الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
قراءة في مجموعة - خمار دزديمونة - للقاص فاروق السامر
ناصرقوطي
2006 / 11 / 25قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
(( ظلال القهر وعزلة الكائن ))
قراءة في مجموعة " خمار دزديمونة " للقاص فاروق السامر
إن لحظة الشروع بالكتابة عن قاص متفرد كفاروق السامر ، تقتضي بالضرورة التسلح بعدة معرفية قائمة على الإحاطة بالتكهنات السيكولوجية ، وتحليل المثبطات العديدة التي تفضي بشخوص قصصه نحو عزلتهم التي غالبا ماتغدو مطلبا ملحا لهم ، وهم يسعون وبكل الوسائل التي يملكون للدفاع عن تلك العزلة التي لا تتحقق ، إنما تتفاقم عليهم الضغوط من كل مكان ويرمون خارج دائرة الطمأنينة . فهم قلقون ، محاصرون من قوى قاهره خفية وغالبا مايفاجأون ــ في خضم بناء فراد يسهم ــ بمن يهد م ورائهم ، وهم يذكرونا بذلك الكائن الغامض في قصة "الجحر" لفرانتز كافكا ، وهو يبني دهاليزه وممراته السرية العديدة ليموه كل قادم إليه . فالكتابة عن هكذا قاص تجعلك تركن القلم جانبا وتتخذ من الأزميل ــ بصلادة معدنه ــ عونا لك ، لتطرق به عزلة شخوصه وقساوة العالم الذي يكتنفهم . كما تقودك ــ النصوص ــ لأشد الأماكن وحشة وتصدمك بعتمة صورها اللاانسانية ، حتى إذا حاولت استشراف نهاية ما لأحد أبطال قصصه فلن ترى إلا محض حرائق يتصاعد منها دخان العزلة ورماد الإقصاء والتغريب ، فهل ثمة اتفاق مسبق بين شخوص القصص والنوازع المقموعة في الذات اللاواعية للكاتب ..!؟ إذا اعتبرنا الكتابة نوع من تفريغ شحنات كهربية تنفلت دون قصد من وطيس الذهن لتصبح بعد ذلك نصا خارج التداول من قبل الذات المنتجة . هذا السؤال وغيره ستجيب عنه المتون التي نحن بصدد تناولها 0 في قصة "الغناء في الهواء الطلق" وهو أول نص قصصي تبتدئ به المجموعة ومن الاستهلال تتضح لنا بوادر العزلة ( ليس هناك أي أثر أو علامة تنبئ بوجود بوابة في هذا الطوق ألسياجي المشتبك الذي يدور دورة عريضة واسعة ) ص7 ويستمر الراوي واصفا عزلة المكان والبوابة الوهمية التي تقوم عليها عارضة حديدية لاتسمح إلا بعبور بعض الناقلات حتى يشعرنا الراوي بضآلة البطل وضعفه إزاء عارضة الحديد وجسدها الناصع . ( يدقق الحارس أويحدق في وجهي ذي الذقن النابتة تحديقا طويلا شكاكا وأنا أروم عبور العارضة الأليفة .. أمرر جسدي الذي وهن الآن كثيرا من تحت جسدها الناصع دون أن يحتك بظهري ) ص10 ويستمر السرد حتى يوهمنا بأنه إزاء جدار عال يمنعه عن الرؤية ويقصيه عن العالم لتقف العارضة الحديدية حائلا بين الذات المتطلعة لما تصبو إليه وعزلتها التي تغدو مأربا ..( أنظر حالماً منذهلاً نحو العارضة التي طالما سدت علينا الطريق دونما وجع في القلب ، أنظر نحوها للمرة الأخيرة ... عصر يوم أصفر ينضح كآبة ومرارة ومخاوف وارتعاشات ، حتى تتسرب في قاع ذاكرتي إلى الأبد ) ص13 في ( أنظر إليها أخيرا ) كأنه يودع معشوقته من كثرة التلاحم معها حتى يكون لها معنى مجازيا في سطور أخرى ( فيضغط هو ــ الحارس ــ على تلك العتلة الملتحمة بالصندوق والتي طالما ضغطت على قلبي وعقلي مراراً ... طوال تلك الأيام أو الشهور أو السنين التي لانعرف مداها حتى هذه اللحظة ) ص14 لتـنتهي القصة وهو يشيع الحارس بنظرات حزينة ، ليتركنا سابحين في خضم عراء موحش وإقصاء آخر يتعرض له الحارس ، وكأن الراوي أراد أن يخبرنا عن عزلة الوجود من خلال هذا الدوران في المكان . الخروج والدخول من العارضة ليفاقم إحساسنا بالفراغ والعراء المترامي الذي يحكم المكان . في قصة " الحائط " يرسم لنا القاص عزلة فتاتين بين جدران إحدى غرف القسم الداخلي للطالبات ،إحدى الفتاتين تستلقي على السرير وتطالع كتابا والأخرى تقف عند النافذة ( كانت فتاة النافذة .... تواجه أمامها في العصر الأصفر البارد ، حائطا عاليا شاحب اللون ، يمتد عموديا وأفقيا ، بحيث يحجب عنها رؤية السماء الغائمة من فوق ) ص20 ثمة صليب يشطب المسافات ويلغي الحدود ، فالحائط بارتفاعه وشحوبه يبني عزلة للقهر والرغبات المكبوتة اللامتحققةويستمر الراوي ليخبرنا بأن الفتاة التي تقف عند النافذة بدأت بتحطيم البيض على الجدار ( ثلاثون بيضة داكنة توازي عمر الفتاة التي تقف وراء النافذة ) ص32 لينتقل بعد ذلك ويرسم لنا بفرشاة فنان وبمنتهى الدقة وهو يصف الفتاة التي تقرأ على السرير . ( وسحبت بحركة لاشعورية قدمها الصغيرة الناعمة الشبيهة بأ قدام الملكات فوق الملاءة المشجرة ، فصنعت دون دراية منها من سا قها المرمرية وفخذها الذي انحسر عنه الثوب ، مثلثا هرميا تتهافت عند قاعدته ، ثنايا الملاءة الزاهية ، بفعل تلك الحركة المفاجئة ، وعاودت القراءة من جديد وهي تبتسم وتردد برعشة خفيفة من الخوف : لقد بدأت عملية التحطيم ) ص23 وبانتقالة أخرى يحيلنا الراوي إلى منزل الفتاة وهي تقف أمام النافذة تتطلع إلى روعة المكان خارج الغرفة ، من الأشجار المغروسة في الحديقة وجمال أنساقها وألوان ورودها ، حتى يفاجئنا بعزوف الفتاة عن رؤية كل مايحيط حولها وكأنها مشدودة إلى حدث ما قد هزها هزة عنيفة وألغى بصيرتها فيقول ( الفتاة الواقفة عند النافذة الشفافة لا تميز شيئا من كل ذلك ، لاتميز سوى العتمة الخفيفة التي بدأت تهبط الآن على الكتف الرخو للغروب الرمادي الشاحب ، فتزيد دموعها انهيارا فوق انهيار ، وأحزانها شلالا فوق شلال ، كانت تبدو ذاهلة ، خرساء ، مفجوعة ، وهي تقبض بأصابع طويلة مرتعشة ، لصق فخذها المستدير عبر تنورتها السوداء ، بورقة مدعوكة دعكا مريرا ويا ئسا وتردد في الوقت ذاته بمرارة " لقد غادر هو الآخر " ) ولم يخبرنا الراوي من الذي غادر .. هل هو الحلم ... الأمل .. الأخ .. شريك حياتها .. حبيبها وهو الأقرب إلى التوقع . فهو يوحي لنا بتلميحات عابرة ويوقفنا أمام حدث جلل ويرفع إصبعا ليشير نحونا ..! ترى من الذي غادر وأفضى بالفتاة نحو عزلتها الخانقة من خلال وقوفها أمام النافذة ، والورقة المدعوكة في يدها ــ هل ثمة رسالة للمتلقي ــ وإدانة لعلاقات اجتماعية تراهن على إقصاء الذات الأخرى وتمارس تابواتها وتكشف عري المصادرة، لتنتهي القصة بنداء جدتها فيما الحقيبة الجلدية مهيأة ( سوزان ! هل انتهيت ؟) فأجابت الفتاة بصوت بطيء ميت مخنوق ( نعم ، انتهيت ) فالحقيبة المهيأة إيذانا لرحيل قريب وكسر لطوق عزلة الفتاة التي ضربت حولها لأسباب تبقى غامضة و... ثمة أمل لكسر طوق تلك العزلة . في قصة "غضب النارنج " يحاول رجل غريب أن يبتاع له بيتا يقيم فيه ( وهو يراقب من خلف الزجاج الصقيل لعزلته الفريدة المطوقة بسكاكين اللهب اللاصفة ، جريان نهر الدقائق والساعات الرتيب ... وهو يبحث عن منزل ينعزل في أحد الأركان أو زاوية من الزوايا ) ص 34 وبعد معاناة طويلة يحصل عليه ويقوم بتحويل أرض متروكة قريبة من بيته إلى حديقة (صباح كل يوم ، يتلهى الرجل الغريب ذو السحنة الهادئة ، والأعماق المضطربة ، برش الشجيرات الفتية ) ص 33 .. كما لم ينسى الرجل الغريب شراء عزلته مع الشجيرات الصغيرة التي يبتاعها بثمن زهيد ( فقد اشترى منذ مدة طويلة ، عزلته وهدوءه لقاء عطب ووشم لايزولان ) ص 35 ويخبرنا الراوي إن لبطل القصة نزوع دفين لأن يحرق أوراقه القديمة ، ويلقي بها إلى النار عله يبدأ بداية جديدة تنسيه ماضيه المر وهو يدافع عن عزلته التي اخترقت من أفواج العصافير، التي تتلف الورود حتى إذا ما غرس فزاعة لطردها يسوء حال حديقته من يوم إلى يوم ، ليكتشف بان الجراد قد أتلف كل شيء وتنتهي القصة باستسلام البطل وفشله في الحفاظ على عزلته ( فعرف على الفور بأن موجات الجراد قد وصلت البيت المنعزل ) ص39 في قصة " الطبول " يشعرنا الراوي بعزلة الوجود من خلال عزلة الأشياء ، فالأحداث تدور في قاعة امتحانات حيث الترقب والقلق الذي ينطبع على وجوه المراقبين والطلبة الذين يخشون الفشل ومن خلال هذا التوتر والصمت تُسمع صرخة ــ تتردد كإيقاع الطبول ــ تطلقها امرأة لتعلن عن موت زوجها وهو أب لأحد الطلاب الممتحنين ، فيعرف الطالب بالأمر ويقوم بتسليم دفتره والخروج من القاعة خائبا ، فالمروحة التي كانت تدور قد توقفت ، والفاختتان اللتان دهستهما إحدى السيارات في الطريق المؤدي إلى المدرسة تحيا في ذهن المراقب وهو يراها في حلم يقظته وهي تتقافز ، حية ، نابضة ومقاعد الدراسة التي تركت ( وبدأ الطلاب يخرجون وهم يعرضون هوياتهم على المراقبين ، تاركين رحلاتهم تترمل بالتدريج وتبقى وحيدة ، عارية ، ساكنة ، معزولة ، ... إلخ ) ص 56 الشخصية المحورية في قصة " الوهم " شخصية مشوشة الذهن مرتبكة نتيجة لحادث اختطاف قد تعرضت له الزوجة الأولى كما يخبرنا الراوي ( ورغم مرور زمن طويل على حادث الاختطاف وأسلوب التنكيل المروع الذي تعرضت له ... منذ ذلك الحين يحدث نفسه بطريقة التهوين والمواساة ) ص 62 ويحدث ان يرتبط ثانية بزوجة جميلة تلد له ثلاث بنات وولدين ، ويصف لنا الراوي جمالها الفريد و خوف الزوج عليها ثم ينتقل بنا إلى السوق لتبضع الفواكه والخضار وأشياء أخر ، خلال ذلك يشك بمن يلاحقه ويضمر له شراً ليشركنا الراوي على طول الصفحات بهذا اللهاث والإيهام بان رجلا على دراجة حمراء يسعى خلفه وتبدأ المطاردة حتى تتوالد وتفقس صورة الرعب بعيني البطل وهو يرى عشرات الدراجات تسعى وراءه ، وحين يصل قرب مركز الشرطة يخف وجيب قلبه ولكنه سرعان مايرى شرطيا يبتسم له فيشك فيه ويلوذ بالفرار قاصدا بيته ، عزلته التي تشعره بالأمان حتى يراه مصادفة أحد أقربائه فيحاول إيقافه لكنه يرفض ، ويتذمر حتى لحظة وصوله إلى البيت ليخرج مسدسه فيما ( تتبعه زوجته وبناته ، صارخات ، مذعورات ) 76 أما " الرسم على ظهور النساء " هذه القصة الرائعة التي حازت على إحدى الجوائز الخمس في مسابقة اليوم السابع للقصة القصيرة عام 1990م تتجلى لنا براعة الكاتب من خلال تنقلات كامرته السريعة وهو يصور لنا الأجزاء المبتورة والناقصة من العالم الذي يضج به السوق ، بدءا بشخوص القصة وانتهاء بالموجودات الجامدة من خلال انعكاس الصور على سطح المرآة التي يحملها الحمال ( توقف الحمال بمرآته ... عند أحد الدكاكين .. فارتسمت في باطنها هذه المرة ، صورة مجسمة لرجل ضخم الجثة أبهق الوجه ) ص80 ثم يصف لنا الراوي الرجل الجالس في المحل وهو حبيس وحدته القاسية ومعاناته من ساقه الاصطناعية وفشل كل محاولات زواجه نتيجة هذه العاهة المستديمة التي دفعته إلى ممارسة غريبة للانتقام من كل النساء اللاتي يتبضعن من دكانه بعد كل ممارسة جسدية يقوم بها فهو ( يدرك فخامة النصر حين يتحسس قلم أحمر الشفاه السحري الذي يخبئه في جيبه ، فيلجأ في حميا لقاءاته الخاطفة ... تطويع موهبتي الخط والرسم القديمتين لديه ، فيكتب ويرسم على ظهورهن العارية الصافية مايشاء ) ص86 وحين ينهي آخر جولة مع أحدى النساء تاركا طلاسمه وخطوطه الكثيرة على جسدها ، يزيح ستارة المحل ليرى ( الأبهق المستوحش مازال جالسا في قفص عزلته ) ص94 وبعد أن تأخذ المرأة مقتنياتها وهي تبتسم ( كان هو قد أتخذ قرارا لارجعة فيه ، إذ أحس بأنه مقاد نحو درب مسدودة وشعور بالانحطاط والهزيمة يترسب في أعماق روحه ... تضايقه أفكاره السود ، وتقرفه السماء المحملة فوقه بالغيوم الرمادية الداكنة ) ص 94 وهكذا يقصي الراوي شخوصه ويدفعهم صوب عزلتهم وما تمور به نفوسهم من جراح غائرة ونكوصات قد فرضها عليهم الزمن والواقع المعيش 0 لاتختلف قصة " الطيور السجينة " عن أغلب القصص فهي تتخذ من العزلة ثيمتها الرئيسية فالرجل الغريب الوافد إلى المدينة يبحث عن عمل يناسب روحة المحطمة ( ينقب في الوقت ذاته عن ركن منعزل بعيد نسبيا عن قلب المدينة والأقدام الراكضة فيها ) ص 100فيعثر بالمصادفة على محل لبيع البلابل وطيور الزينة فيقوم باستئجاره وسرعان مايتطور عمله وهو يكاد يطير من الفرح ثم تبدأ المنغصات تخنقه بدأ من أسئلة المختار أو بعض الحاقدين وهم يرونه يتقدم بعمله حتى يفاجأ ذات يوم بمن أضرم النار في المحل لتموت جراء ذلك بعض طيوره ( وذهب يطوف على غير هدى في الشوارع وفوق الأرصفة المديدة القريبة من النهر لايعرف مايفعل , ثم اقتعد إحدى المساطب الخشبية في حديقة مهجورة ، وحيدا ، جريحا ، معزولا ) ص106 ثم يرجع إلى محله لينقل ماتبقى من الأقفاص والطيور إلى منزله ويقوم بترتيب الأقفاص الصغيرة داخل القفص الكبير ويحاول أن يهدئ من روع الطيور الفزعة التي راحت تتقاتل بينها وتدمي وتقتل بعضها البعض فيقدم ــ في لحظة حرجة ــ على تحريرها ويهشم السيور الخشبية ( وقد رآها رغم حزنه الذي كان يعتصره بشدة وهي تصعد نحو الأعالي كغيمة من غيوم الخريف الداكنة تركض فوق حدبات السماء المكفهرة متجهة نحو غبار الجنوب ، فامتلأ حبورا وسعادة ، إذ أدرك في قرارته بأن موسم الأمطار سوف يدق الأبواب بعد فترة وجيزة ويطرد وحشة روحه وخوائها العظيمين . ) ص 113 " نبوءة الجبل الأسود " هذه القصة بجملها الخبرية الطويلة والتي هي أقرب لجملة الرواية منها إلى القصة القصيرة لما تتمتع به من وصف طويل للمكان والأشياء ( ماأن وطئت قدماه أرض هذه المدينة الغريبة موفدا من قبل صحيفته ذائعة الصيت ، حتى وجد نفسه مبهورا وواقعا تحت تأثير عبودية الجبل وسطوة سحره الذي لايقاوم . ) ص 117 ويستمر بوصف المدينة وجبلها الأسود ويحاول البطل أن يجمع المعلومات عن سر الجبل ونشأته فيجمع الكثير من الملاحظات التي يؤولها الناس ، ويبدأ بارتياد الأماكن المهملة ويظل البطل أسير حيرته حتى تقوده الأمور إلى الإفلاس نتيجة ارتياده المواخير والعلاقات الطارئة التي يقيمها مع بعض الفتيات ( وفي حالة مفاجئة من حالات غضبه وسأمه وضيقه ، مزق أوراقه وتقاريره التي كان قد أعدها في الأيام الفائتة وأرسل ماتبقى منها بالبريد المسجل لصحيفته ، ثم عاف حاجاته وهجر غرفته ... وتوجه نحو حدائق الجبل ، بانكسار القادة الخائبين ، بلحية رمادية نابتة ،وكاميرا محطمة ،وحقيبة ذات جيوب وأقفال يصفر الهواء داخلها )ص126 حتى يحدث الانفجار في الجبل ولكن الراوي لم يكشف لنا الأسباب الحقيقية التي أدت إلى الانفجار، ونستطيع أن نخلص إلى نتيجة واحدة وهي أن القاص اتخذ الجبل الأسود رمزا للوطن ، وما حدوث الانفجار إلا إيذانا باندلاع الحرب دون أن يشير إلى السبب الرئيس في حدوث الكارثة التي وقعت ، وبالتالي فقراءة " نبوءة الجبل الأسود " تبقى محض طواف واغتراب عن المكان الذي تدور فيه الشخصية المحورية ، دون أن تشخص العلة الأساسية لهروب الناس وبحثهم عن منفذ يقيهم شرر النيران . ( تبرق في رأسه أحاديث الناس المدونة في قصاصاته والمسجلة في كراريسه حول الهزات والرعدات والانتفاضات التي تلازم الجبل بين الحين والحين ) ص129 وحتى في خضم مشاهد الخراب والتي ينغمس في آتونها نراه لايفصح عن وجهة نظر محددة إنما تقتصر على وصف كل ماتقع عليه عيناه ويستلب لبه مكتفيا بنجاته من الكارثة ( وراح يركض دون وعي متخطيا حواجز اللهب وأسيجة النيران000 ولم يستطع أن ينجو من هذا الهروب المفاجئ ، سوى زمرة قليلة نازفة قد انشغلت عنها دون شك أنياب الأفاعي والكلاب بتمزيق والتهام أعضاء الآخرين الذين وقعوا في قبضتها . راحت هذه الزمرة وهي تغرق وتتيه في الصحراء الرملية الخاوية تحدق عن بعد بانشداه وعدم تصديق بفوهة الجبل الشاهقة ) ص 130" خمار دزديمونة " في هذه القصة تتجلى مهارة القاص وتفرده ، وهو يتنقل بنا في المكان والزمان فهو يبتدئ أولا " بتزوير الرؤيا " وثانيا "بالرؤيا " وثالثا " بمرسم الأهوال " حتى يتلاحم الوهم بالواقع في صور فنية مذهلة تهزك من الأعماق لما تـتمتع به من صدق الطرح لموضوعة قريبة وهي هول الحرب الأخيرة وما أسفرت عنه الكشوفات من المقابر الجماعية ، وما تركته من نكوصات وعقد في الروح وتشوهات تركت بصمات عميقة في وجدان الفرد العراقي . فالقاص السامر يطرح لنا هذه التفاصيل المعيشة الآنية ويحولها إلى فن محض ، من نزيف الجراح التي لازلنا نشهدها كل يوم من تركة النظام البائد وهو بذلك يشطب ــ كصانع أمهر للحكاية ــ على الأطروحة التي تقول بأن واقعا ملتبسا ووحشيا ليس بمقدور "الناص" التعبير عنه والتعاطي معه ما ان تمر عليه الأعوام حتى يترسخ و" يُتمثل " ( بضم الياء وفتح التاء ) في الذاكرة . فالشخوص المحورية في هذه القصة رسام بترت ذراعه وخطيبته الرسامة التي تعرضت لإصابة بشظية تركت ندبة في وجهها . في" تزوير الرؤيا" يصفها الراوي وهي تتجمل أمام المرآة لتحاول إخفاء ندبتها ( إذ توجب عليها أن تكتشف بلسما شافيا لهذه الندبة العاوية ، وتسكت صياحها الأزرق العميق الذي يشد إليها العيون بخيوط غير مرئية . ) ص 135 حتى تستفزها اللوحة المعلقة على الجدار وقد رسمها خطيبها قبل الإصابة وهي على أجمل ماتكون لتختطف فرشاة الشعر وتحدث تلفا في الوجه المرسوم في اللوحة ( فأحدثت فيه ندبة عميقة شبيهة بندبتها خلقت موازنة سريعة بينهما ) ص 137 في " الرؤيا " يلتقي الخطيبان ويدور بينهما حوار طويل وهما يسيران في الطريق . يقول الخطيب ( لقد حكمتني الأقدار بهذا الحظ الشقي ، كما ان بشاعتي توازي بشاعتك .. فترد عليه .. ــ لا ! أن الذراع لاتعادل الوجه ! أن الذراع المعاقة يمكن إخفاؤها تحت ردن القميص ، أما الوجه فأنه يحتاج إلى قناع ! ) ص 140ويستمر الحوار بينهما وهو بالنتيجة يوصل رسالة صارخة ضد الحرب والقهر الذي يتعرض له الإنسان ، فيحدثها عن التحاقه بالاهوار وعدم انخراطه في الجيش بينما تحدثه هي عن المقابر الجماعية وما حدث في فترة غيابه ، تقول الفتاة ( كانت الحياة تسير سيرا حسنا قبل الحرب ، أما الآن وبعد أن أصابها الخلل والدمار ، يتوجب تعصيب أعيننا كي لانرى هذه الوحشية وهذه الهمجية في الوجود ) ص 147 أما في" مرسم الأهوال " فينتقل بنا الراوي إلى مرسم الخطيب حيث الفتاة
قد شدت الخمار الذي اقترحه عليها لإخفاء الندبة ويأمرها بخلع الخمار ليرسم ندبتها فتستكين له ( فتحركت في مقعدها حركة خفيفة كي تغير له المنظور ، فتجسدت الندبة على الفور في عريها وصيحتها الهائلة المكتومة . كانت الندبة تصرخ بكل قوتها من الألم العظيم الذي غزاها ، ومن البشاعة التي قطنت فيها ، لكن ظلام العالم وعتمة الأشياء وجوهر الحياة الذي دنسته الحروب ، قد خدرت هذا الألم وهذه البشاعة وأخفت صياحها وسط ركام الخراب الهائل ، وقد عرف بأن الندبة تحتاج إلى نور ساطع حتى تعلن احتجاجها الكامل على الانحطاط والانزلاق والتعفن الحضاري والعنف الدموي ، فخلط عجينة جديدة وأخذ يشتغل بعنف وانفعال ) ص 159 ولكنه يفاجأ بصمتها العميق وقد أكمل لوحته . فيسألها قلقا فتجيبه ( أريد فسخ الخطوبة ... لقد فكرت بالأمر طويلا . فكرت به منذ أول إصابتي ، وفي عزلتي ، وبعد أن أتيت لخطبتي وفكرت فيه الآن وأنت ترسمني ... ولا أريد حبسك معي طوال العمر مع هذه الندبة الحمقاء ) ص 160 وهكذا تدفع الأيدي الخفية جل أبطال القصص نحو عزلتهم وعالمهم المخرّب ليحاولوا من جديد بناء فراديسهم التي تظل حلما ويبقون في ضياع يتآكلهم القلق بما سيجيء به الغد ، فهم شكاكون ،محاصرون ، يحدوهم الأمل في الارتكان إلى مكان لاتطاله يد الخراب .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. عاجل | نتنياهو: مرتفعات الجولان ستبقى إسرائيلية للأبد
.. الاحتلال يشق طريقا جديدا جنوب جباليا ودمار واسع في بيت لاهيا
.. الإعلام الإسرائيلي يناقش المصالح الإسرائيلية في ظل سقوط نظام
.. الجزيرة ترصد غارات إسرائيلية على العاصمة السورية دمشق
.. مشاهد من سيطرة فصائل المعارضة السورية على مدينة منبج