الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة 3 من 8

عبداللطيف هسوف

2006 / 11 / 23
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


اليوم، هل نعلم على الأقل تحت نفوذ أي نظام نعيش، في وقت أصبحت فيه السياسة ذات توجه وحيد، أي ‏معولمة؟ هل بقي هناك دور تزعم القيام به التشكيلات السياسية التعددية المختلفة واللازمة لأي توجه ديمقراطي، ‏في وقت تسود فيه فكرة باطلة مفاذها أن اقتصاد السوق يمثل النموذج الوحيد والممكن لجميع المجتمعات؟
‏ (ليس هناك خيار عدا اقتصاد السوق)، إملاءات من هذا النوع لا يطبعها الغباء فقط، بل إنها قطعا لا تستند لأي ‏أساس، اللهم اعتمادها على المضاربة في شموليتها. نعم المضاربة تحل محل الاقتصاد وتقضي عليه. يتعلق الأمر ‏إذن بخطاب ديكتاتوري يميز الفضاء الذي نعيش فيه اليوم، فضاء يوحي لنا -يوحي فقط- بأن كل الأنظمة تلاشت ‏لتحل محلها سلطة الاقتصاد. هل انتصر الاقتصاد على السياسة؟ لا، هذا ادعاء. الاقتصاد لم ينتصر على السياسة، ‏بل العكس هو الذي حصل. ‏
يبدو لنا عموما أن العولمة ترتبط مبدئيا بالاقتصاد لا بالسياسة. لكن الأمر في الحقيقة لا يتعلق بالاقتصاد، بل ‏يتعلق بعالم الأعمال الذي طغت عليه هو الآخر المضاربة. نعم، إنها نوع من السياسة الليبرالية، وهي تسعى إلى ‏التحرر من اهتمامات الاقتصاد الحقيقية، بل إنها تحرف المعنى الحقيقي لمصطلح (الاقتصاد). هذا المصطلح الذي ‏ارتبط دائما بحياة السكان، يقتصر اليوم على تعريف شيء واحد: الجري وراء الربح. لا يتعلق الأمر بتحكم ‏الاقتصاد في السياسة، بل نلاحظ إبعادا لمفهوم الاقتصاد وتعويضه بسلطة إيديولوجيا محددة يمكن أن نطلق عليها ‏اسم (الليبرالية المتوحشة).‏
إنها رغبة سياسية تخدم مصالح الاقتصاد الحر بإخفائه وراء عنوان يوحي بالطمأنينة، أي اقتصاد السوق. هذا ‏العنوان الذي يستعمل كمرآة عاكسة لاقتصاد مسيطر، اقتصاد يعتمد بالأساس على المضاربة، اقتصاد الكازينوهات ‏الذي لا يعير اهتماما للأنشطة الشعبية الحقيقية. تقتصر وظيفة هذا الاقتصاد الصوري على تشجيع المضاربة ‏وتشجيع أرباحها الناتجة عن تسويق مواد مشتقة غير مادية، والاتجار في ما لا وجود له (شراء مجازفات صورية ‏مرتبطة بعقدة حتى وإن كانت في مرحلة تحضير المشروع مثلا...).‏
لنعطي مثالا عن تعويض الاقتصاد الحقيقي بغطرسة اقتصاد غير ناجع: الانتصار المزعوم (للمعجزة الآسيوية). ‏هذا المثال ردد مرارا و قدم دائما كدليل على نجاح الليبرالية المتوحشة. لكن ما قولنا بخصوص الفشل الذريع الذي ‏عرفته هذه المعجزة المزعومة خلال سنة 1999؟ إنه سيناريو كلاسيكي حين ادعت الليبرالية تصدير نظام ‏اقتصادي يرتبط قبل كل شيء بالربح ولا يعير اهتماما لمميزات شعوب في الطرف الآخر من العالم. التفسير ‏الوحيد لنقل هذه الشركات المتعددة الجنسيات من الغرب إلى البلدان الأسيوية هو البحث عن أسواق تعوض فيها ‏تكلفة العمل بصدقة لا تسمن ولا تغني من جوع، غياب ضمانات العمل وكل أشكال الحماية الاجتماعية. إنها ‏أسواق تحمل شعار الليبرالية، أي الحرية، لكنها في الحقيقة حرية تسمح باستعباد الفئات العريضة من قبل طغمة ‏متسلطة.‏
ما هي النتيجة التي عرفتها هذه البلدان؟ أرباح حققت في وقت قياسي، ثم اختفت بسرعة البرق محدثة فوضى ‏مطلقة واندحارا يندى له الجبين. لقد ألقت هذه التجربة بالعديد في أحضان البؤس. أما أبطال هذه الملحمة، وأمام ‏عجزهم على فهم و معالجة الأمور، فروا بعد أن باعوا في المزاد ما تبقى لهذه البلدان. مرة أخرى تزعم الليبرالية ‏المتوحشة أنها تمارس الاقتصاد في حين لم تقم سوى بمعاملات تهدف لتحقيق أرباح ضخمة اعتمادا بالأساس على ‏المضاربة.‏
ماذا نعني بالاقتصاد؟ هل هو تنظيم وتوزيع للإنتاج حسب الشعوب وفي سبيل تحقيق راحتها؟ أم هو استغلال ‏للشعوب ثم تنحيتها جانبا حسب التقلبات المالية الفوضوية؟ ‏
ماذا يلزمنا أن نفعل ؟ يجب أن نبدد أغلال هذه الدعايات، أن نتحلى بالصبر حتى نتمكن من معرفة المشاكل ‏الحقيقية، وأن نرفض التسرع في التحليل حتى لا نختار الحلول التي يمليها علينا أعداؤنا. الأسبقية إذن لرفض هذه ‏المقترحات المفبركة التي يجترها الليبراليون ليخفوا الحقيقة[...]. إن أهم شيء بالنسبة لهم هو الربح ولا شيء غير ‏الربح، حتى وإن لم يعبر عن ذلك بصراحة، إذ أن جميع الشروط المصاحبة تسلك هذا الاتجاه وقد تضحي بما قد ‏يتعارض مع ذلك (حتى وإن كان الشغل الذي تعيش منه الجماهير). كل مشكل قد يظهر نتيجة السعي وراء الربح، ‏سيعالج انطلاقا من مبدأ: لا ربح للفآت الشعبية إذا لم تحقق بعض العناصر المتحكمة في العالم أرباحها الضخمة. ‏نتصور إذن نجاعة سلاح هذه الدعاية الماكرة التي تعمل على زرع أفكار عبر ردود أفعال مشروطة، فهي لا ‏تتحدث بصراحة عن الربح، أو هي تربطه بالصدقة التي تلقيها للفآت العريضة، أي الفآت التي تستغل في الحقيقة.‏
إننا إذن نعيش سجناء أفكار مضمرة. نعم، تحت نفوذ سياسية ترتبط كليا بهذا المضمر الذي نقبله في صمت، ‏فمصدر المشاكل يختفي ولا تبرز سوى نتائجه. هذه النتائج هي التي تصبح مرجعا بارزا في نقاشاتنا. وإن انتقدنا ‏طريقة اشتغالها، فنحن نعتبرها غالبا واقعا مفروضا لا يمكن التنصل منه، فالذين يبدون حزنهم جراء هذه النتائج و ‏يتأسفون لوقوعها، يسلمون أيضا بأنها شر لابد منه ولا يمكن تفاديه، ذلك لأنها تنتج عن هذا المضمر الخفي الذي ‏نقبله جميعا، بل نجعله من المقدسات التي لا يمكن إبداء أي رأي بشأنها.‏
يجب إذن التلاؤم مع هذا الوضع المسلم به، مع هذا القدر الاقتصادي والنتائج المترتبة عنه. كما لو أن الظرفية ‏نزلت من السماء، كما لو أن التاريخ لفظ أنفاسه الأخيرة، كما لو أن المرحلة توقفت إلى الأبد. التلاؤم مع (اقتصاد ‏السوق) يعني التلاؤم مع (اقتصاد المضاربة). التلاؤم مع البطالة يعني التلاؤم مع هذا الاستغلال المخجل. التلاؤم ‏مع العولمة يعني التلاؤم مع الليبرالية المتوحشة التي تمسك بخيوط التسيير. التلاؤم مع التنافسية يعني التلاؤم مع ‏تضحيات الجميع بهدف تحقيق انتصار مستغل على مستغل آخر. التلاؤم مع مواجهة العجز العمومي يعني ‏التخريب الممنهج للبنايات التحتية الأساسية والحذف المبرمج للحماية الاجتماعية والمكتسبات العمالية. التلاؤم مع ‏الانفلاتات الاقتصادية، مع الاستخفافات الناتجة عن تعامل "المافيا" واللوبيات المشروعة. التلاؤم مع تفجير ‏الوحدات المعملية، مع تهريب الرساميل، مع جنات الضرائب، مع الفوضى والمضاربات الإجرامية، مع غطرسة ‏عدم الكفاءة وتسلطها الشبه الإلهي . التلاؤم مع، ومع...‏
لكننا نتجنب دائما الحديث عن الربح الذي يعد عصب النظام الحالي، محاكمة الربح تؤجل باستمرار. لا يكفي ‏أن نقول إن هناك تستر على الربح، بل إنه أصبح ينتمي لعالم اللاوعي، إنه أضحى شيئا مسلما به، نقبله لا ‏شعوريا ولا نناقش شرعيته المفروضة. انطلاقا من الربح، حول الربح، ولصالح الربح... يعمل النظام الحالي من ‏دون أن يبرز ذلك، أو حتى يوحي إليه. لا يتعلق الأمر إذن بمواجهة الوضعية التاريخية الحالية، هذه الوضعية ‏المقدسة، لكن يجب أن نواجه الطرق التي تستغل هذه الوضعية لصالحها، أي لصالح الربح.‏

‏------------------------‏
ملحق:‏
‏-------‏
فيفيان فورستير‎( VIVIANE FORRESTER )‎‏ روائية في الأصل، كاتبة وناقدة في صحيفة لوموند ‏الفرنسية وعضوة في لجنة تحكيم جائزة فيمينا ‏‎( Prix Fémina )‎‏. أصدرت عدة كتب أدبية منذ سنة 1970: (فان ‏غوغ أو الدفن في حقول القمح)، (عنف الصمت) ، (هذا المساء، بعد الحرب)، (عين الليل)، (أيادي)...إلخ. لكنها ‏قررت سنة 1996 مساءلة الأفكار الاقتصادية والتوجهات السياسية بكتابها الذي حاز شهرة واسعة : (الرعب ‏الاقتصادي). كتاب حصل في نفس السنة على جائزة ميديسيس ‏‎( Prix Médicis )‎‏ وترجم بعد ذلك إلى 24 لغة.‏‎ ‎في شهر فبراير سنة 2000، يصدر لفوريستر كتاب آخر ينتقد الليبرالية في شكلها المعاصر تحت عنوان: ‏‏(ديكتاتورية غريبة). ‏
تقول فوريستير: إننا نعيش اليوم تحت سيطرة ما يسمى بالعولمة ونرزح تحت ثقل نظام سياسي كوني وأحادي ‏التوجه. هذا النظام يتخفى تحت غطاء الليبرالية المتوحشة التي تتحكم في العولمة وتستغلها لصالح عدد محدود ‏وضد مصالح الفئات الشعبية الواسعة. تنتقد فوريستر في هذا الكتاب الفكرة القائلة بأن الاقتصاد يهيمن على ‏السياسة، و تبين أن هذه السياسة المهيمنة والأحادية التوجه تخرب اليوم الاقتصاد لصالح المضاربة، لصالح الربح ‏الذي أصبح متعارضا مع توفير الشغل، مع كل ما يتعلق بالمجال الاجتماعي (الصحة، التربية والتعليم... الخ)، بل ‏ضد كل ما يرتبط بالحضارة الإنسانية. ترد فيفيان فورستير على الدعاية الغربية التي تروج خطأ بأن البطالة تكاد ‏تنعدم في الولايات المتحدة الأمريكية فتقول : (نعم لقد تقلصت البطالة مقابل ارتفاع عدد الفقراء، حتى وإن كانوا ‏يتوفرون على شغل. إنهم في الحقيقة يمولون بطالتهم وفقرهم). إنها دعوة لمقاومة هذه الديكتاتورية الغريبة التي ‏تقصي عددا كبيرا من الاستفادة من التقدم الذي حققته الإنسانية. نعم يمكن مقاومتها لأنها تحافظ رغم ذلك على ‏تمظهراتها الديمقراطية: إنه في آن واحد الفخ والأمل المنشود.‏









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من المفاوض المصري المتهم بتخريب المفاوضات بين حماس وإسرائيل؟


.. غزة: ما الجديد في خطاب بايدن؟ وكيف رد نتنياهو؟




.. روسيا تستهدف مواقع لتخزين الذخيرة والسلاح منشآت الطاقة بأوكر


.. وليام بيرنز يواجه أصعب مهمة دبلوماسية في تاريخه على خلفية ال




.. ردود الفعل على المستويات الإسرائيلية المختلفة عقب خطاب بايدن