الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كنت طبيبا في العراق. أرى كابوسا يحدث مرة أخرى.

ماجد علاوي

2023 / 12 / 17
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


16 كانون الأول 2023
بقلم: عمر الديوه جي* - نيويورك تايمس
ترجمة ماجد علاوي
بدأت التدريب لأصبح طبيبا في أعقاب حرب الخليج. لقد كان وقتا مظلما للالتزام بمهنة شفاء الناس. لقد دمرت العقوبات الأمريكية والتفجيرات التي لا هوادة فيها بنيتنا الطبية التحتية وعرضت للخطر وصولنا إلى الإمدادات الطبية. كافحنا محاطين بالدمار وغالبا بأقل الموارد، من أجل معالجة الناس، وإجراء العمليات، وللحصول على بعض الراحة. كان كل يوم في حد ذاته معركة في محاولة لإنقاذ الأرواح بينما كانت منشآتنا تنهار من حولنا.
دفع الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 نظام الرعاية الصحية المترنح إلى حافة الهاوية. وأغرقت التفجيرات وعمليات مكافحة التمرد المستشفيات بلا هوادة بالمدنيين المصابين. وقد اضطر الأطباء وغيرهم من العاملين في المجال الطبي في جميع أنحاء البلاد، الذين غمروا بالمرضى ويتدافعون للحصول على الوقت، إلى اتخاذ قرارات مؤلمة حول من يمكنهم إنقاذه واقعيا. ربما وجهت الهجمات المباشرة على المستشفيات الضربة القاضية لقدرات الرعاية الصحية المتداعية في العراق، والتي كانت ذات يوم مصدر فخر في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
يشهد العالم الآن حربا أخرى يتم فيها تدمير نظام الرعاية الصحية الذي كان يعاني بالفعل من ضائقة. وأرى أوجه تشابه مقلقة بين ما شهدته في العراق وما يحدث في غزة، من النقص الواسع النطاق في الإمدادات الأساسية إلى ارتفاع معدلات الإصابة إلى الاستهداف العسكري للمستشفيات. وعندما يتم تدمير خدمات الرعاية الصحية والبنية التحتية والخبرة أثناء الحرب، فإنها غالبا ما تضيع إلى الأبد. وفي غيابها، تهدد أزمة صحية عامة دائمة حياة الناجين الذين ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه. وبصفتي شخصا كرس الكثير من حياته المهنية لتوثيق العواقب الوخيمة الناجمة عن مهاجمة الرعاية الصحية، فإن ما يجري في غزة لا يمكن إلا أن يستثير أشباح معاناتي السابقة.
على الرغم من أن استهداف المستشفيات ومرافق الرعاية الصحية أثناء الحرب غير قانوني بموجب اتفاقيات جنيف، مع استثناءات ضيقة للغاية، فقد زادت هذه الهجمات بشكل حاد خلال العقدين الماضيين، محتمين بشكل خاص بمكافحة الإرهاب. ففي عام 2021، ذكرت منظمة الصحة العالمية أن ما لا يقل عن 930 من العاملين في مجال الرعاية الصحية قتلوا في 600 هجوم خلال الحرب الأهلية السورية، ويبدو أن القوات السورية والروسية هاجمت المستشفيات بدعوى أنها كانت تضرب أهدافا إرهابية.
وقد وقعت حوادث مماثلة في العديد من مناطق النزاع الأخرى، بما في ذلك اليمن والسودان وإثيوبيا وليبيا. ومن الأحداث المؤرقة بشكل خاص قصف الولايات المتحدة لمستشفى الإصابات التابع لمنظمة أطباء بلا حدود في قندوز بأفغانستان في عام 2015، مما أسفر عن مقتل 42 شخصا على الأقل. واعترفت الولايات المتحدة في وقت لاحق بأنه كان خطأ مأساويا. والواقع أن المستشفى الذي تعرض للقصف لم يكن تحت سيطرة طالبان، كما ذكر في الأصل. وشنت روسيا أكثر من 1,110 هجوم على عمليات الرعاية الصحية في أوكرانيا منذ أن بدأت غزوها - وهو أكبر عدد أحصته منظمة الصحة العالمية في أي أزمة إنسانية حتى الآن. وشملت هذه الهجمات قصف المستشفيات، وتعذيب العاملين في المجال الطبي، والاعتداءات على سيارات الإسعاف.
وأصبح مفهوم الأضرار الجانبية المدنية أمرا طبيعيا يبعث على القلق، مما أدى إلى استهداف المستشفيات، وسهولة قتل المرضى أو الجرحى، وتآكل الرعاية الصحية المدنية أثناء الحروب. وعندما يتعلق الأمر بالصراع العالمي، لم تعد المستشفيات ملاذات آمنة، وإنها تصبح بسهولة مواقع للمعارك من خلال المبررات المناسبة.
وعندما تتحول المستشفيات إلى ساحات معارك، فإنها تتوقف عن تقديم الرعاية، مما يمهد الطريق للأزمات الصحية التي تستمر لفترات طويلة بعد صمت المدافع. وقد عدت إلى العراق في شهر شباط الماضي لمواصلة دراسة تأثير الحرب على الطفرة العالمية للبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. وقد دقت الأمم المتحدة ناقوس الخطر على مدى العقد الماضي بشأن مقاومة مضادات الميكروبات - مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية والأدوية الأخرى - متوقعة أنها قد تسبب 10 ملايين حالة وفاة سنويا بحلول عام 2050.
وفي مناطق النزاع، يؤدي انهيار البنية التحتية للرعاية الصحية والاستخدام غير المقيد للمضادات الحيوية إلى انتشار البكتيريا المقاومة إلى ما هو أبعد من مناطق الأعمال القتالية المباشرة، وأحد الأمثلة على ذلك هو البكتيريا العراقية (Iraqibacter)، أو Acinetobacter baumannii، وهي بكتيريا خارقة أعيدت إلى المستشفيات الأمريكية من قبل الجنود الجرحى الذين خدموا في العراق وأفغانستان. وتصيب البكتيريا العراقية الجروح وتنتشر عبر مجرى الدم لتسبب مجموعة من المشاكل الطبية، بما في ذلك الإنتان والتهاب السحايا وفقدان الأطراف والوفاة. وقد أدرجت دراسة نشرت عام 2022 في مجلة لانسيت الطبية بكتيريا العراق كواحدة من ست من مسببات الأمراض الأكثر فتكا، بين مسببات الأمراض المقاومة للأدوية. ومسببات الأمراض الستة هذه مجتمعة مسؤولة عن ملايين الوفيات.
خلال الشهر الذي أمضيته في العراق، أمضيت بعض الوقت بين أنقاض الموصل، وأعدت الاتصال بمدينة ذكريات طفولتي ومسقط رأس والدي. ويقال إن معركة الموصل 2016-2017 هي واحدة من أكثر العمليات العسكرية دموية في المناطق الحضرية منذ الحرب العالمية الثانية – وهي مقارنة يتم تطبيقها أيضا بشكل مخيف على الهجوم الإسرائيلي على غزة. فقد قاتلت قوات الأمن العراقية المدعومة من الولايات المتحدة لمدة تسعة أشهر طويلة لاستعادة المدينة من مقاتلي داعش. وشهدت المعركة، التي تميزت بقصف جوي مكثف، تحول مرافق الرعاية الصحية إلى ساحات قتال مركزية ومتعمدة، ولحقت أضرار جسيمة بتسعة من أصل 13 مركزا طبيا عاما تخدم الموصل والمجتمعات المحيطة بها.
وفي إحدى فترات ما بعد الظهر قدت سيارتي بجوار بقايا مجمع مستشفى الشفاء، الذي كان في يوم من الأيام أكبر مجمع في المدينة. ولم أر في ما كان مستشفى رئيسي مترامي الأطراف سوى بقايا القذائف. كان الهيكل المدمر، الذي كشف عن ألواح خرسانية وحديد التسليح الملتوي، يقف على الضفة الغربية لنهر دجلة كدليل كئيب على ما خسرته المدينة. وبعد ست سنوات من المعركة، لا تزال ندوب الحرب مرئية في كل مكان. الأحياء التي تم محوها خلال الحرب لم يعاد بناؤها بعد. المستشفيات العامة في المدينة في حالة خراب، على الرغم من جهود إعادة الإعمار، والعديد من العائلات النازحة لم تعد إلى ديارها بعد. ولا تزال العيادات المحلية مكتظة، ومقاومة المضادات الحيوية هي واحدة من أعلى المعدلات في المنطقة. وتشكل مياه الصرف الصحي في الموصل - وهي مزيج خطير من النفايات السامة والحطام - تهديدا لأولئك الذين يعانون بالفعل من مشاكل صحية.
لا يسلط تدمير الموصل الضوء على التأثير المادي الفوري للحرب فحسب، بل يسلط الضوء أيضا على مدى صعوبة إعادة بناء الخدمات الأساسية في أعقابها. إنها شهادة حية على الكيفية التي تميل بها أزمات الرعاية الصحية إلى أن تفاقم بعضها البعض، مما يخلق بيئات خطيرة بشكل لا يصدق بعد فترة طويلة من توقف الاشتباكات.
لقد طغت محنة غزة على الدمار الذي شهدته في الموصل ومناطق النزاع الأخرى، مع ارتفاع معدلات الوفيات والإصابات إلى مستويات لا يمكن تصورها. ولا يستطيع سكان قطاع غزة، الذين تقطعت بهم السبل إلى ما يرقى بأن يكون أسوء خلل في الصحة العامة، حيث لا يستطيع سكان غزة الفرار كما هو الحال في النزاعات الأخرى. وفي شمال غزة، أغلقت جميع المستشفيات تقريبا أبوابها بسبب نقص الكهرباء والصرف الصحي والمياه النظيفة والغذاء وإمدادات الرعاية الصحية الأساسية. ويكافح الأطباء لتوفير الرعاية لصغار السن وسط نقص حاد في كل متطلبات الرعاية الصحية. إنهم يواجهون إصابات غير عادية، قد تكون مؤشرا على استعمال أسلحة جديدة يتم تجربتها في النزاع، كل ذلك أثناء تعرض الأطباء أنفسهم للقتل. وحذر تقرير لمنظمة أطباء بلا حدود نشرته المجلة الطبية لانسيت الشهر الماضي من أن هناك "تهديدا صامتا" يكمن في الملاذات المحاصرة يتمثل في مقاومة المضادات الميكروبية. ويخضع الرضع الولادة إلى الرعاية فيما تقف الدبابات والقناصة على أبواب المستشفيات. والأسوأ من ذلك كله، يبدو أنه لا توجد نهاية في الأفق.
ومنذ أن بدأت كتابة هذا المقال، كانت هناك تقارير جديدة عن انتشار الأمراض التي تجتاح غزة. كما لو أن الدمار الجوي لم يكن كافيا، فإن الهجوم الإسرائيلي على غزة قد فجر قنبلة موقوتة للصحة العامة. الأمر المحتم الواجب إجراؤه واضح: يجب إنهاء الحرب على الفور، ويجب ضخ مساعدات إنسانية كبيرة، ويجب استعادة الخدمات الطبية والجراحية في غزة. ويجب ألا يقف العالم مع استهداف المرضى والمحتضرين - بغض النظر عن المبرر العسكري.

* عمر الديوه جي هو مؤلف كتاب "حياة لا يمكن التحكم بها: الطب الإلزامي وفن الحكم في العراق". وهو عالم أنثروبولوجيا طبية وممارس صحي عالمي مقره في جامعة روتجرز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي