الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياسة تعليمية لاستعمار العقول

أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند

2024 / 1 / 4
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


برابهات باتنايك



إن الهيمنة الإمبريالية على العالم الثالث لا تُمارس من خلال الأسلحة والقوة الاقتصادية فقط، بل أيضًا من خلال هيمنة الأفكار، وذلك من خلال جعل الضحايا يرون العالم بالطريقة التي تريدهم الإمبريالية أن يروه بها. لذا فإن الشرط الأساسي للحرية في العالم الثالث هو التخلص من استعمار العقل هذا، والبحث عن الحقيقة فيما وراء تشويهات الإمبريالية. وكانت حركة الصراع المعادي للاستعمار تدرك ذلك؛ في الواقع يبدأ النضال مع بزوغ فجر هذا الوعي. وبما أن المشروع الإمبريالي لا ينتهي بإنهاء الاستعمار السياسي الرسمي، فإن نظام التعليم في المستعمرات السابقة المستقلة حديثًا يجب أن يهدف باستمرار إلى تجاوز أكاذيب الإمبريالية.

وهذا يتطلب أن تكون محتويات المقررات والمناهج الدراسية في المؤسسات التعليمية الهندية مختلفة عن تلك الموجودة في مؤسسات [راسمالية] المركز . وهذا واضح في حالة العلوم الإنسانية والاجتماعية حيث يستحيل فهم حاضر البلاد دون النظر إلى ماضيها الاستعماري ؛ وتتجنب الجامعات الكبرى في المركز إقامة هذا الارتباط بدقة، وتعزو الحالة الراهنة من التخلف التنموي في البلاد إلى جميع أنواع العوامل الخارجية مثل الكسل، والافتقار إلى المشاريع، والخرافات، وقبل كل شيء، النمو السكاني المفرط. ولكن حتى في حالة العلوم الطبيعية، فإن المناهج ومحتويات المقررات الدراسية في جامعات العالم الثالث لا يمكن أن تكون متطابقة مع تلك الموجودة في جامعات المدن الكبرى، ليس لأن نظرية أينشتاين أو فيزياء الكم تحتوي على أي أيديولوجية إمبريالية، ولكن بسبب ان نطاق الاهتمامات العلمية في العالم الثالث ليس بالضرورة هو نفسه ما هو في البلدان المركزية . وفي الواقع، كانت هذه وجهة نظر جي دي بيرنال، العالم والمفكر الماركسي البريطاني، أحد الشخصيات العظيمة في القرن العشرين.

إن الاعتقاد بأن المناهج ومحتويات المقررات الدراسية في جامعات العالم الثالث يجب أن تكون متطابقة مع تلك الموجودة في جامعات بلدان المركز هو في حد ذاته أحد أعراض هيمنة الإمبريالية. كانت سياسة التعليم في الفترة التوجيهية [اقتصاد موجه من قبل الدولة] في الهند تدرك ذلك؛ على الرغم من الإخفاقات الواضحة في نظام التعليم، إلا أنه لا يمكن إلقاء اللوم على سياسة التعليم في تلك الفترة بسبب وجود رؤية خاطئة.

لكن مع الليبرالية الجديدة بدأت الأمور تتغير، مع اندماج البرجوازية الهندية الكبيرة مع رأس المال المالي المعولم، بينما يبحث شباب الطبقة المتوسطة العليا الهندية عن عمل في الشركات المتعددة الجنسيات، حيث أصبحت تنمية البلاد تعتمد على تصدير البضائع إلى الأسواق الخارجية و جذب التمويل الأجنبي والاستثمار الأجنبي المباشر إلى البلاد. ومن الجدير بالملاحظة أن حتى كبار المسؤولين في الحكومة بدأوا يتحدثون عن إعادة دعوة شركة الهند الشرقية إلى الهند.

وبما أن عصر الليبرالية الجديدة يستلزم هيمنة رأس المال المالي المعولم، وبما أن رأس المال هذا يتطلب تكنوقراطية معولمة (أو على الأقل متجانسة)، فإن التركيز يتحول إلى وجود نظام تعليمي متجانس دوليا لتدريب مثل هذه التكنوقراطية؛ ومن الواضح أن مثل هذا النظام يجب بالضرورة أن يكون منبثقًا من المركز [الرأسمالي].

وهذا يعني نظامًا تعليميًا لا يهدف إلى إنهاء استعمار العقول، بل لإعادة استعمار العقول. ولتحقيق هذه الغاية، قامت حكومة UPA في وقت سابق بدعوة العديد من الجامعات الأجنبية المعروفة لإنشاء فروع لها في الهند، بل وحتى "تبني" بعض الجامعات الهندية التي يمكن تطويرها على شاكلتها. ومن الواضح أن جامعات أكسفورد وهارفارد وكامبريدج تمت دعوتها بموجب هذا المخطط ليس من اجل اتباع مناهج ومحتويات تم إعدادها داخل الهند، ولكن لتكرار ما يتبعونه في بلادهم. كانت الفكرة هي البدء بعملية يتم من خلالها توحيد محتويات المقررات الدراسية والمناهج الدراسية بين الجامعات الهندية وجامعات بلدان المركز، أي التراجع عن المحاولة التي بُذلت سابقًا نحو إنهاء استعمار العقول في الجامعات الهندية. في الواقع، صرح وزير تنمية الموارد البشرية الهندي علنًا في البرلمان أن هدفه هو توفير تعليم جامعة هارفارد داخل الهند حتى لا يضطر الطلاب الهنود إلى السفر إلى الخارج للحصول عليه.

لقد واصلت حكومة NDA إلى حد كبير ما بدأته حكومة UPA. وسياسة التعليم الوطنية التي سنتها تعطي تصريحًا رسميًا لفكرة نظام التعليم الموحد بين الهند و المراكز، وهو ما يعني بالضرورة اعتماد مناهج مشتركة، ومحتويات مقررات و دروس بين الجامعات الهندية و جامعات المركز.

نحو هذا التوحيد اتخذت خطوتين حاسمتين: الأولى هي تدمير تلك الجامعات في الهند التي كانت تقدم مضادًا للخطاب الإمبريالي، والتي جذبت، لهذا السبب بالذات، اهتمامًا عالميًا؛ الأمثلة الواضحة هنا هي جامعة جواهر لال نهرو، وجامعة حيدر أباد المركزية، وجامعة جادافبور، وغيرها.

والآخر هو إجراء المفاوضات تحت ضغط لجنة المنح الجامعية بين الجامعات الهندية الفردية والجامعات الأجنبية لجعل محتويات المقررات في مختلف التخصصات نسخ مطابقة لتلك الموجودة في الأخيرة. التحذير الوحيد هنا هو أن UGC يصر على إدراج بعض المواد حول موضوعات مثل الرياضيات الفيدية في محتويات الدورات الدراسية للجامعات الهندية والتي لا تتفق معها الجامعات الأجنبية دائمًا.

لا شك أنه سيتم التوصل إلى بعض الاتفاق بشأن هذه القضايا في الوقت المناسب، وفي هذه الحالة سيكون للجامعات الهندية مناهج ومحتويات دورات تمثل مزيجًا من مطالب الليبرالية الجديدة ومطالب عناصر الهندوتفا [القومية الهندوسية]. سيكون ذلك بمثابة استعمار للعقول بقشرة "مدى عظمة بلادنا في العصور القديمة". ولا ينبغي للإمبريالية أن تواجه أي مشكلة في ذلك. طالما أن الإمبريالية، وهي ظاهرة حديثة ظهرت مع تطور الرأسمالية، لا يتم تصويرها على أنها نظام استغلالي بل كمهمة حضارية خيرة لبلدان مثل الهند، طالما أن حالة التخلف الحالية في هذه البلدان لا تربط بأي شكل من الأشكال بظاهرة الإمبريالية، وهو ما لن يكون لو كان هناك توحيد في محتويات المقرر الدراسي مع جامعات دول المركز، فإن ما حدث في العصور القديمة لا يشكل أهمية كبيرة للإمبريالية، على الأقل بالنسبة لوجهة النظر الإمبريالية الليبرالية، المختلف عن اليمين المتطرف الذي يفضل خطاب التفوق الأبيض.

هناك اتجاه اخر له نفس النتيجة، اي إعادة استعمار العقول، وهو التخلص من العلوم الاجتماعية والإنسانية تمامًا، أو اختزالها في مواضيع غير مهمة، واستبدالها بمحتويات دراسية "موجهة وظيفيًا" حصريًا ولا تتضمن طرح أسئلة حول المجتمع، مثل الإدارة ومحاسبة التكاليف. في الواقع، لدى كل من عناصر هندوتفا والشركات مصلحة راسخة في هذا، حيث أن كلاهما حريص على أن يكون هناك طلاب يتمحورون حول أنفسهم بشكل حصري ولا يطرحون أسئلة حول مسار التنمية الاجتماعية. ويكتسب هذا الاتجاه أيضاً زخماً في الوقت الحاضر.

إن النظام التعليمي الذي يعيد استعمار العقول هو النظير للتحالف بين الشركات والهندوتفا الذي اكتسب الهيمنة السياسية في البلاد. إن إعادة الاستعمار هذه هي ما تريده الشركات؛ وعناصر الهندوتفا التي لم ترتبط أبدًا بالنضال ضد الاستعمار، والتي لم تفهم أبدًا معنى بناء الأمة، والتي لا تفهم دور وأهمية الإمبريالية، وبالتالي الحاجة إلى إنهاء الاستعمار في العقول، راضية تمامًا طالما يتم الثناء على عظمة الهند القديمة. إن النظام التعليمي الذي يروج للأيديولوجية الإمبريالية مع بعض التوابل الفيدية هو أمر جيد بما فيه الكفاية بالنسبة لهم. وهذا هو بالضبط نظام التعليم الذي تعمل البلاد الآن على بنائه.

ومع ذلك، فإن التحالف بين الشركات والهندوتفا هو استجابة لأزمة الليبرالية الجديدة، عندما يشعر رأس المال الشركاتي بالحاجة إلى التحالف مع عناصر الهندوتفا للحفاظ على هيمنته في مواجهة الأزمة. وبالمثل، فإن سياسة التعليم الوطنية ليست من أجل دفع الأمة إلى الأمام ، بل من أجل إدارة الأزمة من خلال تدمير الفكر، ومنع الناس من طرح الأسئلة والبحث عن الحقيقة. إن "التوجه الوظيفي" الذي تفتخر به هذه السياسة يقتصر فقط على عدد قليل من الأشخاص؛ وفي الواقع فإن أزمة الليبرالية الجديدة تعني عدداً أقل من الوظائف بشكل عام.

وبالتزامن مع ذلك، يستبعد نظام التعليم أعداداً كبيرة من الأشخاص؛ يجب ملئ عقولهم بدلاً من ذلك بالسم الطائفي ضمن خطاب اخر يتجاوز قضايا الحياة المادية، ويجعلهم مجندين محتملين من ذوي الأجور المنخفضة في فرق البلطجية الفاشية.

وبالتالي فإن سياسة التعليم هذه لا يمكن أن تكون إلا مؤقتة، حتى يبدأ الشباب في طرح الأسئلة حول البطالة و الوضع المعيشي السئ الذي أصبح مصيرهم. ومع استكشاف مسار تنمية بديل يتجاوز الرأسمالية الليبرالية الجديدة، سيبدأ أيضًا البحث عن نظام تعليمي يتجاوز ما تسعى حكومة NDA إلى تقديمه؛ وسوف يأتي إنهاء استعمار العقل على جدول الأعمال مرة أخرى، كما حدث خلال النضال ضد الاستعمار.

صحيفة ديمقراطية الشعب
الحزب الشيوعي الهندي الماركسي
                                               
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من ساحة الحرب إلى حلبة السباقات..مواجهة روسية أوكرانية مرتقب


.. محمود ماهر يطالب جلال عمارة بالقيام بمقلب بوالدته ????




.. ملاحقات قضائية وضغوط وتهديدات.. هل الصحافيون أحرار في عملهم؟


.. الانتخابات الأوروبية: نقص المعلومات بشأنها يفاقم من قلة وعي




.. كيف ولدت المدرسة الإنطباعية وكيف غيرت مسار تاريخ الفن ؟ • فر