الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القائد والحرب في رواية -الرفاعي- جمال الغيطاني

رائد الحواري

2024 / 1 / 4
الادب والفن


القائد والحرب في رواية
"الرفاعي"
جمال الغيطاني
أدب الحرب قليل عربيا، وذلك لأن من يخدمون في الجيش يجب أن يكونوا موالين للنظام، وبما أن معظم الكتاب معارضين لما هو رسمي، فهذا انعكس سلبا على الإنتاج الأدبي المتعلق بالحرب، ونقصد هنا الرواية بشكل خاص، وإذا ما أجرينا مقارنة بين أدب المعتقلات وأدب الحرب سنجد أن ما أنتج عربيا من أدب المعتقلات يفوق ما أنتج من أدب الحرب، فهذه الحقيقة تعكس تردي الجيوش العربية وعدم أهليتها في الحرب الخارجية، بينما الأجهزة الأمنية وتحديدا المخابرات فحدث عنها بلا حرج وعن (إنجازاتها) القمعية وسطوتها بين الشعب، فهي الغول المسلط على رقاب الناس، فهناك هوة سحيقة بين روايات الحرب وروايات الاعتقال السياسي.
لكن هناك بعض الأدباء استطاعوا أن يخرجوا عن هذه القاعدة منهم "أديب نحوي" في رواية "سلام على الغائبين" التي تناول فيها حرب حزيران عام 1967 وكيف تم مواجهة جيش الاحتلال أثناء احتلال الجولان، وقد كتب بعض العراقيين عن الحرب العراقية الإيرانية بصورة لافته، نذكر منهم "يوسف يوسف" في رواية "قلعة عباس كوشيا" وغيره من الروائيين.
أعتقد أن اكثر روائي عربي كتب عن الحرب هو جمال الغيطاني، حيث كتب مجموعة من الروايات منها "الحصار من ثلاث جهات، والرفاعي" وغيرها، وهنا سنحاول التوقف عند رواية الرفاعي، وكيف قدمها السارد والأفكار التي جاءت فيها.
ونبدأ من الشكل الروائي ولغة السرد التي جاءت بواسطة السارد العليم، الخارجي، وأعتقد أن سبب ذلك يعود إلى أنها تتناول شخصية حقيقية "إبراهيم الرفاعي" الظابط المصري الذي تميز ببطولاته وقدراته على اختراق تحصينات العدو ومعرفته بكل الطرق والمدن والقرى في الضفة الشرقية والغربية لقناة السويس، كما امتاز بطريقة تعامله مع جنوده حيث كان يتقدمهم واضعا نفسه أمام الخطر لينجوا منهم، فكان مثلا للعسكري المؤمن بواجبه والمخلص لوطنه.
وبما أننا أمام عمل أدبي وليس تاريخي أو مذكرات حربية فقد بدأ السارد الحديث عن المعارك التي خاضها الرفاعي، ثم عرفنا ، لاحقا على بداياته وكيف انتدب ليقوم بمهمة استطلاع بناء على طلبه، وكيف تم تشكيل القوة الفدائية التي يقودها، بعدها يدخلنا إلى أثر استشهاده على زوجته، وبهذا يكون السارد قد حرص على عدم الإفصاح عن رحيله مباشرة، مشيرا إلى امتناع زوجته "نادية" من دخول الغرفة التي كان يجلس فيها، أو الجلوس في المطعم الذي كانا يذهبان إليه، وهذا خدم فكرة "الرفاعي" القائد الحاضر رغم الغياب.
بهذه الفنية الروائية استطاع السارد أن يتجاوز التوثيق التاريخي لشخصية "الرفاعي" وتقديمه بصورة روائية بعيدا عن الطرح الجامد للتقرير الصحفي.
الرفاعي
سنبدأ الحديث عنه بصورة متسلسلة وكيف تحدث عنه القادة ورفاقه في المعارك: "أنه يعرف ضابطا شجاعا يلح عليه منذ أيام للقيام بعمل فدائي ضد العدو المتقدم على المحاور في سيناء، أبلى بلاء حسنا في حرب اليمن، وحصل على ترقيتين استثنائيتين، ويحمل وسام النجمة العسكرية، واسمه معروف لكافة وحدات الصاعقة إذ أنه من جيل المعلمين الأوائل بها، وهو ضابط شجاع، جسور، قلبه جامد" ص60، هكذا تناوله القادة قبل أن ينتدبوه للقيام بأول مهمة، فهو رجل عسكري، مقاتل، مؤمن، صلب، عارف لتفاصيل الجغرافيا، ذا قدرة قتاليه عالية: "الرفاعي يحفظ سيناء عن ظهر قلب، وأنه قام بالعديد من الدوريات في صحاري مصر، وأنه يعرف هضاب الصحراء الشرقية ووديان الصحراء الغربية، وعندما تتوه دورية في الصحراء فأفضل مقتف للأثر هو الرفاعي، إنه يعرف المدن من أضوائها عندما تبدو للمحلق بالطائر، كما يعرف المحافظات من تعرجات النيل وضيق واتساع المساحة الخضراء، في الهيلوكبتر يعرف بعد كم من الثواني ستشهق قمة جبلية وأي الممرات تخلو من دوامات الهواء" ص64، نلاحظ أن قدرات الرفاعي تتجاوز كونه مجرد مقاتل، فامتدت قدراته إلى معرفته بتفاصيل المكان وامتلاكه الحدس على تحديد المكان، كل هذا يجعلنا أمام شخصية فريدة متميزة بقوتها وقدرتها وطبيعة تكوينها.
هذا الكلام قيل قبل أن يقوم بأي عمل فعلي ضد العدو، من هنا كان لا بد من تناوله من خلال المعارك التي خاضها وكيف كان يتعامل مع الأعداء ومع جنوده، بداية سنتحدث كيف ينظر إليه رفاقه: "كثيرون من طياري الهيلوكبتر اعتبروا الطيران معه عملا يميزهم عن الآخرين" ص20، وهذا يقودنا إلى الكيفية التي استطاع "الرفاعي" أن يخلق هذه الصورة في ذهن الجنود: "يخطو الرفاعي، لا يتقدمه أبو الفضل ولا يتجاوزه علاء، في الهجوم هو الحرف الأول، وفي العودة هو اللفظ الأخير، لحظة الاشتباك طلقته تسبق كل الطلقات" ص33، وهذا ما يبرر/يفسر لماذا ينظر إليه الجنود والقيادة نظرة متميزة، تجعله ينفرد عن بقية العسكر.
الجندي يتعرض للإصابة، للاستشهاد، للمرض، أثناء مهمة قتالية يتعرض "الرفاعي" لإصابة تجعله يعاني من الألم الجسدي، ومن ألم عدم القيام بالمهمة الملقاة على عاتقه كقائد: "أن نصلا نحيلا ينغرز حيث لا يرغب ولا يود في هذا الوقت بالذات...يجيبه شعور حاد بالقيء، يضغط شفته السفلى، يندس خنجر محمي ببطء في معدته، يعرف أن الألم سينتشر كبقعة الحبر فوق النشاف، قبض على المدفع، ألصق مؤخرته بمعدته، ينتبه إلى أن جسده تقوس، سيلفت هذا نظر علاء، أن علاء يحمل الإبرة المعقمة، ما عليه إلا أن يقترب منه ويغرسها في فخذه من فوق الأفرهول، سيختفي الألم، لكن مجرد إشارته الآن إلى علاء ستحدث ارتباكا، سيتساءل كل منهم ماذا حدث للرفاعي؟ وعليه إلا يؤتي تصرفا يؤدي إلى أن يشغل أذهانهم بمثل هذا الاستفسار، تتوغل أسنانه في شفتيه، بهدوء بصق، يجول بعينيه في العتمة، يجب إلا يفعل لحظة، حماية الرجال من المداهمة مسئوليته، أنه يخاطب معدته في صمت، يعاتبها، أهذا هو التوقيت المناسب؟ ليتأجل الألم، وعندما يصل بالرجال إلى الأمان سيستسلم للفتك" ص40و41، هذه التفاصيل عما يجول في نفسية الرفاعي كافية لإيصال فكرة نبله وإيمانه كشخص، وحرصه على جنوده، وانتماءه للعسكرية التي جعلته يقوم بواجبه تجاه وطنه وأمته.
وقالوا بعد استشهاده: "أنه من الناس الذين لا يجيئون مرتين في الزمن الواحد... وحمل البلد وهمومها فوق رأسه، وحارب من اجل الناس، الناس الذين يعرفهم، والناس الذين لم يرهم، والذين مضوا، والذين بقوا، والذين لم يأتوا" ص114و115، اللافت في حقيقة هذا القول هو قراءة الرفاعي الآن من قبل القراء، ليعرفوا، ليعلموا أن هناك "رفاعي" استطاع أن يفرض وجوده على "جمال الغيطاني" ويكتب عنه هذا الرواية.
الرفاعي لم يكن مقاتلا فقط، بل مفكرا أيضا، يستخدم الحجة والمنطق في محاورة الآخرين، أحد الجنود يبدي امتعاضه من المشاركة في القتال على الجبهة، لأنه حرم من الذهاب إلى منحة دراسة ستغير مستقبل حياته، يحاوره الرفاعي بهذا المنطق: "من يطرد هؤلاء؟ ثم قال: هل نستورد رجالا ليحاربوا لنا؟ ثم قال: لو تركنا العدو فلن يظل مكانه، أنما سيجيء، لأنه يطمع في هذا الفول الأخضر، ومد يده واقتلع عودا من النبات الأخضر، سأله الرفاعي، هل نمشي كلنا ونتركه يمضي إلى بيتك وأختك وأختي؟ قال الشاب: لا، قال الرفاعي، أنت قلتها لنفسك" ص115، نلاحظ أن الرفاعي لم يستخدم سلطته كقائد عسكري، بل استخدم المنطق وخاطب الشاب المستجد بالعقلية التي يفهمها، وهذا ما جعله ينخرط في القتال مؤمنا بما يقوم به، مؤمنا أن مصلحته في دحر العدو وليس من المنحة الدراسية.
أثر رحيل الرفاعي على زوجته "نادية" قدمه السارد بصورة لافته، مشيرا إلى وفائها وإخلاصها من جهة، ومن جهة أخرى أوصل فكرة رحيله بطريقة أدبية بعيدا عن المباشرة، وهذا ما أعطى الرواية بعدا جماليا: "إنها لن تجرؤ على أن تسند رأسها إلى نفس الوسادة لأن الحجرة أصبحت كهفا من الوحدة" ص103، بهذه الصورة أوصل السارد فكرة رحيل الرفاعي ووفاء زوجته.
وعندما يأخذنا إلى ذكرياتها الأخيرة معه يقدمها بهذا الشكل: "عندما يصلك خطابي هذا أكون ماضيا لقتال العدو، قولي لمن تلتقين به أن في مصر رجالا قادرين على هزيمة العدو.. وهاهو كل شيء يفلت ويولي وعندما جاءا معها إلى هذا المطعم الذي لا تجرؤ على دخوله الآن" ص106، نلاحظ أن السارد يحرص على تقديم الصورتين، صورة الزوجة الوفية، وصورة الرجل المقاتل، المفكر، المنتمي لمصر وشعبها وجيشها لهذا تحدث عن المواجهة والقدرة على دحر العدو.
ولم يقتصر أثر فقدان الرفاعي على البيت والمطعم، بل تعداه إلى: "المقاهي التي جلسوا إليها يوما، وأيقنت أنه يرافقها ومن كل مكان يرمقها وفي الليل تتعلق بالسماء ولتلملم ملامحه من أعماق النجوم" ص108، بهذه الصورة يتأكد للقارئ أن حضور الرفاعي لن يغيب أبدأ لا عن زوجته ولا عن كل من يقرأ روايته: رواية "الرفاعي"
فكرة الحرب
بما أن الرواية تتناول الحرب والمعارك التي خاضها الرفاعي وجنوده، فان لا بد من تقديم رؤية عن الحرب وكيف ينظر إليها، يقول علاء: "أن الطبيب يداوي الجراح المحدودة أما نحن فنعالج جراح التاريخ" ص15، هذا ينظر المقاتل لمحاربة العدو، فهناك هزيمة لحقت بالأمة ولا بد من علاجها من خلال الحرب/القتال.
"الحرب هي أن تنجح في إدخال الشظية إلى جسم العدو، سواء صدرت الشظية من طلقة مسدس أو من قنبلة مدفع أو دبابة أو صاروخ معقد" ص18، اللافت في هذه المقولة أنها لا تتحدث عن الحرب الهوجاء، بل الحرب التي تلحق بالهزيمة بالعدو وتصيبه في مقتل، فالحرب لا تعني إطلاق النار، بقدر إطلاق النار وإصابة العدو في مقتل.
العدو
دولة الاحتلال لم تتوانى عن فعل الجرائم بحق كل مواجهتها، لهذا نجد بطشها يطال كل من تستطيع الوصل إليه، يحدثنا السارد عن جرائم العدو من خلال هذا المشهد: "لم يستطع تحديد عدد الجثث التي تختلط ببعضها على جانبي الطريق، هرستها الدبابات، لم ير عضوا سليما واضح المعالم، رأى حذاء يطل منه بقايا قدم، ورقبة مشطوفة/(مقطوعة)، خندق مطمور، يجز شفتيه، أحدثوا هذا عمدا، يقيمون معرضا للفزع والرعب" ص53، اللافت في هذا المشهد أننا وجدناه ليس في زمن أحداث الرواية أكتوبر 1973، بل تعداه إلى صبرا وشاتيلا، وقانا والضفة الغربية، وما يجري في غزة الآن، هذا هو العدو وهذا هو فعله، وعلى كل من يهادنه أن يعرف حقيقته الإجرامية.
وفي مشهد آخر يصور كيف تعامل العدو مع الجنود الأسرى: "ثم رفع المسدس إلى منتصف جبهة الأول من اليسار.. طلقة.. سقط، خطا خطوة، طلقة، سقط الثالث، طلقة سقط الخامس، طلقة، أخرست إلى الأبد الذعر الإنساني الذي بدا واضحا على السابع" ص58، إذن العدو يمارس القتل مع الكل، إن كانوا جنودا في المعركة، أو جنودا أسرى، هذه الحقيقة تفرض وجوب ممارسة القسوة والصرامة معه، لنحد من وحشيته وإجرامه.
الشهداء
المشهد السابق يأخذنا إلى الشهداء وكيف يجب أن ننظر إليهم: "أن رحيلهم يعلمنا كيف نحقد أكثر على العدو" ص91، هذا ما قاله "الرفاعي" عن الشهداء، فهو يريدهم أن يكونوا الأداة التي تبقي المشاعر معبأ على العدو، فهم الجمر الكامن تحت الرماد ولا يمكن له أن يخمد.
الرواية من منشورات دار المسيرة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1980.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا