الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابنة الخلود

طالب عباس الظاهر

2024 / 1 / 7
الادب والفن


نستيقظ ثلاثتنا في كل ليلة بنفس التوقيت تقريبا... أقصد أنا وهو والآخر، باللحظة ذاتها ينتبه كل منا إلى نفسه ووجوده ولزملائه الآخرين، بالرغم من إن الناس غالبا ما تكون قد خلدت أو تخلد للنوم بمثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، لا أن تستيقظ فيها، خاصة مع طقس هذه الأيام القارس البروردة من فصل الشتاء، وتحديداً أواخر شهر ديسمبر، وتحاول النفوس أن تتدثر بلحاف الكرى طلبا لدفء الغفلة والنسيان، أو هربا صوب الراحة من صقيع الهموم والتعب، أو هي على الأقل تحاول أن تنهي يومها في هذا التوقيت المتأخر بعد انتصاف الليل من عناء النهار، وأنا أسميها هدنة النوم من حرب اليقظة.
نعم، بالضبط بحدود الساعة الواحدة صباحا، وفي الخارج اسمع نقر تساقط المطر وهو يهمي بهدوء على الأشياء، هذا الأمر مستحدث طبعا وغريب على مجريات حياتنا السابقة، ولكن ما حدث مصادفة غير مقصودة، ودون تخطيط مسبق أو وعي كامل من أيٍّ منا.
بدأ هذا الأمر معنا أول مرة كما لو إننا نستيقظ بعد منتصف الليل لكي نلعب معا لعبة الغميضة، أجل يعصب أحدنا عينيه بمنديل ليبحث عن مخبأ الآخرين ويجدهم داخل الغرفة... على وجه التحديد بدأ قبل بضع أشهر إلا بضع أيام... بالضبط منذ إحالتي على التقاعد مؤخرا في بداية الشهر العاشر لبلوغي السن القانوني، أستيقظ من النوم أنا أولا بهدوء مطلق وقد أخذت قسط من الراحة، خاصة من بعد نهار جهد وتعب غالبا... نعم بذل أي مجهود يشعرني بالتعب في هذه الأيام، حتى لو الجلوس لمدة طويلة... ألست متقاعدا؟ بيد إن النوم بحدود الخمس إلى ست ساعات في هذا السن المتقدم هي أكثر من كافية أعتقد، ومن ثم يعقبني بالانتباه الـ(هو)، ومن ثم أخيرا يجلس (الآخر). وسرعان ما يبدأ الـ(هو) فور جلوسه تذكيري بما مرّ خلال ساعات النهار المنصرم بشكل عاجل، يعرض الشريط السينمي أمامي كأنه يؤدي واجبا مقدسا ويسألني:
- هل كانت ساعات النهار مثمرة؟ هل جاءت بجديد؟ أم كالعادة مضت دون جدوى... جدباء.. حدباء؟!
-.................!!
بالحقيقة بدأ يزعجني أيّما إزعاج منه هذا السؤال المتكرر، ويثير حنقي الإلحاح عليَّ فيه، أشعر بخبث السؤال أو فيه شماتة حاقدة، كأنه يسأل فقط ليشعرني بتأنيب الضمير... أنا أعرفه هو يملك الإجابة ربما أفضل مني...ياله من ماكر؟، لكنه ربما يحاول استفزازي ومشاكستي لينبهني من غفلة لم أغفل فيها أصلا، إلا إني أحاول جاهدا إغراق نفسي في لجتها بحجة إني تقاعدت ومن حقي أن أطلب الراحة والهدوء، وأتصرف كما يحلو لي كتعويض عن سنوات وسنوات من تعب الجدية والالتزام في بذل الجهد والتحمل، ولعل الأهم التكيّف مع واقع غالبا ما كان ثقيلا بوقعه على نفسيتي الحساسة، وأشعرني في خضمه خفيفا جدا تتقاذفني التيارات العاتية كريشة طائر غريب عالقة في أسلاك شائكة في مهب ريح عاصف، أو إن حالتي كانت مجرد هروب للأمام من مواجهة الواقع ومخاوفه... شكل من أشكال طلب المهادنة والتأجيل المتكرر للمواجهة، وتجنب عنف التصادم.
هذه عادة الـ(هو) التي لا أحبها ولا أكرهها أيضا، يكثر الأسئلة واللوم، وأنا لا أملك الإجابة، فتثير أسئلته في خلدي قلق وتوجس خفي، هذا أكثر ما يزعجني منه، أو فقط كنت أكره حبي لمشاكساته ومداعباته الثقيلة، هو لا يعرف كيف يكون خفيف الظل، وأنا تعلمت بأن لا أشياء مطلقة البتة في هذا الوجود الغريب ووجودنا الأغرب، فنحن نعيش على حقائق نسبية ونأخذها على إنها مطلقة، تماما كما الألوان في الطبيعة نقول عنها بكامل اليقين.. أحمر وأصفر وأخضر وأزرق و.. و.. لكن في الحقيقة إن لا وجود حقيقي لمثل هذه الألوان بشكل نهائي على أرض الواقع، بسبب تداخلها في الطبيعة وامتزاجها مع بعضها، فلا لون خالص فيها البتة... كلها مجرد تدرجات لونية فحسب بين لون أصلي بذاته وامتزاجه وتفاعله مع جميع الألوان..الألوان ليست هي الهدف طبعا، ولكنها كمثال على نسبية الحقائق عموما في الحياة. وأنا بدوري أحاول أن أطمئن قلقه بهدوء مفتعل بقولي له:
- إنها فترة انتقالية فحسب مابين زحمة العمل وفراغ البطالة المستجدة.
- ...................!!
أحاول أن أطمئنه بأن لا داعي للخوف، لأننا لا يمكن أن نطلق الأحكام بهذه العجالة على نهاية الأشياء، والحكم على ستين سنة لا يمكن أن نحسمها في أيام... يصمت لكنه يعاود الأسئلة كأنه لم يسمع مني شيئاً.
أما (الآخر) فيكاد أن يكون مشغولاً عنا بأمر بعيد جدا عن عالمنا الأرضي، يبدو إنه يحلّق بأجنحة الخيال، يجوب عوالم سديمية... يتركنا نحتدم في النقاش رغم تظاهره بأنه معنا قلبا وقالبا، لكن الحقيقة تقول غير هذا، الدليل حينما نسأله عن رأيه بأمر ما، يعيد الاستفهام منا في كل مرة عما كنا فيه من حوار، قبل أن يتفوه بكلمة؟ ونضطر بإعادة ما دار بيننا بإيجاز، وهو يهزّ برأسه بابتسامة واثقة، لا نعلم أهي علامة الموافقة؟ أو طلب الاستمرار بالشرح؟ أو استهزاء يوجب التوقف؟! لا ندري... فأمره يبدوا لنا في هذه الفترة أشد غرابة من كل ما سبق من مراحل!.
وكلما حاصرناه وأجبرناه على المشاركة ومعرفة رأيه بهذا الأمر أو ذاك يتهرب بلباقة، أو يسوق لنا بعموميات غير مفهومة، لأنها مغرقة بالمثالية، أو يجيب بكلمات أشبه بالأحجية والطلاسم، ثم يسكت مليا، وأحسب بأن سكونه يدل على اليقين، يهمس هذا جنون
- العدمية ضرورة.. حقائق السراب ... مبنى وجودي.. جواب الصمت... قلق الأسئلة... و... و.....!!
- .................!!
جواباته كانت كلها من هذا القبيل، لكنها كانت تفعل بنا فعل المسكن والمخدر من أمصال علاجات الطب، فهي تخفي الوجع مؤقتا ولا تزيله، ولكن كيف تفعل ذلك؟ مازلنا لا نملك إجابة واضحة... هي تفعل بنا هكذا وكفى، وأما هو فأحيانا لا يوافقنا رأينا أن اعترضنا، وأحيانا قليلة يستجيب موافقا، ولكن على مضض فيما يشبه قبولٍ رافضٍ.
لكن جنونه العاقل، أو تعقله المجنون بالحقيقة أمر ضروري لوجودنا واستمرارنا جميعا، هذا ما كنا نستشعر به لاحقا بعد انتهاء الموقف والنقاش، لكن طبعا لا نستطيع التفسير له، ليس كل الحقائق لها تفسير، أضحكنا جدا تصرفه مؤخرا حينما طرح الـ(هو) فكرة تجريب محاولة ثالثة للانتحار، على اعتبار إن هناك محاولتان فاشلة قبل هذه، وهذه الثالثة أكيد ستنجح... ضحك عاليا وأضحكنا معه!.
تصرفاته وكلامه يعملان على تحفيزنا بأن لا نحبس وجودنا فقط على هذه الأرض، وداخل إطار الحياة، ونقبع وراء قضبان قفص الجسد، هو يسمي الأمر برمته في توصيفه... تجاوز اللحظة المظلمة، ومحاولة فتح ثقوب في الجدار الصلب، وفتح كوة الشروق حتى في أشد لحظات ليل العتمة والظلام، فأي شروق أسطع حضورا من شروق الحق؟ تنفرج هنا أساريره كما يفعل في موقف سواه، فيبدو في قمة الانشراح وهو يبتسم ابتسامة التسليم والرضا. ثم يضيف:
- لنحاول تكسير قيد الحلقة التي نتوهمها مغلقة الإحكام، بيد إنها غالبا ما تكون هشة في حقيقتها، ولكن أكيد تكتسب صلابتها من مادة خوفنا وعجزنا نحن، فتكون أشد قوة وقسوة من الفولاذ، كذا هو الحال في المواقف المحبطة ... المكان... الشعور الآني والإحساس... الانكسار... الظلم.
- ..................!!
يشرح لنا بأن الوجود المعنوي أوسع بكثير مما نتخيل، لأن حساب الزمن بالعمر المادي لا قيمة له ... شيء تافه إزاء عمر الروح المعنوي، ونحن لم نخلق للعدم، بل خلقنا للخلود، وهذا ما تفسره إشكالية العمر المفتوح للروح مع عمر الجسد المغلق، وخلق الصراع مابين استمرار الروح فتية ونضرة في شيخوخة الجسد وهرمه، وهو ما يعرف عند العامة بالروح الخضراء في يباس الجسد، إذ إن الآمال دائما ما تتجدد ويعود الكبير بتصرفه كأنه طفلا صغيرا بالرغم من تهالك قواه، أو عند الطفولة كثرة السقوط ، لأن الروح نشطة تحاول أن تنطلق بالجسد الضعيف وتحمله فوق طاقته دون جدوى، كذا في الشيخوخة عندما يضعف الجسد، ولكن تبقى حيوية الروح، وهي مفارقة التوق الدائم للسفر في رحاب اللانهائية من أسر التقاعس، فتنطلق بالموت بقوة معادلة واتجاه معاكس لمعانات الروح في حبس الجسد، فما يفنى ويتجدد باستمرار هو الجسد فحسب ... أما الروح فلا يطرأ عليها إلا النضج والتكامل، وهنا تحدث المفارقة بين صعود الروح ونزول الجسد، بين التشييد والبناء، الروح تريد أن تبني الجسد، ولكن الجسد يحاول أن يهدم الروح... فجأة يسألنا:
- ما قيمة عمر ووجود أرضي تافه كعمر بعض الزهور تتفتح مع شرق الشمس وتذبل وتموت مع غروبها؟
- ..............!!
ثم يقول مضيفاً ويكاد يصرخ فينا بألم عندما لا يجد عندنا جوابا، ويحس بأننا نطلب توضيحات أكثر... هو تعود منا هذا الشيء ودون طلب يطفق يشرح.
- ما قيمة الحياة جنب حسابات الزمن الكوني؟ فالساعة بألف سنة مما تعدون، ومعنى ذلك إننا نعيش في اليوم الأرضي الواحد أربعة وعشرين ألف سنة، ولكم أن تتخيلوا الرقم المهول بعد ضربه بعدد أيام السنة، ومن ثم ضرب الناتج في ستين سنة كمتوسط لعمر الإنسان. وليس لنا علم كم سيكون عدد ساعات اليوم الكوني؟
نعم، على هذا فإن الحياة الأبدية تبدو بحر بالنسبة لقطرة ماء مما نعيشه من عمر، لعل تلك القطرة تحمل نفس جينات ذلك البحر هذا حق، لكنها لا يمكن أن تستوعبه حتما، فلا يجب أن نقترف جريمة ظلم أنفسنا والخطأ الفادح بحقها في أن نحاول أن نتصور الله تعالى وملكوته بمجرد التصور ... أجل مجرد التصور هو ظلم لأنفسنا أولاً، فإذا فعلا لدينا القدرة على التصور، لندرك أولا ماهية الروح ولا ولن ندركها، لا شك إن في مثل ذاك التصور محدودية وسذاجة مقرفة تناسب بساطة خلقنا، ولا تناسب عظمة الخالق.. النملة عندما تقف على سطح تل تراب صغير تتصور بأن ما بعده نهاية العالم، وعندما تمطر تشعر بأنه الطوفان.
إننا لا نملك أدوات التصور أساسا، فكيف يمكننا العدل فيه بقدراتنا المحدودة، نظر كليل إلى مسافات قصيرة، وللأشياء الكبيرة فقط.. عجز عن رؤية ما خلف جدران من فلين أو ورق أو حتى ضباب. وكذا سمع عاجز عن سماع أقرب ما يجري في دواخلنا من ضجيج هائل صادر عن معامل تصنيع الدورة الدموية والهضمية والتنفسية و.. و..و....!!
والعقل كأن عمله ومهمته أن يحدّ ويقيّد ويحجّم فقط، وبحسب قدراته هو، ولعل مكمن الخطورة في تصورنا إننا نقع غالبا في فخ القياس على أنفسنا مهما حاولنا التنزه عن هذا المحذور القاتل، فلا نستطيع أن نتصور الله جل شأنه إلا بتصورات بشرية ساذجة... يد ورجل، وقلب وعقل، وحب وكره!، وبالمختصر المفيد كيف نحدّه سبحانه بحدود؟ بينما هو خالق الحدود؟! الزمان والمكان مثلا أليستا حدودا... فمن ذا الذي أوجدهما؟ أيعقل أن يوجدهما ويكون جل شأنه في داخلهما؟! ثم لماذا نتصور الجنة المفتوحة ونخضعها للزمكان المغلق بقياسات الحياة وهي خارجه أساسا؟ أية سذاجة هذه؟
ويعني هذا إن الماضي والحاضر والمستقبل موجودة في نفس اللحظة، كل ما كان وما هو كائن وما سيكون، كل ذلك مختصر ومنصهر في ذات الآن، لذلك يجري الإخبار عن أحوال أهل الجنة والنار، وأهوال يوم البعث والحساب... هكذا كان يحاول أن يبسط الأمر لنا في إثارة الأسئلة للوصول للجواب... فيتساءل :
- هل قامت القيامة، وأجري الحساب في الثواب والعقاب، ونالت الناس حقها العادل؟ متى حصل هذا؟ وكيف والحياة مازلت مستمرة؟!
- ...................!!
- ومن ثم أيننا نحن وأين ذلك النظر من حديد حينما يكون باستطاعته أن يخترق الحجب، ويخرج من أسر الإمكان إلى حرية اللا إمكان؟
- ...................!!
- ثم ماذا لو كان وجودنا في الجنة وإلى ما لانهاية من نفس فصيلة لحظة الإفراغ في شهوة الجماع الجنسي ونشوته؟ وأن تكون لذة ذلك الوجود واستمراره من فصيلة تلك النشوة ولذتها غير الأرضية والتي سأسميها ابنة الخلود؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا