الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم القوة في العصر الحديث

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 12 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


القوة ليست غاية. لكن هي وسيلة لغاية أكبر وأعظم منها بكثير- البقاء. ليس البقاء بأي طريقة والسلام. لكن البقاء في أبهى وأرغد وأفخم صورة ممكنة، حتى لو تحقق ذلك على حساب آخرين ليسوا أقل منا رغبة في البقاء وتمسكاً به. الإنسان ليس كالبهيم يكفيه أن يملئ بطنه ويروي عطشه. بالإضافة إلى ذلك، الإنسان يطمح إلى ما هو أسمى وأرقى بكثير- إلى الكرامة والكبرياء والمجد والخلود ذكرى مُجَلجلة في ذاكرة أُمَتِهِ والبشرية. ولم يكن أمامه من سبيل أسهل وأفضل، وأكثر اعترافاً به وتقديراً له، من أن يقتل نفراً آخرين من الأغراب غير المحسوبين على بني قومه أو المشمولين بحمايتهم، وينتزع منهم عنوةً وبقطع الرقاب ما كان يُعيلُ بقائهم، ويَختَصُ به نفسه وأبناء قومه. وفي أثناء ذلك، ينال منهم التقدير والعرفان لما آتاهم من خيرات وكنوز وغنائم أعدائهم، فضلاً عن رفعته لمقامهم ومكانتهم ومهابتهم وشوكتهم وسط بقية الأقوام والأمم. للأسف، قد ظل قاتل الأغراب ومُغْتَصب مُقدراتهم هذا هو نفسه بطل التاريخ الذي تُخلد ذكراه أشهر الملاحم الأدبية في كل أرجاء العالم منذ آلاف السنين حتى زمن قريب جداً.

حين قتلوا من الأغراب رجالهم، واستمتعوا بنسائهم، واستعبدوا أبنائهم، وسكنوا قصورهم ونعموا بخيراتهم وحُليهم، ما كان العرب الأوائل يَسِنون بذلك بِدْعةً في تاريخ البشرية. كان تقليداً راسخاً عبر التاريخ قد سبقهم إليه قبل آلاف السنين، من جملة آخرين كُثر، المصريون والهنود والصينيون والسوريون والعراقيون والإيرانيون. ثم صقله ورسخه أكثر المقدونيون والرومانيون حتى بلغ العرب. وبعد هؤلاء، زاد من رقعته ورسوخه أكثر الروس والأتراك والأوروبيون، الذين حلقوا به إلى ذرى غير مسبوقة في التاريخ كله وصولاً إلى عدة عقود ماضية فقط- بالتحديد حتى الحرب العالمية الثانية. بحلول هذا التاريخ، كانت القوة بمفهومها الممتد منذ آلاف السنين- استعمال القوة في بناء الإمبراطورية أو بغرض التوسع الإمبريالي كما يسميه البعض- قد بلغت حداً استنفد الأرض كلها، المعمورة وغير المعمورة على حد سواء. ما عاد في الأرض شبراً فارغاً أو من دون صاحب حتى تتوسع فيه القوى المتنافسة فيما بينها فوق اليابسة الأوروبية المتناهية الصغر؛ والتي ما عاد أمامها من متنفس آخر للتمدد إلا أن تصطدم وتنفجر في بعضها البعض. وهو ما قد حدث بالفعل، مُتوجاً بحربين طاحنتين أبانت جلياً للكافة وأقنعتهم بالبرهان القاطع أن الوسيلة- القوة- باتت تشكل تهديداً خطيراً على الغاية ذاتها- البقاء. لقد أضحت القوة بمفهومها وممارستها القديمة هي ذاتها الخطر الأكبر على الإطلاق على بقاء الحياة والنوع البشري ذاته. وعندئذٍ تولَّدت البِدْعة الحقيقية التي ستغير من مفهوم القوة، وستحول للأبد مسار التاريخ إلى وجهة جديدة.

لتوضيح حجم ما أُدخل على مفهوم القوة من تغيير جوهري بعد الحرب العالمية الثانية، تعرض جمهورية 1952 في مصر مثال حالة كاشفة. فبفضل النظرة الجديدة لدور القوة في العلاقات الدولية، تحررت مصر من رِبْقَة الاستعمار الإنجليزي القائم على المفهوم القديم. وباعتبارها أحد أبرز دعاة وأنصار الرؤية الجديدة، قد تحقق ذلك تحت ضغوط أمريكية جلية على بريطانيا كأحد أبرز القوى الاستعمارية التي جسدت ودافعت عن النظرية القديمة. بالفعل، تأسست الجمهورية المصرية بزعامة جمال عبد الناصر في تحالف وعلاقة وثيقة مع الإدارة الأمريكية وما ناصرته من مبادئ دولية في ذلك الوقت. لكن ذلك لم يمنع مصر، بمرور الوقت وتوالي التطورات، من تحويل الدفة بالكامل شرقاً جهة الاتحاد السوفيتي فيما بعد. أكثر من ذلك، في عهد السادات، عادت مصر أدراجها لتحول دفة علاقاتها الدولية للمرة الثالثة عودة إلى معسكر الغرب الأوروبي والأمريكي- في جميع المرات دون أن تفقد من تراب أراضيها ذرة غبار واحدة جراء ذلك. أيضاً، في الزمن الحاضر، بمقدور أي من السعودية أو قطر أو الإمارات أو البحرين، أو أي دولة أخرى لديها ما يَسيلُ له لعاب من يفوقونها قوة وبأساً في الجوار أو من بعيد، أن تشتري بمالها من القوة المسلحة الأجنبية، من أي بائع تشاء، ما تراه كافياً لحماية ترابها وثرواتها. وفق مفهوم القوة القديم، وكما كانت عليه أحوالها فعلياً حتى الماضي القريب، كانت جميع هذه الدول وأشباهها لن تعدو سوى أن تكون مجرد مستعمرات لقوى أكبر وأقوى منها. بينما، وفق المفهوم الجديد، ما من شيء على الإطلاق- عدا ما تراه مصلحتها- يمنع السعودية من تمزيق تعاقدها الأمني مع الولايات المتحدة، أو من شراء الأسلحة أو إبرام أي صفقات مع ألد خصومها، مثل روسيا والصين.

بالنظر إلى فارق القوة المهول، ما هذا الذي يضطر الولايات المتحدة الأمريكية إلى العمل أشبه بمقاول أجير لدى السعوديين؟ وماذا يمنع السعوديين، أو الإيرانيين أو المصريين، أو حتى البريطانيين أو الأمريكيين أنفسهم، من ابتلاع دويلات فاحشة الثراء ومتناهية الصغر والقوة مثل الإمارات أو قطر أو البحرين؟ وما هو وجه الخطأ حين غزت العراق في عهد صدام حسين جارتها الصغيرة الكويت؟ هل كان صدام بفعله ذلك يأتي ببدعه إلى التاريخ، أم مجرد يتبع سُنَّة قديمة قدم التاريخ ذاته، لكن في عصر آخر غير عصرها؟ كان صدام في العصر الحديث لا يزال يفكر بعقلية زعماء العصر القديم. وقد نال جزاؤه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإمارات وروسيا.. تجارة في غفلة من الغرب؟ | المسائية


.. جندي إسرائيلي سابق: نتعمد قتل الأطفال وجيشنا يستهتر بحياة ال




.. قراءة عسكرية.. كتائب القسام توثق إطلاق صواريخ من جنوب لبنان


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. أزمة دبلوماسية متصاعدة بين برلين وموسكو بسبب مجموعة هاكرز رو