الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إتاداكيماس

إياد الغفري

2023 / 12 / 23
الادب والفن


طالما رفضت قراءة الهايكو واعتبرته إضاعة للوقت.

تذوق هذا النوع من النثر الذي يفترض أنه كان شعراً بلغة أخرى يتطلب الكثير من الخيال، هذا الخيال طالما نقصني بسبب من مادية اعتمدتها منهجاً لحياتي منذ قراءة الأدبيات الماركسية التي كان للمرحوم والدي الفضل في اطلاعي عليها ولاحقاً في مقتبل الشباب والرجولة عندما عرفت أن المادة التي هي محرك التاريخ قُصِد بها أوراق البنكنوت.

الاعتراف بالجهل فضيلة، فضيلة حتى لو أنه آتى متأخراً وذلك قبيل النهاية أو في مرحلة الخريف، ورغم أن تذوقي للهايكو ما يزال محدوداً ومرتبطاً بالترجمة إلا أنه في حالة تحسن تدريجي.


تذوق الأدب بالنسبة لي كتناول الطعام، اعتدت أيام المراهقة المبكرة تناول وجبات دسمة، روايات الروس العظام، روايات فوكنر وأعمال لكبار المؤلفين الأوربيين والعرب.
في نهاية مرحلة المراهقة بدأت بالتعرف على الأدب العربي وكان السبق للمؤلفين المصريين الذين نالوا الحصة الأكبر من زادي، بُهِرت بالغيطاني، القعيد، وصنع الله إبراهيم فكنت أتلذذ بما كتب كل منهم وكأنني أستمتع بوجبة شهية، بينما بقي معلم الأدب المصري الكاتب الكبير نجيب محفوظ مادة للاطلاع التاريخي ولحشو المعدة وليس للمتعة.

خلال دراستي للمسرح وفي دهاليز أحد المهرجانات المسرحية استقدمت وزارة الثقافة الغراء حينها الأديب المصري الراحل يوسف إدريس، كان هذا قبل وفاته بأعوام قليلة وبعد إدماني للأدب المصري بقليل، سنحت لي الفرصة للجلوس مع المرحوم لساعة من الزمن تبادلنا فيها أطراف الحديث وتثاقفنا في الأدب، وكنت أكيل له الأسئلة رشاً ودراكاً وأستمع بلذة لا تفوقها إلا لذة أخرى لما يسرده عن الواقع الأدبي في مصر، ذكرياته ومعلومات أخرى تمنيت لو أنني سجلتها ولم أعتمد حينها على ذاكرتي التي حسبتها حديداً لكنها تطورت لتصبح زئبقية مع الأعوام.
يومها وبعد أن ناقشت وحللت مع المغفور له عدداً من أعمال جمال الغيطاني وصنع الله نظر إلي الأديب الراحل الكبير وقال بلهجة صارمة لا تخلو من العتاب والقهر:
- أنت واحد قليل الأدب.

تعجبت حينها من صفاقة تقييمه لحوارنا، خصوصاً أنني لم أخرج عن نطاق الأدب واللياقة في حديثي معه كما كنت أفعل مع غالبية من قابلت من الزميلات الأديبات والمسرحيات.

- أعتذر يا أستاذ إن كنت قد أسأت، لكنني والله لا أعلم كيف؟
- أنت قاعد مع واحد من أهم أدباء المرحلة، وبقا لك ساعة بتتكلم عن أعمال الغيطاني وصنع الله، طيب أسألني عن رواية ليَّ، أتكلم عن أحد أعمالي يا أخي.
- .......

فترة صمتي التي طالت كان مبعثها دهشتان، واحدة من قلة أدبي في الحديث مع أديب بأهمية يوسف إدريس عن أعمال الغير، وثانيها أنني اكتشفت أنني اشتريت للمغفور له رواية واحدة لم يسعفني الحظ بمتابعة أي من سطور صفحتها الثالثة لأن النوم سلطان.

هذه الحالة من الصفنة الأدبية ساورتني مرة ثانية عندما اقتنيت كتب سليم بركات.
كلا العملاقين حظيا بشهرة أدبية فاقت مستوى إدراكي إن لم نقل قيمتهما الفعلية، لكنهما لم يتمكنا من عبور سور الصين العظيم الذي بنته ذائقتي لمنع إبداعاتهما من الدخول لعالمي المحدود، لم أشعر بالحسرة أو الندم يوماً لأنني اعتبرت دوماً أن الأدب غذاءٌ للروح، فمن وجبات المناسف التي أتحفني بها تولستوي، لطبخات المجدرة التي قدمها الأدب العربي بسائر عصوره، للمحاشي واليبارق بأنواعها لكتاب كماركيز وأمادو أين المشكلة إن لم أتذوق مليحي بركات وملوخية إدريس.


مع خط الشيب في شعري بدأت مشاكل الهضم والمفاصل، فصارت وجبات كالقشة، القبوات، فتة الرأس وشرحات اللية تحت اليبرق وعصاعيصه من النوادر، فهي وجبات تلحقها حبوب لإذابة الشحوم الثلاثية وأخواتها، وصارت متعة الافتراس محدودة بما يمكن لبقايا هذا الجسد هضمه دون مصاحبة الآلام والكوابيس لعملية الهضم.
كذلك هو الأدب بالنسبة لي، صرت أقنع بالقليل طيب المذاق، وأستمتع بالكيف قبل الكم، من يدري ربما سأصبح ذواقة للهايكو قبل مغادرة هذا الكوكب.


وصلتني البارحة مخطوطة لكتيب كتبه منير المجيد عن ذكرياته في اليابان، لم أتوقع أن الكتيب ضئيل الحجم الذي لم تتجاوز صفحاته السبعين إلا بقليل قادر على إشباعي لهذه الدرجة، كيف وأنا من كنت لا أنتشي لعمل إلا بعد مائة صفحة.

صاغ منير جمله ببراعة رسام معتزل، رسام ترك ريشته مكانها وقرر أن يتذوق العالم بأحاسيسه، بدهشة الطفل حاول اكتشاف اليابان بسحرها، فك شيفرتها التي تفوق في تعقيدها شكل كلماتها.

خلال الصفحات كنت أتذوق جمال اليابان، أتعلم من خبرة هذا السائح الذي لم تبهره الصورة بل أراد أن يكون جزءاً منها فعاشها ولم يرسمها، جمل قصيرة يتوقف عندها القارئ ليربط مطعماً شعبياً في ضاحية يابانية بقصر البلور سبعينات القرن المنصرم.
منير سوري، كردي، نرويجي يكتشف اليابان، أو ربما هو إنسان يكتشف إنسانيته، لا أدري لكني أكتشف عالمه وأستمتع معه باكتشافاته.

القراءة عمل غير طبيعي للكائن البشري، هو وسيلة لنقل المعرفة، وسيلة اتفقنا عليها عبر رسم أشكال تتحول لكلمات لتعطي معنى بالنسبة للمتلقي، وسيلة لنقل المعرفة شارفت على النهاية في عصر التكتكة والآلات... كجنسنا البشري اللعين.

يأسي وخيبة أملي من العثور على المتلقي قادتني للهجرة بعيداً عن النشر، لكنها لم تمنعني من تذوق الجمال، وكالطعام صرت أستمتع بلقم شهية تمنحني الغذاء والمتعة، وأفضل حشو جمجمتي بلقيمات معدودة أنتشي بها بدلاً من أعمال أدبية خيرها يعادل وجبة من مفركة البطاطا مع صينية من البرغل والأرز دُبِجَت فوقها بقايا جثة خروف مشوي.

تنويه واجب:
من كان يعتقد أنني أقصد بالطبق الأخير روايات لأدباء سوريين من أعلام المرحلة، فهو للأسف مصيب، ومن كان يحسب أن مفركة البطاطا هي شعر حداثي سوري فهو للأسف ثانية مصيب.


منير شكراً على متعة أدبية، معرفية بنكهة الساشيمي، وشكراً على معلومات أظن أنها ستشغلني لفترة طويلة وأنا أستقصي أصولها، مستمتعاً باكتشاف جهلي لعوالم عشتها.

النص النقدي يسعى عادة لتحليل عمل أدبي، إبراز نواحيه الجمالية وتفسير رموزه، لكن الكتابة عن نص منير ستكون نفاقاً كتصوير أوراق زهر الكرز التي تبعثرها الرياح، كمحاولة توصيفها، معايشة الجمال هي فرض عين وليست فرض كفاية، ولا يوجد تقييم يعوض المتلقي أو يغنيه عن تذوق الأصل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -من يتخلى عن الفن خائن-.. أسباب عدم اعتزال الفنان عبد الوهاب


.. سر شعبية أغنية مرسول الحب.. الفنان المغربي يوضح




.. -10 من 10-.. خبيرة المظهر منال بدوي تحكم على الفنان #محمد_ال


.. عبد الوهاب الدوكالي يحكي لصباح العربية عن قصة صداقته بالفنان




.. -مقابلة أم كلثوم وعبد الحليم حافظ-.. بداية مشوار الفنان المغ