الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسد من السيرك

طلال حسن عبد الرحمن

2024 / 1 / 6
الادب والفن


" 1 "
ــــــــــــــــــ
سار القطار ، نافثاً دخاناً كثيفاً ، من ماكنته البخارية المتعبة ، يحمل فيما يحمل ، تجهيزات السيرك ، بينها أقفاص الحيوانات المختلفة .
وعبر قضبان أحد الأقفاص ، راح الأسد الفتيّ ، يتابع مناظر الطريق ، من سهول ، وتلال ، وجبال ، وأنهار ، وقرى ، ومواش ترعى في الحقول .
إنها رحلته الأولى وحده ، فقد سافر في القطار مراراً ، برفقة والدته اللبؤة ، لكنه الآن ، وقد وصار فتياً ، فإن صاحب السيرك ، قرر أن يكون في قفص وحده ، لا تشاركه فيه حتى أمه .
ودخل القطار غابة كبيرة ، كثيفة الأشجار ، وفيها رأى الأسد الفتيّ بعض حيواناتها ، من بينها الأسد ، والفيل ، والزرافة ، والكركدن .
وعلى حين غرة ، جرى ما لم يتوقعه أحد ، فقد خرجت بعض عربات القطار عن السكة ، وتهاوت متصادمة على أطراف الطريق .
وتحطمت معظم الأقفاص ، وخرجت منها الحيوانات المختلفة ، وأحدها الأسد الفتيّ ، وسرعان ما لاذوا بالفرار ، متوغلين في أعماق الغابة .

" 2 "
ـــــــــــــــــــ
ربضت اللبؤة الفتية ، بين الأعشاب المتطاولة ، تتربص بقطيع من الغزلان ، كان يرعى العشب على مسافة منها ، وتتحين الفرصة المناسبة ، لعلها تصطاد واحداً منها ، وتفترسه .
وارتفع من جهة سكة الحديد ، القريبة من هناك ، صوت عربات القطار ، التي خرجت عن السكة ، وتهاوت على طرف الطريق .
وهبّ قطيع الغزلان خائفاً ، ولاذ بالفرار ، متوغلاً في أعماق الغابة ، ونهضت اللبؤة محبطة ، وركضت عبر الأشجار ، نحو مصدر الصوت .
وتوقفت على مسافة من العربات ، التي تهاوت على الأرض ، ورأت بعض الحيوانات ، التي خرجت من أقفاصها ، تركض مبتعدة ، ولفت نظرها أسد فتيّ ، يتوقف حائراً بين الأشجار .
واقتربت اللبؤة الفتية منه ، وقالت : يبدو أنكَ كنت في هذا القطار .
والتفت الأسد الفتيّ إليها مندهشاً ، فهذه أول مرة يرى فيها لبؤة في عمره ، خارج السيرك ، وقال : نعم ، أنا من أسود السيرك .
وهمهمت اللبؤة ، فتطلع الأسد الفتيّ فيما حوله ، وقال : لقد ولدتُ في قفص ، من أقفاص السيرك ، وهذه أول مرة أتواجد فيها بين أشجار الغابة .
وحدقت اللبؤة فيه ، وقالت : وطبعاً ، أنت لا تعرف أحداً في هذه الغابة .
فهزّ الأسد الفتيّ رأسه ، وقال : نعم ، لا أعرف أحداً ، لقد عشت طول عمري في السيرك .
وقالت اللبؤة الفتية : لابدّ أنك جائع .
فردّ الأسد الفتيّ قائلاً : بعض الشيء ،فأنا لم أتناول شيئاً من الطعام ، منذ ليلة البارحة .
وتأهبت اللبؤة للسير ، وقالت : لقد حان وقت الغداء .
وسارت متوغلة في الغابة ، وأضافت قائلة : تعال نصطد ما نأكله .

" 3 "
ـــــــــــــــــــ
تقدمت اللبؤة متلفتة ، لعلها ترى ما يصلح للصيد ، وتبعها الأسد الفتيّ ، دون أن يتفوه بكلمة ، فكل ما يراه هنا ، أو يحدث ، جديد عليه .
وتناهت حركة بين الأعشاب ، فتوقف الأسد الفتيّ ، منصتاً ، فقالت اللبؤة ، دون أن تتوقف : تعال ، هذا أرنب صغير ، لا فائدة من اصطياده .
وسار الأسد الفتيّ في أثرها ، دون أن يعلق على ما قالته ، وبعد حين ، توقفت اللبؤة نفسها ، وأشارت إلى ذكر جاموس ضخم ، يرعى على مسافة منهما ، وقالت : انظر ، هذا ذكر جاموس .
ونظر الأسد الفتيّ إليه مندهشاً ، فقالت اللبؤة ، وهي تسير مبتعدة : إنه حيوان شديد الخطورة ، ولابدّ أن القطيع يرعى في مكان قريب ، وسيناديه إذا شعر بالخطر ، فيسحقنا بأقدامه الثقيلة .
وأسرع الأسد الفتيّ وراءها ، رغم أن عينيه الجائعتين ، ظلتا معلقتين بذكر الجاموس الضخم ، الذي لم يكلف نفسه ، حتى مجرد النظر إليهما .
وواصلت اللبؤة سيرها ، والأسد يسير خلفها ، وهي تقول : علينا أن نحذر الحيوانات الخطرة ، مثل الجاموس ، والزرافة ، والكركدن ، ولا نقربها إلا عند الضرورة القصوى .
وتوقف الأسد الفتيّ ، محملقاً في بقايا حمار وحشيّ ، ملقاة أسفل إحدى الأشجار ، فتوقفت اللبؤة بدورها ، وقالت : هذه البقايا للحمار الوحشي ، لابدّ أن أسداً عافها ، بعد أن أكل منه حتى شبع .
وهمّ الأسد الفتيّ ، أن يتوجه إلى بقايا الحمار الوحشيّ ، وهو يقول : هناك ما يكفينا منها .
فزجرته اللبؤة قائلة : توقف ..
وتوقف الأسد الفتيّ حائراً ، فتابعت اللبؤة قائلة : ما تعافه الأسود ، لا يأكله أسد أو لبؤة أو شبل ، بل تأكله الضباع ، والنسور الجبانة فقط .


" 4 "
ـــــــــــــــــــ
سارا جنباً إلى جنب ، في أرض معشبة بين الأشجار ، وتناهى إليهما وقع أقدام ، فتوقفت اللبؤة الفتية ، وأشارت للأسد الفتيّ ، أن توقف .
وعلى الفور ، توقف الأسد الفتيّ ، وربضت اللبؤة الفتية بين الأعشاب ، لكن الأسد الفتيّ ظل واقفاً ، فقالت له بصوت هامس : اجلس .
وجلس الأسد الفتيّ إلى جانبها ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، وأنصتت اللبؤة الفتية ، وقالت بصوت خافت : يبدو أنه غزال .
وهنا برز غزال ضخم من بين الأشجار ، وتقدم قليلاً فوق الأرض المعشبة ، ثم رفع رأسه ، الذي تعلوه شجرة من القرون ، وصاح بأعلى صوته ، أهو يتحدى الذكور الأخرى من الغزلان ، أم ماذا ؟
وقالت اللبؤة الفتية ، دون أن تلتفت إلى الأسد الفتيّ ، وقالت : انظر ، إنه غزال ضخم ، سأصطاده ، وأجعله وليمة لك بمناسبة لقائنا الأول .
وراح الغزال الضخم يتلفت حوله ، فمالت اللبؤة الفتية على الأسد الفتيّ ، وقالت له بصوت خافت : سأدور وأهاجمه من الخلف ، فإذا أفلت مني ، واتجه نحوك ، هاجمه أنت ، واصطده .
ونظر الأسد الفتيّ مذهولاً إليها ، دون أن يرد عليها بكلمة واحدة ، وعلى الفور ، نهضت اللبؤة الفتية ، وتسللت عبر الأعشاب المرتفعة ، حتى صارت وراء الغزال الضخم .
وتحفزت اللبؤة الفتية ، ووثبت نحو الغزال ، وقد كشرت عن أنيابها ، لكن الغزال أحسّ بها ، فوثب مبتعداً ، ولاذ بالفرار ، متجهاً ـ كما تمنت ـ حيث يربض الأسد الفتيّ .
ووقفت اللبؤة الفتية ، وقد رفعت رأسها ، تنظر إلى الغزال ، وهو يقترب من الأسد الفتيّ ، دون أن يلاحظ وجوده ، وحين اقترب منه ، صاحت اللبؤة بأعلى صوتها : امسك به ، لا تدعه يهرب .
لكن الأسد الفتيّ ، وقد فوجىء بما يجري ، لم يتحرك من مكانه ، ومرّ الغزال به قفزاً ، ثم مضى مبتعداً عنه ، حتى غاب بين الأشجار .

" 5 "
ــــــــــــــــــــ
مضت اللبؤة الفتية للصيد ، وجلس الأسد الفتي صامتاً ، تحت إحدى الأشجار ، لم تطلب منه أن يرافقها ، أو يشاركها في الصيد ، وفكر " الحق معها ، فهي ربيبة الغابة ، وهو ربيب السيرك " .
وتراءت له حياته في السيرك ، القفص ، والتدرب ، والعمل بحضور جمهور ، وهو في قفص حديدي كبير ، فالجمهور يخاف الأسد ، ثم الطعام ، الذي يُقدم له في أوقاته ، دون الحاجة إلى الصيد .
وقبيل المساء ، عادت اللبؤة الفتية ، وقد اصطادت غزالة ، فتقدمت من الأسد الفتيّ ، ووضعت الغزالة أمامه ، وقالت : تفضل .
ورفع الأسد الفتيّ عينيه إليها ، وقال : لنأكل معاً .
وجلست اللبؤة قبالته ، وقالت : الأسد أولاً .
وحدق الأسد الفتيّ فيها متسائلاً ، فتابعت اللبؤة الفتية قائلة : نحن في الغابة ، الأسد واللبؤة يخرجان إلى الصيد ، واللبؤة هي التي تصطاد في الأغلب ، لكن الأسد هو من يأكل أولاً ، حتى يشبع ، ثم يأتي دور اللبؤة والصغار ، إن كان لهما صغار .
ونظر الأسد الفتيّ إلى الغزالة ، وقال : لا أستطيع أن آكل ، إذا لم تأكلي معي .
فتقدمت اللبؤة الفتية من الغزالة ، وهي تقول : حسن ، لنأكل معاً إذن .
وبعد أن تناولا طعامهما معاً ، نهضا واقفين ، وراحا يتجولان ، بين ألأشجار ، حتى غابت الشمس ، وأرخى الليل عباءته السوداء على الغابة .
وجلسا صامتين ، تحت إحدى الأشجار ، وأطل القمر عليهما من فوق الأشجار ، وسرعان ما تسلل النعاس إلى عيونهما ، واستغرقا في نوم عميق .

" 6 "
ــــــــــــــــــــ
استيقظ الأسد الفتيّ واللبؤة الفتية ، في اليوم التالي ، وقد أشرقت الشمس ، وأشرقت معها بالحياة ، جميع الكائنات الحية في الغابة .
ونهضت اللبؤة الفتية من تحت الشجرة ، ودارت قليلاً في أرجاء المكان ، ثم توقفت متطلعة إلى الأسد الفتيّ ، وقالت : سأذهب إلى الصيد .
ورفع الأسد الفتيّ عينيه إليها ، فرمقته اللبؤة بنظرة خاطفة ، وقالت : تعال معي ، إذا أردت .
ولم تنتظر اللبؤة الفتية رده ، فسارت متوغلة بين الأشجار ، وسرعان ما نهض الأسد الفتيّ ، وحثّ خطاه في أثرها .
وتباطأت اللبؤة الفتية قليلاً ، حين أحست به يسير وراءها ، حتى وصل إليها ، وراحا يسيران جنباً إلى جنب ، وهما صامتان .
وتناهت إليهما حركة طفيفة بين الأعشاب ، فتوقفت اللبؤة ، وتوقف معها الأسد الفتيّ ، وراحا ينصتان ، وأحدهما ينظر إلى الآخر .
ومالت اللبؤة على الأسد الفتيّ ، وقالت بصوت خافت : تهيأ ، هناك صيد ، حاول أن تصطاده .
وفجأة برزت غزالة ، من بين الأعشاب ، فمدت اللبؤة يدها ، ودفعت الأسد الفتيّ برفق ، وقالت : هيا ، هذه فرصتك ، انطلق .
وكالسهم انطلق الأسد الفتيّ نحو الغزالة ، ووثب عليها وثبة كبيرة ، حتى أنه لمس بيديه ومخالبه الحادة جلدها المشعر ، وكاد أن ينشب فيها مخالبه ، لكنها أفلتت منه ، وأطلقت سيقانها للريح ، ولاذت بالفرار .
وتوقف الأسد الفتيّ محبطاً ، فتقدمت اللبؤة منه ، وقالت له بصوت هادىء : لا عليك ، كدت تمسكها ، قد تنجح في المرة القادمة .
لكنه لم ينجح في اصطياد أرنب ، أو غزال ، أو ثعلب ، أو أي شيء آخر ، طوال فترة الصباح ، رغم أنه حاول ذلك أكثر من مرة .

" 7 "
ــــــــــــــــــــ
عند حوالي العصر ، وأمام عيني الأسد الفتي المذهولتين ، طاردت اللبؤة غزالاً ضخماً ، واستطاعت اصطياده ، وأطبقت على عنقه بأسنانها القوية ، وجرته إلى حيث يقف الأسد الفتي ، وألقته أمامه .
ونظر الأسد الفتيّ إلى الغزال ، الملقى أمامه ، وقال : آه ما أضخمه .
وجلست اللبؤة قبالته ، وقالت : لنأكل معاً .
وخلال تناولهما للطعام ، قال الأسد الفتيّ : ليتني استطيع أن أقدم لكِ ، غزالاً أصطاده .
ولم ترفع اللبؤة رأسها إليه ، أو تتوقف عن تناول الطعام ، فلاذ الأسد الفتيّ بالصمت ، واستمر في تناول الطعام ، حتى شبع .
ونهضت اللبؤة الفتية ، بعد أن شبعت هي الأخرى ، وقالت ، وهي تسير : لنتجول قليلاً في الجوار ، قبل أن تغرب الشمس ، ويحلّ الظلام .
وسارا صامتين ، وقادتهما أقدامهما ، وقد غربت الشمس ، إلى أطراف الغابة ، ولاح قريباً من السكة الحديد ، مخيم تضيئه مصابيح زيتية .
، وتوقفت اللبؤة الفتية ، وأشارت إلى المخيم ، وقالت : انظر ، إنه مخيم السيرك .
ونظر الأسد الفتي إلى حيث أشارت اللبؤة ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فقالت : يبدو أنهم استعادوا بعض ما فقدوه من حيواناتهم المدربة .
ومرة أخرى ، لم يتفوه الأسد الفتيّ ، فنظرت اللبؤة إليه ملياً ، ثم قالت : الآن لك أن تختار ، إما العودة إلى السيرك ، أو البقاء في الغابة .
ولبث الأسد الفتيّ صامتاً ، وبعد لحظات ، استدارت اللبؤة الفتية ، وسارت مبتعدة ، وهي تقول : إنني متعبة ، سأذهب وأجلس تحت الشجرة ، أريد أن أرتاح .
وسارت اللبؤة الفتية ، وهي ترهف السمع ، لعله يلحق بها ، لكنها وصلت إلى الشجرة ، التي قضيا تحتها ليلتيهما الأخيرتين ، دون أن يكون له أثر .
وجلست اللبؤة الفتية تحت الشجرة ، وأغمضت عينيها ، لعلها تغفو ، وتراءى لها الأسد الفتي ، يجلس إلى جانبها ، على ضوء القمر .
ودمعت عيناها ، وقالت من خلال دموعها : آه ، لقد اختار ، نعم اختار .
وجاءها صوته ، وكأنه يهمس في أذنها ، بصوته الدافىء : نعم ، اخترت .
وعلى الفور فتحت عينيها ، اللتين أغرقهما الدمع ، ومن خلال دموعها ، رأته يقف أمامها ، فهتفت فرحة : اجلس ، اجلس إلى جانبي .
ومدّ يديه الدافئتين ، واحتضن يدها ، وقال : سيطل القمر من فوق الأشجار بعد قليل ، وسنبقى ساهرين معاً ، حتى يغيب ، وليته لا يغيب .

28 / 10 / 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??