الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجيش والحرب ضد أشقياء الجنجويد-مقدمة-(4-4)

محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)

2024 / 1 / 1
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


” الحرب أخطر من يعهد قرارها لجنرالات الجيش“ - جورج كليمنصو

استعرضنا في الأجزاء الثلاث السابقة من هذا المقال المقدمة طبيعة الجيش السوداني وكيف أن احتكاره للسلطة لأكثر من خمسة عقود، بلافتات سياسية مختلفة، وراءه رغبة القوى السياسية الاجتماعية المتنفذة الحفاظ على الواقع السياسي/ والاقتصادي المحافظ الشيء الذى أدى الى تدمير الحياة السياسية وتقييد النهضة الاقتصادية واهدار الحقوق الأساسية للمواطنين. كما اوضحنا كيف افرط الجنرال البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش في تقوية وتوسيع دائرة مليشيا الدعم السريع حتى أصبحت جيشا موازيا للقوات المسلحة النظامية: نظام الإسلاميين البائد ترك الدعم السريع يمتلك قوة من 20 ألف جندي أصبحت جيشا بقوة 120 الف جندي تمتلك عتادا عسكريا ضخما.

وفي هذا الجزء الأخير من المقال نستعيد مقولة جورج كليمنصو: ” الحرب أخطر من يعهد قرارها لجنرالات الجيش“ بغرض القاء الضوء على طبيعة الحروب التي دخل فيها الجيش السوداني وادارته لها؛ ونُذكّر بأن هدفنا هنا هو أن توضيح الهدف الحقيقي من وراء حروب الجيش وسياقها السياسي يساعد في فهم اعمق لطبيعة النزاع المسلح الحالي وآثاره المستقبلية . فالجيش السوداني انخرط في عدة حروب داخلية جهوية ضد المواطنين السودانيين سبقت النزاع المسلح الحالي وكان الهدف منها قمع المعارضين وتصفية كل من ينتفض ضد هيمنته السياسية، التيبغض النظر عن أي اتجاه سياسي تسربل ظاهرها به، فان فحواها محافظ واستبدادي.

إن الجيش في كل معاركه الداخلية لم يحقق انتصارا؛ فالجيش لم ينتصر في الحرب الاهلية الأولى في جنوب السودان (تمرد الأنانيا 1955-1972) او الثانية في جنوب البلاد كذلك خلال الأعوام الفترة 1983 -2005 التي حولها الجيش آنذاك لحرب جهادية؛ كما لم يستطع الجيش هزيمة الحركات المسلحة في إقليم دارفور في القتال معها لحوالي سبعة عشر عام. واخفاق الجيش في هذه الحروب يرجع لفقدانها مساندة الشعب لها ورفضه للقرار الأحادي للجيش باللجوء الى حسمها عسكريا وعدم السعي للبحث عن الحلول السياسية.

وحتى الحرب التي اشعلها الجيش ضد اثيوبيا في 2021 لاسترداد آراضي منطقة "الفشقة"، لم يزل 10% من أراضيها تحت سيطرة عصابات “الشفته" الأثيوبية، وإلى الآن لم يتم إعادة ترسيم الحدود بين البلدين نتيجة للمماطلة الاثيوبية؛ وعدم إتمام هذه العملية بالإضافة للمناطق التي لم تحرر بعد، يعنى أن قضية منطقة "الفشقة" لم تحسم تماما.

إن الحرب الحالية اشعلت فتيلها قوات الدعم السريع بتصعيدها ضد الجيش عندما قامت باحتلال مدينة مروى في شمال السودان في 13 أبريل 2023 بتحريكها قوات ضخمة في المدينة دون إخطار الجيش، ولم تنصاع لطلب القوات المسلحة بالانسحاب من المنطقة في غضون 24 ساعة. كما ان تمرد قوات الدعم السريع بدأ بالشروط التي تقدمت بها قبل الاقتتال لحل الازمة السياسية الناتجة عن نزاعها مع الجيش حول الموقف من دمجها في قواته ووضعها كقوة مستقلة خلال الفترة الانتقالية. وقد شملت هذه الشروط: يتم دمج الدعم السريع خلال 10 أعوام ويكون الدعم السريع تابعا للقائد العام فقط ومستقلا عن هيئة الاركان وهذا يعنى ان قوات الدعم السريع جيشا قائما بذاته وموازيا للقوات المسلحة السودانية، واعفاء 800 ضابطا من الخدمة في القوات المسلحة، والسماح للدعم السريع بناء قاعدة جوية في شمال غرب السودان في منطقة المثلث الحدودي السوداني بين السودان وليبيا ومصر.

كذلك كان انعدام روح الانضباط بالهجوم السافر والمتواصل على قادة الجيش في المنابر العامة وجه من وجوه تمرد قوات الدعم السريع على الجيش.

كما مر ذكره في الجزء الثاني من المقال، فان النزاع بين المليشيا والجيش نشأ حول مسائل تنظيمية تتعلق بمشروع "الاتفاق الاطارى"، الذى وضعته الدول الغربية ودولة الامارات للسيطرة على السودان. ولطبيعته الاستعمارية، فان "الاتفاق الاطارى" لم يجد القبول من قطاعات واسعة من الشعب السوداني التي رفضت المشروع من أساسه. لكن وجد الشعب نفسه في هذه الحرب في مواجهة دموية مباشرة مع المليشيا التي احتلت منازل المواطنين ونكلت بهم وهتكت أعراضهم واستولت على أمتعتهم وأغراضهم. ولهذا كانت مقاومة الشعب للمليشيا التي لم يحمل لها ودا في يوم من الأيام؛ فالمليشيا دعمت النظام البائد بقتل مئات الآلاف من المعارضين في أقاليم السودان المختلفة، وكذلك كانت شريكا للجيش في اللجوء للقوة المميتة في فض الاعتصام ضد النظام البائد؛ وكانت مصدرا دائما لاستفزاز وترويع المواطنين. وعندما كان الجنرال البرهان يدعم بلا حدود توسيع قوات الدعم السريع قبل الحرب، كان الشعب يقاومها ويهتف ضدها في التظاهرات الحاشدة مطالبا بحلها ومحاكمة قادتها على المجازر التي ارتكبتها في حق الشعب؛ وحتى بعض أفراد القوى الاجتماعية المحافظة وقفت تتحدى وتندد بالمليشيا وتجاوزاتها (مك الجموعية عجيب الهادي مثالا).

ولكن لم يكن التناقض العميق بين الشعب والمليشيا يمثل شيئا بالنسبة للجيش. كان هدف الجيش منصبا على تعزيز انفراده بالسلطة السياسية ومنع انتقالها لقوات لدعم السريع، ولم يكن الجنرال البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش رافضا ل" الاتفاق الاطارى". ولهذا جاءت الحرب الأخيرة تطرح كثيرا من الأسئلة حول أدارتها وإدارة البلاد عامة. فقد كان غريبا ان يصف الجنرال الحرب البرهان عند بدايتها بأنها عبثية. ولم يشكل البرهان حكومة اذ واصل في تركه إدارة البلاد لحكومة مكلفة منذ انقلابه في 2021 ( بخلاف الأشهر القليلة لحكومة حمدوك 21 نوفمبر 2021 – 2 يناير 2022 ). حكومة مكلفة لأكثر من عامين!! كما لم يعلن البرهان حالة الطوارئ الى تخدم الحرب بجعلها تنقلات قوات الدعم السريع داخل المدن وعلى الطرق البرية (الامداد) مسألة صعبة.

وفى أغرب اجراء ادارى وضع البرهان وزارات الحكومة تحت إشراف قادة الجيش في المجلس السيادي، وبهذا يكون قد تم سحب المساحة الضئيلة من النفوذ الذى تتمتع به الحكومة باعتبارها "مكلفة". فالحكومة المكلفة بطبيعتها لا تتمتع بصلاحيات تنفيذية كاملة.

ومنذ قيام الحرب تعطلت معظم أجهزة الدولة والاعمال الخاصة وهكذا ظل المواطنون لا يستطيعون الحصول على أبسط الخدمات اما لعدم القدرة المالية أو لتوقف تقديمها تماما نتيجة للحرب. وتعطلت الخدمات البنكية التي يُعتمد عليها في تسيير المعاملات التجارية اليومية وتمويل النشاط الإنتاجي. وتُرك المواطنون غارقون في ظلام واقع لم يعد فيه وجود لأى جهة تهتم باحتياجاتهم فيما يتعلق بشئون معاشهم وسير حياتهم.

وعلى الصعيد العسكري لا يدرى احد أسباب تطاول أمد القتال ولا توجد أي مخاطبات توضح للشعب مسار الحرب ومآلها ومصير الملايين المهجرة داخليا وخارجيا؛ ويتطوع بعض المعلقين لتبرير هذا الوضع بالحجة المضحكة "اتركوا الجيش فهو يعرف ماذا يفعل". لم يعقد الجنرال البرهان مؤتمرا صحفيا واحدا يجيب فيه على أسئلة المواطنين. وكثرت الأسئلة، من قبل افراد الشعب وحتى من الجنود، حول تلكؤ الجيش في اصدار الأوامر لوحداته بالانتشار وسحق المليشيا الغوغائية.

ومقابل اختفاء تواصل الجيش مع الشعب لشرح مسار الحرب ومستجداتها، ظهرت بعض القيادات العسكرية تروج لوضع الجيش الطليعي في قيادة التغيير في السودان. وكمثال لهذا نورد ما ذكره احد القياديين في الجيش السوداني "الفريق النعيم خضر مرسال" الذى قال في أحد منصات التواصل الاجتماعي ان الجيش له مآثر في الحروب خارج السودان خلال الحرب العالمية الثانية ضد قوات المحور وبطولات كثيرة في حروب جنوب السودان، وقال بعد استعراضه لذلك التاريخ ( يجب على أي مواطن تمجيد الجيش أو ان يصمت.. .وان من مزايا الحرب، "ضد الدعم السريع"، انها تجعل انتفاد الجيش لا مبرر له ويعتبر خيانة) لكن الفريق لم يذكر الآثار السلبية لاحتكار الجيش للسلطة معظم سنوات الحكم الوطني بالتحالف مع بعض القوى السياسية التي يحددها ويفرضها التوازن الداخلي للكيانات الحزبية المختلفة؛ ذلك الاحتكار الذى دمر الحياة السياسية وحول البلاد الى انقاض وفوضى شاملة وهى حالة الساحة السودانية عشية الحرب الأخيرة. كما ان ترويج الجيش نفسه لريادته في العمل الوطني تتناقض مع نظرة الشعب له عقب الانتفاضة التي أطاحت بنظام الإسلاميين في 2019 . فالشعب رأى خيانة قائد الجيش، الجنرال البرهان، للشعب بممارسة التنكيل بالمعارضين لسياساته ودعمه الواسع لمليشيا الجنجويد واعادته لبعض قيادات النظام السابق لمواقع فى السلطة والتطبيع مع الكيان الصهيوني. والشعب توصل لدلائل تدل على أن البرهان شخص موضع شبهة (compromised)، فالبرهان كان له علاقة عمل قوية مع دولة الامارات ارتبطت بإشرافه الكامل على اشتراك جنود سودانيين في قتال اليمن ضمن قوات "التحالف العربي في اليمن بقيادة السعودية". وكيف ينسى الناس اشتراك البرهان المشين في المذبحة التي تعرض لها المعتصمين أمام القيادة العامة في 2019 .

كما كشفت يوميات العمليات العسكرية خيانات لا لبس فيها تمثلت في الانسحابات غير المبررة من الحاميات العسكرية في غرب البلاد (دارفور) شملت مدن نيالا و زالنجي و الجنينة والضعين. وهى انسحابات لا يمكن حدوثها من دون أوامر من القيادة العليا للجيش؛ واتضحت هذه المسالة بشكل ساطع عند الانسحاب المريب لحامية ولاية الجزيرة (50 الف جندي). وخطورة تسليم الجيش ولاية الجزيرة، التي تقع وسط السودان لقوات الدعم السريع، تنبع من أهميتها كموقع ذو ثقل اقتصادي وزراعي وموقع استراتيجي يربط بين الشرق والشمال والجنوب.

ان سير العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش تشير الى رغبته في الوصول الى توازن في نزاعه المسلح مع قوات الدعم السريع بحيث تكون له اليد العليا، التي تحفظ له احتكار القرار السياسي في الدولة. فالجيش السوداني كما ذكرنا ليس له موقفا مختلفا عن الدعم السريع فيما يتعلق بالمسار السياسي /الاقتصادي للبلاد الذى عبر عن المشروع الاستعماري، "الاتفاق الاطارى.

وقبل أن نختتم المقال، لا بد من الإشارة الى أن الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع هي حرب حقيقية استغلت فيها الدول الغربية ودولة الامارات المليشيا للهيمنة الاستعمارية على البلاد. فكل ما يشاع بانها حرب عبثية خطأ، كما أن دعوة "لا للحرب" الساذجة يغيب عن افقها معنى الحرب على صعيد الوعي بها نظريا وادراك طبيعتها ومعناها من واقع تاريخ الحروب.

كختام لهذا المقال المقدمة (أربعة أجزاء) نرى أن التقويم الصائب للحرب المدمرة الحادثة بالسودان يجب أن يدور حول التقصي الدقيق للدينامية السياسية التي تجعل الجيش يحتكر القرار السياسي وبكل ما جره ويجره هذا على البلاد من تخلف اقتصادي وحروب؛ وفى هذا الصدد لا يجب ان لا ننسى أن الدينامية المعنية وراءها مصالح قوى اجتماعية بعينها ولها رسوخ في الواقع السياسي السوداني يدل عليه احتكار الجيش للسلطة لأكثر من خمسة عقود. وهكذا من غير أن ينتقل قرار إدارة السلطة السياسية للشعب (الديمقراطية)، فان الانتصار في هذه الحرب، التي تفجرت لخدمة مصالح جهات أجنبية، يكون تحقيقه صعبا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): 80% من مشافي غزة خارج الخدمة وتأج




.. اعتقال عشرات الطلاب المتظاهرين المطالبين بوقف حرب غزة في جام