الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خواطر من الزمن الغزي

شوقية عروق منصور

2024 / 1 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


خواطر في الزمن الغزي
كان أبي يغضب ويصرخ بوجوهنا عندما كان يرى كسرة خبز على الأرض ويردد أمامنا :
- لو ذقتم الجوع.. أو عرفتم معنى أن تفتش على رغيف خبز ولقمة طعام فلا تجدهما وتنام أياماً وأنت جائع لما رميتم الخبز على الأرض ، لكن انتم جيل البطر ..!!
وكبرت وعرفت أن أبي من قرية مهجرة خرج ليلاً من قريته برفقة عائلته المذعورة تلاحقهم العصابات الصهيونية ، ناموا في العراء ، تحت الشجر ، جاعوا وأكلوا أوراق الشجر ، وعندما فكر شقيقه ، عمي أن يتسلل إلى قريتهم - المجيدل - حتى يأتي ببضع حبات من البندورة كانت جدتي قد زرعتها قبل هروبهم حول البيت ، قاموا بإطلاق الرصاص عليه وقتل .. وكان ذلك زمن النكبة .
كأن الصور التي تقذفها الفضائيات الآن من قطاع غزة ، تحمل روح أبي ، أرى فيها أبي وعائلتنا .. في غزة الآن الصور أكبر و أوضح ، الصور شرسة ، متوحشة ، مزنره بالصراخ والدموع والملامح الحزينة المقهورة المكتظة بالخوف والحيرة ، عيون الأطفال محدقة في فراغ يطل على تجارب أكبر من أعمارهم ، يحملون في صدورهم صوراً ملوثة بالغبار المتطاير من البنايات المهدمة ، وفقدان أم وأب وأخوة وأصحاب وجيران ، واتساءل لو عاش هذا الطفل كيف سيواجه مستقبله ؟ كيف سيتعامل مع أيامه ؟ أراهن علماء النفس والاجتماع أن هناك نظريات جديدة ستخرج من بين الاشلاء ومن تحت الركام .
قديماً كانت المخيلة عندي ضيقة ، ومع السنوات و القصص والحكايات وآهات الجدات والصور والقراءات والدراسات والأفلام الوثائقية كانت تكبر وتتسع ، ولكن الآن في الزمن الغزي كبرت جداً حتى بانت تجاعيد الوجوه الملفوفة بالقماش الأبيض ، الوجوه التي كانت تحتضن الحياة فصادرتها لعنات القذائف والرصاص ، كرهت اللون الأبيض أو الأكفان التي تحصي أرقام القتلى لقد كرهت هذا اللون لدرجة أحسست أنه وجد ونسج خصيصاً لعصر يدوس على رقاب البشر ، يفتش عن أحلامهم كي يسحبها ويلقي بها في حفر الموت .
ارتكب خطيئة الصمت ، أعترف أنني عاجزة ، أصبحت أنتمي إلى طائفة المحدقين في شاشات الفضائيات ، أنتمي إلى طابور المنتظرين تصريحاً وبياناً وكلاماً يربط حول صدري أحزمة الهدوء ، ويقنعني أن تكوم الجثث في السيارات أو على العربات ويلقون بها في الحفر التي يعدونها سلفاً ، هي جزء جديد من حكاية الفلسطيني ،الذي ما زال سقف بيته يطير من مكان إلى مكان ، وجثته لا تعرف العنوان ، الفرق أن التاريخ الآن يُسجل كل لحظة وثانية ولا مجال لتلاعب المؤرخين ورجال المفاوضات ، لا مجال لمهرجانات الكذب والخداع وابتسامات وضحكات الرؤساء والزعماء.
كتبت لي ابنتي أن الكرسي الذي تجلسين عليه أمام التلفاز قد أرسل رسالة لها قائلاً :
- قولي لوالدتك أنني زهقت منها أريد أن أتنفس وأنني أيضاً على وشك الجنون من شتائمها وصراخها ولعناتها !! .. قلت لأبنتي سأترك الكرسي ليس رحمة به .. بل لأن كلمة الكرسي أصبحت تثير القرف و الاشمئزاز ... فالعصر الغزي كشف عن حقيقة جلود الكراسي ، التي تبين أنها من قماش التآمر وخيطانها من العهر السياسي .
أجلس الآن على الأرض .. أحدق في الشاشات .. أنظر إلى الكرسي بشماتة .. وأردد أقسم بالله سأحطمك والقي بك في النار .. !! أنتظر عندما تنتهي الحرب ..!!
أعترف أنني قلت لأبنة صديقتي عندما أخبرتني أنها ستخطب ، أنا لو مكانك لخطبت أحد الشباب من جنوب أفريقيا ، أو أحد شباب اليمن ، أو أحد الشباب من غزة .. أو من جنين .. أو .. أو .. نظرت إلى باستنكار ، قالت لي : خالتي .. ما أن تنتهي الحرب حتى وأنت ... وضحكت .. !!
وأعترف أن أولادي أصبحوا يأكلون بصمت ، لا أحد يتذمر على أي طبخة .. أما بقايا الخبز فتقوم أبنتي بهدوء وتضعه في علبة الخبز .. !! لأنهم لا يريدون أن يسمعوا خطبتي المعروفة - لو أنكم في غزة لما وجدتم الخبز ما بتعرفوا قيمة الأكل حتى تفقدوه - لقد اكتشفت أنني أصبحت أرتدي لسان أبي حيث أردد كلماته .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو