الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في اللغة العربية وعنها

اسماعيل شاكر الرفاعي

2023 / 12 / 20
الادب والفن


في اللغة وعنها

انا في عراك دائم مع اللغة ، قد نصطلح أحياناً ، ولكننا سرعان ما نعود لعداوتنا القديمة : حتى أنني كثيرأً ما أتساءل : ان كان اصل علاقة البشر بلغاتهم يقوم على : العداوة ام الانسجام !!!

بالنسبة لي لم تولد هذه العلاقة المرتبكة : منذ البدء ، بل بدأت تقريباً في سن المراهقة : يوم بدأتً احاول تقليد ومحاكاة : الرافعي والمنفلوطي وطه حسين ، وسيواهم من زعماء البيان العربي ، فكنت اصف ما اكتبه بانه خربشة على جسد اللغة ( العظيمة ، المقدسة ، لغة الوحي التي أبى الله أن يبلغ رسالته : الًا بكلماتها واصوات ومخارج حروفها ) ، فتولد عندي احساس عميق بتبكيت الذات ، ولا اعرف ان كانت جميع اللغات تعذب أبناءها هذا العذاب الذي عشته في مراهقتي وصدر شبابي ...

لم يمنحني غرامي المستمر باللغة فرصة أن أذهب بعيداً عنها ، وان اقرأ في ما يجب أن اقرأ فيه من معطيات الفكر البشري في مجالات العلوم الإنسانية الاخرى ، وحتى حين اطلع على ما يكتبه أدباء جيلي من نصوص : فإن التدقيق اللغوي في المبنى ، وتتبع منهج فقه اللغة : يأخذني بعيداً جداً عن المحتوى وعن التقنيات الكتابية : كأنما كتّاب العربية لا قدرة لهم على طرح الاسئلة الكبيرة التي كان يطرحها في ذلك الزمن ( بداية السبعينيات ) التنافس الشرس بين العلم والدين ، بين الرأسمالية والاشتراكية بين الفاشستية والديمقراطية ، بين الحرية كأفق للنجاة الفردي وبين نظريات الس ياسة والدين الداعية إلى الحفاظ على روح الجماعة ، وطاعة " أولي الامر " الذين يحكموننا بقوّة التغلب ، لا بقوة الاصوات الانتخابية ( بقوة الرأي العام ) ...

لن ينته العراك بين الكاتب الخارج من مستوى اجتماثقافي محدد ، وبين طموحه في استخدام لغة لا تشبه ابداً لغته الاولى : لغة الأهل والشارع والمحلة ، لغة الذكريات والدفء والوضوح ، لغة العطف والقسوة والمدح والهجاء : لغة الوضوح كله والصدق كله ذات الدلالات والرموز والايحاءت السهلة البسيطة . كل ذلك سيغادره ما ان يبدأ بالتعرف على موروثه وما يضم من نظريات وشروح وتفاسير ومذاهب تعج بالتناقضات ، ومعبأة جميعها بعلامة العصور القديمة : عصور التخلف والتي سمتها : التعصب ، فيشعر الكاتب أنه بلغته الجديدة هذه : غريب غربة اجتماعية عميقة - قبل أن تكون فلسفية - من اقرب الناس إليه ، فيغدو تأنيب الضمير سلوته الوحيدة في هذا الانفصال .
وهذا هو العقاب الثاني الذي توجهه اللغة لكتابها : الشعور العظيم بتأتيب الضمير وهو شيء يختلف عن : تبكيت الذات وجلدها ...

هذا التاريخ الموجز لعلاقتي باللغة العربية في شبابي : والذي يتضمن النقيضين : محبة ونفور ، صداقة وخصام ؛ طاعة لقواعد اللغة وتمرد عليها : يطل من جديد في كهولتي ، لكن بانحياز واضح : للغة عوام الأمة ، معجون بحب جارف لحوارات الناس العفوية وهم يمارسون حياتهم اليومية في الاسواق والشوارع والمقاهي وداخل البيوت ، ودفاع عن همسات العشاق في لحظات اللقاء الغرامي النادرة . موقف الكهولة هذا : جاء تحصيل حاصل لتأمل في تجربتي مع اللغة العربية ( واللغة هي مجموعة اصوات ذات جرس : يمنحها تميزها وشخصيتها وسط لغات البشر الاخرى ) : اصوات تعبر عن رؤيتي للعالم الذي اعيش فيه ، وهذه الرؤية لا يدرك معناها الًا مَن تعلم ما تتضمنه اصوات لغتي من دلالات . ومن هنا يأتي اعتزاز الناس بلغاتهم من حيث كونها حاملة لسر رؤيتهم عن العالم ، وكيفية التعبير عنه على شكل مواقف في الحياة ، ولهذا فان رقابة الناس على ما تحمله نصوص الكتاب من مضامين : سابقة على رقابة مؤسسات الدولة ...

اشكالية اللغة العربية مع كتابها تقوم على أنها تحدرت اليهم بقواعد صارمة مقدسة ، وعليهم طاعتها ، فاللغة هي التي تفكر وبالتالي تقرر بالنيابة عنهم ، وهي حين تنطق من خلالهم : لا تملك بنيتها معاييرَ وضوحٍ كافية : يساعد على بقاء وحدة الجماعة مستمرة ، فهي شاركت في تفتيت بنية الجماعة : حين لم تعبر بوضوح عن مضمون المشترك الرؤيوي الذي تحمله أصواتها للمجموعة البشرية الناطقة بها ، فالقرآن الذي يجمع أكثر من مليار عربي ومسلم على صحة مسلماته وأحكامه ، يصف نفسه بالقول : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ . سورة : البروج ، الآية ٢١ ) فالمعنى الاصلي للقرآن موجود فقط في اللوح المحفوظ الذي لا يمكن النفاذ إليه : وذلك لأن اللوح المحفوظ موجود قبل اللغة العربية ، وسابق على عملية التلفظ وشحن المفردات اللغوية بالمعاني والدلالات والرموز ...

ثم إن القرآن يؤكد هذا المعنى الخطير بعدم الوصول إلى القصد الإلهي ، او الى الغرض الإلهي بالقول في سورة الرعد : " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب : الآية : ٣٩ ) فالمعنى العميق للقرآن والدلالة الكبرى التي ينطوي عليها ، او سر الرؤية المشتركة للعرب التي تحملها اصوات اللغة العربية : يعبر عنها القرآن بتعبير آخر هو : أم الكتاب ، وتعبير ام الكتاب يرد مرة أخرى في سورة الزخرف : ( وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم : الآية ٤ ) فهذه الآيات توحي لي بأن القرآن الاصلي موجود في ام الكتاب عند الله ، في مكانة عليّة ، وانه لا احد يمكن أن يقوى على فك معانيه ذلك لأن : قرآن اللوح المحفوظ أو قرآن ام الكتاب : سابق على كل لغة بشرية وعلى كل لغة ، وانه من الصعب على البشر الوصول إلى المعنى الأصلي للقرآن ...

هذا الغموض في المعنى : هو الذي جر الى الفتنة الكبرى التي سقط فيها الآلاف من المسلمين من بدو العرب الذين تحولوا إلى عبيد في خدمة هذه العائلة القريشية أو تلك . ..

رفع الغموض عن دلالة اللغة الكبرى هو الخطوة الأولى المطلوبة في توضيح المعنى العميق لحياتنا بتوضيح نوع النشاط السياسي والاقتصادي والديني والثقافي الذي تقوم به فيها . ورفع الغموض يتطلب اول ما يتطلب : الشفافية ، وهي مهمة لا يقوم بها كاتب واحد مهما أُوتيَ من مواهب ومن ثقافة ، انها مهمة مجموعة من الكتاب : يقومون بها بحب ، تتطلبه مراجعتهم الجذرية لكل ( الأصول ) التي قيدوا حركتنا لها ، ومنعوا بها تفكيرنا من التفتح والازدهار ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | المسرحية والأكاديمية عليّة الخاليدي |


.. قصيدة الشاعر العقيد مشعل الحارثي أمام ولي العهد السعودي في ح




.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟


.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د




.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل