الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة -دفاتر السجن-غرامشي 3

عبدالرحيم قروي

2023 / 12 / 28
الارشيف الماركسي





دفاتر السجن
«لقد كانت هذه الكراسات بؤرة حياتي الداخلية»
بقلم: انطونيو غرامشي
انطونيو غرامشي
الحلقة الثالثة والأخيرة
اختلاف وضع نمط مثقفي المدن عن وضع نمط مثقفي الريف
نما المثقفون الذين ينتمون إلى النمط الحضري مع نمو الصناعة وارتبطوا بمصيرها. ويمكن تشبيه وظيفتهم بوظيفة صغار الضباط في الجيش، فليس لهم حق المبادرة المستقلة في وضع خطط البناء. ومهمتهم هي تحقيق الترابط المحكم بين المنظم enterpreneur وكتلة العمل الآلي instrumental mass ويقومون بالتنفيذ المباشر لحظة الإنتاج التي تقررها قيادة الصناعة، ويشرفون على مراحل العمل الأولية. ويمكن القول بصفة عامة، أن مثقفي المدينة العاديون منمطون للغاية. أما كبار مثقفي المدينة فيتوحدون أكثر فأكثر مع قيادة الصناعة ذاتها.
أما مثقفو الريف فأغلبهم من النمط «التقليدي» "traditional"، فهم يرتبطون بالأغلبية الساحقة من أهل الريف، وبالبرجوازية الصغيرة في المدن (لاسيما المدن الصغيرة) التي لم يطورها ويحركها بعد النظام الرأسمالي. هذا النمط من المثقفين هو همزة الوصل بين جماهير الفلاحين والإدارة المحلية وإدارة الدولة (المحامون والمحضرون، الخ). وأصبحت لهم بسبب هذا النشاط وظيفة اجتماعية-سياسية هامة إذ يصعب فصل الوساطة المهنيةproffessinal mediation عن الوساطة السياسية political mediation. وعلاوة على ذلك: يتمتع المثقف في الريف (القس والمحامي والمحضر والمدرس والطبيب الخ) بمستوى معيشي أعلى، أو على الأقل مختلف عن مستوى معيشة الفلاح العادي، ولهذا فهو يمثل في نظره نموذجا اجتماعيا يتطلع إليه في طموحه لتحسين حالة أو للخلاص منها. فالفلاح يحلم دائما أن يصبح واحد على الأقل من أبنائه مثقفا (قسيسا على الأخص)، وبهذا يصبح سيدا، ويرفع من المستوى الاجتماعي لأسرته بتيسير حياتيها الاقتصادية، وذلك بفضل ما سوف يكون له من صلات بغيره من السادة.
وموقف الفلاح من المثقف موقف مزدوج ومتناقض. فهو يحترم المركز الاجتماعي الذي يتمتع به المثقفون وموظفو الدولة عامة، ولكنه يتظاهر أحيانا بازدرائهم، وهذا يعني أن إعجابه بهم يمتزج أحيانا بمشاعر غريزية، مشاعر الحقد والغضب المتقد. وما لم نأخذ في الاعتبار تبعية الفلاحين الفعلية للمثقفين، وندرسها دراسة عينية عميقة، فلن نفهم شيئا عن حياتهم الجماعية، وما يختمر داخلها، وبذور تطورها. فأي تطور أساسي لجماهير الفلاحين يرتبط إلى حد ما بحركات المثقفين ويعتمد عليها.
أما بالنسبة لمثقفي المدينة فالأمر يختلف. فالفنيون في المصنع لا يمارسون وظيفة سياسية بالنسبة للجماهير العاملة، أو على الأقل انتهت المرحلة التي كانوا يؤدون فيها هذه الوظيفة، بل أن العكس هو الذي يحدث أحيانا، عندما تمارس الجماهير العاملة –على الأقل من خلال مثقفيها العضويين- تأثيرا سياسيا في الفنيين.
تبقى النقطة الرئيسية في القضية، وهي التمييز بين المثقفين كفئة عضوية category organic في جماعة اجتماعية أساسية، والمثقفين كفئة تقليدية traditional category. ويترتب على هذا التمييز سلسلة من الإشكالات والقضايا التي يمكن أن تكون موضوعا للبحث التاريخي.
وأهم هذه القضايا –إذا ما درسنا من هذه الزاوية- هي تلك التي تتصل بالحزب السياسي الحديث، جذوره الحقيقية، وما يطرأ عليه من تطورات وما يتخذه من أشكال. ما هي طبيعة الحزب السياسي من حيث علاقته بقضية المثقفين؟ لا بد من التفرقة بين عدة أمور:
1- ليس الحزب السياسي بالنسبة لبعض الجماعات الاجتماعية إلا طريقتها الخاصة في تكوين وتطوير فئة مثقفيها العضويين في الحقل السياسي والفلسفي مباشرة، وليس في حقل تكنيك الإنتاج وحده. هكذا يتكون هؤلاء المثقفون، ولا يمكن أن يتكونوا بطريقة أخرى، مع أخذ الطابع العام للجماعة الاجتماعية، وشروط تكوينها، وحياتها وتطورها في الاعتبار. [45]
2- والحزب السياسي بالنسبة لكل الجماعات هو بالتحديد ذلك الجهاز الذي يقوم في المجتمع المدني بذات الوظائف التي تقوم بها الدولة على نحو أكثر تركيبا وأوسع نطاقا في المجتمع السياسي. إنه بعبارة أخرى مسؤول عن تحقيق التلاحم بين المثقفين العضويين لجماعة معينة –الجماعة الحاكمة- والمثقفين التقليديين. [46] ويخضع أداء الحزب لهذه الوظيفة خضوعا تاما لوظيفته الأساسية، وهي خلق الأجزاء المكونة له، أي تلك العناصر من الجماعة الاجتماعية التي ولدت وتطورت كجماعة «اقتصادية» " economic group " وتحويلها إلى مثقفين سياسيين مؤهلين، أي قادة -dir-igenti ومنظمين لكافة الأنشطة والوظائف اللصيقة بالتطور العضوي لمجتمع مدني وسياسي متكامل. ويمكن القول، أن الحزب السياسي يؤدي في مجاله وظيفته على نحو أكمل وأكثر عضوية مما تفعل الدولة في مجالها وهو كما هو معروف مجال أوسع كثيرا. والمثقف الذي ينضم إلى الحزب السياسي لجماعة اجتماعية معينة يندمج في جماعة المثقفين العضويين لهذه الجماعة ذاتها، ويرتبط بها ارتباطا وثيقا. وهذا قد يحدث إلى حد ما من خلال المشاركة في حياة الدولة، وقد لا يحدث قط. والحق أن كثيرا من المثقفين يعتقدون أنهم هو الدولة، ويترتب على هذا الاعتقاد نتائج هامة، نظرا لحجم لتلك الفئة، كما بسبب تعقيدات سيئة للجماعة الاقتصادية الأساسية the fundamental economic group، التي هي الدولة في واقع الأمر.
إن القول بأنه ينبغي اعتبار كل أعضاء الحزب مثقفين، قد يكون مدعاة للسخرية والتندر. ولكننا إذا أمعنا فيه النظر تبينا مبلغ دقته. بالطبع هناك مستويات لابد من التمييز بينها. وأي حزب لابد لان يكون له نصيب كبر أم صغر من المثقفين من أعضائه في المستويات العليا والدنيا. غير أن هذه ليست هي القضية، فما يعنينا هنا هو الوظيفة، سواء كانت قيادية أو تنظيمية أي تثقيفية educative، أي فكرية intellecual. فلا التاجر ينضم إلى حزب سياسي ليزاول الأعمال، ولا رجل الصناعة لينتج أكثر بتكلفة أقل، ولا الفلاح ليتعلم أساليب جديدة للفلاحة، حتى وإن وجدوا في الحزب ما يلبي بعض هذه الحاجات. [47]
ولتحقيق هذه الأغراض، تنشأ الجمعيات المهنية التي تعتبر الإطار الملائم للنهوض بالنشاط الاقتصادي-الطائفي economic-corporate للتاجر ورجل الصناعة والفلاح. وفي الحزب السياسي تتجاوز عناصر الجماعة الاقتصادية تلك اللحظة من تطورها التاريخي، وتصبح عناصر فاعلة في أنشطة أعم، ذات طابع قومي ودولي. وستصبح وظيفة الحزب السياسي هذه، أكثر وضوحا من خلال التحليل التاريخي العيني لفئتي المثقفين: العضويين والتقليديين معا في السياق التاريخي الوطني الذي يختلف من بلد إلى آخر، وفي سياق مختلف الجماعات الاجتماعية الرئيسية في كل أمة، لاسيما تلك الجماعات التي يغلب الطابع الآلي على نشاطها الاقتصادي.
إن نشأة المثقفين التقليديين هي المسألة الأهم من الناحية التاريخية. لقد ارتبطت نشأتهم –بلا شك- بنظام الرق في العالم القديم، وبمكانة المحرِّرين من أصل إغريقي أو شرقي في النظام الاجتماعي للامبريالية الرومانية.
ملحوظة
:
إن تغيير المكانة الاجتماعية للمثقفين في روما في الفترة ما بين العصرين الجمهوري والإمبراطوري (التحول من نظام ارستقراطي –طائفي إلى نظام ديمقراطي- بيروقراطي) يرجع إلى قيصر الذي منح المواطنة إلى الأطباء وكبار أساتذة العلوم العقلية liberal arts لتشجيعهم على الإقامة في روما، ولكي يغري الآخرين بالمجيء إليها.
("Omnesque médicinam Romae professos et liberalium artium doctores, quo libentius et ispi urbem incolerent et coeteri appeterent civitate donavit"). Suetonius, life of Caesar, XLII)
لذا اقترح قيصر: 1- أن يسمح للمفكرين الموجودين فعلا في روما بالإقامة فيها وبهذا خلق فئة مستقرة من المثقفين، طالما أنه يستحيل خلق تنظيم ثقافي بدون توفير الإقامة الدائمة لهم. و2- جذب أفضل المثقفين من كافة أرجاء الإمبراطورية الرومانية إلى روما، وبهذا يدعم المركزية على نطاق هائل. هكذا نشأت فئة مثقفي «الإمبراطورية»"imperial" intelectuals في روما، الذين يعتبر رجال الدين الكاثوليك امتدادا لهم، والذين تركوا بصماتهم على تاريخ المثقفين الايطاليين. مثال ذلك «النزعة الكوزموبوليتانية» " cosmopolitanism" التي يتميزون بها، والتي استمرت حتى القرن الثامن عشر.
هذا الانفصال بين جماهير المثقفين العريضة والطبقة الحاكمة الذي حدث في عهد الإمبراطورية –الرومانية- وهو ليس مجرد انفصال اجتماعي بل قومي وعرقي – وقد حدث مرة أخرى بعد سقوطها: انفصال المحاربين الجرمان عن المثقفين من أصل روماني مكتسب، خلفاء العبيد المحررين. وتشابكت هذه الظاهرة وتداخلت مع ميلاد وتطور الكاثوليكية Catholicism والتنظيم الكنسي eclisiatical organisation، الذي استحوز لقرون عديدة على الشطر الأعظم من الأنشطة الفكرية، ومارس احتكار توجيه الثقافة، وتوقيع العقوبات الجنائية على كل من يحاول معارضة هذا الاحتكار أو التحايل عليه. وفي إيطاليا، يمكننا ملاحظة الوظيفة الكوزوموبوليتانية cosmopolitan -function- لمثقفي شبه الجزيرة، والتي تختلف فاعليتها من فترة إلى أخرى. والآن، ننتقل إلى بيان أوجه الاختلاف –التي تظهر على الفور- في تطور المثقفين في عدد من أهم البلدان، على أن نتحقق من صحة هذه الملاحظات وان نتفحصها بعمق.
والحقيقة الأساسية، فيما يتعلق بايطاليا، هي بالتحديد الوظيفة الدولية أو الكوزوموبولولتانية للمثقفين، وهي سبب ونتيجة في آن واحد، لحالة التفكك التي بقيت عليها شبه الجزيرة منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية حتى عام 1870.
أما فرنسا، فتقدم لنا مثلا لشكل مكتمل ومتناغم لنمو طاقات الأمة، ولفئات المثقفين بصفة خاصة.
فالتجمع الاجتماعي الجديد الذي ظهر سياسيا على مسرح التاريخ عام 1789، كان مهيأ للقيام بكل وظائفه، ومن ثم كان قادرا على الكفاح من أجل بسط سيطرته الشاملة على الأمة. ولم يكن بحاجة إلى تقديم أي تنازلات جوهرية للطبقات القديمة. بل بالعكس استطاع أن يخضعها لأهدافه.
لقد ولد النمط الجدد من الخلايا الفكرية intellectual cels مع ميلاد الخلايا الاقتصادية الأولى التي تناظرها –حتى التنظيم الكنسي خضع لتأثيرها (الجاليكانية [48] galcanism، والصراع المبكر بين الكنيسة والدولة). ويبين لنا هذا البناء الثقافي الهائل الدور الذي لعبته الثقافة في فرنسا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهو الإشعاع الخارجي، الدولي والكوزوموبوليتاني، وتوسيع الهيمنة الامبريالية بصورة عضوية. إن تجربة فرنسا الثقافية تختلف اختلافا كبيرا عن تجربة ايطاليا التي قامت على هجرة أشخاص متفرقين، ولم يكن لها انعكاس على القاعدة الوطنية، بل العكس ساهمت في الحلول دون بناء قاعدة وطنية، صلبة.
ويختلف تطور المثقفين في انجلترا كثيرا عنه في فرنسا، فالتجمع الاجتماعي الجديد the new Social grouping الذي نما على أساس التنظيم الصناعي الحديث modern industrialism قد كشف عن تطور اقتصادي-نقابي economic corporate development غير عادي، وإن كان لا يزال يتلمس طريقة للتقدم في الميدان السياسي-الثقافي. لقد كانت هناك فئة عريضة من المثقفين العضويين، نشأت مع الجماعة الاقتصادية على ذات الأرضية، أرضية الصناعة. أما في المستويات العليا، فنجد أن طبقة ملاك الأرض القديمة تحتفظ بموقعها، باحتكارها الفعلي. لقد فقدت تفوقها الاقتصادي، ومع ذلك حافظت لفترة طويلة على تفوقها السياسي-الثقافي. ثم تم استيعابهم «كمثقفين تقليديين»، وكجماعة قائدة -dir-igente -dir-ective في الجماعة الجديدة الحاكمة. لقد كانت ارستقراطية ملاك الأرض القديمة ترتبط ارتباطا وثيقا برجال الصناعة. هذا النوع من الارتباط هو الذي وحد المثقفين التقليديين والطبقات السائدة الجديدة في البلدان الأخرى.
وعرفت ألمانيا أيضا الظاهرة الانجليزية، وإن كانت أكثر منها تعقيدا، بما تضمنته من عناصر تاريخية وتراثية. لقد كانت ألمانيا قبل ايطاليا مركزا لمؤسسة إيديولوجية عالمية تتجاوز الحدود القومية، هي الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية، وفرت بعض الكوادر personel للكوزموبوليس Cosmopolis [49] مما أفقر طاقتها المحلية، وأثار المعارك التي ألهتها عن مشاكل التنظيم الوطني، وأبقى على التفتت الإقليمي الذي تميزت به العصور الوسطى.
وجرى تطور الصناعة داخل غلاف شبه إقطاعي بقي حتى نوفمبر 1918. وحافظ اليونكرز Junkers على تفوقهم الثقافي-السياسي، وفاقوا في هذا المضمار نظرائهم في انجلترا.
كان هؤلاء هم المثقفون التقليديون لرجال الصناعة الألمان، ولكنهم، كانوا يحتفظون ببعض الامتيازات الخاصة. وكان وعيهم قويا باستقلالهم كجماعة اجتماعية، استنادا إلى حيازتهم لقدر معتبر من القوة الاقتصادية التي تتمثل في الأرض التي كانت في ألمانيا أكثر خصوبة منها في انجلترا. [50]
كان اليونكرز البروسيون أشبه بطبقة عسكرية-كهنوتية مغلقة caste priestly-military تتمتع باحتكار فعلي للوظائف القيادية-التنظيمية في المجتمع السياسي. وفي نفس الوقت كانت لهم قاعدتهم الاقتصادية الخاصة، ومن ثم لم يكونوا يعتمدون على أريحية الجماعة الاقتصادية السائدة. وعلاوة على ذلك، كان اليونكرز –على خلاف الارستقراطية الانجليزية المالكة للأرض- يشكلون طبقة الضباط في جيش دائم كبير، مما وفر لهم الكوادر التنظيمية، وساعد على المحافظة على روح الفريق، وعلى احتكارهم السياسي. [51]
وفي روسيا تتابين الملامح: فالنورمان (فارانجيانز Varangians) [52] هم الذين خلقوا التنظيم السياسي-الاقتصادي-التجاري. والإغريق البيزنطيون هم الذين أنشأوا التنظيم الديني. وفي فترة لاحقة نقل الألمان والفرنسيون التجربة الأوربية إلى روسيا. وأنشأوا أول هيكل متماسك للبنية الحية للتاريخ الروسي. فقد كانت القوى الوطنية خاملة وسلبية، ومتلقية. غير أن هذا قد يكون بالتحديد السبب في استيعابها وتمثلها الكامل للمؤثرات الأجنبية، وللأجانب أنفسهم وروسنتهم.
ونجد الظاهرة العكسية في مرحلة تاريخية أحدث. ظاهرة هجرة نخبة من أنشط أعضاء المجتمع وأكثرهم فاعلية وإقداما إلى الخارج. وتمثلهم لثقافة أكثر بلاد الغرب تقدما ولخبراتها التاريخية، دون أن تفقد مع ذلك أهم الخصائص الجوهرية لأمتها. أي دون أن تفصم عرى ارتباطها العاطفي والتاريخي بشعبها. وقد عادت إلى بلادها، بعد أن أنهت مرحلة تلمذتها الفكرية، وفرضت الصحوة على الشعب الروسي فرضا، متخطية في هذه العملية مراحل تاريخية بأكملها. ويتمثل الفرق بين النخبة، والنخبة التي استوردها (بطرس الأكبر مثلا) من ألمانيا، يتمثل في طابعها الوطني-الشعبي المميز. ولم يكن ممكنا أن تستوعبها سلبية الشعب الروسي الخامل، لأنها كانت تمثل رد فعل روسيا الايجابي على قصورها التاريخي.
وعلى أرضية أخرى، وبالرغم من اختلاف الظروف اختلافا كاملا زمانا ومكانا، يمكننا مقارنة الظاهرة الروسية بميلاد الأمة الأمريكية (في الولايات المتحدة). فالمهاجرون الانجلوسكسون أنفسهم، نخبة فكرية، بل وعلى الأخص، نخبة أخلاقية moral elite. إننا نتحدث بالطبع عن المهاجرين الأوائل، عن الرواد، أبطال المعارك السياسية والدينية في انجلترا الذين هزموا وإن لم يذلّوا أو يستسلموا في بلدهم الأصلي. لقد جلبوا معهم إلى أمريكا، بالإضافة إلى الطاقة المعنوية وقوة الإرادة، مستوى معينا من الحضارة، أي مرحلة معينة من التطور التاريخي الأوربي، ظلت تنمى القوى الكامنة في طبيعة أمريكا، في تربيتها البكر، عندما استزرعها هؤلاء الرجال، وذلك بإيقاع أسرع بما لا يقارن بما حدث في أوروبا القديمة، حيث توجد سلسلة من الكوابح (المعنوية والفكرية والسياسية والاقتصادية، التي تتجسد في قطاعات معينة من السكان وبقايا النظم السابقة، التي ترفض أن تموت) التي تولد مقاومة الإسراع بخطى التقدم، وترفض الرقابة على أية مبادرة، فتتبدد في الزمان والمكان.
وفي حالة الولايات المتحدة، يلاحظ افتقارها إلى المثقفين التقليديين إلى حد كبير، ولهذا كان هناك توازنا مختلفا بين المثقفين عامة. وكان هناك تطورا لمختلف أنواع الأبنية الفوقية الحديثة يستند إلى قاعدة الصناعة. ولم تكن الحاجة إلى اندماج المثقفين العضويين والمثقفين التقليديين، وهي التي أملت ضرورة تحقيق التوازن. وإنما أملته الحاجة إلى صهر أشكال الثقافة المختلفة التي جلبها المهاجرون ذوي الأصول القومية المختلفة في بوتقة الثقافة القومية الواحدة.
والافتقار إلى طبقة واسعة –تكونت على مر الزمن- من المثقفين التقليديين، كتلك التي نجدها في بلاد الحضارات القديمة، يفسر لنا –جزئيا على الأقل- وجود حزبين سياسيين كبيرين فقط (قارن هذا بالحال في فرنسا، ليس فقط في فترة ما بعد الحرب، عندما أصبح تكاثر الأحزاب ظاهرة عامة) كما يفسر أيضا الظاهرة المناقضة لها تماما، ظاهرة الانتشار الهائل للطوائف الدينية. [53]
وثمة ظاهرة أخرى في الولايات المتحدة تستحق الدراسة، هي نشأ، عدد مذهل من المثقفين الزنوج الذين استوعبوا الثقافة والتكنلوجيا الأمريكية. وينبغي ألا ننسى ما قد يكون لهؤلاء المثقفين الزنوج من تأثير غير مباشر على الجماهير المتخلفة في أفريقيا. ويمكن اعتباره تأثيرا مباشرا إذا ثبت صحة أي من هذين الفرضين:
1-أن تستخدم النزعة التوسعية الأمريكية american expansionim زنوج أمريكيين كوكلاء لها في فتح السوق الأفريقية، وفي نشر الحضارة الأمريكية (حدث شيء من ذلك وإن كنا نعرف إلى أي مدى).
2- أن يشتد النضال من اجل توحيد الشعب الأمريكي على نحو يدفع الزنوج إلى الهجرة، وعودة أكثر العناصر المثقفة استقلالا ونشاطا إلى أفريقيا، أي تلك العناصر الأقل استعدادا للاذعان لأي تشريع قد يصدر في المستقبل ويكون أكثر إذلالا لهم من الأعراف الاجتماعية الشائعة الراهنة. ويترتب على هذا التصور نتيجتان:
1-نتيجة لغوية: هل يمكن أن تصبح اللغة الانجليزية لغة الثقافة والمثقفين educated language في أفريقيا، فتحل وحدة اللغة ذلك الحشد من اللهجات الموجودة؟
2-هل يمكن أن يكون لهذه الشريحة من المثقفين قدرة على الاستيعاب والتنظيم كافية لإضفاء طابع «وطني» على شعور الزنوج البدائي الحالي بكونهم جنسا محتقرا. فتصبح للقارة الأمريكية وظيفة أسطورية، تصبح الوطن المشترك لكل الشعوب الزنجية؟
يبدو لنا حاليا أن روح الزنوج القومية والعنصرية، سلبية أكثر منها ايجابية. وهي نتاج لصراع البيض لعزل الزنوج وكبتهم. ولكن، ألم تكن هذه هي حال اليهود حتى القرن الثامن عشر وطواله؟ إن ليبيريا التي تأمركت، وأضحت الانجليزية لغتها، يمكن أن تصبح قبلة الزنوج الأمريكيين، وأن تجعل من نفسها بيدمونت Piedmont أفريقية . [54]
ينبغي في اعتقادنا أن نضع في الاعتبار بعض الظروف الجوهرية عند النظر في مسألة المثقفين في أمريكا الوسطى والجنوبية، فلا يوجد فيها فئة واسعة من المثقفين التقليديين. غير أن هذا لا يعني أن المسألة تطرح نفسها هنا كما تطرح في الولايات المتحدة. فجذور تطور تلك البلدان يرجع في الحقيقة إلى أنماط الحضارة الأسبانية والبرتغالية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، التي تتميز بتأثرها بحركة الإصلاح المضاد counter reformation وبالعسكرية الطفيلية military parasitism. وتتمثل العناصر المتبلورة المقاومة للتغيير، والتي لا تزال باقية حتى الآن، في رجال الدين والطبقة العسكرية المغلقة military، وهما فئتان من المثقفين التقليديين تحجرتا وبقيتا على صورتهما الموروثة عن البلد الأوروبي الأم. لقد كانت القاعدة الصناعية محدودة للغاية فلم تسمح بتطور أبنية فوقية معقدة، فغالبية المثقفين من النمط الريفي. ولما كان كبار ملاك الأرض latifundium هم الطبقة المسيطرة، وكانت الكنيسة تستحوز على أملاك واسعة، فقد ارتبط هؤلاء المثقفين برجال الدين وكبار الملاك. والتركيب القومي للسكان مختل للغاية، حتى بين السكان البيض. وزادت تعقيدا وجود جماهير غفيرة، من الهنود الذين يشكلون في بعض البلدان أغلبية السكان.
ويمكننا أن نقول، أنه لا يزال يوجد في تلك المناطق من القارة الأمريكية، وضع مماثل للوضع الذي شهد الكفاح الثقافي Kultur Kumpf [55] ، ومحاكمة دريفوس Drifus trial، حيث لم يكن العنصر العلماني البرجوازي قد بلغ بعد المرحلة التي يكون فيها قادرا على إخضاع نفوذ ومصالح رجال الدين والعسكريين للسياسة العلمانية للدولة الحديثة. ومن هنا كان التأثير الكبير لحركة المارسونيين الأحرار Free Masonry، وأشكال التنظيم الثقافي الأخرى، «كالكنيسة الوضعية» " positivist Church " في معارضة النزعة الجزويتية Jesuitism. وتثبت الأحداث الأخيرة (نوفمبر 1930) دقة هذه الملاحظات، ابتداء من كفاح كولز الثقافي Calls Kulturkampf قي المكسيك [56]، حتى الانتفاضة العسكرية الشعبية في الأرجنتين والبرازيل وبيرو وشيلي وبوليفيا.
وفي الهند والصين واليابان، نجد أنماطا أخرى لتكوين فئات المثقفين، ولعلاقاتهم بالقوى الوطنية. ففي اليابان نجد تكوينا للمثقفين من الطراز الانجليزي والألماني، أي حضارة صناعية تنمو داخل غلاف إقطاعي –بيروقراطي- له سماته الخاصة التي لا تخطئها العين.
وفي الصين نجد ظاهرة النص المكتوب the -script-، وهي تعبير عن انفصال المثقفين عن الشعب. والفجوة الهائلة التي تفصل بينهما، في الصين والهند، تتجلى أيضا في الحقل الديني.
إن قضية تباين فئات المجتمع المختلفة، واختلاف طرائق فهمها وممارستها لنفس الدين، وخاصة بين رجال الدين والمثقفين والشعب، هي قضية تحتاج للدراسة عامة، لاسيما أن هذا الاختلاف موجود بدرجة أو بأخرى في كل مكان، ونجد أقصى أشكاله تطرفا في بلدان شرق آسيا. وهو طفيف نسبيا في البلاد البروتستانتية. (حيث يرتبط انتشار الطوائف بالحاجة إلى تحقيق التلاحم الكامل بين المثقفين والشعب، والذي يؤدي إلى إعادة إنتاج التصورات الفعلية للجماهير الشعبية بكل ما فيها من فجاجة في مجال المستويات التنظيمية العليا) وهو اختلاف جدير بالملاحظة في البلدان الكاثوليكية، وإن تفاوت مداه من بلد إلى آخر. فهو ملحوظ بدرجة أقل في الأجزاء الكاثوليكية من ألمانيا، وفي فرنسا، وبدرجة أكبر في ايطاليا، وخاصة في الجنوب وفي الجزر. وهو في الحقيقة كبير جدا في شبه جزيرة أيبريا وفي بلدان أمريكا اللاتينية. ويتسع نطاق هذه الظاهرة في البلاد الأرثوذكسية. وهنا لابد من التسليم بوجود ثلاث مراتب degrees في الدين الواحدة كبار رجال الدين والرهبان، ورجال الدين العلمانيون، والشعب.
ويصل هذا الاختلاف في شرق آسيا إلى حد لا يصدقه عقل، حيث لا علاقة البتة لدين الشعب بدين الكتب، وإن حملا ذات الاسم.
انتهى مؤلف دفاتر السجن لأنطونيو غرامشي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط


.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص




.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية