الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آليات السيطرة والعنف في المجتمعات المتخلفة

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2023 / 12 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


هل ممكن انتظار زوال الدولة نهائيا ، والانتقال الى حقبة وسيطية جديدة ، وإقطاعية حديثة ؟
تقدم المجتمعات النامية صورة جديدة للدولة المتخلفة ، تتسم في أغلب الأحيان بصفات خاصة ، مثل التقلبات الشديدة ، وبأس الأجهزة البوليسية المتخلفة ، والتقسيم الميكانيكي للسلطة ، وسطحية العلاقة مع المجتمع التقليدي ، وسيطرة العنف في العلاقات السياسية ، وغياب آلية تبدل السلطات ، وانتقالها وتحديد الصلاحيات ، وضبط الأصول وانتظامها ، حتى تبدو كما لو كانت مؤسسة غريبة عن البيئة التي تعيش فيها ، مستلبة أيضا في ذاتها ، وغير قادرة على تحقيق الوظائف التي تتعلق بها كدولة ، طبعا دولة متخلفة ..
ويترافق القمع الاقتصاد المباشر على صعيد دائرة الإنتاج ، بالقمع السياسي على صعيد الدولة المتخلفة . وتحل علاقة العنف داخلها ، وفي تعاملها مع المجتمع المتخلف الرعوي ، حل علاقة الشرعية . وينعكس ذلك على وظيفتها ، وعلى بنيتها في الوقت ذاته . وكل ذلك يجعلها عاجزة عن حيازة موقع مستقل لها ولنشاطها المتميز تجاه الطبقات ، او التشكيلات السياسية ، والقوى الاجتماعية الأخرى .
وعجزها هذا عن الاستقلال عن الفئة الاجتماعية التي تتحكم بها ، او عن المصالح التي يعبر عنها النظام الهجين المتخلف ، فيجعلها في الوقت ذاته ، بعيدة عن المجتمع ككل ، وغريبة عنه .. فهي لم تعد وسيلة بلورة لإجماع قومي ، بل أداة من أدوات بناء العصبية الحاكمة ، ومن ثم قاعدة لتفكيك عقد القومية وعقد الوطنية . اما السلطة التي تنبع منها ، فإنها تنحل بفقدانها لعناصر تكوينها الاجتماعية القانونية والمناقبية ، الى قوة محضة تؤكد ذاتها بالغلبة ، وتمكن فريق اجتماعي من فريق آخر ، ولا تنطوي على أي عنصر من العناصر المادية و المعنوية ، التي تبرر وجودها وتجاوزاتها ، كأداة توازن وتنسيق ، وتنظيم ، وكصلاحية إدارية .
انها توظف ما تحظى به من الاجماع في الصراع الاجتماعي ، لتكوين المراتب والطبقات ، اكثر مما تهتم بحل المشاكل التقنية والسياسية والإدارية ، المتعلقة بسير المجتمع ككل وبالعمل والإنتاج . ومن هنا فان تقدم تكوين الطبقة او النخبة التي ترتبط بالدولة كطبقة مسيطرة ومالكة ، يقابله بشكل دائم ضعف متزايد في التنظيم ، وانهيار الإنتاجية ، والتحكم بالتقنيات وهكذا كلما تفاقم تماثل الدولة مع النخبة السائدة ، زادت فوضى الإنتاج ، وفقد المجتمع عنصر تنظيمه الأساسي .
ولابد في هذه الحالة ، من ان تتطابق الدولة كمؤسسة عامة ، وكسلسلة من الإجراءات والأصول والقواعد المنظمة ، مع الحكومة ، وما تمثله من اشخاص وسياسات ظرفية ومحددة . وينتفي التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي ، فيختلط العام بالخاص ، وتختلط الغلبة بالإجماع ، والقوة بالانصياع ، وتدور الصراعات الاجتماعية متجردة عن اية قواعد او مبادئ منظمة . ومن هنا تفقد الدولة المتخلفة شرعيتها كمصدر لسلطة نابعة من المجتمع ، أي خاضعة في النهاية له ، وقائمة فوقه ، أي مستقلة نسبيا عن كل فريق فيه ، ولا تأخذ شرعيتها المؤقتة والمحدودة ، الا من شرعية الفريق الممسك بها ، وانفتاح او انغلاق سياساته الاجتماعية . ان الدولة لم تعد موجودة بشكل مستقل عن الجماعات الحاكمة .
هذه العلاقات الجديدة ، بين الدولة والمجتمع ، وبين الدولة والجماعة الحاكمة ، تقدم شروطا ملائمة ، لنمو سياسة ارادية ، لا تأخذ بعين الاعتبار التوازنات الاجتماعية الفعلية ، بل تقوم على ضرب هذه التوازنات ، وتحطيم المعارضات المختلفة . ان استمرار هذه السياسة ، يدعو هو ذاته الى بروز سلطة شخصية ، او اصطناعها سلطة قادرة على تحمل مسؤولية القرار من جهة ، وضمان وحدة السلطة او الغلبة داخل الدولة من جهة ثانية . ولا بد لتبرير خضوع مجموع الجماعة الحاكمة أولا لهذه السلطة ، ثم خضوع المجتمع ككل للجماعة الحاكمة ثانيا ، من جعل السلطة الشخصية المسيطرة ، سلطة مقدسة . وهذا يتطلب تطوير أيديولوجية عبادة الشخصية من جهة ، وتحطيم كل الشخصيات او القوى او المنظمات التي يمكن ان تنافس في شرعيتها ، وفي علاقتها مع الجمهور ، او الجماعة الحاكمة ، المكانة المتميزة والمتوفقة للشخص الأول . وهذه العلاقة هي مصدر الحكم المطلق . فالحاكم المطلق ليس ثمرة إرادة شخصية مسيطرة ، بقدر ما هو وسيلة تصطنعها الجماعة الحاكمة ، لتأمين خضوع المجموعة لها من جهة ، وكبديل عن ذوبان آليات ووظائف الدولة المؤسساتية من جهة ثانية .
ان عملية تكوين هذه السلطة ، تخضع هي ذاتها ، الى تطور انحلال التشكيلة الاجتماعية المحلية ، الذي ينجم عن دخول نمط انتاج جديد ، وهو هنا نمط الإنتاج الرأسمالي ، وما يجره من إعادة ترتيب لمواقع الطبقات والمراتب الاجتماعية ، ووظائف النخب المختلفة ، وما ينطوي عليه ذلك من تحول في توزيع الثروة ، وسريان المعارف ..
ان تمكن نمط انتاج جديد ، يفترض تكوين طبقات لم تكن موجودة من قبل ، او تقوية مواقعها اذا كانت موجودة ، تجاه طبقات أخرى ، كما يفترض تعديلا في مراكز النخبة ومهامها . وكل ذلك لا يمكن ان يحصل دون إعادة توزيع الثروة والمعرفة . وحتى تتحقق هذه العملية ، لا بد من تعليق " الدستور " ، أي من طرف يسمح بتجاوز كل القواعد والأصول المتبعة من قبل ، أكان ذلك باسم مبادئ جديدة ، ام بدون ذلك . هناك حقبة اذن من اللاتحديد، ومن " الحرية " المطلقة التي تشبه حرية حياة الغابة ، هي التي تتيح تغييرا أساسيا في المواقع والمراتب .
والحكم الدكتاتوري المستبد والطاغي ، هو الذي يخفي بمظهره السياسي التحكمي ، ما يحدث على صعيد المجتمع ، صعيد انتقال الثروة والمعرفة ، من انفلات كامل من كل قانون ، ومن تنافس وتزاحم لا حد لهما .
والعناصر والقوى التي تستفيد من هذه الحقبة وتسيطر عليها ، هي تلك التي تسلك سلوك الحاكم الطاغي الاستبدادي الدكتاتوري على صعيد المجتمع ، محتجا بأساطير ثيوقراطية بالية ومفضوحة ومن هده الاساطير الادعاء بالانتساب ( للنبي ) الذي لمّا مات مسموما على يد يهودية ، لم يخلف وراءه ولدا ذكرا ، حتى التطفل بالادعاء بالانتساب الى ( النبي ) .. ، وتتجرد من كل شريعة او قانون او أخلاقية ..امّا القوى الأخرى التي بقيت متمسكة لاستفادتها من النظام السابق ، لو لخوفها من نتائج السباق القائم ، بالقيم والعادات والأخلاق والمبادئ ، أي بقاعدة للفعل والسلوك ، فإنها تجد نفسها تفقد اكثر فأكثر مواقعها ، وتنهار مصالحها .
ان الحكم العشائري الاستبدادي الطاغي البوليسي ، لا يعبر عن تعاظم قوة وهيبة الدولة البوليسية ، وقوانينها كذلك البوليسية ، بل هو يعكس ضعف الدولة بأكملها ، وهو ضعف متعاظم بزوال دورها وفعاليتها الاجتماعية ، خاصة اذا كان على راسها اكثر من ضعيف ، وبالتالي بروز قانون واحد للممارسة الاجتماعية ، هو العنف المجرد من كل قانون ، مرة التدرع بالدستور ، ومرت بعقد ( البيعة ) الغير موجود ، وجاز لنا تسميته بعقد المزاج ، المتناقض مع عقل القوانين . وعندئذ كل دراسة للسياسة على صعيد الدولة لا معنى لها ، الاّ بقدر ما هي وسيلة لتحليل تقنين العنف البوليسي وادارته في جميع المجالات . فنكون حقا امام دولة قامعة مارقة لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالديمقراطية ، وبتطبيقات قوانين حقوق الانسان ، المنعدمة كليا بالدولة البوليسية .
وآليات تصريف العنف البوليسي ، الذي هو عنف اعمى ، يجسد الفاشية عند التزاوج بين الليبرالية المعطوبة والمكلسة ، وبين المظاهر الثيوقراطية الزائفة .. يختلف حسب المجال الذي يتحقق فيه انتقال المراكز والمناصب وصكوك الملكية والقوى الشرائية .. الخ .. ، فهو ليس القتل دائما وبالضرورة الذي تعرض له الطبيب مراد الصغير ، وقبله تعرض له حسن الطاهري ، وقبل حسن الطاهري تعرض آخرون عند تفجيرات الدارالبيضاء في 16 مايو 2003 ... وهو ، أي العنف الفاشي يصل الى السلوك الحدّي ، عندما تبدأ الفئات التي تتعرض له ، بالمقاومة ، وترفض الاستسلام له .
والعنف يمكن أيضا ان يكون فكريا ، كما يمكن ان يكون سياسيا او ثقافيا او اجتماعيا او اقتصاديا ... انه حرمان فئة او طبقة او جماعة من التعبير بشكل او آخر عن نفسها ومصالحها وشخصيتها ، او فرض تعبير أيديولوجي اجباري عليها " الله الوطن الملك " ، " سيدنا " ، " سْميّتْ سيدي " ، " أمير المؤمنين " " من سلالة النبي " .... الخ ، او اكراهها على التعبير عن نفسها من خلال شكل أيديولوجي لغوي ، او فكري معين ، وهو أيضا حرمانها من حق التعبير السياسي المنظم ( جماعة العدل الاحسان ) ( بعض الاتجاهات الاثنية البربرية ) ، او حرمانها من التنظيم المستقل ، واجبارها على الانخراط في تنظيم او العمل بدون أي تنظيم .. بعض فصائل الحركة الطلابية باسم " الاتحاد الوطني لطلبة المغرب " ، او التلاعب بالآليات المصرفية ، من قروض واعتمادات مالية لدعم فئة ضد أخرى ، او فرض القوة او الضريبة التي تتيح لفئات أخرى ، تحسين مواقعها على حساب غيرها ، او التحكم بسياسة الرواتب والأجور ، والمكافئات ، والمنح ، والمهمات Les hordes missions .. والدولة المخزنية البوليسية ، تملك كل هذه الآليات ، التي تستعملها للسكوت ، واقبار أصوات الاحتجاجات التي قد تتطور الى ما ابعد من الاحتجاجات ، فتستعملها في شراء الذمم ، وفي البيع والشراء داخل تنظيم ، ليتحول الى عدة تنظيمات ، بتفضيل الجماعة الموالية ، وتجفيف ظمأ الجماعة المعارضة ..
ومن ذلك نفهم ان وظيفة العنف الاجتماعي ، هي دائما تغيير المواقع ، والمراتب ، والادوار الاجتماعية ، لمختلف القوى المكونة للمجتمع . وقد يؤدي هذا التغيير الى تكوين فئات جديدة ، وقد يكون مجرد إعادة اقتسام للثروة والمعرفة . فهو مبدأ الثورات العدالية ، كما هو مبدأ تكوين الطبقات الجديدة .
ولفهم حدود هذا العنف ، وغاياته ، لا بد من تحليل سيرورة التحول القائمة اليوم في العالم المتخلف ، ونحن في نظرنا نعتبرها سيرورة تاريخية ، مرتبطة بتوسع نمط الإنتاج الرأسمالي ، وبما يقتضيه هذا التوسع ، من تكوين طبقة اجتماعية ، تضمن نمو العلاقات الجديدة ، وتحملها في فعالياتها الاجتماعية كطبقة رأسمالية ، أي مرتبطة بعملية تراكم واستثمار ، ودرة رأس المال .. لكن هذه الوظيفة لها خصائص متميزة هنا عمّا كان عليها في بداية تكون النظام الرأسمالي . إذ ليس من المطلوب ان تعيد الطبقة الرأسمالية النامية في الدولة المتخلفة ، تراكم رأس المال ، كما حدث لسابقاتها الغربية ، بل تحقيق استهلاك هذا الرأسمال وتصريفه إمّا على شكل استهلاك مباشر ( شراء منتجات تلبي الرغبات المادية ، او حاجة الأبّهة ) ، او غير مباشر ( شراء آلات ، ومعدات ، ومصانع تلبي حاجة الرأسمال في المركز الى التراكم ، لا حاجة المجتمع الفعلية حيث تقام هذه المنشآت ) .
وان تطور نمط هذا الاستهلاك ، يطور معه باستمرار آليات إعادة التوزيع الجديدة ، ويتطلب تركيزا متزايدا للثروة والمعرفة في ايدي الأقلية الاجتماعية المندمجة اكثر فأكثر بدورة الرأسمال العالمي ، بينما يخلق من الجهة الأخرى ، اغلبية اجتماعية مستبعدة تدريجيا وكليا عن دورة الثروة والمعرفة ..
ويمكن القول انّ تفتت الدولة والقانون ، واستفحال العنف ، وسيطرته على كل مناحي الحياة الاجتماعية ، يرتبطان بالدرجة الأولى ، بأشكال تطور هذا الاستهلاك ، وانماط التوزيع غير المتكافئ المتزايد . والطبقة المسيطرة تتطابق وتتماثل مع الدولة ، بقدر انهيار القاعدة القانونية لهذه الدولة ، وبقدر سيادة آلية العنف .. وهذا التطابق ينطوي هو نفسه على تحول الطبقة المسيطرة ، من طبقة متميزة متعددة الأطراف ، ومختلفة التكوينات ، أي منقسمة على نفسها ، الى طبقة / نخبة يقرب فيما بينها تطابق المصالح ، ويدعم وحدتها عداء المجتمع بأغلبيته لها .
ففي المرحلة الأولى من توسع النمط الرأسمالي في التشكيلات الاجتماعية التقليدية ، يؤدي التناقض بين مصالح النخب القديمة والجديدة ، الى خلق ميزان قوى ، يعمل نسبيا لصالح الأغلبية الاجتماعية ، ويمنع اتحاد جميع اطراف النخبة ضد المجتمع . ويقتضي حل هذا التناقض ، الحفاظ على حد ادنى من الدولة ، أي من صعيد اجتماعي قانوني واخلاقي ، تخضع له كارهة او بإرادتها جميع الأطراف .
وتتراكب في هذه المرحلة الاشكال القديمة للإجماع الأيديولوجي ، والاعتراف المتبادل السياسي ، والتسوية الاقتصادية مع الاشكال الجديدة .. وتفضي الى قيام تراتب مقلق للطبقات والسلطات الاجتماعية . ان المرتبية الاجتماعية ، تفقد هنا ولا شك مصدر نموها وإعادة تكوينها ، لكنها تظل تفعل مع ذلك ، وتنظم تحويل الثروة والمعرفة ، بشكل تدريجي الى الطبقات الجديدة .
لكن ما ان تضعف النخبة التقليدية ، وتفقد وزنها الحاسم في الساحة السياسية ، حتى يصبح الممكن تحطيم القشرة القانونية ، التي بقيت تعيق حتى الآن ، الانتقال السريع والكامل للثروة والسلطة والمعرفة الى النخبة الجديدة .. هذه الفترة هي بالضبط الدولة القانونية التي تتخلى عن مكانها لصالح دولة هي أولا وأخيرا إدارة لوسائل العنف الشامل ..
ويمكن القول ، ان الدولة التابعة ، تتسم في مرحلتها الأولى بالهيمنة النسبية ، للفئات التقليدية ، وذلك على الصعيد السياسي .. في حين انّ عملية خلق النخبة الجديدة ، تنزع سالفتها شيئا فشيئا كل المواقع الاقتصادية . وفي هذه الحالة يتخذ العنف شكلا سياسيا أيديولوجيا بالدرجة الأولى . في حين انّ تحول الثروة والسلطة ، يبقى محصورا ضمن ما يسمح به ميزان القوى ، ولا يأخذ الاغتصاب والنهب شكلا سافرا وعاما .
ان الدولة تظل هنا ساحة لصراع مجموعات ضغط مختلفة ، لكنها لم تصبح بعد طبقة / دولة . ونمو البيروقراطية العسكرية فيها ، ينم عن صعوبة الوصول الى تسوية بين مجموعات الضغط هذه ، وبداية تفكك آليتها كمؤسسة عامة ..
وبقدر ما تصبح المكانة التي تحتلها طبقة او فئة اجتماعية معينة في الدولة ، هي التي تحدد وضعيتها الاجتماعية ، وغالبا أيضا ، وضعيتها الاقتصادية ، فان الصراع على السلطة يصبح العامل الذي يشترط ويتحكم بكل فعالية اجتماعية فكرية كانت ام مادية . وتبدو الدولة عندئذ كمجرد رافعة للطبقات وللنخب المتجددة . وهذا ما يجهله العديد من المهتمين بالشأن العام ، والأنظمة السياسة وتطورها ، كما يجهله العديد من يتحركون بعنوان محللين ومختصين ، أي هذا النزوع للدولة هو وحده يفسر الهشاشة الكبيرة للحياة السياسية في البلاد المتخلفة ، وعلى رأسها الأنظمة العربية من جهة ، وسيطرة هذه الحياة المفرطة على كل نواحي النشاط الفردي والاجتماعي . والأحزاب هنا ليست سوى طفرات سياسية ، تعيش على هامش الحزب الأساسي والرئيسي الذي هو الدولة ذاتها . وطبعا ليس لهذه الأحزاب خارج اطار تعايشها او تنافسها مع الدولة ولو متخلفة وشمولية ، اية حياة ثقافية او اجتماعية مستقلة وخاصة .
ان الجدل الاجتماعي يظل هنا بالدرجة الأولى جدلا سياسيا ، مما يفقر المجتمع من الابداعات النظرية والعلمية والتقنية ، ويعطي لصراع الطبقات والبرامج الاجتماعية شكل الصراع بين الدولة المتخلفة والشمولية ، والشعب والجماهير الشعبية ، وهذا طبعا يمنع الوصول الى أي تركيب او تسوية سياسية .
ان الاستثمار السريع لميزان القوى ، وتوظيف اقل المكاسب في تحسين المواقع الاقتصادية لإفراد وفئات النخبة ، لا تعكس هذا الجدل الاجتماعي المسدود فقط ، ولكنها تبين أيضا المنطق الداخلي للنظام السياسي ككل . أي منطق الكسب والصعود السريع ، أي حرق المراحل . وان وثيرة البحث عن التحقيق السريع ، والمردود الفوري ، هذه تجعل النظام يعيش بأكمله بمنطق ما قبل تاريخ المجتمع ..
وينعكس ذوبان الدولة في تزايد انعدام الاجماع والعجز عن انجاب قيم مشتركة موجّهة ، هي معيار كل نزاع ومبدأ وضع حدّ له في الوقت ذاته .
وينعكس كذلك في تحلل السلطة من ضوابطها القانونية والمعنوية ، وفي تحولها الة قوة خالصة ، تترجم فورا الى منافع في الحياة اليومية ، او الى مكاسب معنوية ..
فالمسؤول هنا لا يكتفي بالحصول على المسؤولية ، ولكنه مدفوع الى إذلال واهانة الاخرين ، والتنكيل بهم ، ليحقق سلطته في شكلها الأكثر قبحا وخساسة وفجاجة ، وصاحب الثروة لا يقبل الاّ بالتظاهر بها ، وتحويلها الى استهلاك مباشر . ان دولة العنف القامعة والقمعية البوليسية ، هي أيضا دولة التميز والمظهرية والاستعراض .
امّا حل الصراعات الاجتماعية ، فلا تخضع هنا لا لتسوية سياسية ، كحصول إرادة واحدة عملية ، ولا الى اجماع شرعي ، ولكنه يتحقق بالتصفية البسيطة السياسية ، او حتى الجسدية للفئات والقوى والعناصر الأضعف . وتقترب هذه التصفية في احسن حالاتها من الصورة القانونية القديمة للاستبعاد الذي وسم في الماضي المجتمع العبودي ، أي الدولة الرعوية القائمة من الراعي الكبير ، وحاشيته الخشينة والقبيحة ، والرعايا وهم الأكثرية عن أعضاء الشعب المحسوبون على رؤوس الأصابع ، وقد يشار اليهم ب " الحداثيين " .. ان الشكل الأكثر قوة ونجاعة للاستبعاد ، هو حرمان الاخر من الحقوق ، الثقافية منها ، او السياسية ، او الاقتصادية . وهذا الحرمان ، يمكن ان يأخذ صورا مختلفة اليوم ، لا تنفي الأيديولوجية الإنسانية الشائعة ، حول المساواة ، ولا تجابهها مباشرة . وأول هذه الصور ، هي تثبيت الامتيازات الخاصة بقوانين او بقرارات ..
ان ظهور الدولة / الطبقة / القبيلة غالبا ما يرتبط بنوعية تمفصل النظام المراتبي الحديث ( الطبقات ) ، بالنظام المراتبي التقليدي ، او القديم الأيديولوجي او العشائري . ومن الممكن للطبقة الجديدة ان تلبس ثوب العشيرة او القبيلة ، لكن دون ان تفقد منطق عملها كطبقة ، او ان تتخلى عن نمط عصبيتها القبائلية ، وتضامنها كعشيرة ..
ويساعد على ذلك ، تحرر الدولة ككل من كل القيم والمبادئ ، ذات الطبع الكوني او الإنساني . فتصبح الطبقة مجموعة مصالح مشخصة وملموسة . اما العشائرية فتتحول الى لحمة عصبية ، تمكن الطبقة من العمل ، كوحدة اكثر انسجاما وفاعلية ، في حربها ضد بقية المجتمع . وهنا من الصعب ان يجري هذا التطابق بين الطبقة والعشيرة ، خارج اطار السلطة ، وبدون وساطة الدولة المتخلفة والقامعة والقمعية البوليسية ، إذ بهذا الوسيط وحده يمكن قسر المصالح ، وتقريب المواقع السياسية الأيديولوجية ، من الأوضاع الاقتصادية .. وعندئذ يستطيع الحاكم ، البوليسي ، القبائلي العشائري ، النيوبتريركي ، النيوبتريمونيالي ، الطقوسي ، مكلس العقل ، الرعوي على دولة رعوية ، الاقطاعي ، الشمولي ، ان يكون في الوقت ذاته " ملكا " ، او " أميرا " ، او " شيخ عشيرة " ... ، رئيسا للدولة ، وزعيما لعصبية متطابقة مع عصبية الدولة المتخلفة . وفي هذه الحالة ، تصبح الدولة ، مركز تلاقي وتطابق ثلاثة أنظمة مرتبية اجتماعية : نظام التراتب الجماعي ( بادية ، قرية ، مدينة ، أقاليم غنية وفقيرة .. ) ، ونظام الطبقات ، ونظام الطوائف او المراتب الثابتة ، الذي نجد عليه مثالا حدّيّا في الطوائف الهندية ، وبجنوب افريقيا .
ان هذا التلاقي بين إقليم وطائفة في حجر الدولة ، يحل التناقض الجوهري بين الأنظمة الثلاثة ، وما ينجه عنه من تهديد لوحدة السلطة ، ولسيرورة توليد سلطة مستقلة سياسيا . فإذا انعدم هذا الالتحام ، او تقمص الثنائي او الثلاثي ، في ظروف مجتمع يتميز بدورة استهلاكية ، ولا يؤمّن اذن إعادة الإنتاج المتساوي للعصب او الطوائف في شكل طبقات حديثة ، كانت للسلطة منابع مختلفة ومتعارضة ، تقضي بالضرورة الى استمرار الصراع ، وتمنع من تكوين طبقة سائدة ، ومن تحررها الكامل ، وسيطرتها على الدورة الاستهلاكية . والنظام الدولي يسعى بالعكس الى تنظيم هذه الدورة ، وتوحيد وكلاءه في الدولة المتخلفة ، بحيث يصبح من السهل التعامل وتحقيق دورة رأس المال .. ثم ان آلية العنف لا يمكن ان تكتمل ، بدون الغاء او إزالة المصادر المتعددة للسلطة . ان منطق النظام الاجتماعي ، يفرض هنا بالضرورة ، اندماج السلطة واختلاط مصادر تكوينها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية . وهكذا تصبح الدولة والحزب والعصبية القبائلية الحاكمة ، شيئا واحدا .
وتكاد الاختلافات في اشكال الدولة ، التي تحددها في نظر بعض الباحثين ، العلاقة بين السلطة التنفيذية ، والسلطة التشريعية تختفي هنا تماما .
فليس لتطور هذه الدولة التابعة ، اية علاقة بتطور الدولة الرأسمالية من دولة شمولية Totalitaire في مرحلتها الانتقالية الأولى ، الى دولة ليبرالية في عصر الرأسمالية الحرة ، ثم الى دولة تدخلية في عصر الرأسمالية الاحتكارية . ان ما يبدو هنا باستمرار كخط عام ، هو انحطاط السلطة ذاتها بأشكالها المختلفة ، التنفيذية ، والتشريعية ، والقضائية ، وبطرق تآلف عناصرها ، الى قوة خالصة . وهذا الانحطاط الذي يعني أيضا ، ذوبان الدولة وتلاشيها يسير بشكل مواز في تقدمه لتقدم الانفجارات والتمردات الجماعية الشعبية . و المثل السائد اذن هو هنا تحول الدكتاتورية والبوليسية الكلاسيكية ، الى طغيان فردي ..
كل ذلك يفسر تدهور دور الأحزاب السياسية ، ومكانتها في البلاد التابعة ، ونشوء الفصائل المسلحة وشبه مسلحة المختلفة ، والميلشيات المتعددة المهام التابعة للدولة ( الشباب الملكي ) ( الشمكارة ) .. الخ . وهي جيوش حقيقية موازية بكل معنى ، من جهة ، وجماعات العنف والإرهاب الشعبية ، في مواجهتها من جهة أخرى . وكلما تطابقت الدولة مع الفئة التي تتحكم بها ، وتحولت الى أجهزة قمعية محضة ، انهار اطار الشرعية والعمل السياسي ، وظهر الصراع الاجتماعي شاملا لا وجهة محددة له ، الاّ تدمير رموز المقاومة الشعبية ، ومرتكزاتها بالنسبة للدولة ، وتحطيم كل ما يرمز للسيطرة او للحكم ، من عناصر مدنية او سياسية او عسكرية بالنسبة للطرف الثاني . ان التدمير المتبادل ، هو النتيجة الطبيعية والمنطقية ، لحرب ليس لدى أي فريق إمكانية حسمها ، او ايقافها ، دون تحمل تضحيات جسيمة لا يمكنه قبولها .. ان الوصول الى هذا التصعيد المتزايد للعنف ، لا يصدر عن الغاء السياسة وحسب ، ولكنه يعيش أيضا ، على الاعتقاد الخاطئ ، بأن سد قنوات العمل السياسي ، يمكن ان يزيل قاعدة نمو القوى المعارضة والمناقضة . والحال ان الغاء السياسة كنشاط اجتماعي ، كما في عهد محمد السادس الجاهل لما يجري بالدولة ، بسبب المرض ، وقبل المرض بسبب ضعفه البيّن ، هو الخطوة الأولى نحو فتح باب الحرب .. ان الدولة المخزنية بسبب الملك المغيب قبل المرض ، والملك الغائب بعد المرض ، تعيش الفراغ القاتل الذي تكرهه الطبيعة . واذا كانت مجموعة " البيئة السرية " ذات المصالح الكثيرة ، التي لن تتحقق الاّ من خلال الاستمرار في تمسكها بالدولة ، حتى لا تنفلت من بين أيديهم ، قد ملئت الفراغ القاتل المهدد لكل الدولة ، عندما تمسكت تحافظ على الدولة الطقوسية التي لا علاقة لها بالديمقراطية ، ولا بالأنظمة الديمقراطية ، ولسد الباب على من يخطط او يحلم بتعويض محمد السادس ، فان حركية " البنية السرية " التي خطفت النظام ، ومنه خطفت كل الدولة ، وملئت الفراغ ، فالسؤال هنا . هل سيطرة " البنية السرية " ، كان بالاتفاق مع محمد السادس ، ام كان في غيبة محمد السادس ، سيما صمت قيادات الجيش المتناغمة مع انقلاب " البنية السرية " ، لمواجهة أي خطر سيبرز بعد الغياب الكلي للملك ، يسرق الدولة من بين ايديها .. باسم الديمقراطية ، وباسم دولة القانون ..
ان العنف الغير قانوني ، لا يشكل خطرا على النظام القائم ، لِمَا يحمله من إمكانات تنمية المعارضة ، من داخل القصر ، ومن خارج القصر – بل ربما ساهم في ابعاد جزء كبير من الجمهور عنها -- ، لأنه مجرد رعية جاهلة يسير أينما سار الريح ، ولكنه يخيفه ، لانه يهدد قاعدة شرعيته المستندة الى القوة والعنف والقمع بكل مظاهره وتجلياته .. فالقمع أولى من الدستور ، واولى من ( عقد ) البيعة ، لأنه مرتبط ب Les raisons d’Etat ، وفي احدى خطاباته الصريحة والمتحدية ، قال الحسن الثاني وهو يتحاور مع محمد الخامس . اذا قال الثلث يسقط الملك ، وقال الثلثين يعيش الملك ، نطْحن باباهم ، لان الأكثرية معي .. فالقمع خوفا على سقوط النظام ، يقلب جميع المعادلات ، ويصبح كل شيء مباح ، ولو كان ضد الدستور وضد القانون .. فعندي خرق القصر لحقوق الانسان ، او عند استعماله للقوة المفرطة لمواجهة كل الخصوم ، يصبح تحدي قانون لا شرعي ، ليصبح بالقمع بحد ذاته مصدرا لشرعية القانون الجديد بعد حسم الصراع في الساحة ..
ان العنف التحتي ، يطمح على ما يبدو الى حرمان العنف الفوقي ، عنف الدولة من ان يتأصّل ليصبح عنفا شرعيا ومقبول . وما لم يطرأ تغير ملحوظ على بنية المجتمع ذاته ، وعلى بنية الدولة في علاقتها بالجماعة التي تتحكم بها ، فليس من الممكن الخروج من حلقة العنف هذه .. سواء العنف التحتي ، او العنف الفوقي .
وقد أشار باحثون كثيرون الى عدم الاستقرار الذي تعيشه الدول المتخلفة ، وخاصة الدولة المخزنية البوليسية والسلطانية التابعة وهشاشة ( مؤسساتها ) ، لانها مؤسسات الملك ، وكل من فيها كوزراء وبرلمانيين ، هم مجرد سامون عند الملك ، بإدارة الملك ، وذلك ليس نتيجة لعمق ( الصراع الطبقي ) فيها ، ولكن بالعكس ، لان النزاعات تأخذ فيها شكل نزاعات مباشرة على السلطة ، ومنافسة مستمرة على المناصب وعلى الخيرات ، وهي الحقيقة التي تفطنت لها جماعة " البنية السرية " ، عندما نظمت وبمباركة من الجيش ، انقلابا استثنائيا ، لكن هذه المرة ليس ضد النظام او ضد الدولة . لكنه انقلاب كان ضد المفاجئات ، وضد الطامحين للدولة ، من اجل الحفاظ على الطابع الطقوسي التقليداني ، البتريركي ، الباتريمونيالي ، الثيوقراطي ... الخ ، ومن ثم الاحتفاظ على المصالح الذي يغدقها عليها السيطرة على الدولة ، من خلال السيطرة على المناصب .
ان النزاعات وبغض النظر عن جماعة " البنية السرية " التي انطلقت الهدف الاستراتيجي الذي هو ملئ الفراغ القاتل بالدولة بسبب المريض الخطير لمحمد السادس .. تتعدى نزاعات المباشرة اليومية على السلطة ، ومنافسة مستمرة على المناصب بين مختلف الفرق ، لكن التغييرات والتغيرات لهذا السبب تبقى سطحية تمس الحالمين بالسلطة ، والممسكين بها ، لكن دون المساس بالبنيات الفعلية للدولة وللسياسة ، كنزاع استراتيجي ، فاقت به جماعة " البنية السرية " التي امسكت وبتأييد الجيش للانقلاب على المنتظرين السيطرة على الدولة ، خاصة الاخطار التي ستتعرض لها " البنية السرية " لو غاب عنها المخططات التي تنسج خارجيا ، وداخليا مع الخارج ، ولو تسبق لمليء الفراغ في الدولة الذي خلفه مستوى وتكوين الملك ، ووضعه الصحي ..
فهل الإصرار " البنية السرية " ، ومن خلال ملئها الفراغ في الدولة ، والمغرب يبقى معرضا لجميع السيناريوهات ، قبل استقبال الحاكم الجديد ، وتحرك " البنية السرية " ، للإسراع في السيطرة على الدولة ، قد ينبئ بتحول الدولة الى عشيرة ، عصبية قبلية ، يعمل هو ذاته على تحويل الصراع الاجتماعي والسياسي ، الى صراع " عشائري – قبائلي " ، ويجعل من أي ثورة مستقبلية اذا نشبت ، تمردا وانتفاضات دائمة ، لانه يمنع الوصول السريع الى تسوية عشائرية – قبائلية ، وتاريخ المغرب ، تاريخ قبائل وعشائر .. فمبدأ الحرب العشائرية / القبائلية ، هو الغزو ، ومبدأ الصراع القبائلي الاجتماعي ، من اجل تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية ، دون الاغفال بالسيطرة على الدولة ، ومنها على الثروة والسلطة والجاه والنفود ..
و لا شك ان هناك فرقا بين الدولة المتخلفة في المرحلة الأولى لتطور النظام الرأسمالي في بلدان المحيط ، وبينها في المرحلة الثانية . ففي المرحلة الأولى ، الزراعية التجارية ، تبقى الدولة مرتبطة بوظيفتين أساسيتين ، لا تفترضان تغير كل النظام السياسي القديم ، وهما توريد المواد الأولية للمركز ، وفتح السوق المحلية للبضائع والرساميل الأجنبية الباحثة عن منافد لها ، او عن معدلات ربح اكبر . وفي هذا التطور ، يمكن ان يحصل نوع من التركيب ، بين نظام المراتب التقليدي ، ونظام المراتب ( الحديث ) ، فتقوم الطبقة العقارية ذاتها من خلال الدولة ، بوظائف الرأسمالية ، وتتكفل بإدارة اعمالها كحليف خارجي .
وفي هذه الحالة ، لا تلعب الدولة الحديثة ، الاّ دور التأليف بين العصبيات المختلفة والمتولدة عمليا خارجها ، مما يسمح بتطعيم الدولة ب ( برلمان ) يسمح لكل طرف من اطراف النخبة التقليدية ( القبيلة ) ، المرتبطة بأقاليمها ، او طوائفها ، بالحفاظ على تميزه ، وصوته الخاص من جهة ، وبحل النزاعات داخل صفوفها كفئة حاكمة من جهة ثانية .
وفي هذا الطور الثاني الذي يواكب ( الاستقلال ) ، وينعش الامل بالتقدم الصناعي ، وبالتصنيع ، تنجح الدولة والبيروقراطية المتزايدة ، التأثير الى الاستقلال عن النخبة القديمة ، وخلق سلطة سياسية خاصة بها . و تبدو هذه السلطة في فترتها الأولى ، مستقلة وقائمة في استقلالها على معاداتها ، لتنافس العصب والقبائل والعشائر ، والاقاليم والوجاهات . أي طامحة الى ان تصبح سلطة واحدة وموحدة . ومن هذه السلطة يبدأ التركيز على الأيديولوجية الجديدة المستلهمة لافكار الوطنيين والوطن . ويرتبط ذلك بظهور نظام تعليم عام رسمي ، وجيش وطني ، مستند الى الخدمة العسكرية الإلزامية ، مما يؤكد السعي نحو الاندماج القومي ضد الفصام العصبوي .
وهذا الدولة هي من كل الوجوه ، اكثر قوة وانتشارا ، وهيمنة من الدولة السابقة . فهي تدخل في جميع مناحي الحياة الاجتماعية . وعندما تتحول من جديد الى أداة تخدم مصالح فئة اجتماعية محددة ، او تصبح هي ذاتها اطارا لتنظيم هذه المصالح ، وتوسيعها حسب منطق دورة رأس المال الدولي ، فإنها تبدو بحق من اعظم ما انتجه التاريخ من الدول الشمولية التعسفية ، فتجمع القهر الفكري الى القهر السياسي ، وتدمر السلطات الخاصة والمستقلة ، وتجعل من سلطتها الذاتية ومصالحها ، سلطة / وطنية / ومصالح / عامة . فيصبح على الشعب ان يخدم هذه المصالح ، ويدافع عنها ، ويخضع لها ، ويكرس نفسه وامكاناته لتطويرها ..
ومن خلال تحليلنا لدور الدولة عبر اختلاف الحقب ، نلاحظ كيف تتظافر آثار المرحلة الاستعمارية ، مع آثار المرحلة اللاحقة . فبعد تدمير مصادر السلطات القديمة في المرحلة الأولى ، وحرمانها من التطور ، والتكيف مع النظام ( الحديث ) ، عجزت المرحلة الثانية ، عن القيام بالتغييرات الضرورية ، التي يمكن ان تجعل من التراتب الاجتماعي الجديد ، بعيدا عن الانقسام الأقوامي و العصبوي ، وبقوة كافية ، المنبع الوحيد للنشاط السياسي ( الحديث ) ..
اذن . بدل ان تستبدل الدولة ( الحديثة ) السلطات التقليدية الخاصة ، بسلطة واحدة وطنية ، أصبحت هي ذاتها مصدر تراتب اجتماعي جديد ، وسلطة خاصة . ومن هنا ، تتراكب الصراعات الطبقية ، مع الصراعات العصبوية ، وتفقد الدولة آلية تميزها واستقلالها عن النزاعات المحلية ، فيأخذ الصراع طابعا مزدوجا : طابع الصراع الطبقي ، وطابع الصراع العشائري / القبلي . وانّ تكوين الدولة المركزية ، لا يعني هنا تجاوز الانقسامات التي ينطوي عليها المجتمع ، ولكنه يفيد في دعم الفئة الاجتماعية ، او العشيرة التي تنجح في الهيمنة على الدولة .
ان نضال النخبة الجديدة ( الحديثة ) ، او قسم منها ، في سبيل دولة جديدة ( حديثة ) مركزية ، لا يتناقض مع بناء دولة قبيلة / عشائرية . بل هو الأداة الرئيسية لتحويل العشيرة العلوية الى دولة حاكمة ، او لبناء عشيرة الدولة . وسبب ذلك ، انّ المشاركة في السلطة ، هي التي تعطي فرصة السيطرة على الاقتصاد هنا ، وليس العكس . ومن هذا المنظور ، تشبه الدولة الوطنية الناشئة من بعض وجوهها ، الدولة التقليدية . فالدولة المخزنية البوليسية ابان الحماية ، ليست هي الدولة المخزنية البوليسية ابان حكم الحسن الثاني ، وليست هل الدولة المخزنية السلطانية مع محمد السادس . اذ ان الموقع في جهاز الدولة ، هو الذي مازال يحدد المكانة الاجتماعية ، وشكل العلاقة مع الاقتصاد والثروة والجاه والنفود ، ووحده يدلل على القدرة المادية .
ومن الطبيعي ان تزداد هذه العملية قوة ، مع ازدياد مصادر التمويل الخارجي ، حيث تتحول الدولة الى أداة لتوزيع الريع او المعونات الخارجية . في حين ان الاعتماد المتزايد على مصادر الاستغلال الذاتية ، او الداخلية ، يجعل النخبة الحاكمة حساسة الى حفظ علاقات اكثر إيجابية مع الطبقات المنتجة .
ان فئة قليلة بالدولة المتخلفة ، او المجتمع ( النامي ) ، او في طريق ( التنمية ) ، او التابع ، قادرة على الدخول في دورة رأس المال الدولي ، وهي تتناقض بتزايد تركيز رأس المال ، وتطور أنماط الاستهلاك العليا . وانّ استمرار سير هذه الدورة لصالح المركز العالمي ، يقتضي تأمين مرور الأموال ، بأقل ما يمكن من التكاليف ، ومن مخاطر التوزيع في البلاد التابعة المتخلفة . واضافة الى ذلك ، يجرّ تيّار الدورة هذه المصيبة ، والاذى ، والخراب على كل النظام الإنتاجي المحلي ، بما يحطم فيه علاقات توازن بين الأرباح والأجور ، وتكاليف الإنتاج والاسعار وغير ذلك . فهو في ذات الوقت ، يخلق نخبة تعيش في العصر الفوسفاطي ، ومجتمعا يرتد في نمط حياته الى العصر الحجري ، خاصة وانه مجتمع رعايا شأن العبيد في الإمبراطورية الرومانية ، والامبراطورية الفارسية ، والعبيد في الإسلام .. وليس من الممكن الحفاظ على العلاقة القائمة هذه ، من دون تحويل الدولة والسلطة ، الى جيش احتلال بمعنى الكلمة . ولهذا غالبا ما يأخذ النضال ضد الأوضاع هنا ، شكل النضال ضد الدولة ذاتها ، وليس ضد الحكم القائم فيها فقط . أي اسقاط الدولة الأساس ، وليس مجرد النظام الفرع . ففي الكثير من البلاد المتخلفة والتابعة ، يخيم على المجتمع مناخ العصيان المدني الدائم والمستمر . فعند نزول الشعب الى الشارع ، واعلانه العصيان المدني ، وانخراطه في الإضرابات الاستراتيجية التي سيتفتق منها العصيان المدني ، حيث شروط متوافرة ، وبكثرة ، يبقى امر كل الدولة وليس فقط النظام في كف عفريت .. واذا انبثقت حركة عصيان مدني مماثلة بالجنوب ، بالصحراء الغربية المتنازع عليها ، واندلاع المسيرات ، وترديد شعارات الجمهورية ، يكون مصير الدولة قد حسم فيها نهائيا ، وتكون مرحلة جديدة للتأسيس بطرح النقاشات السياسية ، قد حسم تصوير الخريطة ، وحسم صراع الاثنية الذي سيسهل لتغيير الجغرافية . وفي هذا الحال ، فان أي تحرك جماهيري ، سيلقى الدعم والمساندة من قبل مجلس الامن ،ومن قبل الجمعية العامة ، ومن قبل الاتحاد الأوربي التي مواقفه واضحة ، رغم كذب النظام على الرعايا ، بان البرلمان الأوربي ادان قصف جبهة البوليساريو لمدينة السمارة المتنازع عليها ، واكبر كذبة عندما ردد اعلام السلطة والبوليس السياسي ، ان البرلمان الأوربي اصدر قرارا يتهم فيه جبهة البوليساريو بالإرهاب .. وهي نفس الكذبة روجها اعلام السلطة والبوليس السياسي عندما ردد ان واشنطن تؤيد حل النظام المغربي لمغربية الصحراء ..
ان البرلمان الأوربي لم يدن جبهة البوليساريو بقصفها مدينة السمارة ، ولم يصدر عنه أي قرار يعتبر فيه جبهة البوليساريو منظمة إرهابية ..
وان سر سبق جماعة " البنية السرية " ، ملئ الفراغ القاتل بالدولة السلطانية البوليسية والمخزنية .. وبمباركة ضباط الجيش الكبار ، هو انقلاب على الاطاريح التي تكون قد أنجزت ، لملء الفراغ الذي كان حاصلا في الدولة ، حتى قبل وفاة الملك المريض .. شفاه الله ، لأننا لا نتشفى في احد ..
ان ما نعيشه اليوم ، وهو واضح وجلي للعيان ، هو سيرورة انهيار الدولة العلوية ، رغم او بسبب ما وصلت اليه من قوة وصلابة وتماسك ، جعلها أداة لاستعباد المجتمع ، واهانته ، والاستقواء عليه .. تجهل ان سبب قوة الدولة ليس في الأجهزة ، وفي درجة القمع ، بل ان سبب قوتها ، فراغ الساحة من معارضة قوية كمعارضة الستينات والسبعينات والثمانينات .. فالدولة وحدها تملء الساحة ، لذا فان اية مقارنة بين الدولة ، وبين المعارضة الهامشية ، ستكون مقارنة سلبية .. دون ان ننسى معارضة الجيش الذي ثار ضد النظام الملكي في انقلاب 1971 ، وفي انقلاب 1972 ، في محاولة الجنرال احمد الدليمي في سنة 1981/82 ..
ان تماسك الدولة وما وصلت اليه من قوة وصلابة بفعل فراغ الساحة ، جعلها أداة ، وكما اشرت أعلاه ، لاستعباد المجتمع او الرعايا ، لا قاعدة لتنظيم حرياته ، وأمنه ، ونشاطاته الاقتصادية ، حيث اصبح الرعايا زبائنا عند شركات الملك ، واسرته ، وعائلته ، واصدقاءه ، خاصة رئيس " البنية السرية " الذي يتحكم في الامن بمفهومه الضيق ، ويتحكم في المجال السياسي ، الذي اضحى مخنوقا ، وينذر بالانفجار المفاجئة ..
اما بالنسبة لطبيعة القوى الاجتماعية والسياسية الصاعدة ، وقد تظهر فوق السطح في كل وقت وحين ، بسبب الازمة المستفحلة فنوعية صلاتها بالمجتمع وتحررها من دورة رأس المال الدولي ، يتوقف نجاحها عند بزوغها على هامش صراع قد يحصل بغتة ، في إعادة الاعتبار لدور الأحزاب التي ستنبثق من قلب المجتمع ، ويمكن تصور أي سيناريو قد يسيطر على الساحة ، ويطرح شعارات ، تخيف جماعة " البنية السرية " ، التي يلاحظ انها اجتازت مرحلة تأييد الجيش لها ، فأعطاها هذا التأييد نفسا وثقة في استمرار الدولة المخزنية ، بنفس دستور الملك ، سواء الدستور الموضوعي المنزل ، او دستور عقد البيعة الغير مدون ، ويتماهي ، كالدستور نفسه ، مع سلطة المزاج الغير مرئية .. فنظام الدولة المخزنية البوليسية ، ومنذ دخول الحماية الى المغرب ، والى عهد الحسن الثاني ، وبعده محمد السادس ، قوتها كلها مبنية فقط على المزاج ..
ويبقى السؤال الذي لم يخطر على بال ، وظروف الحال الداخلية ، والشيطنة الخارجية ، تمهد اليه . هل ممكن انتظار زوال الدولة نهائيا عند فشل " البنية السرية " ، والانتقال الى حقبة وسيطية جديدة ، واقطاعية حديثة .. ؟ ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تناور.. «فرصة أخيرة» للهدنة أو غزو رفح


.. فيديو يوثق اعتداء جنود الاحتلال بالضرب على صحفي عند باب الأس




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات القصف الإسرائيلي في جميع مدن ق


.. حماس: تسلمنا المقترح الإسرائيلي وندرسه




.. طالب يؤدي صلاته وهو مكبل اليدين بعدما اعتقلته الشرطة الأميرك