الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بَينَ الوَهْمِ والحُلْمِ

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2023 / 12 / 31
الادب والفن


أعرفُ نِهايةَ هذه الكَلماتِ، تمامًا كما أَجهَلُ بِدايتَها. إنَّهُ النَّصُّ الأوَّلُ الذي أكتبُه مُبْتَدِئًا بالنِّهايةِ ومُنتهِيًا بالبِدايةِ التي أكونُ فيها تائهًا كالإنسانِ في هذه الأرض. الأمرُ يُشبهُ أنْ تُولَدَ في مُنتَصَفِ عُمُرِكَ! وهَرَبًا مِنْ هكذا وِلادةٍ سأُحْرِقُ عدَّادَ الأيَّامِ والسِّنينَ دونَ خَوفٍ على البَشريَّةِ منَ الضَّياعِ، فالحريقُ سيبقى حِبرًا على أَرَقٍ.

حدَّقتُ في الرُّوزنامةِ قبل إحراقِها فوجدتُّها لا تُبالي. لا تُبالي بنفسِها ولا بالبَشريَّةِ إذا ضاعتْ! إذَّاكَ تذكَّرتُ أنَّ الحياةَ تمضي بروزنامةٍ أو بدونِها، تمامًا كما كانتْ عليه لملياراتِ السِّنين. شَعرتُ بوَخْزَةٍ عميقةٍ في كِبريائي، أنا الإنسانَ الذي اعتادَ أنْ يُقلِّبَ عُمرَه كما يُقلِّبُ أوراقَ روزنامتِه. ما الجديدُ في ذلكَ؟! قد يكونُ الزَّمنُ إبرةَ طبيبٍ في بعضِ الأحيانِ، لكنَّه غالبًا ما يَكونُ رُمحًا طويلًا يَطعنُ كِبرياءَ الإنسانِ ويَقْهَرُ الوُجودَ بأَسْرِه. الزَّمنُ هو الجبَّارُ الوحيدُ الذي لازَمَ هذا الوجودَ مُنذُ نَشأتِه الأولى وحتَّى اليوم، بل هو أمارةٌ مِنْ أماراتِ الوجودِ في هذا العالَم.

حِرصًا على سلامةِ عَقلي مِنَ الجنونِ سأتعاطى معَ الزَّمنِ كما نَعيشهُ وكما نتوَهَّمُ أنَّنا نَعرِفُه، مُبتَعِدًا عنْ أحاديثِ الفيزيائيينَ عنه والتي تُشبِه الهَذَيانَ إلى حدٍّ بعيدٍ. سأبتعدُ عنْ ذلكَ وفي نَفسي حَمْدٌ للهِ الذي قَضى ألَّا نَفْهَمَ العالَمَ دُفْعَةً واحدةً، لا لشيءٍ إلَّا لِئَلَّا نَموتَ إعدامًا بالجُنون.

الإنسانُ بطَبعِه كائنٌ مُحتالٌ؛ يَحتالُ بإرادتِه على الأشياءِ التي يَعرفُها، وتركيبُه يُمكِّنُه أنْ يَحتالَ عن غيرِ إرادةٍ ولا وعيٍ منه على الأشياءِ التي لا يُدركُ حقيقتَها، تمامًا كما يحتالُ على الزَّمنِ! مُستعينًا بالطَّبيعةِ ابتكرَ الإنسانُ لأوَّلِ مرَّةٍ حيلتَه التي يُسمِّيها «السَّنة»؛ تلكَ القِطعةُ المُحدَّدةُ منَ الزَّمنِ والتي لا تفتأُ تُعيدُ نفسَها كدائرةٍ لا تَعرفُ إلَّا الدَّوران! ولا نفتأُ نُعيدُ عدَّ الأيَّامِ مِنَ الصِّفر! ومُذَّاكَ نسيَ الإنسانُ أنَّ اليومَ الذي يَنقضي لا يَعودُ منه إلَّا اسمُه، وأنَّ كُلَّ شهيقٍ أو زَفيرٍ يَصلُحُ لأنْ يكونَ بدايةً لسنةٍ جديدة. إنَّها ضريبةُ صِراعِنا العَبثيِّ معَ الزَّمن؛ أنْ تَضيعَ الأيَّامُ بينما نحنُ مَشغولون في اختيارِ الرُّوزنامةِ التي تُناسبُ ذوقَنا، وأنْ يَضيعَ الوقتُ بينما نحنُ ننتظرُه!

لستُ أعرفُ إنْ كانتْ حياتُنا تُكتبُ بقلمٍ رقيقٍ أم بسِكِّينٍ حادَّةٍ، أم أنَّ القلمَ أصبحَ حادًّا وقاسيًّا إلى هذه الدَّرجةِ. لعلَّه كذلكَ، ولا غَرابةَ في ذلكَ. أيُّ قلمٍ يستطيعُ أن يَكتُبَ آلامَ الإنسانِ طيلةَ عشراتِ الأُلوفِ منَ السِّنينِ ثُمَّ يبقى رقيقًا ولا يَقسو؟! آنَ له أنْ يَطغى قليلًا، وآنَ لنا أنْ نَرِقَّ كثيرًا! لكنَّنا أبدًا لا نتخلَّى عن «السَّنَة»؛ حيلتِنا التي يبدو أنَّها نافعةٌ إلى حدٍّ بَعيدٍ في تخديرِنا حتَّى لا نَشعُرَ بالآلامِ التي يُسبِّبُها خوفُنا منَ الزَّمن، وتحديدًا منَ الخلودِ الأرضيِّ إذا جازَ التَّعبير.

عندما مرَّ على وجودِي في هذه الأرضِ زُهاءَ خَمْسَ عشرةَ سنة، وفي ليلةٍ مِنْ ليالي عُطلتي الصَّيفيَّةِ تخيَّلتُ فكرةَ الخلودِ لأوَّلِ مرَّة! كانتْ مُخيفةً إلى الحدِّ الذي جعلَني أبكي قَضاءً عَنْ ألفِ سَنةٍ ممَّا قدْ يَكونُ في ذِمَّةِ الثَّكلى! كانَ تعريفي للخلود ساذجًا بعضَ الشَّيء؛ كان يَعني لي ألَّا أموت. ورغمَ صِغري، آنذاك، كُنتُ أُدركُ أنَّ الإنسانَ على هذه الأرضِ لا بُدَّ أن يموت. لكنَّ الخلودَ الذي تخيَّلتُه هو ذاكَ الذي يَكونُ في الجَنَّة! فقدْ كُنتُ أعتقدُ أنِّي سأدخُلُ الجَنَّةَ دونَ حِسابٍ رُبَّما. لكنَّ الذي أرعبني حقًّا، وجعلني أُفضِّلُ أنْ يكونَ الموتُ عَدَمًا على أنْ يكونَ حياةً أبديَّةً في الفردوسِ الأعلى، هو أنَّ تعريفي للخلودِ كانَ يَشمَلُ أيضًا أن أَشْعُرَ بالزَّمنِ بينما أنا أعيشُ حياتيَ الأبديَّةَ! أنْ أعيشَ إلى «الأبد» وأنا أُدركُ أنِّي سأعيشُ إلى «الأبد»! إنَّ هذه العِبارةَ، رغمَ قصورِها عنِ الإحاطةِ بالمَعنى الذي راودَني آنذاك، هي أكثرُ ما يُمكنُ أن يُرعبني إلى الحدِّ الذي يَجعلُني أتمنَّى الفَناءَ بعدَ الحياةِ. إنَّها الشَّيءُ الوحيدُ الذي جَعلني أتمنَّى لو لم أُخلقْ! هذا ما أُسمِّيهِ «الخلود الأرضي».
اليومَ، وقد كبرتُ قليلًا، وضعتُ في عقلي ثلاثةَ تفاسيرَ مُريحة؛ إمَّا أنَّنا في الحياةِ الأبديَّةِ، هُناكَ، سنكونُ مُتحرِّرينَ مِنْ قُيودِ الزَّمان، ورُبَّما المكان، ولو كان تحرُّرًا جُزئيًّا. وإمَّا أنَّ الشُّعورَ بالسَّعادةِ هُناكَ سيُحبِّبُ إلينا الخلودَ في حَضرةِ المَلِكِ! وحينَ تَهتزُّ قناعتي بهذَيْن التَّفسيرَيْن ألجأُ إلى قولِ المصريين، الحاليينَ طبعًا وليس القُدماء؛ «سِيبها على الله».

«السَّنةُ»، إذًا، هي حيلتُنا على الزَّمن. وبِدايةُ السَّنةِ، أو «رأسُ السَّنة»، هي حيلتُنا على جبَّارَيْن آخرَيْن؛ الإنسانُ والأرقامُ! إنَّها حيلتُنا على أنفسِنا لكي نفرحَ قليلًا. حينَ لا نجدُ في أنفُسِنا سبيلًا إلى الفرحِ نحتالُ عليها فنجعلُ له مُناسبةً. أمَّا نحنُ، الأحياءَ في هذا الشَّرقِ البائس، فإنَّ «رأسَ السَّنةِ» ليسَ حيلةً لكي نَفرحَ وحسب، بل لكي نشعرَ أنَّ فَرَحَنا مَشروعٌ في وَسطِ هذا الكَمِّ المَهولِ منَ الآلامِ النَّازلةِ بنا وغيرِ الصَّاعدةِ عنَّا. كأنَّ مَشاعرَنا في حفلةٍ للأزواج فقط؛ كأنَّه مَمنوعٌ أن يَحضرَ الفرحُ إلى أنفسِنا دونَ أن يصطحبَ معه الشُّعورَ بالخيانةِ والتَّجرُّدِ منَ الانتماءِ لبني الإنسان! تمامًا كما يأتي الشُّعور بالمسؤوليَّةِ مصحوبًا بالشُّعور بالعجزِ! لكنَّنا نَخونُ الآلامَ ونَفرحُ، ونَكتِمُ عَجزَنا بمُمارسةِ حدٍّ أدنى ممَّا نُحمِّلُه لأنفسِنا مِنْ مسؤوليَّةٍ، أو نتكلَّفُهما.

و«رأسُ السَّنةِ» حيلتُنا على الأرقام. نُحبُّ أنْ نقولَ «سنة واحدة» عِوَضًا عن «ثلاثمئةٍ وخمسةٍ وستِّينَ يومًا ورُبعَ اليوم». أنْ نقولَ «مَرَّتْ علينا سنةٌ في لَعنةِ هذا الشَّرقِ البائسِ»، هذا أَهْوَنُ علينا وأقلُّ تَجريحًا لكِبريائنا من أنْ نَقولَ:

«ثلاثُمئةٍ وخمسٌ وسِتُّونَ غَفوةً على وسائدِنا المَحشُوَّةِ بأحلامِنا؛ ثلاثُمئةٍ وخمسةٌ وسِتُّونَ استيقاظًا على صوتِ آمالِنا؛ ثلاثُمئةٍ وخمسةٌ وسِتُّونَ نَهَارًا مِنَ الرَّكضِ السَّريعِ خَلفَ السَّرابِ؛ ثلاثُمئةٍ وخمسةٌ وسِتُّونَ ليلًا ثَقيلًا مِنَ التَّفتيشِ في قائمةِ الأحلامِ، أحلامِنا، عَنْ حُلُمٍ لم يُذْبَحْ بعدُ؛ ثلاثُمئةٍ وخمسةٌ وسِتُّونَ فَجرًا مِن تَقَلُّبِ الوَجْهِ في السَّماءِ اسْتِنْزالًا لأَمَلٍ لم يُحلِّقْ بعيدًا إلى الآفاقِ المُكْفَهِرَّة؛ ثلاثُمئةٍ وخمسةٌ وسِتُّونَ تحديقًا في الضَّبابِ الوَردِيِّ؛ ثلاثُمئةٍ وخمسٌ وسِتُّونَ كأسًا مِنْ أَرْدَأِ أنواعِ العَبث؛ ثلاثُمئةٍ وخمسٌ وسِتُّونَ طريقًا إلى التِّيهِ والضَّياع؛ ثلاثُمئةٍ وخمسةٌ وسِتُّونَ كُفرًا بأَلَمٍ ظَنَنَّاهُ أَمَلًا؛ ثلاثُمئةٍ وخمسٌ وسِتُّونَ نبضةً كأنَّ قلبَها تحتَ الأرضِ؛ ثلاثُمئةٍ وخمسةٌ وسِتُّونَ شهيقًا والهواءُ حِمَمُ بُركانٍ مُلِئَ مِنْ قَعرِ الجَحيمِ».

لكنَّ لا! نحنُ إذْ نَقولُ «سنة» فلن يَبقى مكانٌ لنَصيحَ بكُلِّ ما أُوتينا مِنْ بَأْسٍ: «ثلاثُمئةٍ وخمسةٌ وسِتُّونَ مِنْ كُلِّ هذا، ورُبْعُ يومٍ نُفتِّشُ فيه عَنْ حِبرٍ لأقلامِنا فلا نَجِدُ. لا بأسَ! نَغْرِسُ أقلامَنا في أجسادِنا حتَّى تمتلئَ مِنْ دِمائِنا، ونَسْرِقُ غَيمةً مِنَ الآفاقِ المُكْفَهِرَّةِ لنُعيدَ تدوينَ أحلامِنا مرَّةً أُخرى؛ «ثَلَاْثُمِئَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّوْنَ حُلْمًا وَرُبْعَ اْلْحُلْمِ»، لا نُفرِّطُ في حَرَكَةٍ مِنْ حركاتِ تشكيلِ كلماتِ أحلامِنا. هكذا نحنُ؛ «الشَّباب» الذين أُكرِهْنا على أنْ نولدَ شيوخًا؛ الذين لا نُحبُّ مَنْ يَجعلُ للفَرَحِ أوقاتًا خاصَّةً. في جعبتِنا لا تنتهي الأحلامُ. وإذا قُتِّلتْ كُلُّ أحلامِنا فثَمَّةَ رُّبْعُ اليومِ ذاكَ؛ نُلَمْلِمُ فيه ما تَيسَّرَ لنا من أشلاءِ أحلامِنا وذِكرياتِ طفولتِنا المَسبيَّةِ ونَسلخُ مِنْ جلودِنا خيوطًا ولو بطعمِ الدَّمِ وننسجُ حُلْمَنا حُلْمًا مُرقَّعًا كمُرقَّعةِ عُمَر؛ مُنتصرًا كالحقِّ بَيْنَ يَدَيِّ عَلِيٍّ؛ حُلْمًا يُعْرَجُ به مِنْ كُلِّ الأرضِ إلى كُلِّ السَّماءِ كما مُحمَّد؛ يَقومُ مِنْ بَيْنِ الأحلامِ المُذَبَّحةِ كعيسى ويَشُقُّ السَّماءَ والأرضَ كما موسى؛ حُلْمًا يَنفجرُ ثَوْرَةً أبديَّةً كأنَّه الحُسَيْن؛ حُلْمًا لا يَموتُ أبدًا كما الله؛ عَدْلًا كَما جَهَنَّم؛ رحمةً كأنَّه يَتَنزَّلُ مِنَ الجَنَّةِ على جَناحَيْ جبريل؛ حُلْمًا نَمشي إليه ويَركضُ إلينا كما القيامة؛ حُلْمًا يُشبِهُنا ونُشبِهُه؛ يُريدُنا ونُريدُه؛ يَنْتَشِلُنا ولو كُنَّا في القَعْرِ، ونَنْتَزِعُهُ ولو كانَ بينَ يَدَيْ مَلَكِ المَوت. لسنا إنتحاريين، لكنَّه مُبرِّرُ بقائنا على هذه الأرض. هو بسيطٌ جِدًّا كالمطر، رقيقٌ كالنَّدى على خدِّ زهرةٍ تفتَّحتْ مِنْ شِدَّةِ الخَفَرْ، عميقٌ كما البَحْر؛ إنَّه حُلْمُنا بأنَّ كُلَّ أحلامِنا التي قُتِّلَتْ ستحيا مِنْ جديد، وهُنا؛ على هذه الأرض! بل على الأرضِ التي ذُبِحتْ عليها؛ الأرضِ التي أُسْكِرَتْ بدَمِ الأحلام؛ أحلامِنا التي ستحيا ذاتَ يومٍ.. أو ذاتَ حُلْمٍ!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح