الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قَبْضَةُ يَدٍ شَائِبَة

عبد الله خطوري

2024 / 1 / 6
الادب والفن


من يوم لآخر يتضاءل الوجه حتى يصبح في حجم قبضة يد شائبة .. تصير اليدُ خَشنَةً بقفاز كبير يتهاوى في هواء كآلعَناء .. يستر القفاز آلهزال ونتوء آلأزمنة آلملتبسة آلمتشابكة .. يتحول القفاز تجاعيدَ مليئة بعظام صغيرة متلاصقة بعضها ببعض .. تصبح اليد في لحظة ما يدَ مصارع خبير يتلقي ضربات أقدار متلاحقة بصبر وأناة .. تتحرك يمينا شمالا تناور تضرب بعنف .. لا تصيب أحدا .. تترنح فقط في هواء في فراغ .. تتعثر تسقط من قرح آلإعياء ... يضع الشاعر وجهه على كفه .. يفكر كثيرا .. إنه الدم تجمد صار كالزفت كالقار كالقطران .. تتلاشى مسامه الدقيقة .. تصبح مجرد حصي على قارعة طريق مؤدية إلى زوال يأتي على مهل ...
تلك اليد أعرفها، هي لشخص، هي لوجه أعرفُهُ، التقيتُه ذات ضُحًى في زقاق من أزقة العبور برحبة (سيدي عبدالوهاب) (١) مدينة وجدة .. لم يتغير .. هو هو .. فقط شُعيْرات شائبات وَخَطْنَ مُحياه المجدور الذي شلحت الشموس المتناسلة قسماته وحروفه البارزة .. ويده .. نعم .. تلك الكدماء النحيلة مازالت تمسك عصا تعين على معاقرة وعثاء الطرقات التي لا تنتهي مسالكها غير اللاحبة ... إنه أحد أبرز شعراء الزجل الملحون في المدينة .. لم أره منذ ثمانينيات القرن الماضي .. في تلك الأيام الخاليات كان يشكل والراحل
" عبدالله المگانة " ثنائيا نقائضيا هجائيا سجاليا على غرار شعر جرير والفرزدق وصنوهما الأخطل في أسواق عكاظ ومجنة ومربد العرب .. كانت شفتاه تتقنان العزف على الناي الوجدي تقودهما تَيْنِكَ آلراحتيْن الحذقتين برفقة دف وَڭَـلاّلِ المكانة (٢) .. يجلس القرفصاء يدندن كلمات موزونة ذات إيحاءات ومعنى، فيرسم نظيرُه تضادا معاكسا لها بطريقة لا تخلو من لمز وغمز ساخريْن وتنابز بألقاب وصفات قدح مقصودة ونبش على المعايب والعورات بطريقة فرجوية فكاهية تجلب ضحكات وتعاطف الجمهور المحيط في حلقاتهما الحاشدة .. يوقف المبصرُ "عبدالله المكانة" عَرْضَه الساخر مومئا إلى الدائرة البشرية المحيطة حولهما ..

_ مانكملو لَحْكَايَة حتى يعطي كل واحد فيكم لْهَاذْ لَعْمَى درهم ولَّا جوج يتعشا بهم بحالو بحالكم بحال خلق الله كاملين .. ضَرْبوُا عليها خَامْشَة صلوا على النبي آذكروا الله آمساخيط الوالدين ..

ثم يطوف على الجموع يستحث جود المتعاطفين كي يغدق عليهما بعض ما يمكن أن يُجَادَ به من دريهمات بيض في أيامهما الضنكة السوداء ... لقد كان كفيفا شاعرنا منذ صغره .. دائما تلفيه برفقة أحدهم يقوده في شوارع المدينة الضيقة آنذاك والتي آتسعتْ الآن آتساعا يريح العين والقلب ولسان الخاطر الذي راح يسافر في أزمنة خلتْ يبحث عن قوة كانت لهذا الرجل السَّمهريّ في مواجهة الأقدار .. لا يستسلم للإعاقة للعوز للحاجة ولو كانت به خصاصة .. مقاوما دائما كان لبيبا ذكيا مفعما بالحركة لا يستكين أبدا، فحلا من فحول الشعر الزجَل الجزْل الملحون ظل دائما في المدينة والجوار .. حَفّاظا لرباعيات المجدوب وجفريات (٣) المتنبئين المستبصرين السابقين المستشرفين لِما سَيقع لاحقا من حوادث جسام تُشَيِّبُ الصبيان في مهودها تفتق الأكفان عن أجساد الأحياء قبل تُلبسَهم إياها أقدارهم الجائرة ..

_الهم يستهل الغم
والسترة ليه مليحة
رد الجلدة على الجرح تبرا
و تولي صحيحة (٤)

وقفت مشدوها وأنا ألمحه وحيدا منعزلا في بركة آلأعمار يمد يديه الآن يطلب إعانة ما تأتي بها صدف السبيل ساعيا لوحده دون رفيق يتمتم ما يتمتم دون يأبه به أحد ...

_عيطتْ عيطة حنينة
فيقت من كان نايم
ناضوا قلوب المحنة
و رقدوا قلوب البهايم (٤)

لست أدري لِمَ تذكرتُ بشارا بنَ برد وأنا ألمحه يهوي بتقريعه على الزمن على الأنام على الهوام، ربما لشبه بينهما، ربما لشخصيتهما الفريدة، ربما للسانهما الفصيح القاصم القاصل ربما؛ لكنه الآن كينونة أخرى مغايرة أرهقه تعب دأب السنين وجور دورات الدهر الذي لا يلين بعدما غادر رفقاء الأمس هذه الدنيا المشتركة بما رحبت ولم ترحب .. رأيته سمهريا رغم وهنه يخب بثبات يخطوها خطوات وئيدة حريصة أن تقع في مصادفات لا قبله بها هو الذي كانت كلماته تزلزل رحبات وساحات عبدالوهاب وأبواب الغربي والشرقي من المدينة العتيقة وما يقابلها من مداخل ومخارج وجوطية بيع السلع المستعملة المتداولة، وسوق لَغْزَلْ وعرصات أسواق أحياء كولوش والطُّوبَا ولامّة وعدة سيدي يَحْيى والأنحاء كلها ... كانت كلماته في تواصلاته المختلفة قليلة مختصرة مهموسة تكاد لا تبين لسامعها ما يقول إذا لم يبذل جهدا لالتقاط نبراتها ..

_الزِيتْ يخرج من الزيتونة
و الفاهم يفهم لغات الطير
للِي ما تخرج كلمتو موزونَة
يحجرها في ضْميرو خيرْ (٤)

إلى تَيْنِكَ آلراحَتَيْن، إلى قبضة يدكَ آلشائبة، إلى وجهكَ الذي عرفتُه أعرفه، إليك مني أيها الرجل العالق في الذكرى، إليكَ يا أنتَ الذي لم أعرف في لحظة آسمَك وكيف تُدْعَى، إليك أيها آلبَصِيرُ (٥) اللبيب الشهم الهمام حيا كنتَ أو ميتا الآن وفي كل آن .. إليكَ أزكى سلاااام ..

☆إشارات :
١_رحبة (سيدي عبدالوهاب) : ساحة عتيقة بمدينة وجدة شرق المغرب تقام بها حلقات فرجة شعبية على غرار باقي الساحات التقليدية المغربية كساحة (جامع لَفْنَا) بمراكش و (بوجلود) بفاس ...

٢_ڭَـلاّل : آلة موسيقية إيقاعية تشبه الدربوكة لكنها تتميز بطولها اللافت الذي يمكنها من إصدار أصوات مميزة تنسجم ونغمات فن (الرَّاي) في صورته العتيقة الأصيلة ...

٣_الجفريات في الكلام الشعبي الملحون المغربي قصائد فى آستشراف المستقبل بطريقة تأملية و عن طريق الكشف والحدس والاستبصار، وهناك قصائد أخرى ترتبط بالواقع المعيش في حاضر الشاعر سميت ب(الوقتيات) بطريقة يمكن توصيفها بالدرامية الممزوجة بالحكمة والتنبيه و الوعظ والارشاد .. ويمكن آعتبار قصيدة ابن المؤقت المراكشي الفائية وقتية بهذا المعنى أكثر منها جفرية لارتباطها برصد مواضع الخلل في المجتمع المغربي الذي يعيشه الشاعر نهاية القرن التاسع عشر بداية العشرين ...

٤_من كلام الشيخ عبدالرحمن المجذوب الفقيه المتصوف الرحالة الذي آشتهر بنظم كلام منضود ذي معان عميقة مستوحاة من معيش المغاربة إبان الدولة السعدية ...

٥_البَصِيرُ : تطلق في الدارجة المغربية على الكفيف الضرير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??