدولف هتلر ، كفاحي، ص 29.
6. أدولف هتلر ، كفاحي، ص 29.
7. https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9_%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D9%81%D9%88%D8%B3
8.كتاب الشرق الاوسط الجديد الطبعة الأولى 1994/ صفحة 58-59








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي