الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


*سردية واقعية: صاحب كليوباترا و قفازاتي ..

لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)

2023 / 12 / 19
الادب والفن


-كتب:لخضر خلفاوي
—-
كنتُ بعد وصولي إلى ركني من منتصف نهار هذا اليوم ، و كان الطقس الشاّوي للجلود بردا و درجة الحرارة تتأرجح بين الدرجة و الدرجتين على تماس الصفر ..
رغم هذا البرد الشديد إلا أنّي مجبر على تحمّله لبعض الدقائق ريثما أنهي من تسليم نفسي لسيجارة أو سيجارتين بحكم -ممارسة الاحتراق بالتبغ الأشقر - داخل المطاعم و المقاهي ممنوع منذ بداية هذه الألفية .
كنت أرقب بشيء من الشفقة “فيليب “ ذلك المتشرّد الفرنسي الذي قضى هذه السنوات الأخيرة في العراء ، يتنقل من مكان لآخر ليلا نهارا ، لا مأوى له ، يعيش في الشارع .. أحيانا أجده مستلقيا نائما على الأرصفة و البرد الفتّاك .. أتساءل بتعجّب كيف له أن ينام ملء الأجفان و لا يزعجه العراء و البرد ! أرى عادة بجانب رباطه قنيناتا من مختلف المشروبات الروحية، فكلما تصدّق و تكرّم عليه المارة يؤثر هو قارورات الخمرة على الطعام. التشرّد، الإفلاس الذي هو فيه وصل إلى درجة تحت الصفر يجعل روحه تبرد أكثر فأكثر فلا يمكن لألف بطانية و ألف غطاء أن تبعث في روحه الدفء و تخدّر في ذهنه كل لواعج الدنيا البغي بمآسي الذين اخطأوا السبيل إلى شبيهات السعادة التي يرجوها كل إنسان في هذه المعمورة.
“النبيذ”، “الريكار “ أو “الباستيس” و “البيرة”.. و الفودكا ، عموما كل -المشروبات (الروحية)، كما يسمونها من شأنها أن تدفئ من البرد روح “فيليب” و أمثاله من الذين عنّفهم الوعي بسبب لا منطق الحياة.. برود النّاس و أنانية عبدة النزوات و الرغبات و التكاثر حتى ينتهوا إلى المقابر ليسوا بأقل مضرّة .. كلما رأيت أحدهم يكثر من شرب البيرا أو الفودكا أعرف أنّه وصل الحضيض من تجارب الحياة ، كون هكذا مشروبات أصنّفها في السلّم ما بعد الأخير من درجة الرداءة في التعاطي مع المشروبات الروحية.
-اعتقد لو شحّ على “فيليب “ ثمن شراء ما يسكره و يسخّن دمه و روحه و صدره فقد يتبوّل في إناء و يعيد شربه فيسكره بوله ، لا يوجد في بوله غير حصالات و خلاصات مختلف “المشروبات الروحية”، لا حاجة ل “فيليب” للماء ، فباريس فيها المطر لا يتوقف من الهطول ، لهذا بقي “فيليب” حيّاً في الخلاء دون مأوى و لا موارد.
-كان فيليب ( و أنا ألحظه)، و نسيت أنّي بي ( برد عميق!)، كان يتحايل مع أمتعته التي تصحبه في كل مكان أمام وكالة بنكية ليس له فيها لا جمل و لا ناقة و لا هم ( يُخضرون)! .. لاحظته كان يخرج من أحد أكياسه و حقائبه ما يسد رمق سرب من حمام “ساحة السوق”.. انصرف و ترك قوت الحمام مطمئنا عليهم، حمل أكياسه و أغراضه و قنيناته ل المشروبات الروحية باتجاه الضفة الأخرى ليجتاز الجسر الصغير الخشبي الذي يمرّ تحته تفرّع مائي من نهر ( الإيسون ) الصّاب في نهر ( السين) مذ أمد .
كنتُ أقول في نفسي بعد استنتاجاتي و قراءاتي لهذا المتشرد الطيب : من أوحى أو علّم “فيليب” و عوّده على البرّ في أضعف مخلوقات الله ، و أحسن إلى سرب الحمام و جمعهم على رزق و خير ؛ أليس في الخمرة و السكر ما يذهب بالوعي و الإدراك ؟ تصرّف فيليب و سلوكه جعلني أجزم بأن الأنفس الطيبة لا يطال السكر لبابها الأصيل .. الطيبة المتجذرة في بعض خلق الله لا يخدرها أي محلول و لا يحرفها أي ظرف و لا أي طارئ ظرفي ..يجود على الحمام و هو المحتاج الهامشي ، من هو على الهامش في حقيقة الأمر هو أم نحن !.
***
-لحظتها اكتشفت أنّ علبة سجائري لم تعد تحوي ما يكفيني لبقية اليوم، فنهضت في عجالة و تركت فنجان قهوتي و أغراضي
.. انطلقت باتجاه نقطة بيع السجائر القريبة من المكان. من عادتي أن ابتعد عن أغراضي فجأة ثم أعود و أجدها في مكانها على طاولتي لا يمسها بشر ، كان عمال المقهى/المطعم يعرفون أو متعودون على سلوكي و حركاتي ، فيحرسون أغراضي عن بعد أو إذا لم أرجع و نسيت أنه لا بدّ عليّ من الرجوع يسترجعون أشيائي ثم يسلمونها لي حال عودتي في مناسبة لاحقة .. كل الزبائن تقريبا يعرفونني و لا أحد يجرؤ على المساس بمكاني و ما يحتويه من أشياء خاصة تركتها.
عندما انطلقت إلى نقطة بيع التبغ نسيت أخذ القفازات ، قفازاتي هذه تحديدا من ضمن تشكيلة القفازات التي لم أضيعها بعد في الشوارع ككل موسم برد ؛ هذا لا يعني أنّي لم تسقط مني أو لم تضيع مني ، فخلال هذا الأسبوع فقط ضاعت مني حوالي أربع مرات و لأعجوبة استثنائية استرجعها و أجدها ، رغم أنّه يكلفني ذلك عناء اقتفاء الأثر و الشروع في عملية البحث عنها في الممرات و الشوارع و الأمكنة المحتمل مروري بها .. كوني متمسك بهذا النوع من القفازات ذات التدفئة الخاصة التي تمنحها ليديّ و أصابعي …
***
لما عدت من نقطة بيع السجائري بغية اكمال ارتشاف قهوتي الباردة و استنشاق بعض سجائري قبل مغادرتي لتتمة ما عندي من مشاوير في هذا اليوم أبصرت قبل بلوغي ركني رجلا فرنسيا يجلس في مكاني و يستغل طاولتي .. كرديان من تركيا كانا ينظران إليه و إليّ و يضحكان بتعجب من تصرّف ذلك الرجل .. لكن ما أثار تعجبي و ضحك كل من الكرديين هو أن ذلك الرجل الغريب كان مرتاحا على كرسيي و بصدد لبس قفازاتي و يجربها على مهل و هو في أتمّ الانبساط بالرفاه و الدفء الذين تمنحه قفازاتي هذه دون أن يكلف نفسه عناء فهم موقف مالكها و لا كنيته ! كان الساطي يتصرّف كأنه هو صاحب القفازات و هو يحاول ضبط أقفالها و يتباهى بها مسترخٍ على مقعدي !
سلوك هذا المعتوه صدمني و نرفزني لحظتها ، فأخذت حال وصولي التقدم من مكاني الذي اجتاحه هذا الغريب ، لا أدري من الغريب في كل هذه القصة أنا أم هو !.. رحت أنزعه قفازاتي دون تكليمه و دون سؤاله بكلمة واحدة ، نعم ! نزعته قفازاتي بكل غضب و انزعاج ، بينما كان هو يحاول استدراك الموقف و يعتذر مني :
“آه! عذراً! هم لكَ ؟! هذا مكانك !؟ عذرا !! “
لم أردّ عليه بكلمة واحدة ، كنت أمسك غضبي و أردّد في نفسي جملتي الطقس طوال النهار :
-لا حول و لا قوة إلا بالله ! لا حول و لا قوة إلا بالله !
-نهض الرجل سريعا من مكاني و غير الطاولة مصطحبا معه ( الشاي) الأحمر التركي الذي طلبه ، ثم أخذ يحضر لفافة تبغه .. صمتي هو الذي نفّره من مكاني …لو نطق بكلام غير الاعتذار لكانت أعصابي راحت في ( بولة تركية )!.
-كان يبدو عليه أنه ليس على ما يرام ذهنيا .. كنت ألاحظ سلوكه على مسافة ابتعادي عنه بثلاث أمتار تقريبا .. ما شدّ انتباهي تلك القلادة الذهبية التي تتدلى على صدره ، كان رأس ( كليوباترا) الملكة المصرية الفرعونية ! كان لا يهمني إن كان معدن قلادته ذهبا حقيقيا أو قلادة مضللة بلون الذهب .. فقط سلوكه و حركاته .. كنت أحاول أن أُحيط بهذه الشخصية التي أسقطها برد الصباح على طاولتي .. لماذا ( كليوباترا) يا لص!؟ كنت أتمتم في نفسي و أنا أتهيّئ للانصراف .. لمّا سكت عني الغضب ، و انصرفت ندمتُ من ردة فعلي المتسرعة إزاء هذا المحبّ لكليوباترا .. و لقفازاتي .. هذا الرجل المعتوه الذي غرّر به برد المكان فأراد أن يستعمر مكاني و يحرمني أياها عن غفلة …إلا قفازاتي يا ( بتاع كليوباترا)!.

-باريس الكبرى جنوبا
كانون الأول 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟