الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في المدينة المنسية

أنس نادر
(Anas Nader)

2024 / 1 / 6
الادب والفن


في المدينة


إنك تملكين وجهاً أكثر من إنساني
حزيناً كالنهر….حراً كالانتحار
كروعة الخلاص...
كالملاذات السحيقة الأبدية
المترفعة عن مذلة الغواية وتملق الرغبات البائسة،
رهيفاً كنسمات الفجرالمحترقة
كئيباً كأعشاش الطيورالخاوية وندم فؤوس الحطابين
ساهباً كالعيون
شريداً كالطرقات المظلمة،
وجهك يشبه مدينتي المسبية
آآآآه...أيّ هدير لتلك الأزقة البائسة يدوي في فراغ قلبي
أيّ تجاعيد واهية لأجفانك، وفوانيس خافتة لسمائها الاسيرة
تنسيني كل هذا الزمن المستحيل
وتحنو بروحي مزقا ورأفة
وكأنها تُسحق تحت أقدام أمي الهزيلة…


المدينة في هذا الصباح، تنفث دخانها الحار
تسكب زحمة قطعانها في الأرصفة والشوارع
لا من أطفال يلهون ولا من عصافير تصدح
إلا أنها ما تزال غابتي المفضلة،
وفي كل يوم أوان الغسق وقت عزلتها
تدفن الجثث الهامدة لساكنيها
ويتصدّع حِدادُها منكسراً على هاوية الجبل.


خلل فيزيائي ما في هذا العالم
يجعل هذه المدن بهذا القدر من الكآبة
وجع عظيم يهدم بنيانها ويُطفئ أنوارها
آهات زمن غابر تدفن رفات تاريخها في صدورنا
ونحن المكلومين المجروحين
نرتعد في البصاق والقيء
كعبيد لجمال مسفوك
قرابين لماضيه،
أضحية لأعياد ألقه ورونقه المهزوم،
هذا الذل المريح والبؤس الهادئ
يرخي ملاءاته العذبة مسترسلة
ترفل في عمق هذا السِفاح الجميل،
سائبة مترنحة
مجردة من أوهى إيماءاتها وأبهى سكناتها
قانعة، صاغرة،
طائعة لوحشية وعي الطبيعة الصماء
تمزق براءة غزلان شريدة و أيائل.


البشر ضحية الحضارة،
الماضي التليد وألق الرخام المصقول
الانتصارات والهزائم، الصروح والأوابد
الشموخ والرفعة البائسة
جميعها تجري مترنحة سائبة كالأنهار
تهرق قرابينها المشبوهة
لذوات الرفعة المقيتة،
والغرور الغادر لفتنة المنبوذين،
يسكب حُمى الشفق
لرفات الفقراء ونهم الجياع
مبعداً جميلاً مزهوّا
منبوذاً ومحتقراً
كصبي يذرع المدى بحذائه المتسخ
ويذري ذهب مسائه بسأمٍ جليل.

*



في المنفى


بلاد غريبة وشوارع عريضة
رؤوس صفراء وعيون ملونة
قامات طويلة وأجساد نحيلة
تمشّط أناقة الطرقات بهدوء مفرط،
لاانتماء المارة، يجعل كل الأشياء ترقص بمتعة عظيمة
متعة محررة من الذكريات ومن عبودية المكان
هنا البشر يخذلون أنانية الطبيعة
يبصقون على غواية الحضارة،
والحرية المقدسة مهد وثير يمزّق أثداء كل الأمهات…

ونحن الضائعون المنفيون
عبدة الأصنام،
ليس لنا في الأرض مكان لخطيئتنا
لفقر عواطفنا ونزق طباعنا،
أرواحنا عشب وسهل وهضاب
أقدامنا شجر،
والحب عطايا الذات الممزقة
على مصاطب الذكرى وبؤس الغواية،
جراحنا لغزنا اللامتناهي
الوجع الخالد الغادر لكل البدايات
والسماء ملاذنا الأخير
ومَطْهَر الخطايا المثقلة بالرويّة الصامتة للأبد.

أطفالنا زناديق صغار
لا يجزعون لا يقلقون
لا يهابون الجوع والبرد والآفات
لا يبتهجون للأعياد العظيمة والهدايا المنمقة
ثيابهم بالية وعيونهم واسعة
قناديل متوهجة معلّقة على عتبات الهاوية
قلوبهم حقول وبساتين وغابات وغزلان
زمن لا يعرف الوقت والوهم والنهايات،
انهم المنبوذون المتعبون
ضمير العالم العاق في قاع المدينة
يحلمون بخبزهم الأسمر
في حَكايا العجائز
ودموع الأمهات السخية،
ولا من شيء قد يُفرح قلوبهم الصغيرة
سوى دثار العواطف المهَلهَلة الدفينة
تلك الهدايا الرثة
من جروح رمقات هاتيك المقل الحزينة.


*

في ظلام الأقبية

بدلاتهم الخضراء الداكنة تخيفني
قبعاتهم المستوية
أصواتهم الحادة
مهامهم السرية
مكاتبهم المهيبة
همسهم، ونبرة أصواتهم.
هم لا يشبهونني ابداً
ولا يشبهون أنفسهم،
لا يشبهون سوى عبوديتهم المزهوّة
التي لا تحتمل حزن الحقيقة.

صرخاتهم
أحقادهم
دخان سجائرهم،
جسارتهم وقسوتهم وقوَّتهم
كل مسرّات الطغيان التي تلمع في العيون
هذا الضعف العذب للغضب والاحتقار
الغرور الرخيص لشهوانية الكراهية
المبتذلة كالثروة المسروقة
تختبئ تحت الجفون وفي رماد العيون
في الذاكرة السحيقة لحُطام الفقر
المتكسّر في صدور نخّاسيّ الحنين
كأعمدة رخامية متداعية
وجسور متآكلة لا تقوى عل السقوط
متوارية مختبئة تنتظر بحرقة
الجشع الأخّاذ للذّة الانهيار الأخير.

هدنة طويلة الأمد
سبات غامض طويل
مع الفجيعة الدامية
وإنسانية ثدي الأمهات اللواتي أرضعنهم،
ثم ينهضون من رقادهم
حمر العيون
يُكسّرون العظام
يُمزقون الأجساد
يقتلعون العيون وينتزعون الجفون
يصنعون ثرواتهم المُحرّمة
من خدر الأرواح المتكسرة
ومن توق رفاهية الأفكار وحزن القضية
فمن نفس هذه البهارج الغامضة
تُصنع أغلال الفقراء المُترَفين.


*
في الحب


معطفي المتسخ القريب الى قلبي، أصبح بالياً و مهترئاً
يحمل كل حكاياتي الحقيقية ويستر غروري المُهان
ويعلن هزيمته أمام السنوات الرتيبة،
لقد أمسى قديما لا يخفي مظهري المرتاب،
سألقي به بعيدا عن دربي
وأرميه كالقمامة العفنة في النهر
سأتركه ينساب مع هيجان التيار الجارف
لتمزقه الأوحال وتعلوه الطحالب
ثم سأجلس بعيداً تحت أشعة الشمس الحارقة
أبكي آخر بقايا خروقه متفسخة على ضفاف النهر...

*

وجهك الجميل وعيناك الواسعة
يبدوان رائعين ومنسجمين مع روعة هذا الوجود الأخاذ،
ويضاهيان روعة الغنج الوفير في تألقات سحر جماله،
لكن نظراتك الغارقة بالريبة
تطعن فقر الشهوة الغادرة للجمال
وتتركني أمضي وحيدا في هذا العالم
وقلبي مليء بالخذلان والحسرات….

*

كان قوياً وصارماً
صامتاً وحزين
منفياً ومغموراً كإله وحيد
تائهاً في عزلة الغابات وصمت البحار
كمتمرد مهدور الدماء
هوذا يظهر مجدداً بصمته الأخّاذ وحزنه الجميل،
وإن مرارته تريح قلبي
وجماله المهزوم يُرضي كآبتي
دعني ارتوي أيها الوجع الضامر في النهايات
يا موتي الجميل وحزني العذب
دعني اقضي نَحب هذا الجمال
مُكللاً بهزائم التوق
منتحباً أمزق جمالك المبجَّل…
كما تفعل النشوة الأخيرة المدمِّرة للحب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال