الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة زمنية

حسان الجودي
(Hassan Al Joudi)

2023 / 12 / 31
الادب والفن


لنفترض وجوده في غابة .
يجلس الرجل فوق جذع شجرة قديمة ، يمسك بيده اليسرى عكاز اً خشبياً ضخماً، ولا يريم.
بينما تطير غربان في جميع الاتجاهات وهي تتحاشى الاقتراب من الرجل.
الرجل دون ملامح. تحتل مساحة وجهه بالكامل عيون مغلقة.
من المفروض طبعاً ، أن يكون الرجل أعمى، وهذا بالضبط ما تقترحه النصوص القديمة عن العرّافين . فهم لا يبصرون بعيونهم، لكن بقلوبهم وأرواحهم.
غير أن ذلك الرجل المفترض ليس عرافاً!
هو كما يشير إلى نفسه ، محدِّثاً بالصمت الكائناتِ التي حوله ، الماضي والحاضرَ والمستقبل.
بشكلٍ ما أدبي مجازي هو الزمن. وبشكل ما يبدو (الزمن الرجل) قلقاً في أثناء توصيف المشهد. لقد رأى في باصرته الكونية امرأة تفترش حقول القمح. رآها بجلاء، متربعة على مصطبة خشبية ، وتمسك بيدها اليسرى عكازةً خضراء ، بينما تحرك يدها اليمنى أمواج نهر يتدفق في البعيد.
يشعر الرجل بأنه وقع في الحب. يقرر كما في نص معاصر أن يذهب إلى المرأة. ينهض ، ويقطف لها قرون فانيلا ضخمة كانت تنمو في الزمن الأول.
تحدس المرأة بمجيئه، بل تراه في باصرتها أيضاً. هي أيضاً مجاز آخر للماضي والحاضر والمستقبل.
تسمح النصوص القديمة أيضاً بافتراض وجود رموز متنوعة للزمن. رجل وامرأة ! ما الخطأ في هذا ؟
دائماً كانت المؤرقات الديناميكية العظيمة للإنسان هي الماضي والحاضر والمستقبل.
ومنذ أن كان في الكهوف، وحين كان يطارد الماموثات، وأثناء تشييد الأبراج، وفي معمل صناعة السيارات، وفي أروقة مفاعل سيرن، كان ذلك التشابك الكمومي بين الأزمنة الثلاثة حاضراً. وكانت خيوطه ، تحبك النصوص ، فيما تحبك.
يسرع الرجل الوقور العاشق إلى المرأة . يسرع ولا يتباطأ رغم حمولته من جبال الزمن.
وتنهض المرأة رغم حمولتها المشابهة. تسرع إلى النهر، تفرد شعرها الطويل كالأشجار، وتكحل عينيها بأشعة نجم برتقالية من المستقبل . ثم ترتدي قلادات ملكة كانت تحكم العالم قديماً.
يلتقيان في البرزخ. لا يستطيعان الاقتراب، فثمة أمواج طاقة هائلة تصدر عنهما. يحاولان التشبث وعدم السقوط.
يحسم الرجل أمره، ويلقي بالماضي بعيداً، مما يعيد بعض التوازن إليه.
تفعل المرأة مثله، وتلقي بالماضي والحاضر معاً، فتقترب منه بثبات وأمان. يبادر حينها برمي الحاضر أيضاً، فيتوازنان ويستطيعان القول اللطيف "صباح الخير".
***
يلتقيان بعد مليون سنة. هي صيدلانية تدير صيدليتها الخاصة ، وهو رجل عابر . يقدم لها وصفة من طبيب العصبية . تقدم له الحبوب المهدئة، وتسأله من باب اللياقة عن تعاطيه أدوية أخرى قد تتعارض مع دواءه الجديد.
يبتسم العابر ، ويطلب منها علبة باندول. فتقترح عليه الاكتفاء بالحبوب المهدئة التي قد تساعده في تدبير صداعه.
يتشجع وبخبرها، أن ما يعانيه هو ليس الصداع. بل الكوابيس .
تنتبه المراة إلى يده اليسرى المعروقة كشجرة عجوز، وينتبه إلى يدها اليمنى التي تشبه حزمة سنابل.
يهم بإخبارها عن فقدانه لزوجته وطفله بسبب قذيفة ملعونة . وتهم بإخباره عن هجرة زوجها إلى ألمانيا وزواجه من سورية لاجئة هناك.
يهمان ببعضهما بعضاً ولا يذكران ماضيهما المشترك.
وكيف يذكرانه، وقد تخلصا منه طواعية للحصول على النجاة؟
ينزل ضباب ثقيل، يهبط من اللامكان. يغطي شوارع المدينة، يتسلل إلى تلك الصيدلية . يغيبان في الضباب ، يعودان إلى الغابات والحقول. ويقفان من جديد في البرزخ ، ولا يشعران برغبة هذه المرة في رمي الماضي والحاضر ، بل يسرعان معاً إلى رمي المسقبل،
ويرميان معه الماضي دون تردد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا