الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة السائلة: الشر السياسي عند زيجمونت باومان

محمد رسول الخنجر

2024 / 1 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


الدولة السائلة: الشر السياسي عند زيغمونت باومان


لقد تميز المسار الفكري والفلسفي لعالم الاجتماع البولندي؛ زيغمونت باومان بنقده الجذري للحداثة وما بعد الحداثة، هذه الموضوعات من أكثر الإشكاليات الفلسفية الراهنة اشتغالا داخل المتون الفلسفية الحداثية. ويعد مفهوم الشر من اكثر المفاهيم التي حظيت بالاهتمام الكبير ضمن المشروع الفكري لباومان، وذلك لما يشغله الشر من مساحة كبير في الحياة العملية للمجتمع القديم والحديث، لاسيما عند دخول العالم في مرحلة السيولة التي تسربت فيها المفاهيم الى نطاق أوسع بكثير مما كانت عليه في مجتمع ما قبل الحداثة. فصار للشر وجوه عديدة متنوعة ومتلونة مما جعله واحدا من المفاهيم التي تستحق الاهتمام في الدراسات الفلسفية والاجتماعية.
فنلاحظ باومان قد تناول الشر الحديث بصفته واحدا من افرازات الحداثة السائلة، لا علاقة له في الصبغة الدينية التي لازمة الشر على مر العصور والتفسير اللاهوتي للعالم. فالشر الحديث عند باومن هو شر مصطنع تحدد مساراته الجهات المتحكمة في إدارة السياسة العالمية، فحين يتم تفتيت الشر واستبطانه في تفاصيل بيروقراطية الدولة الحديثة على مستوى الإيقاع اليومي، حتى تذوب بشاعته في عيون الافراد الذين أصبحوا مجرد تروس صغيرة في الة الشر الدائرة؛ فلاعلاقة لهذا الشر باللاهوت، انما هو شر أخلاقي من صنع الانسان؛ يقف ورائه المتحكمون بأقوات البشر1.
وتتلخص فكرة الشر عند باومان بأن للشر الحديث وجوه متعددة ساهمة في تحويله من حالة الصلابة الى حالة السيلان والميوعة، ويتصدر الشر السياسي جميع وجوه الشر الأخرى، لما يلعبه المتحكمون في السياسات الدولية من دور في حياة المجتمعات والافراد. فالشر السياسي هو الذي يحدد خارطة أغلب وجوه الشر الأخرى، كالشر الاقتصادي، والاجتماعي والثقافي...، فالسياسة اليوم بسلطتها تمكنت من الهيمنة على جميع مفاصل الحياة تقريبا. فمفهوم السيادة مثلا حسب باومان تحول الى مفهوم سائل، بفعل العولمة، التي أنتجت بدورها جغرافية سياسية جديدة. وفي ذلك يقول: (لقد أدت العولمة السلبية مهمتها وصارت جميع المجتمعات مفتوحة على أكمل وجه، ماديا وفكريا، حتى أنّ وقوع أي جرح أو حرمان نسبي أو تراخي يلازمه إهانة الظلم، انها إهانة الشعور، بظلم ارتكب، وبظلم يصرخ من أجل رفعه...... فما من مأوى امن يمكن الاختباء فيه من العولمة، ففي عالمنا الحديث السائل، تتحول الاخطار والمخاوف الى ما يشبه الحالة السائلة، أم هي أقرب الى الحالة الغازية؟ انها تسيل وتتسيل وتتسرب ولم تستحدث أسوار لإيقافها، وان ظل كثيرون يحاولون بنائها 2، وفي حوار له مع كاترين بورتفين يقول: (مثلت الثمانينات نهاية مرحلة تاريخية مهمة كان فيها دور المثقفين حاسما، إذ انتهى حلم كبير أسس له فلاسفة الأنوار كحلم يعد بمجتمع مثالي ويضمن السعادة للبشر، مجتمع يحكمه العقل البشري بفضل الإبداع والعمل البشريين. أفلت فكرة المجتمع المثالي تلك مع نهاية الألفية الثانية، حين وضع حد لها عنوة. وهذا ما يسميه بنهاية اليوتوبيات أو الأيديولوجيات المرتبطة بنهاية الدولة - الأمة. ويتجسد ذلك، في نظره، في التناقض الحاصل بين مجال السياسة ومجال السلطة. ففي العالم المعاصر، بعد انهيار الدولة - الأمة، تتجه السلطة نحو الأعلى، نحو عالم ما بعد الدولة - الأمة (المعولم)، في حين تنحدر السياسة نحو الأسفل (المجال الوطني) وتظل حبيسة الدول المحلية - الوطنية. وبهذا لم يعد المثقف قادرا على التأثير في السياسيين المحليين لأنه يدرك أن السلطة والقوة ليستا بيده بل تتجاوزانه3.
وبناء على ما تقدم لا سبيل الى تحقيق العدالة ولا ضمانها باعتبارها الشرط الأساسي للسلام الدائم، فالانفتاح الفاسد للمجتمعات بفعل العولمة، هو ذاته السبب الرئيس للاستبداد السياسي، ومن ثم فهو بطريقة غير مباشرة السبب الرئيس للصراع والعنف. (فبينما تنعم النخبة التي تعتلي القمم بحرية الانتقال الى عوالم متخيّلة يسقط الفقراء في مستنقع الجريمة والفوضى السياسية)4.
وينتقد باومان حالة اللاطمأنينة التي يعيشها الافراد في ضل الفوضى السياسية، فيعيش الناس في دوامات متعاقبة من المعانات؛ (وفي واقع الأمر أنه لا يوجد قالب تعرض للتحطيم إلا وحلّ محله قالب آخر، وما أطلق سراح الناس من سجونهم القديمة إلا ليدخلوا سجن التعنيف والتوبيخ والإنذار إذا ما عجزوا عن نقل أنفسهم إلى مكان جديد بالاعتماد على جهودهم الفردية الدؤوبة طوال حياتهم، في الأماكن الجاهزة التي أعدّها النظام الجديد في الطبقات الاجتماعية، والأطر المرجعية مثل المكانات الاجتماعية والسياسية التي تفككت، والتي مثلت بصلابة وإصرار الطابع الكلي لظروف الحياة وآفاقها، وحددت نطاق مشروعاتها الواقعية واستراتيجيات الحياة، كانت المهمة التي تواجه الأفراد الأحرار تتمثل في استخدام حريتهم الجديدة لإيجاد المجال المناسب والاستقرار فيه بالانصياع له، بحيث يمتثلون إلى قواعد السلوك ونماذجه التي أقرت الحداثة بأنها صحيحة وملائمة)5
يبدو من خلال ما يطرحه باومان عن الشر السياسي بأن الاشياء والاشخاص والعلاقات في حالة السيولة تأخذ ألوانا أخرى مختلفة جذريا عن وضعها في حالة الصلابة، فالأزمنة والحرية والعدالة والسيادة والنظام والحروب والسلام وغيرها من المفاهيم، كلها تلبس ثوبا جديدا عندما تدخل عالم السيولة والذوبان في زمن الحداثة. حتى الشيطان، فالشيطان في السياسة ليس مجرد خيالات بل انه يتجسد في أشكال كثيرة، أحدها هدم وتدمير نظام أخلاقي كوني، أو على الاقل نظام أخلاقي قابل للحياة والنمو والتطبيق. بيد أن الشيطان قد يظهر على أنه فقدان للذاكرة والحس الاخلاقي6
وفي نقاش الديمقراطية في خضم الأزمة يبدو أن سيولة الديمقراطية مفهوم تم استكشافه بشكل عميق، يبدأ من طرح توكفيل حول ديكتاتورية الأغلبية، إلى الاحتجاجات التي شهدتها كل من مصر وتركيا والبرازيل. فيشير باومان هنا الى أن الجماهير لم تعد قليلة المعرفة أو سلبية، إنما هي مستنيرة وعليمة ومتصلة ببعضها البعض (من خلال وسائط التواصل الاجتماعي) وتقاوم قوالب السلطوية – بل وحتى قوالب السلطوية الديمقراطية – التي عززت بُنى الحُكم في التاريخ المعاصر والقديم. يكمن جوهر تحليل باومان وبوردوني للديمقراطية في طبيعة الأزمة التي تواجهها الآن الحركات السياسية من قبيل "احتلوا وول ستريت" و"السكان الأصليين" و"الربيع العربي" ولكن لا على أنها أسباب لأزمة الديمقراطية والحُكم، إنما بصفتها تبعات لأزمة الحكم والديمقراطية7
وفي خضم هذه الأزمات الهائلة الكبيرة – أزمات الدولة، والحداثة، والديمقراطية – يرى باومان "المواطن" في مرتبة أدنى من "المستهلك"، وهدف الأخير هو بالأساس الاستحواذ والتملك. إذا كان باومان محقاً وكان الاستهلاك هو الغاية التي تشكّل التوجهات والسلوك والآمال والمطامح الخاصة بالملايين (المليارات؟) من الناس، فهل من الممكن تحقيق أي درجة من الاستقرار الاجتماعي أو السياسي في مجتمع المستهلكين؟ لأنه ما إن يتم استهلاك السلعة تعود الرغبة في الاستهلاك: الرضا والاشباع هنا يتأجل بشكل أبدي. لإن حريتنا اليوم تنحصر في الاستهلاك والوجاهة. فقدت حريتنا الارتباط بأهم شيء، ألا وهو الإيمان بأنك يمكن أن تغير شيئاً في العالم. نجد أن الاستغلال عبر الدعاية السياسية قادر على اصطناع حاجات الناس ومعايير سعادتهم، بل وعلى اصطناع أبطال العصر والتحكم في خيال الجماهير عبر السير الذاتية الناجحة. لقد صرنا نقول إن موت شخص واحد إنما هو مأساة، أما موت ملايين الناس فهو عملية إحصائية.
هنا يتدخل باومان، مؤكداً أن الناس قد فقدوا الاهتمام بالانتخابات مؤخرا، لأن لديهم شكوكاً كبيرة حول ما يحصل بأنه لعبة المظاهر السياسية الكاذبة، فالساسة يتظاهرون بأنهم يحكمون، بينما أصحاب السلطة الاقتصادية يتظاهرون بأنهم حكام. ولكي تكتمل تلك اللعبة فإن المواطنون يدفعون أنفسهم مرة كل بضع سنين إلى الانتخابات، ويتظاهرون أيضا بأنهم مواطنون. فلن يبقى للحكومات المنتخبة إلا إدارة الاقتصاد.
ويقدم باومان مثالاً من واقعنا الراهن، وهو مجال صناعة وسائل الإعلام المتقدمة التي تطمع إلى تحقيق أعلى الأرباح، وأعلى نسب المشاهدة، يكتب باومان في هذا الخصوص: (صور العنف وقصصه هي من بين أكثر البضائع الرائجة التي تعرضها صناعة وسائل الإعلام، وكلما زادت تلك الصور والقصص وحشية وفظاعة ودموية، كان ذلك أفضل).
يحاول باومان تحليل طرائق التلاعب بالمواطنين، وكيفية اختلافها بين المنظومتين الديكتاتورية والديموقراطية، وهو الفرق بين القوة الخشنة والقوة الناعمة. القوة الخشنة في الأنظمة الديكتاتورية، هي قوة الإكراه والقسر، وهي تقوم على تقليص الاختيارات المتاحة وزيادة العراقيل أمام تلك غير المرغوبة واستخدام القوة والتهديد. أما في النظم الديموقراطية، فتُبنى القوة الناعمة عبر الإغراءات التي هي السمة المميزة لاستراتيجية السيطرة التي تمارسها. إذاً، في النظم الديكتاتورية، استخدام القوة هو المكون الأساسي لاستراتيجية السيطرة. أما النظم الديموقراطية فتحبذ القوة الناعمة للسيطرة الأقل كلفة إلى حد كبير، وهي قوة الإغراء والإغواء.
أما فيما يخص فصل القوة عن السياسة التي يطلق عليها باومان بأزمة التمكن، ووفقا له فان حظ الفرد ليس أفضل بكثير من القائد الذي كان في العهد الماضي يلتفت إليه هذا الفرد عندما تفارق السياسة القوة. التجمعات السياسية الجماهيرية التي استلهمت فكرتها من وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تجمعت احتجاجاً على هذا أو لتبتعد عن ذاك، لم تقدم حلولاً: ما الذي يمكن عمله بدلاً من التدابير الحالية ومن الذي سيتولى قيادة العملية الجديدة المقترحة؟ هذه أزمة التمكّن8؛ التي بحسب باومان تجعل كل الأزمات الأخرى متصلة متشابكة: تمكن الدولة الذي لم يعد كما كان الناس يفترضونه، وعقمها الحالي المقنّع بتاريخ من القدرة على الحركة بنجاح في مواجهة تحديات كبرى.
المصادر:
1. زيغمونت باومان وليونيداس دونسكيس، الشر السائل، ترجمة: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2018م، ص21.
2. زيغمونت باومان: الخوف السائل، ترجمة: حجاج أبو جبر، هبة رؤف، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2017، ص: 137.
3. رشيد العلوي، زيغمونت باومان: من «الحداثة الصلبة» إلى الحداثة «السائلة»، الشرق الاوسط جريدة العرب الدولية، الخميس - 13 شهر ربيع الثاني 1438 هـ - 12 يناير 2017 مـ.
4. زيغمونت باومان، الخوف السائل، مصدر سابق، ص: 136.
5. زيغمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رؤوف عزت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2016، ص:47.
6. سيغمونت باومان، الشر السائل، ترجمة هبة رؤوف عزت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2019، ص: 13.
7. نفسه، ص:147.
8. زيغمونت باومان، الحياة السائلة، ترجمة: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية، ط1، بيروت، 2017، ص:103.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران: أسطول جوي قديم ومتهالك؟.. تفاصيل عن مروحية الرئيس رئي


.. الصور الأخيرة للرئيس الإيراني رئيسي قبل تحطم مروحيته وموته




.. الحرب في غزة: هل من تأثير على قطاع السياحة في مصر؟ • فرانس 2


.. تساؤلات في إيران عن أسباب تحطم مروحية الرئيس من بين 3 مروحيا




.. سيناريوهات وأسباب محتملة في تحطم مروحية الرئيس الإيراني؟