الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - دفاتر السجن- غرامشي2

عبدالرحيم قروي

2023 / 12 / 26
الارشيف الماركسي


دفاتر السجن
«لقد كانت هذه الكراسات بؤرة حياتي الداخلية»
بقلم: انطونيو غرامشي
انطونيو غرامشي
الحلقة الثانية

تكوين المثقفين
هل المثقفون جماعة اجتماعية متميزة ومستقلة، أم أن لكل جماعة اجتماعية فئة المثقفين المتخصصة الخاصة بها؟ إنها قضية معقدة، نظرا لتنوع الأشكال التي اتخذتها حتى الآن العملية التاريخية لتكوين مختلف فئات المثقفين، وأهمها شكلان:
1- إن كل جماعة اجتماعية تظهر إلى حيز الوجود في عالم الإنتاج الاقتصادي، حيث تؤدي وظيفتها الجوهرية، تخلق معها عضويا شريحة أو أكثر [29] Strata من المثقفين، تمنحها التجانس والوعي بوظيفتها، لا في الميدان الاقتصادي وحده، بل في الميدانين الاجتماعي والسياسي أيضا. فالمنظم الرأسمالي يخلق إلى جانبه الفني في الصناعة، والمتخصص في الاقتصاد السياسي، ومؤسسو الثقافة الجديدة، ومبدعو النظام القانوني الجديد، الخ.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن المنظم ذاته يمثل مستوى أعلى من حيث التطور الاجتماعي. فهو يتميز بالفعل بمقدرة قيادية (-dir-igerte) ، وتكنيكية معينة (أي مقدرة فكرية intellectual ). فينبغي أن تكون لديه مقدرة تكنيكية خاصة، لا في مجال نشاطه ومبادرته المحدود فحسب، بل في ميادين أخرى أيضا، على الأقل تلك التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالإنتاج الاقتصادي. فيجب أن يكون قادرا على تنظيم جماهير الناس، وعلى خلق الثقة لدى المستثمرين في منشأته، ولدى الزبائن في منتجاته، الخ.
وإذا لم يكن لدى كل المنظمين enterpreneurs المقدرة على تنظيم المجتمع عامة، ابتداء من أجهزة الخدمات المعقدة حتى جهاز الدولة، فينبغي أن تتوفر هذه المقدرة التنظيمية، على الأقل في نخبة élite من بينهم [30]، ذلك لأن هناك حاجة إلى خلق أفضل الظروف لتوسع طبقتهم، وأن يكونوا قادرين على الأقل على اختيار من يمثلونهم (موظفون متخصصون) الذين يعهدون إليهم بالقيام بهذا النشاط المُنَظِّم للنسق العام للعلاقات القائمة خارج مجال الأعمال ذاتها. ويلاحظ أن المثقفين «العضويين» الذين تخلقهم أية طبقة جديدة إلى جانبها، وتصقلهم خلال تطورها، يمثلون في أغلب الأحوال «تخصصات» في بعض الجوانب الجزئية للنشاط الأصلي للنمط الاجتماعي الجديد الذي برز على أيدي الطبقة الجديدة. [31]
حتى اللوردات الإقطاعيين كانوا يملكون مقدرة فنية من نوع خاص، مقدرة عسكرية. وكان فقدان الارستقراطية لاحتكارها الفن العسكري إيذانا بأزمة النظام الإقطاعي. أما قضية تكوين المثقفين في العالم الإقطاعي وفي العالم القديم قبله، فينبغي أن تبحث على استقلال، وأن تدرس سبل ووسائل تكوينهم وتطورهم دراسة عينية. وتجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من أن كتلة الفلاحين تقوم بوظيفة أساسية في عالم الإنتاج، فإنها لم تخلق مثقفيها «العضويين»، ولم «تستوعب» أية شريحة من شرائح المثقفين «التقليديين» بالرغم من أن الفلاحين هم من تستمد منهم الجماعات الاجتماعية الأخرى معظم مثقفيها، فضلا عن أن نسبة عالية من المثقفين التقليديين من أصل فلاحي. [32]
2- ومن ناحية أخرى، فإن أية جماعة اجتماعية «أساسية» انبثقت تاريخيا عن البنية الاقتصادية السابقة، تجد كتعبير عن تطورها (على مر التاريخ كله وحتى الآن) فئات من المثقفين، يبدو لنا، أنها تمثل في الواقع استمرارية تاريخية، لم تقطعها حتى أعمق التغيرات في الأشكال السياسية والاجتماعية وأكثرها تعقيدا.
ورجال الدين هم النموذج الأمثل لهذه الفئات من المثقفين، التي ظلت تحتكر لفترة طويلة (طوال مرحلة تاريخية كاملة تميزت جزئيا بهذا الاحتكار) عددا من الخدمات الهامة: الإيديولوجية الدينية، أي فلسفة وعلم ذلك العصر، إلى جانب المدارس، والتعليم، والأخلاق، والقضاء، والأعمال الخيرية، الخ.
ويمكن اعتبار فئة رجال الدين فئة المثقفين المرتبطة عضويا بأرستقراطية ملاك الأرض. وهي تتمتع بمركز قانوني مساوٍ لها. فهي تشاركها في ممارسة حقوق الملكية الإقطاعية للأرض، وفي الاستفادة بامتيازات الدولة المرتبطة بهذه الملكية. [33]غير أن ممارسة رجال الدين لاحتكارهم في ميدان البنية الفوقية لم يخل من الصراع، ولم يكن بلا حدود. ومن هنا كان ميلاد فئات أخرى من المثقفين –اتخذت صورا مختلفة (ينبغي دراستها دراسة عينية عميقة)- شجعتها وساعدت على توسعها قوة السلطة المركزية المتنامية للملك، حتى قيام الحكم المطلق absulutism. وهكذا تكونت فئة من البرجوازيين الذين أصبحوا نبلاء noblesse de robe لها امتيازاتها الخاصة، تلك الشريحة من المديرين والعلماء والمنظرين والفلاسفة من غير رجال الدين وغيرهم...
وعندما اكتشفت هذه الفئات المختلفة من المثقفين التقليديين –بفضل «روح الفريق» " esprit de corps"- استمراريتها التاريخية، التي لم تنقطع، ومؤهلاتها الخاصة، طرحت نفسها كفئة متميزة ومستقلة عن الجماعة الاجتماعية المسيطرة. وكان لهذا التقييم الذاتي آثارا بعيدة المدى في الحقلين السياسي والإيديولوجي. ويمكن الربط بسهولة بين الفلسفة المثالية ككل، ووضع التركيبة الاجتماعية للمثقفين. ويمكن تعريف الفلسفة المثالية بأنها تعبير عن تلك اليوتوبيا الاجتماعية التي يتصور فيها المثقفون أنهم «مستقلون» ومتميزون، وأن لهم شخصيتهم الخاصة، الخ.
ومع ذلك، ينبغي أن نلاحظ أنه إذا كان البابا وكبار رجال الكنيسة يعتبرون ارتباطهم بالمسيح والرسل أقوى من ارتباطهم بالسناتور أنيللي Agnelli والسناتور بنيِّ Benni [34]. ، فإن هذا لا يصدق على جنتيلي Genteile وكروتشه Croce، فمثلا يشعر كروتشه بالذات بارتباطه الوثيق بأرسطو وأفلاطون، وإن كان من ناحية أخرى لا يخفي صلاته بالسناتورين أنيللي وبنيِّ. وهنا على وجه التحديد، يمكننا أن نتبين أهم ما يميز طابع فلسفة كروتشه.
ما هي الحدود «القصوى» للمعنى المتعارف عليه لكلمة «مثقف»؟
هل يمكننا التوصل إلى معيار واحد لتحديد الطابع المميز لكافة أنشطة المثقفين المتفرقة والمتنوعة، والتمييز في نفس الوقت، بصورة جوهرية، بينها وبين أنشطة التجمعات الاجتماعية الأخرى؟
يبدو لنا أن أكثر الأخطاء شيوعا، هو البحث عن معيار التمييز، في الطبيعة الجوهرية لأنشطة المثقفين، بدلا من البحث في مجمل نسق العلاقات الذي تجري فيه هذه الأنشطة (وبالتالي جماعات المثقفين الذين يجسدونه) داخل المركب العام للعلاقات الاجتماعية. فالعامل أو البروليتاري مثلا، لا يتميز في الحقيقة بعمله اليدوي الآلي بالذات، وإنما بأدائه لهذا العمل في ظل ظروف معينة وعلاقات اجتماعية محددة (بصرف النظر عن أن العمل العضلي المحض لا وجود له. وحتى تعبير تيلور Taylor [35]
«الغوريللا المدرية» "trained gorilla" ليس إلا تعبيرا مجازيا، يبين الحد الذي يمكن أن يذهب إليه اتجاه معين: ففي أي عمل عضلي، حتى أكثر الأعمال تدنيا وآلية لابد أن يتوفر فيه حد أدنى من المؤهل الفني (أي الحد الأدنى للنشاط الفكري الخلاق). وكما سبق أن لاحظنا، لا بد أن يتمتع المنظم enterpreneur، بحكم وظيفته ذاتها، بقدر معين من المؤهلات التي لها طبيعة فكرية، وإن كان دوره في المجتمع لا يتوقف عليها، بل تحدده العلاقات الاجتماعية العامة التي تحدد على الأخص وضع المنظم في الصناعة.
يمكننا إذن، أن نقول أن كل الناس مثقفون، ولكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف في المجتمع. [36] فعندما نميز بين المثقفين وغير المثقفين non-intellectuals، فإننا في الحقيقة نشير فقط إلى الوظيفة الاجتماعية المباشرة، أي تلك الفئة المهنية من المثقفين. أي أنه لا ينبغي أن يغيب عنا العنصر الغالب في نشاطهم المهني النوعي. الإبداع الفكري أم الجهد العضلي-العصبي muscualar-nervous effort. وهذا يعني أنه إذا كان بإمكاننا الحديث عن المثقفين، فإنه لا يمكننا الحديث عن غير المثقفين لأنه لا وجود لهم. بل أن نسبة الجهد العقلي إلى الجهد العضلي-العصبي في الإبداع الفكري ليست ثابتة. فهناك درجات متفاوتة من النشاط الفكري. ولا يوجد نشاط بشري خال من مساهمة شكل من أشكال النشاط الفكري، فلا يمكننا أن نفصل الإنسان الصانع Homo faber عن الإنسان كنوع homo sapiens . [37] وكل إنسان –في النهاية- يقوم –خارج نطاق نشاطه- المهني بشكل من أشكال النشاط الفكري، أي أنه «فيلسوف»، فنان، ذوّاق، يشارك الآخرين رؤيتهم الخاصة للعالم وله مسلكه الأخلاقي الواعي. وهو بهذا يساهم في المحافظة على رؤية معينة للعالم أو يشارك في تغييره. أي أنه يساهم بذلك في خلق طرائق جديدة في التفكير.
إن قضية خلق فئة جديدة من المثقفين هي إذن قضية التطوير النقدي critical elaberation للنشاط الفكري الذي يتمتع به كل الناس بدرجة أو بأخرى. وذلك بتغيير نسبته إلى النشاط العضلي-العصبي، لتحقيق توازن جديد بينهما ولضمان أن يصبح الجهد العضلي-العصبي ذاته –باعتباره أحد عناصر النشاط العملي العام، الذي يجدد باستمرار العالم والاجتماعي- لضمان أن يصبح أساسا لرؤية جديدة ومتكاملة للعالم.
إن النمط التقليدي الشائع للمثقف يتمثل في الأديب، والفيلسوف، والفنان. لذلك، فإن الصحفيين الذين يدعون أنهم أدباء وفلاسفة وفنانين يعتبرون أنفسهم أيضا المثقفين"الحقيقيين". لابد إذن، أن يشكل التعليم الفني ـ في العالم الحديث ـ المرتبط بالعمل الصناعي حتى في مستواه البدائي غير المؤهل، لابد أن يشكل أساس خلق مثقف من نوع جديد.
وعلى هذا الأساس عملت مجلة "أوردين نوفو" Ordine Nuovo [38] (8) الأسبوعية على تنمية أشكال جديدة من "العقلانية" "intellectualism" وتحديد مفاهيمها الجديدة. غير أن هذا لم يكن السبب الوحيد لنجاحها. فقد كانت هذه الرؤية تتفق مع الطموحات الكامنة، ومع تطور الأشكال الحقيقية للحياة. فلم يعد أسلوب المثقف الجديد يعتمد على البلاغة التي هي محرك خارجي مؤقت للمشاعر والعواطف، بل أصبح يعتمد على المشاركة الإيجابية في الحياة العملية كبانٍ ومنظم لها، "مهمته الدائمة الإقناع" لا أن يكون مجرد خطيب (ولكن فكره في نفس الوقت، أرقى من الفكر الرياضي المجرد). فمن التكتيك كعمل technique-as-work ينطلق الإنسان إلى التكنيك كعلم technique-as-science، والى المفهوم الإنساني للتاريخ، الذي بدونه يبقى الإنسان "متخصصا" "spechialised" دون أن يصبح "قائدا" "-dir-ctive" [39] (متخصص وسياسي Specialised and political).
وهكذا تشكلت تاريخيا فئات متخصصة لممارسة الوظيفة الثقافية intellectual -function-. وقد ارتبطت هذه الفئات في نشأتها بكل الجماعات الاجتماعية، وعلى الأخص بأهمها. وارتبط تطورها الشامل والمعقد بالجماعة الاجتماعية المسيطرة. فأهم ما يميز أية جماعة تتجه إلى السيطرة، هو نضالها من أجل استيعاب المثقفين التقليديين، وإخضاعهم "إيديولوجيا". غير أن هذا يتحقق على نحو أسرع وأفعل إذا ما نجحت في نفس الوقت في إعداد مثقفيها العضويين.
إن النمو الهائل لنشاط التعليم بمعناه الواسع، وتطور تنظيمه في المجتمعات التي انبثقت عن العالم الإقطاعي، دليل على الأهمية التي اكتسبتها الوظائف الثقافية والفئات المثقفة في العالم الحديث. فإلى جانب محاولة تعميق وتوسيع "الجانب الفكري" "intellectuality" في كل فرد، كانت هناك أيضا محاولة للإكثار من التخصصات المختلفة، وتضييقها. وهذا يتجلى في المؤسسات التعليمية على كل المستويات، بما في ذلك الهيئات القائمة على تنمية ما يسمى "بالثقافة الرفيعة" في كافة ميادين العلم والتكنولوجيا.
والمدرسة هي الأداة التي تستخدم لخلق وتطوير المثقفين على اختلاف مستوياتهم. ويمكن ـ موضوعيا ـ قياس مدى تعقد الوظيفة الثقافية في الدول المختلفة بعدد ومستويات المدارس المتخصصة. فكلما اتسعت "مساحة التعليم" وزاد عدد مستوياته "الرأسية"، كلما زاد تعقد عالم الثقافة والحضارة في الدول المعنية. ويمكننا أن نجد شيئا مشابها لذلك في مجال التكنولوجيا الصناعية: فيمكننا أن نقيس مستوى تصنيع أي بلد بمستوى تجهيزه لإنتاج المعدات التي تنتج الآلات، ولصناعة أدوات أكثر دقة لإنتاج تلك الآلات وهلم جرا... والبلدان الأفضل تجهيزا في مجال صناعة أدوات معامل التجارب العلمية، وفي صناعة الأدوات اللازمة لاختبارها، هي البلدان الأكثر تعقيدا من الناحية التكنيكية ـ الصناعية، وتتمتع بأعلى مستوى حضاري.. الخ. وهذا ينطبق أيضا على إعداد المثقفين، وعلى المدارس المتخصصة في هذا الإعداد، مدارس ومعاهد الثقافة الرفيعة. وفي هذا المجال لا يمكن فصل الكم عن الكيف، فأرقى التخصصات الثقافية ـ التكنيكية لابد أن يقابله أوسع انتشار ممكن للتعليم الأولي، وبذا أقصى الجهد لتوسيع المستويات الوسطى middle grades عدديا بقدر الإمكان.
هذه الحاجة إلى توفير أوسع قاعدة لانتقاء وتطوير المؤهلات الراقية، هذه الحاجة لها بطبيعة الحال مثالبها: فهي تخلق إمكانية حدوث أزمة بطالة واسعة في صفوف الشريحة الوسطى من المثقفين. وهذا هو ما يحدث حاليا في المجتمعات الحديثة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن عملية تكوين فئات المثقفين intellectual strata المختلفة في الواقع الملموس لا تجرى على أرضية الديموقراطية المجردة، بل وفقا لعمليات تاريخية تقليدية محددة.
لقد نضجت الفئات التي "تنتج" عادة المثقفين، وهي تتطابق مع الفئات المتخصصة في "الادخار"، أي البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، من ملاك الأرض، وبعض شرائح البرجوازية الحضرية الصغيرة والمتوسطة.
إن تباين توزيع أنماط التعليم المختلفة (الكلاسيكية والمهنية) [40] على الساحة "الاقتصادية"، وتباين تطلعات الفئات المختلفة لهذه الشرائح، هو الذي يحدد أو يشكل إنتاج مختلف فروع التخصص الفكري. ففي إيطاليا مثلا، تنتج البرجوازية الريفية موظفي الدولة على الأخص، والمهنيين بينما تنتج البرجوازية الحضرية الفنيين اللازمين للصناعة. فشمال إيطاليا هو الذي ينتج معظم الفنيين بينما ينتج الجنوب الموظفين والمهنيين.
وليست علاقة المثقفين بعالم الإنتاج علاقة مباشرة، كما هو الحال بالنسبة للجماعات الاجتماعية الأساسية، وإنما هي علاقة غير مباشرة، "يتوسطها" "mediated"، بدرجات متفاوتة، نسيج المجتمع كله، ومركب الأبنية الفوقية، التي يعتبر المثقفون بالتحديد «موظفوها» "-function-aries". والمفروض أن يمكن قياس «الطبيعة العضوية» "organic quality" organicita لشرائح المثقفين المختلفة، ودرجة ارتباطها بجماعة اجتماعية أساسية، وتحديد تدرج gradation لوظائفها وللأبنية الفوقية من القاع إلى القمة (من قاعدة البناء إلى ذروته). وما يمكننا أن نفعله الآن، هو تحديد «مستوين» رئيسيين للأبنية الفوقية أحدهما هو ما يمكن أن نسميه «المجتمع المدني» "civil society" أي مجموعة الهيئات التي توصف عادة بأنها هيئات «خاصة» "private"، والمستوى الآخر هو «المجتمع السياسي» "Political Society" أو «الدولة». ويقابل هذين المستوين: وظيفة «الهيمنة»/«القيادة» "hegemony" التي تمارسها الجماعة الحاكمة في المجتمع كله من جهة، ووظيفة «السيطرة المباشرة» "-dir-ect domination" أو الأمر command التي تمارسها من خلال الدولة وحكم «القانون» government"Juridical" من جهة أخرى. وهي بالتحديد وظائف تنظيمية ورابطة connective. والمثقفون هم «نواب» "deputies" الجماعة الحاكمة، يمارسون وظائف ثانوية في الهيمنة الاجتماعية Social hegemony والحكم السياسي، وتشمل هذه الوظائف:
1- إن «قبول» "consent" الجماهير العريضة التلقائي للاتجاه العام الذي تفرضه الجماعة الأساسية الحاكمة على الحياة الاجتماعية، إنما يرجع تاريخيا إلى النفوذ (وبالتالي الثقة) التي تتمتع بها بحكم وضعها ووظيفتها في الإنتاج.
2- يفرض جهاز قوة الدولة الجبرية «قانونيا»، الانضباط على تلك الجماعات التي تقف موقف عدم «القبول» الايجابي أو السلبي. وإن كان الجهاز قد أنشئ لمواجهة المجتمع كله، تحسبا للحظات الأزمة التي تتعرض لها السيطرة Command والقيادة، إذا ما تعذر القبول التلقائي.
إن طرح المسألة على هذا النحو يؤدي إلى توسيع مفهوم المثقف إلى درجة كبيرة. غير أنه السبيل الوحيد للاقتراب من الواقع العيني لنتناوله بطريقة محددة. فضلا عن أن هذا التوسع في مفهوم المثقف يصطدم بالمفاهيم المسبقة عن الطائفة (الطبقة المغلقة) Cast.
وتقتضي وظيفة الهيمنة/القيادة الاجتماعية. وسيطرة الدولة –بلا شك- نوعا من تقسيم العمل، وبالتالي تدرجا هرميا للمؤهلات اللازمة لوظائف بعضها لا ينتسب في الظاهر إلى وظائف القيادة والتنظيم. وعلى سبيل المثال، يوجد في جهاز قيادة المجتمع والدولة مجموعة كاملة من الوظائف ذات الطابع اليدوي الآلي (العمل غير التنفيذي non executive work وهو أقرب إلى عمل العمال منه إلى عمل الموظفين [41]ن officials´-or--function-aries . ومثل هذا التمييز ضروري.
والحق، أنه لابد من التمييز بين مستويات النشاط الفكري المختلفة، استنادا إلى خصائصها الجوهرية، حيث يظهر الاختلاف النوعي الحقيقي بينها في اللحظات التي تبلغ فيها المعارضة أقصاها exterme opposition: في أعلى المستويات، نجد مبدعو العلم والفلسفة والفن، الخ. وفي أدناها، نجد أقل «المديرين» شأنا، وناشري تراث الفكر التقليدي الموجود والمتراكم. [42]
لقد طرأ على فئة المثقفين –بهذا المعنى- في العالم الحديث توسع لم يسبق له مثيل. فقد ولّد النظام الديمقراطي –البيروقراطي عددا هائلا من الوظائف، التي لا تبررها ضرورات الإنتاج الاجتماعية، وإن كانت تبررها الضرورات السياسية للجماعة الأساسية الحاكمة dominant fundamental group. [43] Loria «للعامل» «غير المنتج» "worker" the unproductive (ولكن، غير منتج بالنسبة لمن؟ وبالنسبة لأي أسلوب إنتاجي؟) وقد يكونلهذا المفهوم ما يبرره، إذا أخذنا في الاعتبار استغلال تلك الأعداد الهائلة من الموظفين لوضعها، لتقطع لنفسها شريحة كبيرة من الدخل القومي. [44] لقد وحّدت عملية تشكيل الأفراد بالجملة mass formation نمطهم النفسي والمهني. وهذا هو ما فعلته أيضا بالجماهير الأخرى المنمطة standardised masses: تحتم المنافسة قيام منظمات للدفاع عن المهن، كما تحتمه البطالة وتكدس الطلبة في المدارس، والهجرة، الخ.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط


.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص




.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية