الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر عبد الحسين العبيدي والتلاعب بمفردات الهمس

داود السلمان

2024 / 1 / 1
الادب والفن


مقدمة:
ثمة مقولة، قديمة جديدة، تقول: أن العراق هو بلد الشعر والشعراء، والأدب والفنون الأخرى، كذلك بلد العلم والنتاج الفكر والعقلي، والشاهد على ذلك هو تاريخه الطويل. العراقيون هم الأكثر من سواهم من البلدان العربية الأخرى، بهذا الخصوص؛ وفيهم ظهر أساطين الشعر مثل الجواهري (الذي هو شاعر العرب الأكبر، كما هو معروف عنه) والسياب، ونازك الملائة، وعبد الرزاق عبد الواحد، وعبد الوهاب البياتي، والرصافي والزهاوي؛ والقائمة طويلة جدًا. أليس الشعر الحرّ هو نتاج عراقي بامتياز، ساهم فيه السياب مساهمة كبيرة، بل أن السياب هو من دق أساس هذا الصرح الأدبي المُسمّى بـ "الشعر الحرّ". وهذا أيضًا ينطبق على الأدب والابداع العراقي بشكل وعام. ولا نريد أن نغمط حقوق البلدان العربية الأخرى، في هذا الاطار، أبدًا. ففي البلدان العربية ثمة شعراء كبار أيضًا، ساهموا في تعزيز الأدب العربية عموما، وارتقوا فيه الى مرائب شاهقة، ورفيعة، يشهد لها تاريخ الأدب العربي، حديثا وقديمًا. لكنّ للعراق فيه الثقل الأكبر؛ كان ومازال؛ والدليل أن مبدعيّ العراق دائما ما يحصلون على جوائز ابداعية عديدة، في كثير من المسابقات الأدبية وسواها، التي تُعقد هنا وهناك، في البلدان العربية، وحتى في بلدان غير العربية، يكاد يكون على مدار السنوات الماضية.
نص يحاكي الواقع:
في نصه الموسوم "تأريخ الخُردة" يحاكي الكاتب عبد الحسين العبيدي، واقنا الموغل بالتناقضيات الفاضحة، فيشرّحها بمشرط التهكم، كون التهكم أكثر إيلاما لواقع تسربت اليه الثقافات الهجينة، المستبدة بالطعون، السائرة على نهج التمضر اللامبرر، الموغل بالصرامة الزائفة، في سبيل قتل كل ما هو شاهق ومعبّر عن السمو والمعرفة والجمال. وهذا هو ديدن الثقافات التي تريد تغير ثقافات أخرى، بهدف الهيمنة والقضاء على الحضارات التي سبقتها، لكي تطمسها وتشيع في ربوعها الزّيف والكذب الفاضح. يقول عبد الحسين العبيدي في هذا النص:
"كغيمة عاقر تتسول النهر
أنْ يرفع أجفانه المترهلة ليطفئ ظمَأها
تدغدغها الريح ولا جدوى".
الكاتب هناء يستعمل الرمز بأبعاده، البعيدة المدى عن المباشرة والسطحية، ضيقة الأفق، ليجعل من النص شعاعا يضيء الزوايا المظلمة، من حقيقة تريد طمسها ثقافات تروم من الهيمنة اعتباطا، مستعملة يافطة ترفع شعار الحرية والانفتاح؛ لكن هدفها الأدلجة الهجينة حتى تمحو ما قبلها، الجمال الحقيقي الذي يكمن في مجتمع، عُرف عنه التسامح وطرح القضايا الاشكالية من قاموسها الحضاري، لحل المعضلات التي تقمع بذرة والوئام والتوادد.
"لست نادما
فأي جدوى أن يكون لردائك جيوب؟
ولا تملك سوى قصاصات تقرأها الريح في نوبة هياج"
يتذرّع الإنسان أحيانا، بشتى الذرائع، بهدف التغطية على فشله، بحيث يبرر كل قضية أخفق في توصيلها أو حللها بالشكل الذي يعزز الثقة بالنفس، ولكي لا تزداد حيرته، ازاء تلك القضية ذاتها، فيحصل تناقض غير متوقع، يدل هذا نفور وأمر خارج أرادته، وعدم خبرته في الحياة، أو أنه ذاهب إلى مناطق غير عارفا خارطتها، وطرقها غير المعبدة، لأنّه لم يزرها من ذي قبل، وهو بالتالي لابد وأن يعلن هزيمته، ويركن لواقع ملموس.
وأديبنا العبيدي، هنا، كان بصدد نقد هذا الواقع الذي يمر به إنسان اليوم، حيث الحيرة كانت سيدة الموقف. ينقد الواقع على اعتبار النقد يرفع من شأن الاصلاح الثقافي والاجتماعي، بعد أن تُشخَص الحالة.
"فلا ضير أن نذهب لمنتدى الأراكيل
حيث ابتكار الإشاعات
وجثث الكلمات المركونة على الجمر".
وما بين هذا وذاك، مما نوهنا عليه، تبقى حلول الانسان لقضايا عصره، وهي كثيرة ومتعددة، تبقى متأرجحة بحسب مقتضيات الواقع ألأليم، والظرف الذي نعيشه، وفق هذه المتغيرات التي القت بظلالها على واقع مرّ، نتجرعه ولا نكاد. الواقع هذا عبّر عنه اديبنا العبيدي، بابتكار الإشاعات، وعادة هذه نجدها تظهر في المقاهي والتجمعات العامة، خصوصًا لدى الفئة العاطلة عن الثقافة الرصينة، المتشبثة بواقع ضحل تجرعته على مضض.
"الحكايات التي تهامسنا بها غفلة
يتداولها الباعة على الأرصفة بصرخات مكررة
فلا أنا شجرة أمنحُ ظلي لعصفور يجتهد ولا مجيب
فأينما أُيممُ وجهي لا تُطيعني الأزقة".
الصراع الانسان مع الحياة، صراع أزلي؛ وقت ما دبت الحياة فينا؛ قبل أكثر من مليونيّ سنة أو تزيد، كان صراح الانسان مع الطبيعة، سهلا وسلسا، وكلما تقدمت الحياة إلى الامام، كلما تعقدت قضاياه المصيرية، فأزداد تعاسة، وهذا هو طابع الحياة، بغضها وغضيضها.
"والنسوة لا يلتفتن للحكايا وهي تمشط رأسها بأطراف المُدى
ويستبدلنها بطراوة الفساتين الداعرة
وعسس الدروب الملثمين بلحى لا تأنس الشفرات
ينافقون الزوايا مقابل نزوة مجانية
في كل مرة أتخاذل فيها ترمقينَّي بطعم اللوعة
فبأي الآثام أحييك ؟
وقد دار الوقت عكس ساعتي البايولوجية
فهل لك ان تمنحيني بعض الرضاب ؟
بلا فسحة معدودة الكلمات
كي لا ابقى منبوذا بالمقلاة
كحجارة بين الكثبان يبجلها غلمان النوادي الفارهة
يظنونها من السماء
جاء بها الثعلب المجنح هدية لأبناء العم سام
كل النذور لم تبن لي سدا أستريح خلفه
كجرذ مهمل لا تستسيغه البيوت السمان
فظل يتوسل بأبناء الشوارع
عله يستريح من لغو الدكاكين الممتلئة
في سوق بيع الخردة حديثة الولادة
المكتظة بالأفعال الناقصة."
وثيمة هذا النص، بحسب مفهومي، هو جزء من واقع كبير، مرّ وتمر به الانسانية، على مستوى العالم ككل، وعالمنا العربي بشكل خاص. وانما لخصه الكاتب تلخيصا، على اعتباره ترجمان لإشكالية الحياة، بما فيها القضايا المصيرية، فالمثقف هو مترجم كبيرة وامين في ذات الوقت، يترجم المشاعر، السلبية والايجابية، ويعي ما تمر به الانسانية، وخصوصا المثقف الذي يعيش عصره، فثمة بون شاسع، بين الكاتب – المثقف، الذي يعيش عصر هو ليس عصره، وهضم ثقافة بعيدة كل البُعد عن ثقافة عصره، حينما يريد ان يكتب عن تلك الثقافة البعيدة عنه؛ وبين الثقافة التي عاشها بكل معاناتها، وبكل افراحها واتراحها. مثقف العصري أي الذي يعيش احداث زمانه ومكانه، هو ألأقرب والاكثر احتكانا عن تلك العصور البعيدة عنه. ومهما كانت خبرته طويلة، وله غور في بُعد النظر، لا يستطيع أن يصوّر تلك الاحوال، كما يصورها المثقف الذي عاش تلك العصور وغرف من ماء معينها.
وكلّ واحد منّا قد قرأ، وطالع ثقافات سبق ثقافة عصرنا هذا، وربما كتب عنها؛ لكنّه لم يستطع أن يلم بكل ثقافات تلك العصور، المامة كاملة، كما ألمّ بها مثقف عصر تلك الثقافات، بأحداثها و واقعيتها.
صاحب هذا النص، أعني عبد الحسين العبيدي، أختصر لنا حقبة طويلة من تاريخ البشرية، فالمبدع هو كالمعالج النفسي، أو كالطبيب الحاذق، يشخّص الحالة، ثم يحدد نوع الدواء المناسب تلك الحالة المرضية، لكون المجتمع أيضًا مريض مرضًا داخليًا يعكس الحالات التي يمرّ بها، كذلك المبدع – الكاتب، يختصر الحالات المستعصية بأبسط تعبير، بعدها يوغل بطابها ليخرج لنا الشوائب الكامنة في عمق ذلك التاريخ، وهو تاريخ شامل لتلك الانسانية. ومع ذلك يرى الكاتب، وبرغم من كل ما قدمه، يعترف أنّ: " كلُّ النذور لم تبن لي سدًا أستريح خلفه"، وهذا هو مختصر تاريخ الانسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل