الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشريح لمفهوم المقاومة في ثقافة العرب

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 12 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


تأسست الثقافة العربية على مفاهيم الإغارة والغزو. في ثقافتهم، كانت العِّزَة في أن تغلب قوماً آخرين وتسلب منهم قوتهم وثرواتهم ونسائهم وغلمانهم وأياً ما كان آخر يتفاخرون ويتكبرون به على من حولهم. ما كانت مفردات الدفاع والمقاومة قد عرفت طريقها بعد إلى دروب هذه الثقافة البكر ذات النزعة الهجومية المُقبلة على الحياة. سواء وسط القبائل العربية بعضها البعض في حروبها التي لا تنتهي، أو في تحالفاتها معاً ضد شعوب وأقوام الجوار، كانت دائماً فكرة استعمال القوة للإغارة على الأعداء وهزيمتهم وقتل رجالهم وسبي نسائهم والعودة ظافرين بغنائمهم محل تفاخرهم وتباهيهم فيما بينهم، كما صورته ملاحمهم الشعرية المتداولة حتى اليوم. كثيرون من شعراء العرب قد تغنوا بمديح أبطال قد ظفروا أو قضوا في غزوات بعيداً عن مواطنهم. لكنهم ربما لم يجدوا في مآثر من ماتوا في المقاومة دفاعاً عن أرضهم ما يستحق التمجيد كبطولة. ربما حَسَبوا الأمر ليس أكثر من واجب فطري. لكن البطولة، في مفهومهم، تحوي شيئاً آخر أكبر وأهم بكثير- القوة.

القوة زيادة وتوسع، فائض من مقومات الحياة عن حدودها الجغرافية والبشرية يدفعها للتمدد إلى جغرافية وبشرية أرحب وأكثر. وهي تزداد وتتوسع دائماً على حساب منخفضات القوة لدى الأغراب المجاورين والبعيدين، تبلعهم وتملء بفوائضها فراغاتهم ليتعاظم أكثر دافعها لمزيد من الزيادة والتوسع. القوة تُغذي قوة أكبر باطراد. والقوة حياة، لأنها زيادة وتوسع في مقدرات ومقومات معيشة البشر، ولو على حساب مقدرات ومقومات معيشة أقوام آخرين أقل حظاً وقوة. القوة قانون الحياة الأول، لأنها تُزيد وتُوسع من إمكانيات وفرص البقاء. بينما الضعف ضد الحياة ذاتها، لأن فيه نقصان وانكماش في فرص البقاء وسط طبيعة متحدية وعالية المخاطر إما أن يسودها الإنسان ويسخرها لأغراضه أو غلبت عليه وابتلعته في بطنها تحت وابل لا ينقطع من التقلبات والكوارث والأهوال والأمراض والفيروسات الفتاكة.

هذه هي القوة التي عرفها وفهمها العرب الأوائل الفاتحون. على أنقاض وجثث الضعفاء والمرضي من الأقوام المجاورين والبعيدين، أخذوا يتوسعون ويتوسعون أكثر، وتزداد قوتهم أكثر، حتى شيدوا الإمبراطورية ومعها الثقافة التي نعتنقها واللغة التي نتواصل بها الآن- المُمثلة ضمن اللغات الخمسة الرسمية للأمم المتحدة. في مفهومهم، كانت القوة مرتبطة بالهجوم والفتح- فتح الأمصار بقوة السيف واستعباد الأقوام بقوة ثقافة هجومية واستعلائية إلى حد العنصرية بالمدلول المعاصر. هذه الثقافة العربية الأصلية لم تعرف ولم تُقر في قاموسها لفظة المقاومة بمفهومها الحالي. ومن تقاوم؟! هل يوجد في محيطها من هو أقوى منها لكي يتجرأ أصلاً على التفكير في مهاجمتها وتضطر هي إلى مقاومته؟! هذا إذلال. ألا تكون مُهاباً ومُخيفاً لأعدائك لدرجة تُثنيهم عن مجرد التفكير في مهاجمتك، ومن ثم تضطر إلى الدفاع عن بقائك، هو بحد ذاته خزي ما بعد خزي تأباه وتنفر منه روح الثقافة العربية- في العصرين الجاهلي والإسلامي الأول على حد سواء.

المقاومة فعل انهزامي، يولد من رحم هزيمة ويدين لها بوجوده واستمراريته. طالما بقيت هزيمتك قائمة، بقيت مقاومتك للقوة التي ألحقت بك الهزيمة واجبة، على الأقل حتى تطهير كرامتك وكبريائك من الذُل الذي ألحقته بك الهزيمة. هذه الأخيرة لا يمحوها إلا الانتصار الكامل، الذي بدوره يتطلب قوة. في قول آخر، لن تسترد كرامتك من عدوك الذي هزمك في البدء وتقاومه الآن إلا بامتلاك ما يكفي من القوة لإزاحته بالقوة أيضاً عن كل ما اغتصبه منك من تراب وحجر وبشر. وإلى أن يتحقق ذلك، ستبقى أرضك وأهلك وعرضك وكرامتك وشرفك جميعها منقوصة ومُنتهكة ومُستباحة، وما من شيء على الإطلاق يستأهل أن تتباهى أو تتفاخر به أثناء مقاومتك لعدوك على أرضك أنت وبين ناسك أنت. حتى إذا تحقق لك غرضك ونجحت في طرده عن تراب وطنك وتحرير مواطنيك من تحكمه فيهم، لا يزال لا يوجد أي شيء على الإطلاق يستدعي التباهي والتفاخر به على الآخرين- أنت مجرد استرددت أرضك وقومك وكرامتك التي عجزت قبلاً عن صونها بعد غزوها واستباحتها وانتهاكها من طرف عدوك لحقبة من الزمن ستبقى وصمة عار محفورة في تاريخ بلادك، تشهد عليها قسمات أحجاره ومؤسسات ومورثات سكانه البادية للعيان والسائحين وطلبة التاريخ والأنثروبولوجيا عبر الأزمان الممتدة.

ليس صدفة أن يلتقي أشهر رجلين في العصرين العربيين الوسيط والحديث معاً وراء الكواليس في أحد أشهر الأفلام العربية خلال العصر الحديث- الناصر صلاح الدين. كان صلاح الدين الأيوبي رمزاً وتتويجاً لعصر طويل من الضعف والانحطاط العربي والإسلامي تلى زوال السيادة السياسية- ومن ثم الثقافية- العربية على أيدي قوى صاعدة من الشرق والغرب هزمت العرب وبعثرتهم وطردتهم من أهم معاقلهم الحضارية في دمشق وبغداد وقرطبة وغيرها من الحواضر. وسط هذا الضعف والانحطاط، عرفت الثقافة العربية للمرة الأولى مفهوم المقاومة، الدفاع عن وجودها وبقائها بعدما لحقت بها الهزيمة على يد أعدائها الكثر. وكان صلاح الدين واحداً من أبرز وجوه هذه الحركة المُستحدثة على المنطقة والثقافة العربية، لاسيما وأن مقاومته كانت موجهة ضد أقدم وأقوى أعداء المنطقة على الإطلاق- الغرب الصليبي.

في حقيقة التاريخ العربي، قامة صلاح الدين لا تطاول أبداً قامات رجال عِزّة وقوة وغزو وفتح وغَلبة من أمثال محمد بن عبد الله، عمر بن الخطاب، عمرو بن العاص، معاوية بن سفيان، طارق بن زياد، عبد الرحمن بن معاوية أو هارون الرشيد، من جملة آخرين كُثر. هؤلاء كانوا رجالات عصر القوة، الزيادة والتوسع في الجغرافيا والبشر والعلم والثقافة والقوة والثروة وأشياء أخرى كثيرة، ولو على حساب وأرواح ثقافات وأقوام آخرين. الأيوبي، في المقابل، هو أحد رجالات عصر الضعف، النقصان والانكماش والانكفاء على الذات في كل شيء، فراغ القوة الذي يثير لعاب الأقوياء القريبين والبعيدين. في الماضي، مدفوعين بفائض قوتهم، عبر الفاتحون الأوائل البحر لملء فراغ القوة على البر الغربي المسيحي؛ لكن اليوم، في عصر الناصر صلاح الدين، يحدث العكس: الغربيون الصليبيون يعبرون البحر لملاقاته وقتاله في عقر داره. ماذا يعني ذلك؟ أن ثَمَّة ضعف وفراغ أغراهم على المجازفة. ومن رحم هذا الضعف والفراغ، وُلد مفهوم المقاومة وقائدها الناصر صلاح الدين في الثقافة العربية. وعلى خلفية تفاقم الضعف واتساع فجوة الفراغ أكثر بمرور الزمن حتى الآن، تضخم مفهوم المقاومة ليتخطى حدوده الطبيعية ويتحول إلى إدمان مرضي يفتك بصحة مفهوم القوة والبطولة الحقيقية.

علاوة على كونها انهزامية النشأة، المقاومة تفتقر إلى الغاية الإيجابية- هدفها الأساسي استرداد الحق الأصلي المسلوب أكثر من اكتساب وإضافة حقوق جديدة. لهذا، عندما نجح صلاح الدين في صد حملة ريتشارد قلب الأسد، ملك إنجلترا، تحولت القوة الإنجليزية الفائضة عن حدودها أصلاً خلال عهود خلفائه لتفتح عالماً بأسره عبر المعمورة المأهولة وغير المأهولة لا زال مهيمناً وسائداً حتى اللحظة. الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا العظمى، كندا، أستراليا، ونيوزلندا هي بعض المنجزات العينية للقوة الهجومية الفائضة كما جسدها ملك الإنجليز حينذاك. في المقابل، بقيت قوة المقاومة الدفاعية المنقوصة كما جسدها الناصر صلاح الدين، حتى بعد تحقيق هدفه وصد عدوان عدوه، حبيسة داخل إقليمها، عاجزة عن التمدد بالزيادة والوسعة خارج حدودها في أي اتجاه. إن توقف الزيادة والتوسع في حياة الأمم والشعوب يُولد حتماً المزيد من الضعف والهوان، الذي من الطبيعي أن يثير لعاب الأقوياء من مناطق بعيدة تزخر بفوائض القوة.

هذا هو الوضع الذي ورثه زعيم العصر العربي الحديث جمال عبد الناصر من سلفه المقاوم الأبرز صلاح الدين، الذي نجح فعلاً في استرداد بعض النقصان والحفاظ على ما هو قائم؛ لكنه، بالتأكيد، لم يضف زيادة أو توسع من أي نوع كدأب الفاتحين والمؤسسين الأوائل. لذلك، بحلول زمن عبد الناصر، كان نفس العدوان الغربي قد زاد قوة وتوسع وانتشار حول العالم، ليتفاقم في الجسد العربي من مجرد مناوشة على التخوم إلى احتلال واستيطان كامل لحواضر المنطقة كلها. هكذا، بعدما نجحت عقلية الإيمان بالقوة والمبادرة بالفعل والإغارة والغزو المطرد في لململة أشلاء المنطقة العربية الحالية في إمبراطورية مكتملة الأركان عبر عهود العرب الفاتحين الأوائل، أوصلتها عقلية تقديس المقاومة والصد ورد الفعل المغلقة الأفق والمندفعة من رحم الهزيمة التي بدأت من زمن الناصر صلاح الدين واستمرت وصولاً إلى من طمع في نيل سمعته ومكانته وشرفه المزعوم خلال العصر الحديث إلى مجرد مستعمرة غربية بالكامل. في نفس هذا الفصل المُخزي والشائن من التاريخ العربي، وُلدت وتشكلت عقلية الناصر الجديد، أو جمال عبد الناصر ورفاقه.

لكي تخلق من فعلٍ هو من منشأه شائن ومُخزي- ولد من رحم هزيمة- فعلاً بطولياً، لابد أن تقطع التاريخ. لسنا نحن الذين نتحمل وزر الهزيمة وما يستتبعها من خزي وعار. كأن التاريخ قد بدأ للتو، وكل ما فات عدم أو نسياً منسياً، أو مؤامرة كونية. هذه النظرية الثورية المهترئة لتاريخ الشعوب والأمم استوردتها المنطقة العربية جاهزة ومعدة سلفاً للاعتناق من مشارق الأرض ومغاربها- خاصة من روسيا والصين وبلدان من أمريكا اللاتينية. من هذا المنطلق المهترئ العبثي، تخيل الثوار أنفسهم أبطالاً فاتحين حتى رغم كونهم يقاتلون عدوهم فوق أراضيهم ووسط أهاليهم. بعدما مسحوا من ذاكرتهم وكتبهم حقائق ماضيهم المهزوم والمنكوب والمنكوس الذي من رحمه ذاته ولدت عقيدة المقاومة ولولاه ما كان لها أن توجد أصلاً، صدقوا كذبتهم على أنفسهم أنهم يصنعون التاريخ، من جديد ومن الصفر على ورقة بيضاء. لكنهم، في الحقيقة، يستردون- لا يفتحون- أرضاً هي في الأصل أرضهم، ويحررون قوماً هم في الأصل قومهم؛ هم لا يتقدمون إلى المستقبل عبر الزيادة والتوسع، بقدر ما ينكصون إلى الماضي السابق لهزيمتهم. وحتى لو نجحوا في تطهير الأرض وتحرير الناس بالكامل، لن يعوض ذلك أبداً ما قد فاتهم من ازدياد وتوسع ونقصان في القوة طوال مدة الاحتلال، ولن يمحوا أبداً من حقائق التاريخ خزي الهزيمة التي لحقت بهم أولاً. مجرد أن يفكر عدوك في التعدي عليك هو إثبات لا يقبل التشكيك لما قد آلت إليه أحوالك في شتى جوانبها من ضعف وانحطاط وافتقار في كل ما يستدعي التفاخر والتباهي والاحتفاء به. فما بالك إذا ما تمكن من احتلال أرضك وفرض حكمه على شعبك لكي يستوجب منك مقاومته!

المقاومة ثقافة الشعوب والأمم المهزومة. وليس في الهزيمة ما يستأهل التفاخر أو التباهي أو ادعاء بطولة غير موجودة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإمارات وروسيا.. تجارة في غفلة من الغرب؟ | المسائية


.. جندي إسرائيلي سابق: نتعمد قتل الأطفال وجيشنا يستهتر بحياة ال




.. قراءة عسكرية.. كتائب القسام توثق إطلاق صواريخ من جنوب لبنان


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. أزمة دبلوماسية متصاعدة بين برلين وموسكو بسبب مجموعة هاكرز رو