الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة لا تسعف غزة

راتب شعبو

2023 / 12 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


سنّ الشاعر الألماني برتولد بريخت سنة "كلامية" بالقول: "لن يقولوا كان ذلك في أزمنة مظلمة، سيقولون لماذا صمت الشعراء؟". كلام الشعراء إذن فعلٌ يرفع التكليف عن المتكلم حين تكون الأزمنة مظلمة، كما هو الحال اليوم في غزة. وسبقه المتنبي في قبول الكلام بديلاً عن الفعل "فليسعد النطق إن لم تسعف الحال"، على أنه جعل النطق أدنى مرتبة من الفعل "الحال".
جرياً على هذا المبدأ، فإن ما كتب وقيل عن غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، يملأ مجلدات، ولكن كل ما قيل وكتب، على مدى ثمانين يوماً (عند كتابة هذا المقال) من الغزو الإسرائيلي الوحشي لغزة، لم يُسعد ولم يُسعف ولم يخفف من ظلمة هذا الزمن. لم تفلح هذه المجلدات في إدخال المواد الإغاثية اللازمة لأهل غزة الذين يتعرضون في حصارهم إلى شتى صنوف الأسلحة الإسرائيلية، فضلاً عن الجوع والبرد وفتك الأمراض، ولم تفلح في منع تزايد أعداد القتلى والمصابين. بالمقابل، ربما حقق شلال اللغة المتدفق هذا، القليل أو الكثير من الرضى عن النفس بالنسبة للمساهمين فيه. هكذا يكون لمن كتب أو قال شيئاً عن غزة، ما يعتبره "مساهمته" في المعركة، فسيقول لنفسه، ثم سيقول لك إنه لم يسكت.
إذا غابت اللغة سوف نخسر الشعر وسحر البيان، وقد نخسر دفء تعابير الحب والمودة والتعابير المواسية حين لا تنفع غير المواساة، وحين لا يمكن لفعل أن يغني عن القول، أو حين يكون القول هو "الفعل". غير أن اللغة، من جهة أخرى، تمتص طاقتنا وترميها في فراغ لا يمتلئ، ولاسيما حين نكون أمام تحد عسير يحبطنا عن الفعل ويميل بنا إلى "النطق". حين نعجز فإننا ننفعل ونصرخ ونشتم ونتحدى ونتوعد، ثم نهدأ. أي إن اللغة تمتص طاقتنا في اللحظة التي نحتاج فيها إلى أقصى طاقة ممكنة. ولكن لولا الصراخ وصنوف التعابير اللغوية ماذا كان يمكن أن نفعل حين ننفعل؟ أو كيف نتصرف حيال التحديات الصعبة حين تختفي اللغة، ربما كنا سنتجه إلى الفعل، إلى معالجة التحدي بيدنا وليس بلساننا.
يقال إن أحد الحكماء أجاب عن سؤال ما هو سر النجاح؟ بالقول إن ثلاثة أرباع السر هو الصمت، والربع الباقي هو قلة الكلام. قد يدل هذا القول على ضرورة أن يكون الفعل أكثر من الكلام، ولكن هناك من يجد سبيلاً نفعياً في فهم هذا القول، يقوم على الصمت لإخفاء الانحياز والتقليل من احتمال زلات اللسان، وسط صراعات القوى بحيث لا تخسر مع من يخسر، بل تربح مع من يربح. وقد كان آخر الزعماء السوفييت (ميخائيل غورباتشيف) من هذه المدرسة النفعية التي مكنته أن يصبح الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي الذي كان يشهد صراعاً بين ميل محافظ وميل تحرري، فقد كان كل معسكر يحسب أن غورباتشيف في صفوفه، وحين رشحه التيار المحافظ، قبله الجميع، وبلغ غايته بفضل هذه "الحكمة".
لو افترضنا أن الانسان لا يملك اللغة، أو أن اللغة اختفت، كيف تظهر المواقف حينها وكيف نقيسها؟ وكيف كان للإنسان أن يقدم نفسه للآخرين، وأن يتصرف في مواجهة المظالم والمحن والأهوال؟ كيف تكون الحياة حين لا يستطيع الانسان أن يعبر عن نفسه سوى في الفعل والحركة؟ سوف تغيب تلقائيا حينها عبارة الحكيم اليوناني "تكلم حتى أراك"، وعبارة الحكيم العربي "الناس صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام"، ويصبح السلوك والفعل هو ما يجعلك ترى الشخص وتدرك ما في داخل صندوقه.
في غياب اللغة، سوف تختفي البضاعة التي تملأ الأسواق، بما فيها هذه البضاعة التي تقرؤونها الآن هنا، أقصد البضاعة المصنوعة من اللغة. لن يكون هناك تصريحات تنم عن التضامن مع محاصرين يتعرضون للجوع والقتل، ولا تصريحات تنم عن الرغبة في الانتقام والاستعداد لإبادة العدو، ولن يكون هناك كلام لشد الأزر ولا كلام لتثبيط الهمم، ولن ينشغل الناس في التفريق بين الصدق والكذب، فلن يكون هناك لغة تنوب عن الواقع في التعبير عن نفسه.
في غياب اللغة لن يقع الناس في حبائل الكلام. سوف تختفي تلقائياً أشكال سوء الفهم، وتنتهي المزاودات، ولن يبقى مجال لاستنطاق القول وتحميله ما لا يحمل من استنتاجات تضعه في خانة رديئة أو في خانة صالحة. عندئذ سوف نخسر موهبتنا الفذة في الاعتقاد أننا فعلنا الشيء إذا تحدثنا عنه. وسوف نخسر موهبتنا في المباهاة والضجيج والادعاء. لم يكن من فراغ قول أحد الكتاب العرب في هجاء أبناء جلدته، إن "العربي يرفض الصعود إلى الشمس وامتلاكها إن كان عليه أن يفعل ذلك بصمت، وإنه ليفضل أن يصرخ ويباهي أنه صعد إلى القمر وامتلكه، على أن يصعد ويمتلكه بالفعل".
للغة سحرها لا شك، وكنت دائماً ممن يشعرون أن في روي المحن الشخصية ما يعوض إلى حد ما عن المحنة نفسها. وفي هذا ما يجعل لغمامة المحنة السوداء بطانة فضية، إذ أن المحنة التي تنجو منها، تمنحك ما يُروى، وكثيراً ما كنا نردد في تلك البئر العميقة التي تسمى "سجن تدمر"، بحثاً عن خيط أبيض في ذلك النسيج العاتم: لقد بات لدينا، إذا نجينا، ما نرويه لأولادنا. لولا اللغة لما كان مثل هذا التعويض البائس ممكناً. وكذلك لولا اللغة لما انتعشت قلوبنا، ونحن وراء تلك الجدران التي ثابرت على امتصاص أعمارنا، بكلمة تصلنا من الخارج تحمل بعض الود الذي يروي القلب ويسنده، أو تحمل، في كل حال، بعض الاعتراف بوجودنا.
بعد المضي قليلاً في هذه الطريق التي تستغني عن اللغة، مدفوعاً برغبة الانتقام من لغة لا تجدي شيئاً ولا تطعم جائعاً وترتد عن جدار الوحشية حين ترتطم به كما يرتد البالون المنفوخ بالهواء، دون أن تترك أثراً. أجدني أقفل عائداً، وقد رأيت أن المشكلة ليست في اللغة. لا أريد للغة أن تختفي، أريدها أن تشتعل في تضافر وتضامن مع الفعل، وأن تتنحى للفعل كي يتقدم، لا أن تنوب عنه. ولعل الآية القرآنية التي تتحسس هذه المشكلة بصياغة محكمة "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" تعفي من البحث عن التعبير الذي يشرح العلاقة اللازمة بين القول والفعل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبح -الحي الميت- السنوار يخيم على قراءة الإعلام الإسرائيلي ل


.. الحركة الطلابية في الجامعات : هل توجد أطراف توظف الاحتجاجات




.. جنود ماكرون أو طائرات ال F16 .. من يصل أولاً إلى أوكرانيا؟؟


.. القناة 12الإسرائيلية: إسرائيل استخدمت قطر لتعمّق الانقسام ال




.. التنين الصيني يفرد جناحيه بوجه أميركا.. وأوروبا تائهة! | #ال