الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآخر في رواية / ثرثرة في مقهى إيفانستون / للأديبة الفلسطينية الأمريكية هناء عبيد دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2024 / 1 / 4
الادب والفن


إغناء:
الرواية النفسية بتعريف تتفق معه الذرائعية : هي رواية تكون فيها الأحداث مسجّلة، على نحو ذاتي، في ذهن واحد أو أكثر من شخصياتها، تلعب فيها عمليات الوعي دورًا مشوّقًا يعدّل دور الأحداث الخارجية أو يفوقه أهمية. تُقدّم فيه الأحداث، لا وفق تسلسلها الزمني، لكن كما تتداعى في ذهن البطل أو غيره من شخصيات الرواية، أي وفق تداعي تيار الوعي.
السيرة الأدبية للكاتبة :
هناء عبيد
من مواليد القدس
عشت طفولتي في الأردن
أحمل شهادة بكالوريوس الهندسة المدنية من الجامعة الأردنية
أعيش حاليًّا في شيكاغو-أمريكا
أكتب المقالات والقصص والروايات الأدبية.
صدر لي ثلاث روايات عن دار فضاءات للنشر والتوزيع بالأردن
الرواية الأولى هناك في شيكاغو صدرت عام 2020.
الرواية الثانية منارة الموت عام 2022
الرواية الثالثة ثرثرة في مقهى إيفانستون عام 2023
كما لي أيضًا مجموعة قصصية، مقالات متنوعة، مقالات في نقد الرواية، ويوميات في شيكاغو وجميعها قيد النشر.
أكتب المقالات والقصص والنثر في العديد من المواقع الألكترونية والصحف الورقية.
أشارك في العديد من الندوات الثقافية.
تم استضافتي في العديد من الندوات الثقافية.
تم اختياري عدة مرات للتحكيم في بعض الأعمال الأدبية.
أنشأت قناتين تطوعيتين على منصة اليوتيوب؛ أنشر من خلالهما مواد ثقافية وأدبية إضافة إلى الرحلات.

البؤرة الفكرية :
إن توظيف :
تقنية الموضوع أو الثيمة Theme:
تتيح للكاتب وللناقد الوقوف على نوع العمل الروائي بالإحالة إلى الثيمة الساندة.
والرواية التي بين أيدينا والمعنونة ب ( ثرثرة في مقهى إيفانستون) هي رواية نفسية بثيمتها الرئيسية، حيث تلعب الكاتبة في منطقة ما وراء الوعي أو شبه الوعي، ومنطقة اللاوعي أو العقل الباطن.
ولتوضيح ذلك علينا أن نعرف أن ماوراء الوعي : هو "هذه المنطقة التي تُعدُّ مستودعًا للتجارب العقلية التي لا يشعر بها الإنسان في وقت ما، ولكنها صالحة للاستدعاء إلى منطقة الوعي بالوسائل العادية" . فبعض تجارب الماضي القريب والبعيد هي مخزن الأفكار التي تحدّد توجهات الإنسان المستقبلية، ومن الممكن أن تحضر إلى ذهن الشخص ( إلى وعيه) عند الحاجة إليها، وتطفو على سطح الوعي وتحدد توجهاته وردود أفعاله في مختلف مواقف الحياة.
أما اللاوعي: فهو العقل الباطن، وهذه المنطقة تشبه منطقة الوعي من حيث أنها تدّخر بعض التجارب العقلية، وتخالفها من ناحية أن هذه التجارب المدّخرة التي انحدرت إلى اللاشعور أو العقل الباطن كانت تجارب مؤلمة، "معظمها رغبات لم تتحقق، أو مخاوف هزّت كيان النفس، أو آمال لم يسمح لها نظام المجتمع، وقيود الحياة الاجتماعية بالتحقق" ، فلما لم تجد تلك الرغبات والآمال مجالًا إلى التحقّق انحدرت إلى اللاوعي كمكبوتات تظهر بشكل أحلام واضطرابات وعقد نفسية.
أمّا الوعي: فهو منطقة الشعور والإدراك، وهو موطن الأفكار والتجارب العقلية التي يشعر بها الإنسان في حالة اليقظة، كما يمكن القول أن منطقة الشعور هي الأحداث والمواقف والتجارب حالة وقوعها وشعورنا بها في تلك اللحظة، أي تجاوبنا وتفاعلنا مع متغيرات الحياة التي قد تسرّنا أو تؤلمنا.
وتوضيح هذه الثيمة سيبدو جليًّا مع دراستنا للمتن الروائي بمستوياته الديناميكية والنفسية.
هذا عن ثيمة النص الرئيسة، والذي يتشارك مع ثيمة أخرى لا تقلّ عنها أهمية، بل هي الثيمة المحفزة التي أدّت إلى تشكّل الثيمة النفسية، ألا وهي ثيمة الظلم والطغيان الذي وقع على الشعب الفلسطيني منذ ما قبل النكبة، ثم النكبة وما تبعها من تقتيل وتشريد وتغريبات ولجوء واستيلاء على الأرض وانتهاك للعرض، دونما وازع من ضمير أو وجود لعدالة دولية، وعلى امتداد عقود من الزمن إلى وقتنا هذا، لتصبح الغربة قدرَ، ليس الفلسطيني فقط، وإنما السوري واللبناني والعراقي واليمني والليبي وسائر الشعوب العربية التي فتكت بها نيران الحروب، وتأجّج فيها سعير الطغيان، ولفظتهم أوطانهم خارج أحضانها مرغمة، نحو غربة الأجساد والأرواح، فوجدوا أنفسهم في خضمّ صراعات نفسية وشعورية وفكرية لا قدرة لهم على احتمالها، ولا يدَ لهم فيها، صحيح أن الصراع بين الخير والشر والحق والباطل قائم إلى قيام الساعة، ولكن صراعاتهم النفسية أقوى من أن تحتملها أرواحهم المثقلة بالحنين إلى حضن الوطن، مهما جالوا وصالوا في أركان الأرض، ومهما تغرّبوا في بلدان النعيم وجناتها، فهم يشقون بذاك الانتماء إلى موطن الجذور الذي يغوص بهم إلى زوايا معتمة جدًّا وموغلة في دواخلهم، تؤرق نومهم، وتشقي نفوسهم الباحثة أبدًا عن عدالة بلعتها الأرض بكل ما جادت به أحكام ناسها وقوانينهم الوضعية:
كيف سينسى الفلسطيني جذوره المتغلغلة في وجدانه؟! إنها قطعة من جسده، وإن لم ترها العين، لا يمكن بترها، هي جزء يسكن بين ضلوع القلب، مهما حاولوا اقتلاعها، ستبقى قوية ثابتة منغرزة في روحه، تعجز كل خناجر الأرض عن استئصالها من نفسه. الجذور تتعمق من خلال الحكايات التي لا تُسكِت ألسن جدّاتنا .
فقط تبقّى الظلم ماثلًا في الذاكرة بوحشية ذئب يستعرض أنيابه بعد أن أنهى افتراس الضعفاء والقرابين من الآباء والأجداد والأصول، يتوعّد أبناء الفجيعة بولائم جديدة من المرجّح أنها من وَلَد أؤلئك التلد، فكيف لا تتلوّى حيّاتُ الندم والخيبة والخوف في أجوافهم الخاوية، أمراضًا من أشكالٍ شتى تقصف العمر أو تحيي فيهم مقاومة الظلم حتى الرمق الأخير.
كم نتشابه أنا وخالد في البؤس والظلم والغربة والتشرّد والحب المؤجل، .... شريط الذكريات لا يتوقّف عن صعقي بالألم، كأنني أحتاج إلى جلد أعمق من جلد الغربة، أتوه من مكاني، أجدني أسير الذاكرة المفقودة، كأن عمري توقف حين برح منبع الحب والذكريات والطفولة الشقية.... ص 84
أما عن الاستراتيجية الإبداعية للكاتبة، فإنها، ومن خلال أعمال سابقة لها، كان لي نصيبًا في الاطلاع عليها، فإنها تحمل قضيتها في كل كيانها، وتبني هويتها الفلسطينية في قلب شيكاغو وكل ما يجاورها، كما أنها تتحيّز للقضايا الإنسانية، وتقاوم الظلم وتنتصر للمستضعفين من بني البشر في كل أعمالها.
تقنية هيكليّة البناء السردي :Structure
اعتمدت الكاتبة أسلوب النسج والحَبك أكثر من البناء، رغم أنها أسّست تأسيسًا بنائيًا، لكن بعدها بدأت بعرض الأحداث بطريقة الحبك، الذي تبرع به النساء عادة، فابتداءً من :
العنوان: ( ثرثرة في مقهى إيفانستون )
نجده عنوانًا يحمل دلالة مكانية( مقهى إيفانستون)، ويحيل إلى فعل ترفيهي ( ثرثرة) في مكان ترفيهي( مقهى)، غربي ( ايفانستون)، تؤسّس فيه الكاتبة لديباجة المتن، من غير كشفٍ لِثيمات ومضامين العمل، عنوان له فعله السحري أيضًا في التأسيس لعنصر التشويق، وهو العنصر الأهم من عناصر بناء الحدث السردي، عبر توظيف:
تقنية التشويق Suspense:
حتى الإهداء، جاء خاليًا من أية إشارة باتجاه المضمون، عبارة عن إهداء محبة إلى العائلة والأهل والأصدقاء والمحبين، وكأننا مقبلين على قراءة عمل لا يشي بالعمق القضوي الذي تتبناه الكاتبة فعليًّا في هذا العمل، ويمكنني أن أعزو ذلك أيضًا إلى طريقتها في نسج خيوط التشويق ضمن النسيج السردي.
ثم يأتي الفصل الأول، وهو فصل تبتدئ به المتن المكوّن من عشرة فصول، وكل فصل مؤلّف من عدّة مشاهد معنوَنة بالحدث الرئيس فيها، فصل الاستهلال بعنوان ( فنجان قهوة)، أول مدلول يمكن أن تطرحه دلالة العنوان، وفيه تسارع الكاتبة إلى إخراج شخصياتها الرئيسة إلى مسرح الحدث:
من بين المارين على الأرصفة، لمحتها تجلس حول الطاولة المستديرة، الكرسي الفارغ الذي أمامها ما زال ينتظرني، تنظر إلى الساعة بقلق، اقتربتُ منها بحذر حتى لا تجفل...
تقنية الزمكانية Setting:
إن الزمن في الرواية النفسية ينشطر متشظيًا إلى زمنين: داخلي نفسي، وخارجي واقعي، حتى الأحداث الخارجية لا يتم سردها وفق تسلسلها الزمني الحقيقي، بل وفق تداعياتها في ذهن الشخصية التي تتولى مهمة الروي، فيكون هناك قفزات فوضوية على الخط الزمني Timeline، فنشهد انتقالات كثيرة بين الحاضر والماضي بتقنيات الاسترجاع Flashback والذكريات Memories، وأحيانًا نحو المستقبل
للمكان: في هذه الرواية دور مميز بخصوصية الرصد السلوكي على مقياس الحميمية، فهناك أماكن شديدة الحميمية تعكس أثرها الإيجابي على سلوك الشخصيات، منها مثلًا عمّان والخليل، ثم شواطئ بحيرة ميشيغان، ثم مقهى ايفانستون، بيت نانسي ، شيكاغو، ديترويت، النرويج.
.... تحدثني عن الخليل وعنبها وعشبها وكرومها ومطرها الذي ينثر رذاذه بحب على أشجارها، تحدثني عن كل حجر في البيوت القديمة، تحدّثني عن الحارات والأزقة، فأجدني أمارس لعبة السبع أحجار، والجلول والغزة... انحفرت الخليل في قلبها كوشم أبدي... ص 80
إضافة إلى:
تقنية التصوير اللغوي:Imagery
مشهدية مشبعة بالتوتر والقلق والغربة، كاشفة، وبشكل مباشر وفجائي عن ثيمة الغربة التي سترافقنا إلى نهاية الأحداث، وكأن الكاتبة خشيت من تراخي القارئ فبادرت منذ الاستهلال إلى إعادة شدّ حبل التشويق واجتذاب نظر القارئ وإثارة اهتمامه، بالصيغة التالية :
لم أتخيّل أن يبدأ يومي بجنونها، كل ما في الأمر أنني ذهبت إلى لقائها، علني أنفض بعض عوالق توتري وغربتي وتيهي، اعتقدت أنني سأهنأ بشرب فنجان القهوة في المقهى الذي نرتاده أسبوعيًّا في إيفانستون، إحدى ضواحي شيكاغو، تخذلني صديقتي وتوأمي سارة بحكاياتها الغريبة أحيانًا، تخيّب ظني، تضعني في حيرة وهي تسرد لي أحداث أيامها التي لا تجد قبولًا في ذهني.....
تقنية الحالة المزاجية :Mood
الحالة المزاجية أو الجو العاطفي أو الحالة العاطفية التي يخلفها الوضع النفسي داخل المكان.
حكاياتنا متشابهة، مع اختلاف الأمكنة، غزة تبكي يد البطش والاحتلال المقيت الذي سلب الناس حياتهم وأرضهم وأمانهم وقوتهم، ووطني يبكي لصوصًا تقاسموا خيراته بينهم وشردوا شعبًا بأكمله تفرّق بين دول العالم، تائهًا ضائعًا، مقصوص الجناحين، مبتور الجذور. .. ص 90
تقنية الحبكة :Plot
سأستعين قليلًا بالجانب التعريفي الذي أوردته الكاتبة في مقال صحفي عن الرواية :
تدور أحداث الرواية حول شابة فلسطينية تدعى سيرين، تهاجر إلى أمريكا من أجل إيجاد فرصة عمل، تهاجر معها صديقتها سارة التي تطلق عليها لقب توأمها، تعمل سيرين عند سيدة أمريكية تدعى ( نانسي) تعمل مع منظمات معنية بحقوق الإنسان، وهي مريضة وتقوم سيرين بالعناية بها مقابل أجر، أما صديقتها سارة فقد تزوجت من(رمزي)، الذي أساء معاملتها كما فعل زوج أمها، الذي يشكل مكافئ رمزي وموضوعي للعدوالصهيوني في احتلال فلسطين ( الأم). تلتقي الصديقتان أسبوعيًّا في مقهى إيفانستون، حيث يحتسيان القهوة المرة والحلوة وتثرثران، تشتكي سارة من زوجها وتخبر سرين أنها تريد التخلص منه، لكن سيرين لا تأخذ كلامها على محمل الجد، فهي تعرف أن معدنها طيب منذ أن عرفتها في المدرسة، في آخر لقاء لها مع سيرين تخبرها بأنها قتلت زوجها ( رمزي)، ثم تختفي وتتواصل معها من خلال الإيميلات التي طلبت فيها من سيرين أن تكتب رواية عنها وعن جريمة قتلها لزوجها، تزّودها بأحداثها عبر إيميلات متتابعة، ثم فجأة تتوقف سارة عن إرسال الإيميلات، تتعرف سيرين على فاطمة، الشابة الفلسطينية التي تعمل في مجال النشاط الثقافي والندوات الأدبية والتراثية المعنية بالتراث الفلسطيني، وتخبرها بأنها تكتب رواية، وتندم بعدها لأنها تعتبر إفشاء سر الرواية خيانة لصديقتها سارة، وبذات الوقت هي خائفة من أن تتهم بأنها تتستر على جريمة، يظهر ليث حبيب سيرين منذ الطفولة التي قضياها معًا كلاجئين في الأردن، بعد انقطاع المراسلات بينه وبين سيرين لفترة طويلة تضع سيرين في حيرة من أمره، الشاب الذي تقول أنه من بلاد النخيل دون أن تفصح عن هويته، والذي هاجر إلى النرويج لإكمال دراسته، وبعدها تتصاعد الأحداث مع تصاعد خوف سيرين وغرابة تصرفاتها التي تطفو على سطح الواقع، بحيث بدت واضحة للعيان سيما عيان فاطمة، التي تصرّ من باب المساعدة على النفاذ إلى أغوار سيرين فيما يختص بموضوع الرواية وموضوع سارة.... وأترك للقرّاء متعة المتابعة.
تقنية الرمز التقني Allegory:
والنص الأدبي، بما يتمتع به من إمكانية تجاوز للقوانين والنظريات وحتى المعقوليات، يتيح للكاتب السفر في خيال الشخصيات مستخدمًا العديد من التقنيات الرمزية التي تحتمل التأويل وطرح مدلولات لا نهائية يحصرها الكاتب في إطار المفهوم، أو يترك أمر إيقاف مراوغتها للقارئ نفسه، على حسب ثقافته وفهمه ومعرفته، متجاوزًا بذلك المحلية، منطلقًا نحو عمومية التجارب الإنسانية والأدبية عبر الحقب المختلفة، تتكرر في مكانية مختلفة هنا وهناك، باختلافات المجتمعات والأعراف السائدة وتغيرات العصر والتطور التكنولوجي:
تخيّلت المشهد تمامًا كما سردته لي بالتفصيل: " تمسك سارة الحجر، تندفع نحو زوجها رمزي بجنون، تضرب به رأسه وتشجّه بينما كان يجلس على المقعد في غرفة الطعام".
فالحجر رمز تقني، تبعًا لأنواعه اللا متناهية يحتمل بالتأويل مدلولات لا نهائية، ومجاورته لفعل الضرب والشج، يمكن أن يأخذنا إلى ثورة أطفال الحجارة، ولكن الكاتبة، مستفيدة من إمكانية التجاوز ومساحة الخيال جعلت الحجر أداة جريمة، قالبةً الطاولة في وجه الاحتمالات المرجأة الإيجابية، مظهرة لنا الوجه السلبي لذات الدلالة، ثم تعود لنفي ذلك، متعللة بالخيال أيضًا:
" كيف سأضرب رأسه بالحجر ؟! هل تصدّقين كل ما أقوله لك؟! صدّقيني خيالي أوسع بكثير من شروعي بالتنفيذ".
المواضيع التي تناولتها الرواية :
بالإضافة إلى الثيمات الأساسية في الرواية، كانت هناك مواضيع أخرى متوافقة مع الثيمتين الأساسيتين، منها مثلًا الحديث عن كفاح الشعب الفلسطيني في غزة المنكوبة بغارات الاحتلال على مرّ الزمن ابتداء من النكبة وإلى الآن، لفتني فصل معنون ب ( خالد؛ العشق الجميل)، يتحدث فيه الشاب الغزاوي خالد عن غزو سابق للاحتلال الصهيوني لغزة، وكأن الكاتبة تصف ما حدث في 7 أكتوبر وما يزال يحدث إلى الآن، ولولا أن أحداث الحياة مكرورة، وخصوصًا في غزة المنكوبة بغارات الاحتلال الصهيوني، لقلنا أن هذا استشراف لما يحصل الآن:
الغارات استهدفت أماكن مدنية كما تفعل دائمًا، بحجة أن هناك أماكن تشكّل خطرًا على الاحتلال، بينما الحقيقة هو التصميم على قتل هذا الشعب، وسحق بنيته التحتية.... لا يعلمون أننا تربيناعلى مقاومة الشر، ... لا يعلمون أن طفلنا الرضيع، يرضع مع حليبه العزة والكبرياء والعزيمة التي لا تزحزحه عنها أيه قوة.... ص85-86
تحدثت الرواية عن الآخر، الآخر النفسي، التوأم الذي نما وترعرع في غفلة من الواقع المادي، إلا أنه كان صنيعة هذا الواقع، الكابوس كان بداية تخلّقه، وتكراره كان مراحل تطوره ونمائه، حتى وُلِد في مخيلة الأول توأمًا مختلفًا تمامًا عنه بالطباع، ومختلطًا معه بالظروف، يقاسمه حياته وأنفاسه، بتوظيف :
تقنية تيار الوعي Stream of consciousness:
هي خوض في أذهان الشخصيات وتقديم مونولوج مستمر لما يحدث في رؤوسهم، بطريقة تمكّن القارئ من تتبع الحالة العقلية السائلة لهذه الشخصيات. فاللغة هي أساس اللاوعي من حيث كونها المجال التنظيمي الأول عند الإنسان، وباكتساب الإنسان لملكة اللغة يقوم بتقنين وضبط طاقاته الغريزية وإكسابها نوعًا من التقنين داخل نظام رمزي سابق لا يمكن الإفلات منه ، فتحدد شبكة الصور والأحلام والتصورات والرغبات وتتفاعل بما يتيحه النظام اللغوي .
استطاعت الكاتبة خلق العقدة النفسية التي انطلقت منها الحبكتان: النفسية والدرامية في هذا العمل الروائي، على الشكل التالي:
تيار وعي بدأ بأمنية ثم تحوّل إلى كابوس ( كابوس)، وهو مثار بعتبة واقعية على الشكل التالي:
العتبة الواقعية : إخبار سارة من قبل خالها بحقيقة وظروف موت والدها:
.... أما خالي فقد أخبرني بحقيقة ما حدث، قال : إن والدي حينما زار القدس اشترك في إحدى المظاهرات ضد الاحتلال ، تمّ إطلاق النار عليه واعتقاله وتفتيت عظامه، لم يستطع أن يفلت من براثن الموت، نزف كثيرًا إلى أن فارق الحياة ثم دُفن في القدس.
الأمنية:
كم تمنيت أن أحمل حجرًا لأدقّ به عظام هؤلاء الذين لا يتلقون عقابًا على جرمهم، ويحصلون على تأييد العالم لظلمهم وجبروتهم.
الكابوس:
الكابوس يتكرّر يوميًّا، كفن ملفوف بالعلم الفلسطيني والكوفية، أمي تلبس ثوبًا أسود، سيدان يبكين، جنود على الأرصفة تحمل بنادق، تدقّ بأعقابها من يحملون النعش، مشهد مميت يقلق نهاري ومضجعي.
العقدة النفسية :
بعد معرفتي بحادثة شهادة والدي في القدس، قابلت سارة في المدرسة، كأن القدر أرسلها لي لأفرغ ألمي،
الحبكة النفسية :
أصبحنا رفيقَتَي حزن وظلم وقهر وظروف متشابهة.
وبعدها تبدأ أحداث الرواية فنيًّا، بشخصيات فنية إضافة إلى الشخصية الاعتبارية ( سارة) التي تخلّقت ( آخرًا) في العقل الباطن ل ( سيرين)، كمنفذ دفاعي للتعبير عن تجربة شديدة الإيلام، ورغبة جامحة بالانتقام، تمّ كبتها، فشكّلا معًا ثنائية ( سيرين× سارة).
أما الآخر الواقعي، فيتمثّل بالمقابل في ثنائيات :
( سارة× ليث)، ( سارة× نانسي)، ( سارة× فاطمة)، ( ليث× خالد)، ( فاطمة× نانسي)، ( ليث× فاطمة)
ويمكننا اعتبار نانسي آخرًا نموذجيًّا، باعتبار الاختلاف الثقافي والبيئي والأيديولوجي والقومي.
وهذا يقودنا إلى الحديث عن تقنية غاية في الأهمية هي:
تقنية الرمزية: :Symbolism
إن لفظ رمزي عندما يستعمل مع لفظي خيالي وواقعي، فإنه في هذه الحالة يشير إلى ثالوث خاص بمتن التحليل النفسي، يتجاوز فيه الرمزي والخيالي والواقعي المعنى الوظيفي لكل منهم، فالرمز يصبح ذو شقين خيالي وواقعي، متداخلان، إذ يمكن للخيال أن يكون واقعيًّا إلى حدّ ما، كما يمكن للواقع أن يحمل صبغة خيال فهم الإنسان الذي لا يتحكم في ذاتيته، يوجد الخيالي في مكان الأنا ومكان موضوع الرغبة، ويوجد الرمزي بين الآخر والذات الغائبة عن البنية التركيبية، ومن ثمّ يتحدد الموقعان الخاصان بهاتين الهيئتين، فالرمزي هو النظام الذي يقيم الذات ضمن اللغة، أما الخيالي فهو ما يعكس الرغبة في الصورة التي تحملها الذات عن نفسها.
الآخر، في الفقرة التالية، يقيم الرمز بينه وبين الذات الغائبة، كما في حديث سارة ( الآخر) عن رمزية زوج الأم، أمام الذات الغائبة ( سيرين):
"الرجل الغريب- زوج أمي الوحش- كان دومًا يلبس بدلة عسكرية كاكية اللون، يحمل على ظهره بندقية، يضرب عظام يد أمي بعقبها أحيانًا، ويلقيها على الأرض. لم أمكث طويلًا عند هذا الرجل القاسي بعد موت أمي، لقد طردني من البيت، طردني من بيت أمي وأبي، بقي فيه هو وابنه.... ص 13
تتفق الذرائعية مع رأي لا كان:"في جهة الخيالي ثمة تنوّع في الموضوعات واختلافها وتعددها، هي التي تنشر الرغبة ضمن حياة ما، وفي جهة الرمزي ثمة وحدة الزمان وتحدده وتبنيه الاستعارية والمجازية للتعبير، وقيمة التصوير البلاغي في الكشف عن الوجود النفسي للوعي" ، كما هو واضح في المثال التالي، حيث لجأت الكاتبة إلى استخدام
تقنية اللغة المجازية Figurative language:
نوع الاستعارة/ الكناية Metaphor، و المجاز المرسل Synecdoche:
في حديث سارة عن زوج أمها الذي كان مكافئ رمزي وموضوعي عن العدو الصهيوني الذي تزوج أمها فلسطين، واستخدام رائع للتقنية :
في البداية كان جلده ناعمًا، لكن حينما تمكن من لمّ زمام الأمور، بدأت نواجذه الحادة بالظهور، عمل على ترميم بعض الجدران المتصدعة في البيت، أضاف بعض اللمسات الخفيفة من دهان وبلاط لبعض الأرضيات، أصلح جزءًا من السقف الذي أصابه العطب بسبب زخات المطر، بعد ذلك ادعى أنه مالك البيت، أما دليله وحجته فكانت الجدران التي قام بإصلاحها، وحاجاته التي ادعى أنها كانت في البيت قبل وجودنا فيه... ص 13
"قبل الخامسة من عمري، نعمت بطفولة فقيرة المورد، لكنها وفيرة وثرية بالدفء والحنان.... ص 14
فالأثر الأدبي والتحليل النفسي يتصلان لمسألة نسيج الدلالة .
تقنية وجهة النظر السردية Point-of-view:
الروي من وجهة نظر الشخص الثالث شخصية مشاركة في الرواية تروي بضمير المتكلم وعبر الطريقة التمثيلية التي أتاحت فيها الكاتبة لثلاث شخصيات مشاركة في الرواية ( سيرين- فاطمة- الليث ) بالحديث عن نفسها، وعن الشخصيات الأخرى، وباستكمال الروي حين تغيب تفاصيل وحيثيات الأحداث عن باقي الشخصيات.
استخدمت الكاتبة أيضًا أساليب وتقنيات سردية تكنولوجية هي تقنية الرسائل عبر المراسلات الالكترونية (الإيميلات ورسائل الماسنجر)، حيث نابت هذه التقنية في الروي عن الآخر النفسي.

على المستوى النفسي:
تقنية التناص الدلالي:
مما لا شك فيه أن أهمية اللغة ومدلولها النفسي في متن العمل الروائي سردًا وحوارًا ووصفًا أمرٌ من الأهمية بمكان، لكن تأويل النص دلاليًا والغوص في نفسية الشخصيات لا يبرئ الكاتب من زجّ جزء من شخصيته في إحدى الشخصيات أو في عدد من الشخصيات، بل قد يتجاوز الأمر إلى القارئ نفسه، إذ يرى القارئ نفسه أو بعضه في شخصيات العمل، فمن منّا لا يستثيره الغوص في شخصية قاتل؟! ومن منّا لا يستدعيه الفضول للوقوف على الدوافع النفسية والوجدانية التي تلقي به في أتون الجريمة، هنا نسمع صوت الكاتبة متخفيًا بصوت سيرين، تكشف جانبًا من شخصية الآخر، سارة:
.... كان علي أن أصفي ذهني كي أستطيع فهم ما تود قوله سارة، استعنت بخبرتي الذاتية التي اكتسبتها من قراءاتي المتعددة في علم النفس، أريد استيعاب ما يدور بخلدها، كيف يمكنها أن تقتل رمزي؟! لم تكن سيئة، كانت أحيانًا تشعر بالغيظ، وتظهر جانبًا قبيحًا من شخصيتها، لكن لم أتخيّل أن غيظها يمكن أن يحوّلها في يوم ما إلى مجرمة يمكنها إزهاق روح.... ص70
إن الرواية المعاصرة بالعموم هي رواية نفسية بامتياز، كونها منتج إجرائي منجز، بدأت عملية إنتاجه كرد فعل عقلي وشعوري من الأديب، مثار بمحفز استفزازي خارجي، فكل ما يصدر عن الأديب من منجزات إبداعية أدبية هي تمظهر لمعالجات فكرية وشعورية معقدة لتجارب مختزنة في دواخل الأديب، وظيفة الناقد الحصيف تتمحور حول الوقوف على هذه المعالجات، من جهة، وعلى امتلاك أدواته النقدية العلمية- والتي يشكل علم النفس فيها أداة رئيسية من ضمن علوم كثيرة محيطة بالأدب- التي تمكّنه من النفاذ إلى عمق النص الأدبي لتفسير بعض مظاهر الأدب وعناصره من الحقائق النفسية التي تتغلغل خيوطها في نسيج هذا البساط الأدبي، للحكم على جودته، وتقييمه، وتقويمه، وعليه، يتحتّم على الناقد أن أن يستعين بهذه الحقائق النفسية :" الشعور، ما وراء الشعور، اللاشعور، والاستعدادات النفسية والدوافع، الإدراك الحسي، التصوّر، التخيّل، تداعي المعاني، الحكم والتعليل والوجدان والانفعال والعاطفة "
وهذا ما ناقشناه في عجالة في هذه الدراسة الذرائعية المستقطعة على المستوى الفكري والمتحرك والنفسي.
#دعبيرخالديحيي الاسكندرية الأحد 31/ 12/ 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال