الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صِراع طبقي شَرِس وغير مُعلَن على خلفية إضرابات قطاع التعليم في المغرب

فؤاد بلحسن الخميسي
كاتب وباحث

(Belahcen Fouad)

2023 / 12 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


لم يستنفذ التحليل الطبقي للصراعات السياسية والاجتماعية كامل جدواه. ما يجري اليوم ‏على مستوى قطاع التعليم بالمغرب، على خلفية إضرابات الأطر التعليمية ضد إصدار ‏القانون الأساسي الجديد لموظفي قطاع التعليم، يُشَكل أرضية ملائمة لتشغيل بعض أدواته ‏بِقَصد فَهم وتفسير ما يجري على أصعِدة التمثيلية والمصالح وميزان المكاسب والخسائر التي ‏تدور حول هذه الأحداث المركَّبة. كما أن استثمار نظرية الألعاب من شأنه أن يمنحنا أدوات ‏إضافية لتفسير استراتيجيات الأطراف وتفاعلاتها. ويتمثل هدف هذه الورقة في محاولة ‏تحديد توزيع القوة والمصالح على خريطة هذا الصراع المركب. دون أن يعني ذلك أننا بصدد ‏الحديث عن صراع طبقي إحلالي، بل بصراع على المصالح. ‏
يتحرك هذا الإضراب المستمر على خلفية سياسية واجتماعية معروفة لدى الجميع: مشكل ‏تضخم هام في الاقتصاد العام، يعكس، بصورة عامة، الارتفاع المسجل في أسعار عديد من ‏المواد الاستهلاكية الأولية (الغذائية بدرجة أساسية) والثانوية، خاصة خلال السنتين 2022 ‏و2023 (مثلا: تأرجَح معدل التضخم بين الفترة يناير 2023 وأكتوبر 2023 بين 10,1% ‏و4,3%، وهي معدلات مرتفعة ما تزال الحكومة تجد صعوبة في إرجاعها إلى نسب التضخم ‏المعهودة). وهو وضع أضر- وما يزال- بفئتين رئيسَتَين في المجتمع: الطبقة الدنيا بدرجة ‏أساسية، والطبقة المتوسطة بنِسبَة أقل. وبِقدر ما زاد هذا التضخم من الضغوط على ‏القدرة الشرائية للمواطنين وعلى ميزانية الحكومة، لم تلتزم هذه الأخيرة سوى بالتزامات ‏محدودة بشأن إعادة توزيع الخيرات (زيادة لفائدة فئات مهنية دون غيرها، وهي فئات تنتمي ‏للطبقة المتوسطة تحديدا [قضاة، أطباء، ممرضون، أطر إدارية لبعض القطاعات، وضمنها ‏قطاع التعليم،...]). وعلى العكس من ذلك، تمت مكافئة بعض المقاولات الكبرى من خلال ‏تخفيض نسب ضرائبها على الأرباح وإهمال فئات مِهنية منتمية للطبقة المتوسطة (في مقدمتها ‏الأطر التعليمية) بالإضافة إلى المأجورين بالقطاع الخاص والأسر ذات الدخل المحدود. وهو ‏توجه يسير عكس المنتظر في هذه الظرفية الاقتصادية الصعبة. ومن هنا، جاء موقف الأطر ‏التربوية الرافض لهذا الاستثناء من الزيادات في الأجور. فمَن هي الأطراف الممثَّلة في هذا ‏الصراع داخل قطاع التعليم؟ وكيف تتقاطع و/أو تتناقض المصالح في هذا المشكل العمومي؟
يمكن حصر الأطر المعنية مباشرة بهذا الصراع في التالي:‏
أولا: الحكومة ممثلةً في وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة؛
ثانيا، الأطر التعليمية؛ و
ثالثا: آباء وأوليات تلاميذ المدرسة العمومية (كونها عمومية يعني الكثير هنا. وهو متغير أساس ‏في هذا التحليل).‏
إن حكومة أخنوش حكومة استثنائية في تاريخ المغرب. أولا، ربما هذه أول حكومة تحوم حول ‏رئيسها شُبهات كثيرة تخص ثروته وسلطاته الاحتكارية في بعض القطاعات الانتاجية، والتي ‏كانت وراء بعض القرارات والتشخيصات التقييمية الهامة لأكثر من مؤسسة دستورية ومنبر ‏إعلامي مستقل (مجلس المنافسة والمجلس الأعلى للحسابات على سبيل المثال). ولا يخفى أن ‏حكومةً يرأسها مليارديرا وتضم رجال أعمال فإنها ستُمثل- من بين ما تُمثل- مصالح رجال ‏المال والأعمال الكبار في البلاد (بل إن تمثيلية رجال المال والأعمال اليوم في المغرب اخترقت ‏بطريقة غير مسبوقة المجالس الترابية (جماعات وأقاليم وجهات)، وذلك عقِب الانتخابات ‏العامة والترابية لـ 8 شتنبر 2021 الأخيرة- مع العلم أن عددا ممن جرى انتخابهم وبلوغه ‏رئاسة هذه المجالس). فإذن نحن أمام سلطة حكومية تنفيذية وإدارة ترابية تُمثل نفسها ‏بالأولوية حين يتعلق الأمر بالمصالح التي تخص طبقتها -الطبقة العليا- داخل الشبكة ‏الاقتصادية.‏
وعقِب صدور القانون الأساسي المذكور، جاء رد فعل الأطر التعليمية؛ من خلال تفعيل ‏الإضرابات بصورة قوية وغير مسبوقة، أفرزت مشكلا عموميا اجتماعيا على الصعيد الوطني ‏هو الأكبر على مستوى علاقة الدولة بِموظفيها منذ إقرار دستور 2011. وعمليا، جدَّدت هذه ‏الإضرابات والاحتجاجات المرافقة لها الوصال بالنضالات الكبرى التي خاضها الـمُعطلون، ‏أكانوا من حملة شهادات الإجازة أو شهادات الدراسات العليا، خلال الفترة 2010-2013 ‏وكذا نضالات حركة 20 فبراير خلال الفترة 2011-2012، وإن اختلفت قائمة المطالب ‏وعمقها السياسي. فإذن هذا تاريخ جديد يُكتب في السجل النضالي لهذه الفئة المهنية. بل إنها ‏معركة تُزَحزح بنية وسوسيو-سياسية أمست متكلسة أكثر فأكثر، بعد أن استسلمت لحالة ‏من الجمود في علاقات الفاعلين (دولة؛ نُخب؛ طبقات؛ مجتمع مدني؛ مواطنون).‏
وإذا كان لا أحد بإمكانه أن يشك في أحقية المطالب الـمُعلَنة من هذه الفئة المهنية، فإن ذلك ‏لا يجب أن يُلغي البعد الطبقي لهذه المطالب وللفئة التي تقف خلفها. فكما تُمثل الحكومة، ‏من ضمن ما تُمثل، المصالحَ الطبقية لـمُكوناتها ولشبكتها الاقتصادية ولموقعها في السلم ‏الاجتماعي [رجال أعمال؛ تجار كبار؛ قوى احتكارية؛ قمم السلطة]، تُمثل الأطر التعليمية، ‏هي الأخرى، بدرجة أساسية مصلحة فئة منتمية للطبقة المتوسطة، بدأت تستشعر المخاطر ‏التي تطال مصالحها المادية ومستوى رفاهيتها وموقعها في التراتبية الاجتماعية وحالتها ‏القانونية، أكانوا متعاقدين أم نظاميين. وهي إذ تمثل مصالحها الفئوية-المهنية وانتمائها ‏للطبقة المتوسطة، لا تبدو أنها تلتفت إلى مصالح باقي الفئات والطبقات المتضررة، مادامت ‏قد دخلت محطة حاسمة في صراعها ضد السلطة الوصية على التعليم. وهو ما يضعها في ‏مقابل مصالح التلاميذ وجوانب من مصالح قطاع التعليم ككل، حتى ولو ادَّعت غير ذلك. ‏وإذا كان من شأن تحسين الوضع المادي للأطر التعليمية أن يُحقق لها تعاملا مساواتيا على ‏غرار باقي موظفي القطاع العام المستفيدين من رفع الأجور، فإن هذا لا يستدعي بالضرورة ‏أي مصلحة للقطاع ككل أو للتلميذ، ولا يُنفي الوضع التناقضي بين الإضراب ومصلحة ‏التلاميذ والقطاع ككل. ففي الوقت الذي تنتفض الأطر التعليمية انتصارا لما تعتبره «كرامتها» ‏ضد مُشَغلها (الحكومة)، ظلت الحلقة الأضعف، الفئة التلاميذية، حائرة بين الطرفين، ‏وتتحمل وحدها أضرار بليغة، ولا تَجد من يُمثلها.‏
وربما يَدَّعي البعض أن الأطر التعليمية لا تُمثل في هذه الحالة مصلحة طبقية؛ بدعوى عدم ‏انضمام باقي الفئات المهنية المنتمية لنفس الطبقة إلى الإضرابات والاحتجاجات، أكان في ‏الميدان أو عبر الدعم السياسي أو المرافعة؛ لكن الحقيقة غير ذلك. لأن باقي الفئات المنتمية ‏للطبقة المتوسطة مشاركة، فعليا وموضوعيا، بِصَمتها وغياب موقفها. فباقي فئات الطبقة ‏المتوسطة حاضرون في هذا الصراع (التجار المتوسطون، المحامون، الأطباء، الممرضون، أطر ‏قطاع الأبناك والتأمين والخدمات، وأمثالهم)، وحضورهم الصامت هذا تعبير عن عدم ‏تضرر مصالحهم، لكون أبناءهم يدرسون، بشكل عام، في مدارس خاصة أو يحصلون على ‏دروس خصوصية أو هما معا. فيكون بذلك هذا الموقع الصامت بمثابة تأييد موضوعي لهذا ‏الإقفال الجزئي والمتقَطِّع للمدرسة العمومية.‏
وعمليا، في منطقة الضغط بين الحكومة والمضربين، وُضِعت الطبقة الدُّنيا والأضْعف؛ أي ‏تلاميذ المدرسة العمومية وأوليائهم؛ في مرمى النار: غاب صوت آباء وأولياء التلاميذ، وتم ‏دعس مصلحة هؤلاء والعملية التعليمية ككل، فتم تأكيد استنتاج عام سابق مفاده أن ‏قطاع التعليم أصبح، أكثر فأكثر، مُسْتباحا. إلى درجة أن الأطراف التي تستفيد من نزيفه، ‏بطريقة مشروعة أو غير مشروعة، ما فتئت تتزايد وتتزايد مكاسبها [قطاع التعليم الخاص، ‏قطاع المطابع، قطاع دروس الدعم، قطاع اقتصاد الغش في الامتحانات،...). وهذه تراجيديا ‏مغربية كبرى لم تُكتب بعد، ويَجري التعاطي معها بلا مبالاة مُخجِلة تُعرِّض مصالح الوطن ‏وسُمعته لأضرار بليغة، حاضرا ومستقبلا.‏
وقد شَكَّـل هذا الإهمال لمصالح الطبقة الدنيا (تجار صغار، أُجَراء، حرفيون،...) من جانب، ‏والغياب شبه التام لصوتها؛ فرصة حقيقية لكشف حجم الاستضعاف الذي لَحق هذه ‏الطبقة في المجتمع، وضُعف قدراتها على تأطير نفسها والدفع بمَطالبها وصيانة مصالحها. ‏فالصمت الذي سجلته باقي فئات الطبقة المتوسطة -من غير الأطر التعليمية- ظهرت آثاره ‏السلبية بادية. إذ ما الذي يدفع رجل الطبقة المتوسطة للاحتجاج مع الطبقة الدنيا إذا كان ‏تَمَدرُس أبناءه يجري بطريقة طبيعية في صفوف المدارس الخاصة. وهنا يظهر التناقض بين ‏مصلحة الطبقتين في هذه النازلة.‏
لقد حاولَت بعض الأطر التعليمية إخفاء هذا التناقض؛ عبر توجيه رسائل طَمْأنة في اتجاه ‏أولياء الأمور؛ فَحواها أن ما يخوضونه من أشكال احتجاجية هو في صالح التلميذ أيضا. لكن ‏هذا ليس هو ما عَاينه الأولياء على الأرض؛ لأن الأضرار محَقَّقة ولا تحتاج إلى تأويل ‏. كما أن ‏النتائج المنتظرة من مخرجات المفاوضات المتوقعة، لن تُفيد سوى طرف واحد أيضا دون ‏غيره (الأطر التعليمية). فباستثمار نظرية اللعب هنا، يظهر أن التلاميذ والأولياء سيتحصلون، ‏في نهاية المطاف، على نتائج صفرية؛ باعتبار أن بنية هذه اللعبة بنيةٌ لاغية للطرف الأضعف ‏دون باقي الأطراف (الأطر التعليمية والوزارة). فما سيَحَصُل عليه المضربون لاحقا، يُقابله ‏حجمُ الضرر الذي يتحصَّل عليه التلاميذ حاليا. والأخطر في هذا المشكل العمومي، هو أن ‏أقوى أطرافه (الوزارة والأطر التعليمية) تصَرَّفت بمنطق همَّش الاستثمار الأساس الذي يدور ‏حوله القطاع المعني، أي جودة التمدرس. هذا في الوقت الذين يبحثون، ضمن سيرورة ‏اللعب، عن نتائج إيجابية للطرفين: السَير الطبيعي للمرفق العام بالنسبة للحكومة والزيادة ‏في الأجور بالنسبة للأطر التعليمية.‏
‏ وقد يكون مِن الجيد أن نعيد قراءة العبارة الواردة في بيان التنسيق الوطني لقطاع التعليم ‏بتاريخ 5 نونبر 2023 ونَضْحك من هذا التلاعب بالألفاظ والتأويل المعيب للوقائع، حيث ‏وردت إشادة بما أسماه البيان ‏‎“‎الوعي الرائع لأمهات وآباء التلاميذ وتضامنهم مع نضالات ‏الشغيلة التعليمية...". بينما الواقع يقول غير ذلك. فمُعظم الأولياء متذمرون من هذا الوضع ‏الذي بات يضر بمصالح أبنائهم ويُربك واقع الأسر. خاصة وأن ما يجري، بِغض النظر عن ‏أحقية أطر القطاع في انتزاع حقوقهم المشروعة، هو بحق، إضرار كبير بحقوق الأطفال ‏والتلاميذ عموما في التمدرس والتأطير التربوي. وإن محاولة بعض الأطر التعليمية جر بعض ‏أولياء التلاميذ أو التلاميذ أنفسهم إلى معركتهم؛ قصد إعطائها مزيدا من الزَّخم النضالي ‏وتصعيد الضغط على الدولة، ما هي- ويجب أن نقولها بوضوح- إلا عبارة عن استغلال ‏طبقي مكشوف، تقوم من خلاله فئة مهنية تنتمي للطبقة المتوسطة بالاستثمار في قوة أولياء ‏أمور منتمين للطبقة الدنيا عبر عملية غسيل دماغ لقوة جماهيرية كامنة. إنه عمل أيديولوجي ‏مكشوف غايته تصوير الدفاع عن مصلحة فئوية كأنه دفاع عن مصلحة عامة.‏
كنا سنعتبر أن معركة الأطر التربوية تستحق أن تُدعم جماهيريا لو أنها كانت «ضد قواعد ‏اللعب» وطبيعة العلاقات بين الفاعلين التي أفرزتها هذه القواعد ونتائجها على القطاع ‏التعليمي العمومي (المقصود هنا هو قواعد تدبير القطاع التي استنفذت فعاليتها، وأصبحت ‏وبالا على جودة العملية التعليمية ككل)، لكنها معركة «ضِمْن قواعد اللعب» غايتها توسيع ‏المصالح الفئوية لشغيلة مِهنية محددة حصرا لا أكثر.‏
لكن مع ذلك، نقبل- ومن واجبنا أن نفعل- حاجة هذه الفئة المهنية إلى التضامن، عبر ‏الموقف بدرجة أساس، اتجاه ما تتعرض له من إهمال مقصود من الدولة والقطاع الوزاري ‏الوصي. وهو إهمال يندرج ضمن الإهمال العام للمدرسة العمومية بكل مكوناتها ومقوماتها. ‏كما أنه من الواجب أن نرفض، كمجتمع مدني وسياسي، العنف التي تتعرض أثناء ‏احتجاجها في الشارع العام. وهو أمر يندى له الجبين حقيقة. وربما هو استثناء مغربي، ‏يعكس ثقافة سياسية عامة تجعل من العنف الرمزي والمادي أداة لِتصفية بعض النزاعات ‏والمطالب الاجتماعية. نعم، إن السلطة السلطوية غير متورطة مباشرة في هذا الصراع، لكن ‏حضورها قائم عبر رمزها الأبرز: العصا. فَظِل السلطة وإن كان متواريا فهو يتحرك خَلْف ‏المشهد لحراسة الاستقرار العمومي في سياق سوسيو-سياسي عام يعرف توترات مَخفية ‏وعلنية هامة جرَّاء الزيادة الملحوظة في هشاشة الطبقات الدنيا من المجتمع، بالإضافة إلى ‏تحركات الشارع على خلفية أحداث غزة وموقفه من التطبيع المغربي الرسمي. فالتقاطعات ‏هنا قائمة، والاحتمالات غير محدودة.‏

لكن، مع ذلك، يبقى هذا الإضراب حكاية هامة عن عدم تطويع جميع النخب والقوى سواء ‏من لدن النظام السياسي أو المؤسسات (النقابات في هذه الحالة). فالتنسيقيات التي تُؤطر ‏هذه الفعاليات الاحتجاجية تشتغل، أولا، خارج المؤسسات التقليدية للقطاع (لكن، هذا لا ‏يعني أن النقابات بعيدة عن المشهد، بل هي تَتَسَتَّر به عن ضعفها وبعضها يستقوي به، ‏والبعض يَركب الموجة– وهذه مفارقة تحتاج إلى تأمل)، وثانيا، استطاعت أن تُمزق إطار ‏التخويف غير المرئي الذي تضعه السلطة فوق رأس الأفراد والإطارات المستقلة والحرة ذات ‏المطالب الاجتماعية والسياسية. نحن إذن ضمن مفهوم جديد للنضال يتشكل، شيئا فشيئا، ‏داخل قطاع مجتمعي حيوي واستراتيجي، يعيد الأفراد ضمنه تشكيل تجاربهم النضالية ‏والاجتماعية والسياسية السابقة، لإعادة خلق إطار نضالي وشكل تعبوي غير مسبوق داخل ‏القطاع يجمع جميع الأطر، نظاميين ومتعاقدين. فعديد من هؤلاء الذين يقودون المشهد ‏خرجوا من ساحات النضال سواء في مرحلة بحثهم عن فرص شغل ضمن تنسيقيات الأطر ‏المعطَّلة أو من خلال تأطيرهم السابق داخل الأحزاب والمكونات السياسية الأخرى (بعضها في ‏المعارضة) او من خلال نضالهم السابق في سياق العمل على نزع الاعتراف بنِظَامِيتهم عِوض ‏تعاقُديتهم. هذا بالإضافة إلى الاستثمار الجيد لوسائل التواصل الاجتماعي في التعبئة ‏والتنسيق، وكذا الإمكانات المادية التي تسمح بالمضربين على الاستماتة في الاضراب والتنقل ‏المستمر. وإذا كانت التنسيقيات لا تحمل شعارات سياسية، فهي بلا شك تحمل نفَسا ‏سياسيا هو نفسه الموقف السياسي الذي يحمله بعض أعضائها من الحكومة ذاتها ومن ‏رئيسها. فالخلفية السياسية والموقف السياسي حاضران هنا، بصورة أو بأخرى. فالوجه ‏السياسي لأخنوش وشخصيته وسيرته ووعوده الانتخابية تؤدي، مجتمعة، دورا تعبويا ضده ‏الآن.. فالتاريخ لا ينسى ثأره من الفاعلين المغشوشين في ثناياه! ‏
أما بالنسبة للنسق السياسي المغربي ككل، فلا يمكنه أن يُخفي التوترات الناتجة عن ‏التفاوت الطبقي داخله إلى الأبد، خاصة في وقت الأزمات. ففي غياب سياسات واضحة ‏لإعادة توزيع الخيرات من لدن النظام السياسي وغياب خطاب سياسي رسمي مُقنِع، من ‏الطبيعي أن تتأزم الأوضاع وتأخذ أشكال توترات سياسية واجتماعية متفاوتة الشِّدة ‏والامتداد. وفي الواقع، إن انفجار هذه القنبلة الاجتماعية في وجه الحكومة، لهو انعكاس ‏لتاريخ من الاستهداف لهذه الفئة المهنية التي كانت في قمة هرم النخبة المغربية قبل أن ‏تتقهقر، تدريجيا، إلى الوضع الذي يكاد يُسقطها من الانتماء للطبقة المتوسطة ماديا ومن ‏الاعتبار الاجتماعي معنويا؛ وذلك عبر سلسلة من القرارات الوزارية والمقاربات الحكومية التي ‏جَمعت بين المقاربة الأمنية لقطاع التعليم والإهمال المستمر لأطره والنقص الحاد في مواكبة ‏حاجياته. وهذا المنظور الذي يتقصد إحداث هذه الأضرار عاد بصورة أقوى مع هذه ‏الحكومة. فالسيد الذي يملك وسائل الانتاج (أي الدولة بنخبها المنتمية للطبقة العليا) يُريد ‏أن يوسع من هامش ربحه الأمني والميزانياتي، على حساب طبقة شغيلة وقطاع ما فتئت ‏حاجياتهما ومطالبهما تتزايد من الناحية القانونية والمالية والاجتماعية. كما أنه يَتَقَصد إهمال ‏القطاع لفائدة توزيع الأرباح الفائضة من ذلك على مستوى الاستثمار بالقطاع التعليمي ‏الخاص بين عِلية القوم. خاصة وأن أرباح طبقة الرأسمال المغربي في هذا القطاع تتزايد ‏بحجم الضغوط على القطاع العمومي وتراجع جودته. ‏
يعكس تجميد تنزيل القانون الأساسي لقطاع التعليم، موضوع الصراع، مَخاوف جادة بشأن ‏إمكانية توسُّع المطالب وتَــكَثر فئاته على مستوى الشارع. حتى أن الحكومة لن تستطيع ‏التمادي في مُصادمة الأساتذة بالأولياء إلا ضمن مواقع محدودة؛ لأن هذه الخطة محفوفة ‏بكثير من المخاطر ‏. وهي في نفس الوقت، فهي سَتُعارض توجه الأساتذة، بدورهم، نحو ‏الاستثمار في القوة الجماهيرية (وهذا ما حصل بالفعل ضمن بعض المواقع التي دفع فيها ‏بعض الأساتذة الأولياء والتلاميذ إلى الخروج إلى الشارع، وتم تطويق أو التضييق عل هذه ‏الشكال الاحتجاجية). فكلا الطرفين يعرف أن باستطاعته أن يلعب ورقة "صوت" أولياء ‏أمور التلاميذ، باعتبار هؤلاء يمثلون الطبقة الأكثر قابلية للاستغلال، لكن، في الوقت نفسه، ‏تُشكل استراتيجية كل طرف من الطرفين في منع جر هؤلاء إلى صف الطرف الثاني. وفي ‏النهاية، يُمسي استمرار صمت الطبقة الأكثر تضررا يناسب ويُريح الطرفين القويين في الأزمة، ‏بل ويصير أهم ما يتمنيانه. وبذلك، تتمثل الاستراتيجية البعيدة للطرفَـين القويين في هذه ‏اللعبة في الحفاظ على خَرَسِ الطرف الأضعف، لكن مع إمكانية الاستثمار التكتيكي في هذا ‏الطرف.‏

إنه صراع طبقي يظهر فيه السعي إلى توسيع المصالح المادية والاعتبارية واضحا. وهو لا ينتهي ‏بإلغاء طبقة لطبقة أخرى، بل بتكريس الفرز فيما بينها وتوسيع الهوة بين بعضها في نفس ‏الوقت. بمعنى أن الأمر لا يتعلق هنا بصراع ينطوي على نزعة خَلاصية تأمَلُ فيها طبقةٌ مَا ‏إِنهاءَ الانقسام لصالحها نهائيا، أو أن تَطمَح فيها طبقة مَا إلى إلغاء التراتبية الطبقية القائمة ‏لصالح غنشاء تراتبية جديدة. بل يتعلق الأمر بتكريس نفس التراتبية الطبقية لكن مع إعادة ‏توزيع جزء من الخير العام لصالح فئة منتمية للطبقة الوسطى، انتفَضت لِنفسها ومن أجل ‏مصالحها الفئوية. وقد يبدو استحضار مفهوم "الكرامة" هنا إثارة رومانسية (سمى المضربون ‏إحدى مسيرتهم الوطنية بـ "مسيرة الكرامة")، لكن الأمر، حقيقة، بعيد عن هذا الخطاب ‏وهذا العنوان وهذه القيمة. فمعركة الكرامة لم يَخُضها الأطر التعليمية بعد. لأن إثارتها ‏تستدعي منهم أن يُثيروا حالة القطاع ككل (ظروف العمل، تجهيزات القطاع، جودة ‏مخرجات القطاع، العنف المدرسي، الصحة النفسية للأطر، الحالة التعاقدية لفئة من ‏الأطر، وضع القطاع في العالم القروي، الغش داخل القطاع، الفساد الإداري داخل ‏القطاع،...). لكن يبدو أنهم غير مهتمين حاليا لهذه الأمور. فالذي يجري اليوم هو أنهم غير ‏راضون عن أجورهم. وإذا حاولنا وضع معركتهم هذه ضمن إطار معين، فنستطيع أن نقترح ‏هنا إطار "الحساسية تجاه اللامساواة"، إذ أن إضرابهم التاريخي هذا يأتي على خلفيةِ ‏مقارنتهم لوضعهم المادي مع باقي شغيلة الدولة التي استفادت من زيادات في الأجور. ومن هنا ‏تستمد هذه المعركة مشروعيتها بالنسبة لهم. لكن، مع ذلك، هذا لا يُلغي حق الآخرين في ‏مساءلة طريقة تنزيل هذه المعركة، والأضرار التي تُخلفها على الأرض. والأمر ينطبق على ‏معارك أخرى جرت سابقا في هذا القطاع. ‏
وفي الأخير يبقى السؤال: من ليُدافع عن الحق في التعليم وفي مدرسة عمومية ذات جودة ‏لفائدة أبناء الطبقة الدنيا في المجتمع بعد أن تخلت الطبقة المتوسطة عن دورها في هذا ‏الشأن على إثر تهجيرها لأبنائها نحو المدرسة الخصوصية؟
فباستثناء الترقيعات الجزئية للقطاع التي تُباشرها الوزارة بين الفنية والأخرى، ظل الإهمال ‏الاستراتيجي سيد الموقف؛ حيث تُركت المدرسة العمومية تسير في اتجاه ترهلها التدريجي، أو ‏بعبارة أدق: تُرِكَتْ للفقراء. هؤلاء الذين أمسى الوعي بِبؤسهم الطبقي وإعادة اجترارهم لهذا ‏الوعي أكبر من قدرتهم على الفعل. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صاروخ باليستي روسي يستهدف ميناء أوديسا


.. ما فاعلية سلاح الصواريخ والهاون التي تستخدمه القسام في قصف م




.. مراسل الجزيرة يرصد آثار القصف الإسرائيلي على منزل في حي الشي


.. خفر السواحل الصيني يطارد سفينة فلبينية في منطقة بحرية متنازع




.. كيف استغل ترمب الاحتجاجات الجامعية الأميركية؟