الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باب المنفى

عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)

2023 / 12 / 26
الادب والفن


رحلة في عالم الشاعر رياض محمد

نبضات جميلة
وصلني قبل فترة قصيرة ديوان الصديق الشاعر الجميل رياض محمد ـ باب المنفى. شدني العمل إليه عند قراءتي الأولى. سرت معه أتقصى حركته، نبضه، مسيرته وتجلياته. تبدأ عذوبة العمل من صفحته الأولى، حيث حمل الإهداء مفاهيم وقيم راسخة وعميقة. تثني على سر الوجود ـ الأم والزوجة. رسم الإهداء الرقيق صوراً أخاذة بطبيعتها وإيقاعها ومضامينها عنهما. تتضمن تلك الصور إعترافات جميلة بجميلهما عليه. فالنهر الذي يطهر الروح ويسقيها هو: الأم. يستعيد الشاعر بعضاً من صور حياتها، خاصة عندما تطحن حزنها برَّحاها الحجرية من أجل العيال. كما إن عطر ذكراها يزهر الربيع به ومنه. أما مَنْ كانت تزرع الورد في طريقه، فهي: الزوجة. تؤكد خلاصة الإهداء عجزَ المنفى في أن يتلاعب بعذوبة ورقة النهر، أو أن يحجب مسرة ومسيرة زارعة وناثرة الورود. على الرغم مما يحمله المنفى أحياناً من عبوس وقنوط.

بديهي عند قراءة أو مشاهدة، أي عمل أدبي أو فني، بغض النظر عن جنسه أو حقله، تبدأ على الفور قضية التحري عن المعنى ـ الدلالة في رمزياته. طبعاُ الى جانب تذوق قيمة جمالياته. شغلت هذه المسائل منذ البدء الى يومنا هذا العلماء، الفلاسفة، النفسانيين، اللغويين والمهتمين وغيرهم، في مسعى منهم لتجسيد الصور الفنية، الأدبية والشعرية أو على الأقل تقريبها من موضوعات الواقع. إن تجشم عناء البحث في الدلالات والخوض في مجاهيلها، تختلف بصددها زوايا الرؤية. لكن في المحصلة يمكن القول: هيهات أن تتحقق وحدة المواقف أو الرؤى أو التصورات، إتجاه الرموز التي تخلقها المخيلة الشعرية. هنا في هذه اللحظة أو الخاصية، تتجسد أحدى أهم جماليات الشعر وأبعاده وإيحاءاته، وكذلك الحال بالنسبة لمتعة النظر فيه وإليه.

تستدعي تسمية "باب المنفى" من الوهلة الأولى، صوراً، أحداثاً ومواقف، لا حدود لها، عند القارئ المتذوق، الناقد، العالم والسياسي وغيرهم أيضاً. تفتح هذه التسمية عوالم واسعة. طبيعي أن كل باب يفضي الى ما بعده، باب الدار، باب الوطن، الحديقة، المسرح وباب السجن أيضاً. تقدح الأبوابُ مخيلةَ الشاعر بطريقة مثيرة ومدهشة، لتعيد ذكريات، مشاهد ومعايشات للمبدع نفسه أو الآخرين. وربما محاكمات ذهنية لا حصر لها. أما باب المنفى فقد شغل بذاته، مساحة واسعة في الفكر الإنساني وتطورات الأحداث السياسية والإجتماعية، وطنياً وعالمياً، فحالته أشد ضراوة في أجواء التأمل الفني أو الفعلي. تموجات محركات المنفى عالية ذاتياً وإجتماعياً عند المبدعين، وأن كانت بدرجات متفاوتة، حسب حصيلة المعايشة أو حتى الصدف العابرة. تبقى أسئلة كثيرة تدور حول المنفى بين المنفيين أنفسهم، وفي نظرة الآخرين إليهم، ونظرتهم الى أنفسهم. ليس أقلها تأثيراً الشعور الخفي عندهم بغياب شيء ما.

الزهد من أجل النضال
إتسم النضال الوطني العراقي في أحدى مراحله بنوع من الزهد. يقوم ذلك الزهد على حالة من تستر المناضلين، بصدد إمتلاكهم مواهب شخصية، مما يؤدي الى بروزها في أوقات متأخرة نسبياً. ربما يعتقد المناضل أنه ولد ليناضل فقط. إذ قد يعتقد بأن الإهتمامات الأخرى، قد تخدش حالة النضال الطوعي. تطبع هذه الحالة سلوك عدد غير قليل من الموهوبين، الذين قدموا الشأن الوطني على كل شيء، بما فيها مواهبهم الفنية. تهرب من هذا الحصار الطوعي طبعاً، بعض تلك المواهب صوب العلن. هنا تلعب الصدفة دوراً مهماً في كشف الإهتمامات والمهارات والمواهب عند بعضهم. من بين وسائل كشف الموهبة عند الموهوب الصامت. أن دائرة واسعة من الأصدقاء القريبين يعرفون موهبة صاحبهم. فيفرضونا عليه عنوة أو إقناعاً إشهارها والتمتع والإمتاع بها. لعبت هذه الحالة الأخيرة دوراً في إظهار المواهب المسرحية عند الفنان الشاعر رياض محمد. وجدت الحالة الأولى التي وصلت بعد حين تعبيراً عنها، في نشر الشاعر عام 2022 لديوانه الأول ـ باب المنفى.

يبدو لي أن كاتب مقدمة الديوان، قد لمس تلك الحقيقة عند شاعرنا. أشار الى نقل روح الإبداع المسرحي صوب عالم الشعر الجميل. معلوم أن للمسرح إحتياجات واجبة: مجال مكاني، نصوص، فريق عمل وجمهور وغير ذلك. أما الشعر فأدواته، مقوماته و وسائله مختلفة، حيث يكون الفرد هو خالق عالم الإبداع وثماره. عبر كاتب المقدمة عن علاقة رياض محمد بالمسرح والشعر بقوله: "قصائده تشكيل لفضاء مسرحي حر بكل ما توحي الكلمة من معنى، ونصوصه لوحات تشكيلة فنية بصرية تقتنص الصورة لتقع في الدهشة المشبوبة بنار التجربة المرسومة بحذاقة وحرفية عالية لتلقي بنا في حالة من الدهشة والجمال".

تقول حكمة قديمة: "إن إبن المحيط أدرى بمحيطه". هذه الحكمة تعني أن لكل حالة في الدنيا دواخلها، وإن أهلها أدرى بشعابها. من هذه النقطة تنبع قيمة تلك الحكمة أو الخلاصة التاريخية، حول أثر وأهمية العلم بالشيء، أو المعرفة بالظروف المتناظرة أو المتشابهة. إنها تعطي تصورات أقرب الى الواقع، طبعاً مع التأكيد على أن زوايا الرؤية تبقى بخصوصياتها المتمايزة. أقصد بصدد الحكم على ظروف الغربة أو المنفى، بين المغتربين أو المنفيين ومن قِبَلِهم. قرأت المقدمة التي جاءت بقلم ناقد مر بتجربة غير بعيدة، عن تجربة وأجواء شاعرنا رياض محمد، بصدد نمط العيش في المنفى، حيث المشتركات في إسلوب العيش بالمنافي أو المغتربات. كَتَبَ الناقد علي المسعود مقدمةَ ديوانِ باب المنفى. وهو مغترب وناقد عراقي مقيم في المملكة المتحدة. بإختصار يمكن القول: إن توترات، نجاحات، إضطرابات، أفراح وأزمات المنفى فيها مشتركات بين كل المنفيين في إطارها العام. من هنا إطلق تقديري بأن المحيط الواحد ـ المنفى. يساعد كثيراً في فهم نبض وهواجس وربما مخيلة الآخر. بما فيها حالات قراءة الشعر أو تقويمه أو التعرف على الأجواء العامة المحيطة به. هذا كله يصب بإتجاه يمنح المقدمة حالة من الإقتراب، الى الروح العامة المحيطة بالديوان.

إنطلقت المقدمة في عملية تقويم أو تقديم الديوان، من محاولة تحديد ملامح التجربة الإبداعية لشاعرنا ذاتها، مشيرة الى إنعكاسات سيرة الشاعر العملية والفنية، خاصة في مجالي المسرح والسينما على شعره. قال عنه: "يحملك برفق على أجنحة شفافة من البهجة الى أقصى سماوات الفن والإبداع ويصيبك بالدهشة". أكد الناقد على أن المخزون الفني للشاعر يساهم بصورة واضحة في خلق صوره الشعرية. وردت إشارات نقدية طيبة كثيرة. ولو كان من حقي وضع درجات لسلم تلك الإشارات، لتوقفت طويلاً عند كلمتي الوطنية والحنين، التي طبعت روح وجوهر الديوان.

باقة مزهرة
يحتضن الديوانَ بين دفتيه 180 صفحة، حوت 56 قصيدة. كما تطرزت تلك الصفحات بـست لوحات فنية جميلة ومعبرة، للفنانة التشكيلة سعاد هندي. هنا ترافق الشعر مع التشكيل في لمحة رائعة. سعى الشاعر الى تحقيق تكامل رحلته الشعرية، من خلال الإعلان أو الكشف عن طبيعة تعرجات تلك الرحلة، التي كانت لها بداية ومحطات أخرى. ولكنها ليست الخاتمة أو الأخيرة في طريق الحياة. عُرضت الرحلة بكل ما إنطوت عليه، من أفراح، أتراح، مشاعر وإنفعالات. تُؤَرِّخُ القصيدةُ الأولى عام 1979 كبداية لمرحلة جديدة. تُعلن بحق إختياراً وتشخيصاً ذكياً، جميلاً ومعبراً. هذه السنة كانت بداية إنهيار، حيث إشتعلت النيران في جسد الوطن. هذا على الأقل من وجهة نظر عشرات الآلاف، الذين غادروه هائمين دون خرائط. كانت الحيرة عارمة، حيث يتشبث الإنسان بنخلة مقطوعة الرأس.

هكذا صاغت الأقدار أو الأوهام أو سوء التدبير الهجرة. لكن الإصرار من جانب آخر، حال دون تحويلها الى هجر. إندلعت الذكريات في الديوان، تتدفق من أناشيد الطفولة الى التظاهرات الغاضبة تضامناً، أو من أجل حق عام ما. هنا يختلط الإعتزاز بالحيرة بالتقويمات المرتبكة والعجلى. أناشيد الطفولة تمنح التلاميذ إمكانيات التحليق عالياً دون أجنحة، وفي الغالب دونما هدى أيضاً.

تظل مشاهد الطبيعة عالماً واسعاُ للجميع. لكن كل يرى مقاطع معينة تستحوذ عليه، جميلة كانت أو عابسة وما بينهما، إلا إنها تأتي بطرق مختلفة. هنا يكمن سر غنى الكون، وسر تفاوت قراءة المبدعين له. وما يستطيعون تصويره أو وصفه أو فهمه. سماء بلادنا صافية، ومن خلال هذا الصفاء، يحتل القمر مكاناً مميزاً عند الجميع. تغنى رياض محمد بنصفه المعلق بخيط. ربط ذلك النصف بصور وأحداث ومشاهد تتبارى بينها في درجات روعتها وإيحاءاتها وما تهمس به. تتوالى التخيلات الى أن يكتمل بدراً بصحبة صديق عزيز.

عتاب شاعرنا لآدم هو سفر شعري قائم بذاته، متفرد بصوره ومضامينه وقيمه الجمالية الموحية. كل لقطة تتداخل خلفها بالتتابع عشرات اللقطات، بما يخلق حركة رشيقة، مرنة، متتابعة ونابضة بالحياة. على الرغم من إنزلاق آدم في المرة الأولى السابقة. إنه هذه المرة على الأرض يتعامل بواقعية، حسب مخيلة شاعرنا رياض محمد. هنا آدم يزرع، يحصد ويأكل، ثم يعود ليحرث الأرض من جديد في كل موسم. يواصل العمل لأدامة الحياة. يلتذ بمتطلباتها وأحياناً يبتأس. يظل يرافقه الندم على هجران عالمه الأول. هذه القصيدة تحمل الكثير من الإستثمار الرائع للروايات السالفة عبر مصادرها المختلفة.

قالوا أن النخلة سيدة الشجرة. هذا القول ليس إنحيازاً لأرض السواد. ولا ينطوي على أي إنتقاص من جمال كل الأشجار وحتى الحشائش. إنما إعترافاً برشاقتها وإستقامة جسدها وصبرها وطيب ثمارها وتنوعاته. شغلت النخلة عند رياض محمد مكانة جميلة مستحقة، دون تجاهل أشجار أخرى: الكمثري، الكرز، الدفلي وحتى العشب، خاصة عشبة بابل الملحمية. نعم إن النخيل لا يغترب ويمسك الأرض بثبات، على الرغم من كل ما جرى ويجري. فلا غرابة أن يتعلق البابلي بالنخيل، بعد إن إحتلت بابل الموقع الأول في أعداده، سابقة البصرة الفيحاء التي طحنت نخيلها الحروب. ربما هذا هو حال النخل هكذا تاريخياً شامخاً، صبوراً، كريماً ومتفرداً. لا أعلم لماذا في هذه اللحظات تذكرت الحوار الجميل، بين صقر قريش ونخلة زرعها في بلاد الأندلس. ربما لما يقدم المشهد والحوار بين غريبين معاً. كما لا غرابة أن يتعلق الحلي بنخيل وشناشيل مدينته وتاريخها وشعراء من أبنائها.

للصداقة والمنبت مآثرهما
شغلت الصداقة في الديوان حيزاً ومكانة كبيرة روحياً ومعرفياً وقبلهما ذوقياً. توقف الشاعر عند صديقه حسن نصف القمر، الذي يكتمل به القمر، يا لروعة التشبيه. كان حاضراً في الديوان أيضاً، الشاعر موفق محمد وأصحابه وحروفه التي تتسلق الجدران. لم يغيب زميل الإهتمام الأول الراحل غانم بابان. كانت كل القصيدة أقرب ما يكون الى فيلم خاطف وجميل، يندرج ضمن ميدان السينما الواقعية. بطل قصة الفيلم، هو غانم نفسه ونقاط تميزه. رحل غانم تاركاً نبض سيرته في ذاكرة أصدقائه ومعارفه، تاركاً مساهمات حلوة ودفتر ذكريات يستحق الكثير من القراءات الجادة، بسبب بساطتها وصدقها. كما نال نصيبه من الإهتمام صديقه (م) وعُكازه المُبكي.

حب أرض المنبت عنده تتكرر في كل المناسبات والمواقع. تعلق شاعرنا بالأبواب كآيات رمزية: باب المنفى، باب الذكرى، كما تعلق بالوالدة، الوالد، أخيه الراحل الراحل علي، المدينة، نخلة الزهدي، البرحي وغيرهما. بل يتذكر محطات أخرى في الوطن وفي حالات متعددة. تستحق الوزيرية وصف الدهشة الأولى. ربما كل الجامعيين في بغداد يفردون مكانة ملهمة لحي الوزيرية. تلك المحلة الرائعة، التي تحتضن معظم كليات ومعاهد جامعة بغداد. هذه المرحلة من الدراسة هي الأكثر أهمية في عمر كل خريجيها. فما بالك بمحبي ومنتجي الفن.

تتواصل أغاني الشاعر بعذوبة ورقة متناهيتين، في العديد من المشاهد. يا لسمو وروعة التساؤل الحزين بدلالاته: كم من الحقائب تركنا خلفنا؟ ما توحي به مجاهيل الغربة والنفي المتعاكس بإتجاهين صعب الإحتمال. ربما القول: كان لنا وطن يختصر مسيرة القهر كلها. إنه قمة جبل القهر المسافر مع المنفي دائماً، فوق رأسه أو على كتفه، أو على الأقل يقف أمامه في كل رحلة، مما يتطلب جهداً، صبراً ومشقة لإجتياز ذلك الجبل، سواء كان مخضراً أو أجرداً.

واقع الوطن وصورته عند الشاعر، على غير الصورة، التي يراه أو يجسدها، حتى مبدعون آخرون خارج مضمار الشعر. لكل شاعر لوحته وقراءته الخاصة في تخيّل الوطن. يرتدي الوطن في المنفى حُللاً ملوّنة، فيها شيء مما هو أبعد من الواقع أو الأسطورة. يكون في حالات كثيرة متفرداً، لا يشبه الواقع ولا الأساطير العربية أو الإغريقية. يقول شاعرنا عن محنة الوطن: "الوطنُ معلقٌ بين غيمة وريح". يحاكي الشاعرُ عالمَ النفس حين يستدل على الإضطراب من خلال الضحك بغير محله. يدعم حجته بأن الضحك في حالات معينة يعني إخفاء حالة نفسية ما. هنا يتدخل الشاعر ليضع الحالة النفسية في موقعها، أي إن الضحك قد جاء لإخفاء الدهشة والخوف.

في رد غير مباشر ولكنه مفحم، على مَنْ يتوهم بأن المنفى جميل وخفيف ظل والدم. يقول الشاعر رياض محمد:

"أيّ بلادٍ تركتَ أيها العاشق؟
وأيّ بلادٍ تستقبلُكَ إلآن؟
ثلاثونَ عاماً
كنت تُحصي
ثوإنيَها
دقائقَها
ساعاتِها ...".

حين يحسب الإنسان حركة وقته أو عيشته وزمانه في المنفى، بأقصر الوحدات الوقتية أو الزمنية، فذلك يعني أنه يعيش في حالة هم كبير وثقيل ومؤلم. هذا الواقع ينطبق على العودة غير الطبيعية. يمكن التوصل الى هذه النتيجة، من خلال الصورة التي تُرسم في الطريق من والى الوطن، ثم منه ثانية، يتعثر الشاعر بالكثير من المُوحِشاتِ، منها: وجوه غيبها الزمن، وحالات الغياب تعددت أشكالها، منها: الموت على يد الخصم أو الإنتقال بين المنافي وحتى حالات الإنطواء أو الزعل أو الرحيل الطبيعي والمبكر. يبحث الشاعر عن الوطن بين الركام، أسماء طافية فوق مياه نهر الخابور أو غارقة تحته، والخابور أحد الممرات الى الوطن، لا يحتاج الى وثيقة سفر. يتحرك الألم عند رؤية طرق حرثتها القنابل، بيوت كئيبة، أشجار قتيلة وغير ذلك الكثير الكثير.

خاصية مميزة
وقفت في حالات كثيرة كقارئ، أمام قصائد الديوان على إنفراد أتأملها. أخذتني تلك القصائد الى مواقع أبعد، من أنها تمثل مجرد رموز تعبيرية. أخذتني الى الحالة العامة المحيطة بالشاعر نفسه، الى الضغوط المسلطة عليه، والأجواء المحيطة به، لتسرد لي قصة بنيته النفسية ـ الإجتماعية ـ الفنية، وردود فعله عليها، في اللحظات التي إشاد بها ذلك البناء ـ بناء القصيدة. هنا يظهر صدق العمل جلياً. لو لم تتحد عند الشاعر في لحظة الخلق: الخلجات، المعرفة، الصدق، المعاناة العميقة وخيوط الترابط الإجتماعي والنفسي، وقت ولادة القصيدة أو نزيفها، لما تجسد ما لا يسهل تجسيده فنياً. كم هي جميلة ثمار المعاناة الواعية والعميقة بصدقها. بديهي بأنه ليس كل شاعر يمتلك مثل تلك المقدرة، ولا كل قصيدة أيضاً. عند إمتلاك القصيدة هذه الخاصية، تكون قد إرتقت مرتفعات عالية. تتوحد فيها المعاناة، الرقة، الوعي، الحس المرهف والغضب أيضاً. بهذا الميدان سجل شاعرنا مكانته الخاصة.

لم تقتصر هذا الخاصية الرفيعة والجميلة عند رياض محمد على حقل واحد. تجدها في مشاعر الحب، الحنان، الغضب، النضال، الأمل، اليأس، الفوز والإنتكاس، وفي غيرها من طبقات النفس الشاعرة. حمل البندقية ذات يوم، ليؤكد أو يفرض مشروعه في الحياة الخاصة والعامة. كان المشروع يمثل مسيرة سنوات سابقاً، من أجل الآخرين في الوطن كله أولاً. خلقت ذلك التصور قناعات وظروف وأجواء، وربما غيرها أيضاً. لا تنسجم برودة حديد البندقية تماماً، مع حرارة سماع النغمات العذبة، والنظر الى هدوء القرى النائية. تنتج الطبيعة عند الشعراء نغمات وإيقاعات خاصة. تنتجها بل وتميل إليها الذات الشاعرة. ببساطة يعيش الشاعر في عالمه الذي بناه بإرادته وقناعاته وتصوراته الخاصة. في كل الحالات هذه حالة الإنسانية من دونها لا يكون أي مبدع مبدعاً. يمتلك الفنان حالاته الخاصة، التي من دونها يغادر موقعه. لا يرتقي الشاعر الإنسان من دونها، الى أعلى ذروة في الفرح، أو أعمق نقطة في سرداب الحزن والعتمة.

تموجات على خشبة المنافي
في ظرف معين قد يجد المبدع نفسه أمام إختبارات جديدة. أقول قد لأن المنفي في الحالات الطبيعية يذهب الى مستقر ما، ويبدأ رحلة حياة جديدة. ربما هناك خاصية أخرى أصابت عدداً من المبدعين العراقيين. تمثلت بالإنتقال من حالات النضال السياسي في الوطن، أو تحمل إضطرابات المنافي، الى الإقتراب من النضال المسلح ـ الحرب. هنا بدأ الشعر والشاعر يتعامل مع حقائق وظروف "الكفاح المسلح".

بديهي هنا أن تدخل الى العبارة الشعرية مفردات مثل: البندقية، الذخيرة، التموين، الخفارة، الغرق، الدم، الرثاء والخنجر. في لحظات وحالات معينة تعلو هذه الكلمات على مفردات أخرى في اللغة الشعرية: الرقة، العذوبة، الجمال، الإطلاع العلمي، البحث، التقصي، الورد والإبتسامة وغيرها. في الحالتين يسمو الشعر بكلمات الدعة والحرب معاً الى مقامات جميلة. إنها روح الشعر التي تجسد إنسانية الإنسان. مهما كانت ظروفه سهلة أو قاهرة، ولكل حالة جمالها الخاص. إنه عالم الشعر الذي يملك ألوانه، جمالياته وأعماقه الخاصة.

تغذي التجربةُ الحياتية الملموسة مخيلةَ الشاعر بالصور الوجدانية. لنفترض أن شاعراً تغنى بطراز أو إسلوب حياة مدينة تاريخية: بغداد، فاس، الشام، غرناطة، الغردقة وغيرها. هل سيرسم ذات الصور عندما يزورها، أو لم يشهدها أصلاً، أو حين يحبها عبر الروايات والقراءات وأحاديث الصحاب. هناك مسافة كبيرة بين المعايشة الذاتية وبين الإنفعال بروايات الآخرين. إن استخدام أو إطلاق المخيلة تزدهر بالمعايشة وحالة الشاعر وقتها.

إمتلك شاعرنا المقدرة على نقلنا معه في تنقلاته. تنفتح لنا صفحات أحاسيسه في اللحظة المعنية، من دون جهد تحليلي في النص أو البيت الشعري. نشاهد الشاعر يهرب من أقاصي مناطق الثلوج، الى مناطق الحر والرمال وغبار، من ضفاف البحار الى الينابع والسواقي. دونما إستقرار أو ثبات هنا أوهناك. هذه الحالة هي واحدة من ترددات المنافي.

ما أن تبدأ رحلة المنفى تبدأ معها رحلة موازية في عالم الوطن. تأخذ في الغالب إتجاهين. يقوم الأول على إذابة محنة المنفى نفسها ومعها شيء من شريط الذكريات والسلبيات العامة. فيما يقوم الإتجاه الثاني على خلق حالة نقيضة لما في الحالة الأولى، بل وتمنح الخيال قدرات تضخمية. تكون سلبية تارة وأخرى إيجابية. كما لا تغيب عن المخيلة حالاتُ المراوحاتِ بينهما. لا ينبغي عند الوقوف أمام حالات المنفى، أن نهمل الخصائص الفردية، لأنها في كل الأحوال سر عمليات الخلق وتلعب دوراً مؤثراً. بديهي أن نوع المكان وثيق الصلة بكل أحاسيس وتخيلات ومعاناة المنفي. بنظرة سريعة الى المنافي العراقية المختلفة، نلمس فوارق كبيرة نفسية، إقتصادية، ثقافية وإجتماعية بينها. لا يتوقف الأمر عند قراءة المنفي لمنفاه، بل يتعدى الأمر الى حالات ما يعانيه من تأثيرها وتغييرات على شخصية المنفي او المغترب أو المهاجر قسراً أو إضطراراً.

في المنفى يختبر ويكتشف الفنان، المبدع والمتخصص، وبصفة خاصة الشعراء منهم أنفسهم. تنكشف أمامه الفوراق الجدية بين الصورة الذهنية السابقة والواقع، هذا على مستوى الإشخاص، الجماعات وحتى العقائد. يوجد في المنفى الوقت الضروري للإكتشافات والتحكم بردود الأفعال حولها وعنها وعليها. يجلي الإحتكاك الواسع والمتكرر مع الآخرين صورتهم الأقرب الى الواقع عنهم ولهم. يتميز المنفي إضطرار عن غيره، بأنه لا ينطلق من نقطة الصفر. يصل المنفي وقد ملك خبرة حياتية وثقافية ومع ذخيرة من التراث الثقافي.

هنا تبدأ مرحلة منظورة، محسوسة أو غير محسوسة، بين حالتين، حالة الأمس وحالة اليوم، على المستوى الشخصي، وبين الشخص ومحيطه الجديد. ربما يترك ذلك أثراً على الشخصية وعلى مقاييس الذوق والإنتاج الفنيين. تبرز أولى المستجدات، خاصة في اللغة الشعرية، بتقلص أو إتساع حجم ومساحة الغموض في العمل الإبداعي. ومن المؤشرات العامة لما ذهبت إليه الحالة الشعرية. لم تعد هناك حالات شعرية تقترب من لغة الرصافي، الزهاوي، الجواهري و عبدالرزاق عبدالواحد ونظرائهم.

نلاحظ تنامي حالات الإعتماد على المشاهد، التناظرات، نبضات القصة القصيرة، الحكمة ورقة ورشاقة المفردات وغيرها من الحالات الفنية. هناك حالات تبنت نمط التايكو وإقتباس نبضات الطبيعة وفصولها ومتغيراتها. باتت ظاهرة التزاوج بين طبقات النفس البشرية وظواهر الطبيعة عبر التركيبة الشعرية حالة شبه عامة، خاصة بين الجيل الجديد. يعلن بعض مَنْ يندرج ضمن هذا التيار، بأنه يكتب على هذا النحو، لا يهمه توصيف أو تجنيس إنتاجه. قد تتحول حالات التداخل العميق بين عدة أشكال وأنواع من العمل الإبداع الى حالة إيجابية لها صفاتها وملامحها وقوانينها الداخلية وفي الغالب تعكس حالات غير مرجوة.

عالم الشعر
عند المنفي الذي لا يملك المقدرة على التخيل، وإعادة تركيب الصورة بكل مكوناتها، يتحول رد فعله في الغالب، الى موقف سلبي من الآخر. تبرز فيه أنانيات لا حصر لها، وكذلك حجج لتبريرها بذات القدر. أما المبدع فيشذب الإنطباعات يحاكمها بمرونة عادلة. تحمل نواتها مرونة وصلابة فيهما تناسب مدهش. ولا تتجسد عنده في ظواهر صاخبة. هذا التسامي أو التسامح يسكن في مخيلة المبدع نفسه. قد لا نحتاج الى الكثير من البحث والوسائل لمعرفة محركات هذا التصرف الجميل حقاً. يكمن ذلك في قدرة المبدع وإمتلاكه المقدرة للتعبير عن قراءاته للحياة من خلال فنه. ومن المعلوم أن التعبير المبدع يملك قوة المرونة والجمال والتأثير، لأنها مهارات طبيعية داخل العمل الإبداعي نفسه.

قد يُطرح سؤال في الحالات، التي تستحوذ عليها صرامة وجفاف طريقة تناول الأعمال الشعرية. هل هنالك خط سير مشياً مباشر دون أن تلامس الأقدام الأرض؟ طبعاً لا في الإفتراضات المادية الملموسة. ولكن في لحظات الخيال أو تحريك المخيلة يصبح ذلك ممكناً، بل يتحول الى قيمة جمالية قائمة بذاتها. تمنح المخيلةُ الإنسانَ مقدرة على مخاطبة البحر، السماء، الأمواج والعواصف بل الظواهر الطبيعية والإنسانية. بعبارة أدق إن معول الشاعر أقوى من الحواجر المادية والمعنوية التي تقف أمامه. إن التعبير الجمالي آخاذ في حالات الإرتياح أو الضجر. إنه سيد المراوحة والتحرك بين قطبي الأضداد.

يوصف الإبداع بأنه تعبير ذاتي. يصوغ الحياة الشخصية والعامة والنظر فيهما أو عليهما. كلما إرتقت جودة العمل الفني عامة والشعري خاصة، في التعبير عن الذات وإدراكها وخلق التصورات عنها. تجلت درجات صدقه ورقة موسيقاه. وإرتفعت جمالية مظهره وإرتقى مضمونه. إن الحكمة العربية القائلة: أعذب الشعر أكذبه. وكذلك نقيضتها ظاهرياً: أعذَب الشِّعر أصدقه. هما تعبير واحد منسجم عن الحقيقة الشعرية. على الرغم من التناقض البادي في مظهرهما اللفظي أو الرمزي. أخذت كل مقولة زاوية مختلفة لتزميز الحالة الجمالية في النظر الى الشعر. يقوم أساس الإختلاف من إختلاف زواية النظر أو الرؤية. إن طبيعة العمل الإبداعي الناجح تظهر أحياناً، من خلال حقيقة تعدد مسافات الإقتراب الى حقيقة ذاته الشعرية. هي الريشة التي ترسم اللوحة بأبعادها المختلفة.

يعيد الشاعر صياغة الطبيعة والأحداث بإسلوب رشيق الجمال. يحرص على حسن موسيقاه الداخلية وأوزانه، الفاظه رقيقة منسابة، تفاصيله ناعمة، هذا كله يأتي مترابط الأوصال. لا يعيق إهتمامه بمشاهد جمال الطبيعى والمخلوقات الغوص في تفاصيلها: شجرة، حمامة، عصفور، وردة منفردة، قفزة أرنب خائف وتغريدة بلبل الى مشاهد عسيرة على الإنقطاع.

تظل النفس الشاعرة تعاني من لواعج ومعاناة المنفى. قد يحمل المنفى في داخله حالات أو تعبيرات أخرى: الغربة، الإغتراب، الوحشة، هموم غير واضحة المعالم، رغبات بالعزلة لبعض الوقت، دموع حارة، رغبة في تغيير مواقع الإقامة وغيرها من الحالات الحركية، النفسية والإجتماعية. ربما من بين أخطر أنواع المعاناة، ما يمكن أن أسميه بالعذاب الغامض في حب الوطن. تحديداً الحنين الى موقع المنبت الأول ومرابع الطفولة ومحطات العمر المميزة. قد تصل في بعض الحالات الى محاولة رد الروح الهائمة الى الجسد الى الوطن. وهنا تكثر الشكوى الملتاعة والمكحلة بالحسرة و بالغضب.

أستطيع القول أن العمل بمجله متناسق ومترابط البناء. فالقصيدة الأولى كانت "باب المنفى 1" عام 1979. ثم جاءت الخاتمة عند "باب المنفى 2" عام 2009. يعني إننا مررنا بمسيرة ثلاثة عقود. عشنا نزيفها، جراحها، أوهامها ولحظات جميلة فيها أيضاً. كانت الحصيلة وطناً معلقاً بين غيمة وريح. كم هو ثقيل أن تعد ثلاثة عقود ليس بأجزائها الكبرى إنما بثوانيها. كل أصناف المآسي مبعثرة أينما تسير أيها المنفي. ويظل قهر الحزن من مجرد فرح وإنتصار.

حين ينبغي أن أقول خلاصة إجمالية عن شعر رياض محمد، أقول: إنه شعر سلس وجميل. ينساب بعذوبة ورقة وهدوء. لوحاته منسجمة في بنائها الداخلي، سواء كان موضوعها يعالج ميداناً أو موضوعاً مشرقاً أو معتماً، وما يعتمل بينهما. إنه جميل الإيقاع، النبضات والأنغام. لم يشهد الديوان تعسفاً في صياغة المتناقضات. كم هي جميلة المبالغة الشعرية، حين تحرص على موضوعيتها في إشراقتها الأوسع عند الأفراح والأتراح. كان الديوان في أحد حالاته مذكرات خاصة، وفي أخرى تسجيل نزيه لتعرجات فترة أو ربما مرحلة تاريخية كاملة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قراءة متبصرة
علي المسعود ( 2023 / 12 / 26 - 22:22 )
شكرا استاذ عبدالحميد على القراءة الجميلة والذكية التي أضاءت على جوانب عديدة من ديوان الشاعر رياض محمد( باب المنفى) وبرزت التناظر القصصي و المسرحي و انعكاسات الاغتراب وغيرها في قصائد الديوان ، تحياتى وكل عام وآنت بسلام وخير


2 - قراءة متبصرة
علي المسعود ( 2023 / 12 / 26 - 22:22 )
شكرا استاذ عبدالحميد على القراءة الجميلة والذكية التي أضاءت على جوانب عديدة من ديوان الشاعر رياض محمد( باب المنفى) وبرزت التناظر القصصي و المسرحي و انعكاسات الاغتراب وغيرها في قصائد الديوان ، تحياتى وكل عام وآنت بسلام وخير


3 - تحياتي اقراء رجاء الحوار مع صباح كنجي حول الكفاح
المتابع ( 2023 / 12 / 28 - 16:24 )
المسلح ويذكر دور المرحوم ا خاجادور سوية مع ماجد مع السلطه-اعتقد يوجد سوء تقييم -انت د عبد الحميد كتبت كثيرا عن المرحوم -تحياتي

اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب