الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عرب الأهوار ، الضيف والشاهد(3 )ه

سهر العامري

2006 / 11 / 22
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


والحقيقة هي كما أوردها جيفين يونغ إذ يقول: (...ما يمتلكون لم يكن سوى لباسهم اليومي المؤلف من قميص من القطن ، ودشداشة ، وكوفية ، وحزام 
وخنجر ، وبالرغم من فقرهم فقد كان المظهر مهما لديهم.)(1)ه

لقد أستقبل عرب الأهوار ولفريد ثيسجر ضيفا مكرما ، وكان محط ترحاب أينما حلّ ، وأينما رحل ، فهم قد ظلوا أمناء على تقاليدهم في كرم الضيافة ، وحسن الرفادة ، وقد لمس هو هذه الحقيقة عن قرب ، وما زلت أذكر ذلك الصوت الذي تردد ذات صباح في أجواء المضيف ، متفقدا ضيفا لم يحل على عادته: " يا جماعة، لمَ لم يأتِ الرجل الانجليزي هذه السنة ؟ "، وحين لم يبالِ سكان الأهوار بإشاعة تهمة التجسس ، انطلقت إشاعة أخرى ، وهي إنّ كلّ طفل ختنه ثيسجر لن يرزق بمولود أبدا، وحتى لا يصدق عرب الأهوار هذه الإشاعة الجديدة انتظروا زواج من ختنه ثيسجر ، ومن الأطفال الكبار في السن ، ففي قريتنا انتظر الناس زواج طفل في قرية أخرى من قرى عشيرتنا يدعى " نجي" الذي تزوج بعد سنة أو سنتين من ختانه وأنجب طفلا ، وبهذا تبددت هذه الإشاعة.

ومع طيب الإقامة التي خصّ بها عرب الأهوار ثيسجر إلا انّ الكثير منهم كان على حذر منه ، لأسباب ليس من بينها تهمة التجسس فقط، إنما لما ترسخ في أذهان الناس من ذكريات مريرة تركتها أحداث الحرب العالمية الأولى ، متمثلة في رغبة الساسة الانجليز في أخراج العراق ، وأقطار أخرى من قبضة السيطرة التركية ، حتى ولو كان ذلك على حساب إزهاق آلاف الأرواح ، وتدمير قرى بأكملها على ساكنيها.
والسبب الثاني هو سبب ديني بحت ، فلم أرَ لا أبي ولا جدي يمدان يديهما لمصافحة ثيسجر ، إنما كانا يكتفيان بتحيته تحية الرجل الغير مسلم ، تماما ، مثلما كان يفعل أبي مع جاره الصابئي الذي يملك محلاً لصياغة الذهب ، والذي يجاور محله. وقد كانت هذه التحية هي "صبحكم اللّه بالخير " إذا كان الوقت صباحا ، و" مسّاكم اللّه بالخير " إذا كان الوقت مساءً ، فأنا لم أسمع أبي يحيي جاره الصابئي بتحية " السلام عليكم ". أما الآن فقد اختلف الحال ، إذ تزوج أبناء الأهوار من عراقيات مسيحيات ، ومن عراقيات صابئيات ، مثلما تزوج أبناء هذه الديانات من عراقيات مسلمات.
والسبب الثالث كما عبر عنه ولفريد ثيسجر بوضوح ، وبعد انصرافه من مدينة الجبايش إذ قال على لسان احد مضيفيه ، بعد أن رابه أمره ( لا يرغب رجل مدينة أن يلسعه البعوض ، أو أن يأكل طعامنا إلا إذا كانت لديه مهمة خاصة. الحكومة هي التي أرسلته كي يستطلع أحوالنا ، ويعدّ شبابنا ، ويحصي أعداد جاموسنا.) ( 2)

وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على الحذر الذي ظل يلازم عرب الأهوار من الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق ، وبعبارة أوضح فقد رأوا في ثيسجر رجلا إنجليزيا ، ورأوا في الحكومات العراقية حكومات نصّبها الإنجليز على اختلاف مشاربها وألوانها ، ما عدا حكومة عبد الكريم قاسم الذي أخذ لهم ثأرا ما قدروا هم على أخذه.

لقد تهادى إليهم ذات مساء صوت الزعيم من المذياع وهو يمجد تضحياتهم السالفة حين دكت حوافر الجيوش الإنجليزية صدر أرضهم الفسيح ويقرر: لقد أصبحت ناحية الجبايش قضاء الجزائر ، تقديرا لتضحيات أهلها ، والتي هي شبيهة بتضحيات الشعب الجزائري الشقيق. 
ومع كلّ ما مرّ من أسباب الحذر هذه ، فقد ظل ثيسجر ضيفا مكرما ، يحل بيتا ليومين أو ثلاثة ، ويرحل لينزل آخر ، هكذا عاش هو على امتداد السنوات التي قضاها بين عرب الأهوار .

لقد كان ذاك هو حال الضيافة مع كلّ ضيف ، وكلّ لاجئ ينزل بين العشائر من عرب الأهوار ، ولازلت أحمل في ذاكرتي أكثر من صورة لأكثر من رجل جاءنا لاجئا ، سواءً أكان هذا الرجل قد جاء من داخل العراق ، أو من خارجه ، ومن هذه الصور صورة ذلك الرجل الإيراني (3 ) الذي حلّ علينا لاجئا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية ، فما كان من أبي إلا أن أعدّ له دكانا ، إذ كان هذا الرجل اسكافيا وخرازا في آن واحد ، واسكنه بيتا إذ كان لا بيت لديه ، وطوال الفترة الممتدة من سنوات الحرب العالمية الثانية ، وحتى النصف الأول من سنة 1966م ، وهي سنة وفاته ، ظللنا نمده بوجبتين من الأكل غداءً وعشاءً.

( ألم ينقل " وليم هيود " 4 الكافر، حين تعرض للخطر، قول أحد شيوخ عرب الأهوار الجميع بحمايتي في هذه الخيمة، سواءً أكان صديقا أم عدوا ، مؤمنا أم كافرا.؟ ) ( 5) 
ولكي نتبين حقيقة اختيار ثيسجر النزول بين عرب الأهوار لهذه السنوات الطوال لا بدّ أن نتعرف على الأسباب التي حدت به للعيش هناك ، متنقلا بين هذا البيت وذاك ، وبين هذه القرية وتلك.
لندع ثيسجر يتحدث عن ذالك ( مثل عدد من الرجال الانجليز من جيلي وعلى تربيتي كان عندي تعاطف متحضر مع الحياة البسيطة عند الآخرين ، فطفولتي انصرمت في الحبشة التي كانت إذ ذاك دونما سيارات ، وطرق 
معبدة. وبعد أن تركت جامعة Oxford ، عشت لثماني عشرة سنة لاحقة في المناطق النائية من أفريقيا ومن الشرق الأوسط. 
كلّ هذا جعل من السهل عليّ أن أعاشر رجال القبائل ، وأن أكيّف نفسي مع طرق عيشهم ، وأن أجد اهتماما لدي في حياتهم ، ومن الصعب عليّ أن أشعر أني في بيتي مع أولئك ممن كان ينبذون عاداتهم الخاصة ، محاولين تعليق أنفسهم بالحضارة الغربية.) (6) 
ثم يضيف : ( وربما مضت ميولي الى حدّ قصيّ ، فأنا قد نفرت من السيارات والطائرات والراديو والتلفزيون ، وفي الحقيقة من أكثر مظاهر حضارتنا في السنوات الخمسين الماضية. 
لقد كنت سعيدا دائما في العراق ، وفي أيّ مكان آخر، أقاسم فيه راعيا وأسرته وحيواناته كوخا مملوءً بالدخان ، ففي مثل هذا البيت الآهل كان كلّ شيء غريبا ومختلفا ، فاعتمادهم على أنفسهم أحلني في طبيعة بتول ، إذ كنت مسحورا بشعور التواصل مع الماضي . 
لقد حسدت فيهم قناعة نادرة من عالم اليوم ، وحذقا في مهارات ، مهما كانت بسيطة ، لم أستطع أن أأمل نفسي بلوغها. كنت قد بددت سنيّ في حب الاستطلاع ، مع أنه لا توجد أماكن بعيدة المنال تُركت لتُستطلع ، على الأقل في البلدان التي استهوتني ، ولهذا شعرت بميل للنزول بين أناس من اختياري ، وبين العرب كنت قريبا جدا من أصدقائي ، لكن الترحال المتواصل منعني من بلوغ التعرف على أيّة جماعة معينة مثلما كنت أود. 
كلّ ما رأيت من عرب الأهوار حتى الآن كان قليلا ! ناجيت نفسي ، مرحون وودودون هم ، شغفت بالنظر إليهم ، فطرق عيشهم لم تتأثر بالعالم الخارجي إلا قليلا ، وهي فريدة ، وهم لطفاء ، وهنا - شكرا للّه - لا توجد علامة من علامات العصرية المملة ، كزي الملابس الأوربية المستعملة ، والمنتشرة مثل فساد في سائر الأنحاء من العراق. (7)

وهاهو يتحدث مثل إنسان بريء لا يريد الآخرون تصديقه ، فقد استولى الشك بالإنجليز على النفوس ، ولا غرابة إذاً في ذلك حين نستمع إليه ، وهو ينقل لنا هذا الحديث الذي دار بينه وبين صدام وكيل الشيخ مجيد الخليفة وابنه فالح والذي يسمونه بالعامية العراقية " السركال " (8)
:ـ ( ما هي خططك " صاحب"9 ؟ 
لقد أرسل لي فالح رسالة تبدي فيها رغبتك في زيارة الأهوار ، هل أنت تعمل عند الحكومة ؟
:
- لا ، أنا أسافر لأنني أُسر برؤية الأماكن المختلفة ، وبأصناف من أناس مغايرين.

:- من ينفق على رحلاتك ؟ ما الراتب الذي تحصل عليه ؟

:- لا أملك راتبا ، أنا الذي أنفق على رحلاتي الخاصة. 

:- كم هو غريب ؟

لم يقل صدام شيئا لدقيقة أو لدقيقتين ، واستطيع القول إنه لم يثق بما قلت لذا أضفت : لقد تجولت في عدة بلدان ، في الحبشة ، وفي السودان ، وفي البلاد العربية ، وأنا قادم للتو من كردستان . إنني أنشد المعرفة.
 تمنيت أن يكون لعبارتي الأخيرة وقع عليه ، فهو لم يود تصديقي تأكيدا إن قلت إني قد سافرت للهو.

:- أتنشد المعرفة بين المعدان ؟ سألني ونظرة شك.

:- المعرفة موجودة في كل الأماكن ، رددت باختصار مفيد.)(10)
= = = = = = = = = =
1- العودة الى الأهوار ص 89.
2- عرب الأهوار ص 105.
3- هذا الرجل الإيراني يدعى حسين العجمي.
4- وليم هيود، عسكري إنجليزي زار العراق سنة1807 .
5- العودة الى الأهوار ص 56.
6- عرب الأهوار ص 59.
7- نفسه ص 60 .
8- السركال : فصيحها هو السركار ، والكلمة تركيب عربي فصيح لا يمت الى العجمة بصلة ، وجمعها على العامي : سراكيل .
9- صاحب ، بمعنى صديق ، وقد استخدمها الأجانب الذين نزلوا العراق ، خاصة الانجليز منهم ، حين يريدون مناداة شخص عربيّ ، أو حين يناديهم شخص عربيّ كذلك .
10- عرب الأهوار ص 360








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا


.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا




.. الاحتلال الإسرائيلي يقصف المدنيين شرقي وغربي مدينة رفح


.. كيف تناولت وسائل الإعلام الإسرائيلية عرض بايدن لمقترح وقف حر




.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا