الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشهد العلاقة بين ضفتي الأطلسي

خالد عبدالله

2003 / 6 / 22
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 

كاتب عربي يقيم في وارسو

كان اجتماع حلف الناتو الأخير في بروكسيل حدثا هاما. فقد انصاعت أوروبا للمطالب الأمريكية في إعادة بناء حلف الناتو؛ أغراضه، وهيكله، وقواعده العسكرية، ومقراته الإقليمية. هكذا على الأقل يبدو الأمر حينما نركز الأنظار على الحدث في دائرته الضيقة.

لقد قام حلف الناتو لتحقيق غرضين أساسيين، أحدهما معلن والأخر مضمر. أما المعلن فهو خلق سد منيع يحمي أوروبا الغربية من الخطر الشيوعي. أما المضمر فهو أن العدو الشيوعي كان ذريعة وافية لبسط النفوذ الأمريكي على أوروبا الغربية وخلق حالة من الإذعان الواسعة للرغبات والطلبات الأمريكية، ولما تفعله على الصعيد العالمي.

وحينما سقط الاتحاد السوفييتي، هوت معه الذريعة، وبرزت فرص جديدة. وبين الاثنين تناقض بين. فهويان الذريعة يستصحب ذهاب ما قد أسس عليها. وذلك يعني انطلاق أوروبا من الأسر الأمريكي. كما أن الفرص الجديدة التي خلقها تفتت الاتحاد السوفييتي أماط اللثام عن ميزان القوى العسكرية في العالم. دولة واحدة تملك من القوة ما تملكه بقية دول العالم. لكن هذه الدولة الواحدة ذات إرادة واحدة. والعالم دول شتى ذوات إرادات متباينة، وأهواء مختلفة، ومصالح متعارضة. وحين الإطلال على هذا المشهد بهذا المنظار تتعاظم القوة الأمريكية أكثر كثيرا من حقيقتها.

ولأن أمريكا واعية على فرادة موقعها العسكري انصب اهتمامها على استثمار كل طلقة في جعبتها لتعظيم مصالحها، ولتحقيق، وهو الأهم، وضع متفوق عسكريا وتقانيا واقتصاديا مستداما. وهذا يقتضي منع الآخرين عمليا أن يطمحوا، أو على الأقل أن يتمكنوا يوما من منافستها. وليس هذا تقويلا للأمريكان، بل تذكيرا بما أعلنوه في استراتيجيتهم.
ا
وبين الواقع الأمريكي الحالي، والواقع الأمريكي المأمول مسافة لا تستطيع أمريكا قطعها إلا بجملة من الحركات السياسية والعسكرية والاقتصادية على رقعة العالم الواسعة. فالحركة العسكرية في أفغانستان والعراق إحداها، وبناء أحلاف الراغبين أخرى، وتقييد حركة غير الراغبين ثالثة، والرشاوى والتهديدات رابعة، وهكذا دواليك.

وقد رمت خطتها لتكييف حلف الناتو إلى إبقاء السرب الأوروبي محلقا خلف قيادتها. ووجدت ذريعة جديدة تمد الحلف بحياة جديدة؛ محاربة الإرهاب، ومخاطر البلدان المتداعية، وانتشار أسلحة الدمار الشامل. وهي ذرائع لا تستطيع البلدان الوقوف في وجهها. كما أنها أجرت تغييرات في بنية الناتو تجعله أكثر استجابة للمتطلبات الأمريكية. واستطاعت أن تفرض خطتها من خلال تأليب البعض الأوروبي على البعض الآخر، ومن خلال رفع درجة الوقاحة السياسية إلى مستويات عالية.

هذا ما يمكن مشاهدته حين النظر من خلال العدسات الضيقة للمنظار.

 لكن إن نظرنا من خلال عدسات أوسع نطاقا وأبعد نظرا، لوجدنا أن المنظار يكشف مشهدا أوسع، يضم المشهد الأول لكنه يعطي انطباعا آخر. ففي الوقت الذي أقر حلف الناتو إنشاء قوة الانتشار الغربية التي قد يصل تعدادها إلى 21 ألفا ولتعمل في مناطق العالم المختلفة، نجد أن قوة الدفاع الأوروبية قد شرعت في خطوتها العملية الأولى باستخدام قوة أوروبية خارج أوروبا، في الكونغو على وجه التحديد. وهذه القوة التي يقودها فرنسي تحدد منطلقاتها الاستراتيجية اللجنة السياسية والأمنية في الاتحاد الأوروبي. وقد بدأت عمليتها الأولى بموافقة الأمم المتحدة، وهي إشارة مهمة تقول أن المرجعية لعمل البلدان والمجموعات على المسرح العالمي ينبغي أن تكون الأمم المتحدة، وليس من خلال التفرد باتخاذ القرارات والإجراءات.

فإذا كانت أمريكا قد نجحت في فرض رؤيتها على حلف الناتو، فهي لم تستطع  من خلالها أن تحقق هدفها الأساسي، وهو منع السرب الأوروبي من أن يكون له قوة دفاع مستقلة. وبالرغم من محاولة تقديم التبريرات لقيام القوتين، فليس ذلك إلا لإخفاء التناقض. وقد استخدمت أوروبا القديمة أساليب المداراة والمداورة من أجل احتواء الغضب الأمريكي ولكي تحرم الولايات المتحدة من أسباب مواصلة حملتها العلنية. فهي لم تعرقل الطلب الأمريكي لتكييف حلف الناتو، لكنها سارت في طريق خلق قوتها الدفاعية المستقلة التي يصعب على أمريكا انتقادها، وبخاصة أن أوروبا تؤكد وتكرر أن القوة الأوروبية تكمل قوة حلف الناتو. كما أنها تؤكد على المشترك بين جانبي الأطلسي.

ولأن رمسفيلد يستشيط غضبا من مناورات أوروبا القديمة السلسة، التي لا تعطيه ذريعة لممارسة هواياته في تقريع أوروبا القديمة بشكل مباشر، بادر بإثارة بلبلة حول قضايا ثانوية. فهو لم يكتف في تصريحاته بألمانيا بإعادة التفريق بين أوروبا القديمة وأوروبا الحديثة، بل شن هجوما قاسيا على بلجيكا مهددا إياها بنقل مقر حلف الأطلسي منها. ولم تكن إثارته لموضوع قبول المحاكم البلجيكية بالدعاوى المتعلقة بجرائم الحرب أينما وقعت ومن أية جهة ارتكبت أصيلا وحقيقيا. وذلك لسبب بسيط يعرفه، وهو أن بلجيكا عدلت قانونها بحيث أصبحت تحيل القضايا المرفوعة ضد أمريكيين إلى الولايات المتحدة نفسها. وبالتالي، لم يعد هناك مبرر للتخوف الأمريكي من أن يتعرض المتهمون الأمريكيون لمضايقات في بلجيكا. وليست حملته على بلجيكا إلا لأنها الحلقة الأضعف في أوروبا القديمة، وليس تهديده لها إلا محاولة لثنيها عن مجاراة فرنسا وألمانيا في التوجهات السياسية والدفاعية الأوروبية المستقلة. وقد أدرك الألمان ذلك حينما وصفوا تهديدات رمسفيلد بالعمل المسرحي.

ويثير حفيظة الأمريكيين أن مسار بناء السياسة الخارجية والدفاعية الأوروبية المستقلة قد بدأ فعلا. فالخطوة الأوروبية في إرسال قوة إلى الكونغو جاءت بعد أسابيع قليلة على إعلان وزراء الدفاع في  الاتحاد الأوروبي أن قوة الردع الأوروبية التي تتكون من 60 ألف جندي أصبحت جاهزة، ومستعدة للعمل فورا عند الحاجة. كما أن الدستور الأوروبي الذي تمت الموافقة المبدئية عليه يضع أسس بناء السياسة الخارجية والدفاعية الأوروبية المستقلة. وليس ما تقوم به أوروبا إلا خطوات كبيرة في طريق استكمال مخالبها الاقتصادية بمخالب سياسية وعسكرية.

فالمشهد الحقيقي مليء بالمواقف المتناقضة والإشارات المتعارضة، لكن ينبغي أن نفصل اللغة الدبلوماسية الأوروبية عن المساعي الأوروبية الفعلية. فاللغة الدبلوماسية لغة مصالحة وامتصاص نقمة. فحينما تتحدث أوروبا القديمة عن أن ما يجمعها أكثر مما يفرقها، فهي تؤكد أن هناك ما يفرقها وهو ليس يسيرا ويتزايد حجمه. وهذا مما يبعث الجنون في أمريكا.

فليس هناك قوة تستطيع أن توقف الاستراتيجية الأمريكية في فرض الهيمنة العالمية المتفردة مثل أوروبا، ليس لأنها قوة اقتصادية تعادل قوة أمريكا فحسب، وإنما لأنه ليس سهلا على أمريكا توصيفها بالعدو، وليس ممكنا نعتها بمخالفة القيم الغربية فهي مصدرها ومنبعها. وكل ما تستطيع أمريكا اتهامها به أنها رخوة لا تتقن لغة الحسم والمواجهة، وهذا اتهام يعزز الموقف الأوروبي.

ويزيد حنق أمريكا على أوروبا أنها تكشف عوراتها الأخلاقية على معظم الأصعدة. فأوروبا تحرج أمريكا في مجال البيئة، وتضايقها في مجال محكمة الجرائم الدولية، وتكشفها في مجال المساعدات إلى البلدان النامية، وتتصدى لمغامراتها العسكرية. صحيح أن الفرق بين جانبي الأطلسي في كثير من القضايا، وبخاصة فيما يتعلق باستغلال البلدان النامية، هو تميز من يخرج على الناس ساترا عورته بورقة التوت عمن يخرج على الناس كاشفا لها. لكن هذا التميز كبير في معركة الصراع على المصالح.
 

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟


.. ماكرون يثير الجدل بالحديث عن إرسال قوات إلى أوكرانيا | #غرفة




.. في انتظار الرد على مقترح وقف إطلاق النار.. جهود لتعزيز فرص ا


.. هنية: وفد حماس يتوجه إلى مصر قريبا لاستكمال المباحثات




.. البيت الأبيض يقترح قانونا يجرم وصف إسرائيل بالدولة العنصرية